الخميس، 18 أغسطس 2011

تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص pdf


محمد مفتاح، (تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص)، بيروت - الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط (3)، 1992م




http://www.4shared.com/get/saPPSYsQ/___online.html

التناص

كتبهاأحمد عادل القضابي ، في 15 ديسمبر 2010 الساعة: 01:29 ص

التناص







النص؛ هو كل بنية لغوية تتماثل في أفق الوعي، فتستثير الفهم، أو الحوار، أو الإضافة، أو التكملة، أو الجدل، أو التفرع، أو التكامل، أو كل ذلك مجتمعاً. وقارئ النص؛ هو من تفتّح وعيه للمُـدرَك المتاح ليعيد تشكيله بما أمكن، وهذا موقف لا يشترِط القراءة والكتابة، بقدر ما يشترط الدراية واليقظة([1])، لأن النص قد يكون شفوياً أو كتابياً. ويعرف الهمامي النص بأنه: "بنية لغوية مقفلة، مكتفية بذاتها في إنتاج المعني، لا تُحيل إلا عليها، طاقة تشتغل دونما حاجة إلي اعتبار سياق النشأة والتقبل."([2])

والنص اللغوي ليس بنية لغوية مُتَعَيَّنة في المطلق، بل هي بنية لغوية يحدها ويؤطرها بعدي: الزمان الذي أنتجت فيه، والمكان/البيئة التي أنتجت منها، وهما حدان/إطاران لا يمكن ـ بمكان ـ تجاهلهما، لأن البنية اللغوية للنص تتأثر في شكلها ومضمونها بالبنيات اللغوية السابقة عليها، وهذا ما يفتح بدوره أفق تداخل النصوص علي النص مهما كان قدم النص، ولعل عنترة العبسي ينطلق في معلقته من هذه الفكرة ذاتها، إذ يقول:

هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ

فهو ـ كما جاء في الشروح ـ لم يكن يقصد ـ فقط ـ أن الشعراء لم يتركوا طللاً إلا بكوا عليه، بل كان يرمي إلي أنهم لم يتركوا ما قد يقال في هذا البكاء أيضاً.

والشواهد علي تداخل النصوص أكثر من أن نحصيها هنا، غير أن هذا التداخل قديم قدم النصوص ذاتها، فإذا ما رجعت نصوص العهد القديم ستجد أنها تعود إلي نصوص الأساطير السابقة عليها([3])، وفي الشعر الإسلامي الكثير من تداخل نصوص القرآنية والنبوية عليه.

ليس هناك أدل من أشعار حسان بن ثابت علي ذلك ، ومنها قوله :

ضاقَت بِالأنصارِ البِلادُ فَأَصبَحوا سوداً وُجوهُهُمُ كَلَونِ الإِثمِدِ

ومنها :

كَأَشقى ثَمودٍ إِذ تَعاطى لِحَينِهِ خَصيلَةَ أُمِّ السَقبِ وَالسَقبُ وارِدُ

ومنها :

عَزيزٌ عَلَيهِ أَن يَجوروا عَنِ الهُدى حَريصٌ عَلى أَن يَستَقيموا وَيَهتَدوا

ومنها :

سِوى مُلكُ رَبّي ذي الجَلالِ فَإِنَّهُ لَهُ المُلكُ يَقضي ما يَشاءُ وَيَقدِرُ

ومنها :

وَأَوصَدَ سَدّاً مِن حَديدٍ أَذابَهُ وَمِن عَينِ قِطرٍ مُفرَغاً لَيسَ يَظهَرُ

رَمى فيهِ يَأجوجاً وَمَأجوجَ عِنوَةً إِلى يَومِ يُدعى لِلحِسابِ وَيُنشَرُ

لكن؛ ما هي العلاقة التي تربط تداخل النصوص بعضها ببعض؟ وهي ما يمكن أن نطلق عليها مؤقتاً "العلاقة النصية" أو "تعالق النصوص".

إن تحديد "العلاقة النصية" بين نصين ـ أحدهما يأخذ عن الآخر ـ يمكن مبدئياً وصفها بأنها علاقة تخضع لأحد الآليتين التاليتين: آلية المصادفة؛ وآلية العمد.

فأما آلية المصادفة؛ فإنها تؤكد علي عدم الوعي بالعملية، وربما يمكن أن ندخلها تحت نمط العلاقات التأثرية التي تنبع من اختزان تتابعات معرفية غير منضبطة أثناء الكتابة. بينما آلية العمد؛ فتنبع من العلاقة الواعية، وهي التي تكون مبنية على استراتيجية فنية نابعة من روح العمل، مدركة لضروراتها ومبرراتها في إقامة "علاقة نصية" مع عمل أخر. وهاتين الآليتين قد ينفرد بإحداها نص دون أخر، كما قد يجتمعا في نص واحد بطرق عدة.



مفهوم السرقات الشعرية

البلاغيون العرب اهتموا اهتماماً متبايناً بموضوع السرقة، فـ "السرقة داء قديم وهي قاسم مشترك بين الشرق والغرب رمي بها جرير والفرزدق والأخطل وبشار وأبو نواس والبحتري وأبو تمام والمتنبي"([4])، ومن البلاغيين العرب من أفرد لموضوع السرقة مساحةً ليست بالضئيلة في مؤلفاته، ومنه من أشار إليه ومنهم من لم يشر إليه أصلاً. كذلك تباينت مواقفهم من السرقة؛ فابن قتيبة ـ مثلاً ـ نأى عن ذكر لفظ السرقة عن الشعراء المسلمين، مستبدلاً إياها بألفاظ مثل: الأخذ، والسلخ، والإتباع([5]). أما ابن سلاّم الجمحيّ؛ فاستخدم لفظي الاجتلاب والإغارة. أما الجاحظ فقد راوح استخدامه بين لفظي السرقة والأخذ. بينما تحدث الجرجاني حديثاً مختصراً مجملاً في كتابه "أسرار البلاغة" عن مفهوم الأخذ (السرقة) ـ في إطار وضعه لنظريته عن تقسيم المعاني إلي عقلية وتخييلية، وكلام الجرجاني يمكن اعتباره تأسيسياً في هذا الباب؛ إذ يقول الجرجاني:

"اعلم أن الُحكْم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسَرَق، واقتدى بمن تقدَّم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحاً، أو في صيغة تتعلق بالعبارة."([6])

ثم يفرق؛ في موضعٍ أخر؛ بين نوعين من أنواع اتفاق المبدعين، فيجمل ذلك إجمالاً بيناً في قوله:

"اعلم أنّ الشاعرين إذَا اتفقَا، لم يخلُ ذلك من أن يكون في الغَرَض على الجملة والعموم، أو في وجه الدلالة على ذلك الغَرض، والاشتراك في الغَرَض على العموم أن يقصد كلُّ واحد منهما وصفَ ممدوحه بالشجاعة والسخاء، أو حُسن الوجه والبهاء، أو وصفَ فرسه بالسرعة، أو ما جرى هذا المجرى."([7])

ثم يفصل ذلك بعض الشيء، إذ يقول:

"فأما الاتفاق في عموم الغَرض، فما لا يكون الاشتراك فيه داخلاً في الأَخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة، لا ترى مَنْ به حِسٌّ يدَّعي ذلك، ويأبَى الحكمَ بأنه لا يدخل في باب الأخذ، وإنما يقع الغلط من بعض مَن لا يُحسن التحصيل، ولا يُنْعم التأمُّل، فيما يؤدِّي إلى ذلك، حتى يُدّعَى عليه في المُحَاجّة أنه بما قاله قد دخل في حكم من يجعل أحد الشاعرَين عِيالاً على الآخر في تصوُّر معنى الشجاعة، وأنّها مما يُمدَح به، وأن الجهل مما يُذَمُّ به، فأمّا أن يقوله صريحاً ويرتكبه قَصْداً فلا، وأمَّا الاتفاق في وجه الدِّلالة على الغرض، فيجب أنْ يُنظَر، فإن كان مما اشترك الناس في معرفته، وكان مستقرّاً في العقول
والعادات، فإنَّ حُكْمَ ذلك، وإن كان خصوصاً في المعنى، حُكْمُ العموم الذي تقدَّم ذكره."([8])

ويُعد أبو هلال العسكري من أكثر البلاغيين العرب اهتماماً بالسرقة، فوضع لها فصلين في كتابه المسمى "الصناعتين"؛ أحدهما: "حسن الأخذ"، الآخر: "قبح الأخذ"، صنفهما في الباب السادس تحت مسمى "حسن الأخذ وحل المنظوم". ويصدر الفصل الأول منهما بقوله:

"ليس لأحد من أصناف القائلين غنىً عن تناول المعاني ممّن تقدّمهم والصعبّ على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظاً من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويوردوها في غير حليتها الأولى، وبزيدوها في حسن تأليفها وجودة تركيبها وكمال حليتها ومعرضها، فإذا فعلوا ذلك فهم أحقّ بها ممّن سبق إليها، ولولا أنّ القائل يؤدّى ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطقُ الطّفلُ بعد استماعه من البالغين."([9])

ويمكن إجمال نظرة العسكري في عدة نقاط؛ هي:([10])

1. أن المعاني المشتركة ملك للعامة.

2. إيمانه بتوارد الخواطر.

3. أن لا مفرّ للمحدثين من الاستفادة من سابقيهم في المعاني.

4. تفريقه بين السرقة، والسلخ؛ جاعلاً أساس التفرقة أخذ اللفظ مع المعنى أو تركه.

5. أن الأخذ القبيح (السرقة) يكون في أخذ المعنى بلفظه كاملاً، أو جزءاً منه، أو أن يأخذ المعنى جميلاً ثم يفسده.

إن البلاغيين العرب لم يكادوا يتفقوا في مصطلحاتهم سوي علي معني الأخذ (السرقة) والسلخ، وأنهم افترقوا غاية الفراق في باقي المصطلحات. غير أن ما يهمنا في هذا السياق؛ هو التأكيد علي قدم الظاهرة "العلاقة النصية" ـ تداخل النصوص ـ من حيث الممارسة والمصطلح، وإن اختلفت المسميات وتباين النقاد في ضبطهم للمصطلح.

إن كلام البلاغيين العرب كان منصرفٌ إلي الشعر في عمومه دون النثر، فيما عدا ما ذهب إليه القزويني في مصطلحي العقد والحل، وذلك راجع إلي أن الفترة التي شهدت هذه الكتابات كانت فترة سيادة للشعر وسلطانه، بينما مازالت فنون النثر تشق طريقها في العالم العربي.

إن كافة ما أطلقه البلاغيون العرب من مصطلحات في هذا الباب يندرج تحت استخدام آلية العمد، إلا ما أسماه ابن رشيق بـ "المواردة" فيتبع آلية المصادفة، مما يدلل علي أن "العلاقة النصية" في مجملها؛ في القديم؛ كانت علاقة واعية يدركها المبدع.

كما أخرجوا مجموعة من المصطلحات من دائرة السرقة؛ وهي: التوليد ـ عند ابن رشيق، والمشابهة والنقل والقلب ـ عند القزويني. وأنهم عندما تعاملوا مع قضية "العلاقة النصية" تحت ما اختاروه من مسميات، تعاملوا معها من حيث الشكل (البنية والمحتوي والتعبيرية) ومن حيث الآلية (الطريقة/الإجراء) دون أن يتطرقوا للقضية وظيفياً.



نقاد العصر الحديث (نهاية القرن العشرين) .

اعتبرت كل النصوص العربية الواردة إلينا منذ ما يسمي بـ "العصر الجاهلي" ـ في الدرس الأدبي ـ حتى نهاية ما يسمي بـ "العصر العباسي" نصوصاً تراثية (التراث العربي). وقد اختلف النقاد في تناولهم لمصطلح التراث، واختلافهم ناتج عن المنظور الذي يرون من خلاله المصطلح، فمنهم من يتعامل معه باعتباره خطاباً معرفياً، مثل الدكتور محمد عابد الجابري والدكتور جابر عصفور والدكتور مصطفي بيومي الذي يعرف التراث بأنه:

"مجموع النصوص التي أنتجت في فترة تاريخية محددة، ومارست هذه النصوص سلطة معرفية علي عقل وارثها، فأصبحت جزءاً من وعيه وبنية تفكيره."([11]).

وكلمة "استلهام" لا ترد في المعاجم الأدبية واللغوية القديمة والحديثة بالمعنى المتداول الشائع استخدامه في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة، وهي ترد بصفة حصرية في اشتقاقات معاني كلمة "لهَمَ" من الإلهام Inspiration المتصل بالغيب أو بالقدرة الإلهية العظمى. وفي أغلب هذه المعاجم، إن لم يكن كلها، يأتي المعنى للدلالة على الطلب بالدعاء من الذات الإلهية أن تلهم الإنسان أمراً. والإلهام من الأمور المتعلقة بالإنسان والفكر الإنساني علي العموم، غير أنها لندرتها
تطلب، فيؤتي بالألف والسين والتاء الدالين علي الطلب في اللغة ويصدر بها الفعل "لهم" ليطلب الإنسان الإلهام.

وعندما ترد كلمة الإلهام؛ فإن الفكر يذهب مباشرة إلى الناحية الروحية من شخصية الإنسان. فقديماً ربط أفلاطون الشعر بقوى خارجة عن الطبيعة الإنسانية عندما أكد أثر الإلهام في الشعر، وقد رفض أرسطو هذا المنطق تماماً حيث قال بأن الشعر مصدره أعماق الطبيعة الإنسانية، ويبقى هذا الجدل محتدماً حول صلة الإبداع بالشعور واللاشعور. وتذهب نظريات المنهج النفسي ـ التي ُتماهي بين الشعور واللاشعور في الإبداعي ـ إلي إن للإلهام وجوده لكنه لا يكفي لتفسير الإبداع، وليست ميزة الفنان أن يقف مسلوب الإرادة أمام وابل الإلهام، بل لعل ميزته الكبيرة أنه يستطيع أن يمسك بهذه الإشراقات ويتأملها.

تتجلي أزمة المصطلح النقدي في الكتابات العربية خلال بحثنا عن تعريف لمصطلح "الاستلهام" في الكتابات النقدية العربية، وذلك لأن الكُتَّاب يميلون إلي التعميم وعدم التدقيق في المصطلح المستخدم حيال حديثهم عن استخدام الكاتب للمادة التراثية في نصوصه، فمنهم من يقول توظيف، ومنهم من يقول استخدام، ومنهم من يقول استلهام دون أن يوضح معنى هذا الاستلهام بأن يضع له تعريفاً ضابطاً، وذلك راجع إلي عنايتهم بالإجراء علي حساب التنظير في هذه الممارسة النقدية.

لقد بذل أبو هيف جهداً قليلاً في محاولة ضبط المصطلح في سياق حديثه عن استخدام التراث في أدب الأطفال بعد أن عاب علي الكُتَّاب ذلك، فعرف الاستلهام بأنه:

"الاستلهام يشير إلى جهد الكاتب المبذول في إبداع عمل أدبي جديد يستند في شكله أو محتواه، أو في الاثنين معاً إلى التراث."([12])

وفي محاولة منه لوضع حدود لمصطلح الاستلهام، يقول أبو هيف:

"أن الاستلهام يفيد الاستعادة، بينما لا يتعدى الإعداد أو التحويل أو التقديم حدود الإعادة على سبيل الشرح أو التعريف."([13])

ثم يذهب في محاولة استجلاء المصطلحات الأخرى التي يري أنها علي شاكلة مصطلح الاستلهام؛ بمعنى؛ أنها من أشكال الاستلهام، والتي منها مصطلحات: الإعداد أو الاقتباس ـ علي حد قوله، والتحويل، والتقديم، والاستدعاء، والتضمين، بأن حاول أن يضع تعريفاتٍ ضابطة لكل منها، وقد جاءت كالتالي:



1. الإعداد أو الاقتباس: "نقصد بالإعداد أو الاقتباس، إعادة سبك عمل فني لكي يتفق مع وسط فني آخر"([14])؛ ويوضح ذلك بقوله:"كأن تعاد كتابة حكاية في الفن الروائي، أو أن تعاد كتابة سيرة شعبية في شريط سينمائي، أو أن تعاد كتابة سيرة تاريخية في ثوب قصصي."([15])

2. التحويل: "ونقصد بالتحويل، نقل مادة أدبية أو جنس أدبي إلى جنس أدبي آخر"([16])؛ ويوضح ذلك بقوله: "فقد تكون القصة على سبيل المثال، محولة عن خبر أو مثل أو نادرة أو حديث تاريخي أو مقالة أو شعراً أو تمثيلية أو قصة للكبار."([17]) .

3. التقديم: "يفيد التقديم معنى الاختيار على سبيل الشرح أو التعريف"([18]).

4. الاستدعاء: "وهو استحضار الشخصيات أو الأحداث أو المراحل التاريخية في عمل أدبي جديد، ويكون الاستحضار جزئياً أو كلياً، وتصريحاً أو تلميحاً، تعبيراً مباشراً أو تعبيراً فنياً"([19]).

5. التضمين: "أستعمل التضمين كما هو الحال، في النقد الحديث، حيث يضمن الكاتب كتابته شحنة تراثية تقيم علاقة ما داخل العمل الفني وقد يكون التراث فيها إطاراً أو محتوى، لتعزيز الصلة بالواقع أو لتكريسه لنفح قيمة وتجربة أو الاقتصار على صوت أو نبرة أو دلالة"([20]).

وإذا ما أُمعن النظر في تلك المصطلحات وتعريفاتها لوجِد أنها تختلط خلطاً شديداً في دلالتها، مما يجعلها مضطربة. فالكتابة من وسيط فني إلي وسيط فني أخر يطلق عليه أبو هيف "الإعداد" تارةً و"التحويل" تارةً أخري.

ويمكن للباحث رصد مجموعة المصطلحات التي استخدمها الدكتور مراد عبد الرحمن عبر مصنفه "العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر"، وساوي بينها في دلالتها عنده؛ وهي: استلهام ـ استدعاء ـ توظيف ـ استيحاء.

ولا يذكر مراد عبد الرحمن تعريفاً للاستلهام أو غيره من المصطلحات، وهو يقسمها إلي نوعين؛ هما: الاستلهام التسجيلي، والاستلهام التعبيري؛ إذ يقول "والتراث الذي استلهمه الكتاب في رواياتهم نوعان : نوع تسجيلي…. ونوع تعبيري "([21]). وقد عرف الاستلهام التسجيلي بأنه: الذي يقف فيه الكاتب عند حد رصد وتسجيل النمط التراثي ليعبر من خلاله عن الرغبة في بعث أمجاد الماضي([22]). كما عرف الاستلهام التعبيري بأنه: أن يكون التراث أداة تعبيرية عن الواقع المعاش([23]).

وعند تحليلنا لرؤيته لوظيفة وآلية وشكل الاستلهام؛ فسنجد أن:

1. الوظيفة: وهي الهدف من استلهام التراث، فحددها بأنها كانت "بقصد بعث هذا التراث والتغني بأمجاده، وإما باتخاذه مادة تعبيرية عن الواقع الحاضر"([24])، وكانت هناك عدة عوامل وراء ذلك، حددها بأنها عوامل فنية للهروب من الأشكال الأوربية التي سيطرت علي الأشكال الأدبية العربية، وعوامل سياسية باستمداد القوة من التراث بعد هزيمة 1967، وعوامل قومية.

2. الآلية: وهي كيفية استلهام التراث، فرصد آليتين في التعامل مع عناصر النص التراثي هما؛ التسجيلية والتعبيرية. وأجري هاتين الآليتين علي عناصر: الشخصيات واللغة والشكل/القالب.

3. الشكل: وهو القالب الذي استلهمه الكتاب من التراث لأعمالهم؛ "ولعل حرص الكاتب علي استلهام الشكل الشعبي، وعلي استلهام السمات الأصلية للسيرة، جعل الرواية مليئة بالأحداث الفرعية التي لم تضف جديداً لبناء الرواية خاصة المغامرات البطولية الخارقة للعادة "([25]).



كتابات معاصرة متأثرة بالغرب ونظرياته

"لقد كان (التناص) أحد مقترحات نقاد ما بعد البنيوية الذين شعروا بأن تأمل بنية النص علي النحو الذي أرادته البنيوية يغلق أفق القراءة، ولا يفتح النص علي سياقات، لها أهميتها في تحليل النص وادراكه"([26])

وكانت البلغارية (جوليا كريستيفا:J,Kristeva) أول من ابتدع هذا المصطلح في دراساتها النقدية بين سنتي 1966و1967م، مع أنها أشارت إلى استعارتها له من باختين إذ اعترفت بفضله في التنظير النقدي له في إطار الشكلانية الروسية، بينما كان بارت وكريستيفا يستعملان هذا المصطلح في سياق نظري عام متصل بالكتابة النصية. "وكان باختين قبل كريستيفا، قد تحدث في علاقة النص بسواه من النصوص دون أن يذكر مصطلح التناص. بل استخدم مصطلح (الحوارية) لتعريف العلاقة الجوهرية التي تربط أي تعبير بتعبيرات أخري. فكل خطاب علي رأي باختين يعود إلي فاعلين وبالتالي إلي حوار محتمل"([27]). ثم توالت الجهود التي فعلت هذا الحقل عند الناقد الفرنسي رولان بارت الذي أثرى هذا المصطلح في دراسات كانت إرهاصات بتبلوره في الثقافة الغربية في عام 1973م؛ ولاسيما في كتابه "لذة النص"؛ وتعد دراساته إحدى أبرز علامات تبلوره في الثقافة الغربية. وأخيراً حاول الفرنسي جيرار جينيت أن يحول هذا المصطلح إلى منهج بعد أن جمع أطرافه وفصل القول فيه، وذلك باعتماده على جهود سابقيه.

وكان لازدهار الحركة النقدية في النقد الغربي وتنامي الجهود حول التناص Intertextuality أثرها الإيجابي في النقد العربي، فقد تضاعفت الجهود العربية في إثراء هذا المصطلح عبر النقل والترجمة من اللغات التي نما فيها. وفي ظل هذه المتابعة الحثيثة أنتجت دراسات نظرية كثيرة، وأنجزت دراسات تطبيقية على نصوص أدبية مختلفة، وخصصت دوريات نقدية أعداداً خاصة لمعالجته، فقد خصصت دورية "ألف" القاهرية عدداً خاصاً للتناصية هو: عددها الرابع في 1984م، كما أسهمت مجلة "الفكر العربي المعاصر" بعدد خاص عن التناصية في عددها الصادر في يناير 1989م.

وكان المصطلح التناص قد لقي؛ في الغرب؛ عدداً من الاختلافات المنهجية وكثرة التعاريف منذ لحظة انطلاقه مع رؤية كريستيفا، وذلك لكثرة الأقلام التي تلقفته في النقد الغربي فأشاعت فيه التعدد غير النهائي. إن هذا الاختلاف والتعدد، ويبدو ذلك أمراً طبيعياً إذا عرفنا أن من أبرز ملامح هذا المصطلح في ذاته اللانهائية وعدم البراءة.

مفهوم التناصIntertextuality يدل على وجود نص أصلي في مجال الأدب أو النقد على علاقة بنصوص أخرى، وأن هذه النصوص قد مارست تأثيراً مباشراً ـ أو غير مباشر ـ على النص الأصلي في وقتٍ ما. جوليا كرستيفا عرفت التناصIntertextuality بأنه التفاعل النصي في نص بعينه، فهو: "التفاعل النصي داخل النص الواحد وهو دليل علي الكينونة التي يقوم بها النص بقراءة التاريخ والاندماج فيه"([28])، ويعرفه ميشيل ريفاتير بأنه "هو إدراك القارئ للعلاقات الموجودة بين عمل وأعمال أخرى سبقته أو جاءت تالية عليه"([29])، أما جيرار جنيت فيعرف "العبر نصية" أو "التعالي النصي" Transtextuality بأنه "كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى"([30]) ، ثم أضاف جيرار جينيت ـ إضافةً هامة ـ بأن حدد أصنافاً للتناص.

وقد كانت إضافة جيرار جينيت بأنه حدد أصنافاً للتناص؛ حيث "ميّز "جينيت"، سنة 1982، بين خمسة أنواع للتفاعل النصّي: "التناص" الذي يعني حضور نص في آخر دون تحويل له أو محاكاة، و"المناص"(Paratexte) الذي يجمع بين مختلف النصوص، والذي يتجلّى من خلال العناوين، والعناوين الفرعية، والمقدّمات، والذيول، والصور، وكلمات الناشر، و"الميتانص" (Métatextualité) الذي يعني تضمين النصّ وحدات نصيّة سابقة عليه دون تنصيص عليها، و"النص اللاحق" (Hypertexte) الذي يعني تحويل نص سابق أو محاكاته، و"معمارية النصّ" التي تحدّد الجنس الأدبي للنصّ: شعر، رواية، قصة. وبتتبّع تجليات هذه الأنواع الخمسة في مصادر الدراسة يخلص المرء إلى أنّ ثمّة نوعين رئيسيين فحسب: "التناص"، و"الميتانصّ"، لأنّ "المناصّ"، كما يبدو من تعريف "جينيت" له، فعالية خارج نصيّة، بسبب وقوعها خارج المتن الحكائي للنصّ، ولأنّه لا يعني نصاً من دون آخر بل يشمل الإبداع الروائي بعامّة، كما يشمل مختلف الأجناس الأدبية الأخرى أيضاً"([31])، ويمكن إجمال هذه الأصناف علي أنها:([32])

1. التناص : ويحصره جنيت في حالات حضور فعلي لنص في نص أخر.

2. المناص أو البارانص (النصية الموازية): وهي العلاقة التي يقيمها النص مع محيطه النصي المباشر. ويتكون من إشارات تكميلية مثل العنوان، المدخل، التعليقات… إلخ.

3. الميتانص (العلاقة النقدية): هي العلاقة الواصفة، علاقة التفسير والتعليق التي تربط نصاً بآخر يتحدث عنه دون الاستشهاد به.

4. الهيبرنصية (النصية المتفرعة): علاقة تجمع نص لاحق (متفرع أو متسع) مع نص سابق (أصل أو منحسر).

5. النصية الجامعة (معمارية النص): وهي علاقة تسمى العلاقة البكماء بين إشارة واحدة من النص الموازي، وهي إشارة الانتماء التصنيفي لصنف عام مثل (رواية، شعر… إلخ.

وينتقد جان ماري شافر الأصناف التي حددها جيرار جينيت للتناص؛ فيقول :

" إذا اتبعنا المصطلحات التي اقترحها "جيرار جينيت"، فإن الأجناسية (المسماة: النصية الجامعة) ليست سوى إحدى مظاهر "التعالي النصي" التي تضم كذلك "المصاحبة النصية" (علاقة النص بعنوانه وعنوانه الفرعي، وبصورة أعم بسياقه الخارجي)"([33]).

ويبين شافر حدود الفوارق بين المصطلحات التي اقترحها جنيت مكملاً انتقاده لمصطلح "النصية الجامعة"؛ فيقول:

" يوجد فارق حاسم بين النصية الجامعة والأشكال الأخرى للتعالي النصي: كل نص لاحق يمتلك نصه السابق له، ولكن متناصّ نصه المذكور، ولكل مصاحب نصي النص الذي يحويه، ولكل نص بعدي نصه/المادة، بينما إذا كانت هناك بالفعل نصية جامعة، فبعكس ذلك، لا يوجد نص جامع، اللهم إلا علي معنى الاستعارة. إن مقولات المتناصّ والمصاحب النصي، والنص البعدي، والنص اللاحق، تعين أزواجاً علائقية للنصوص، بينما لا أثر لذلك في وضعية النصية الجامعة."([34]).

وقد حاول النقاد العرب تحديد أشكال للتناص؛ هي:

1. التناص القرآني : وفيه يقتبس الأديب نصاً قرآنياً، ويذكره مباشرة، أو يكون ممتداً بإيحاءاته وظله على النص الأدبي، حيث يعمد إلي جزءٍ من قصةٍ قرآنية، أو عبارةٍ قرآنيةٍ فيدخلها في سياق نصه.

2. التناص الوثائقي: وفيه يحاكي النص نصوصاً رسمية كالخطابات، والوثائق، أو أوراق أخرى كالرسائل الشخصية الإخوانية؛ ليكون نصوصه أكثر واقعية.

3. التناص والتراث الشعبي: وتكون المحاكاة فيه على مستوى اللغة الشعبية، إضافةً إلى الاستفادة من توظيف القص الشعبي، والحكايات القديمة، والموروث الشعبي.

وكذلك حصر أنواعه، بأنها:

1. تناص مباشر: ويدخل تحته ما عُرف في النقد القديم بالسرقة والاقتباس، والأخذ والتضمين، فهو عملية واعية تقوم بامتصاص وتحويل نصوص متداخلة، ومتفاعلة إلى النص. ويعمد الأديب فيه أحياناً إلى استحضار نصوص بلغتها التي وردت فيها، كالآيات القرآنية، والحديث النبوي، أو الشعر والقصة. وتذكر نهلة فيصل الأحمد؛ "أن التضمين والاقتباس لا يسمحان بالتفاعل بين النصين أو بالانصهار، والتفاعل النصي يقتضي إلغاء التراتبية بين النصوص، أو تجاورها المحض غير الانصهاري، فمع التفاعل النصي يتطلب الأمر ما فعله فلوبير إذ هو أول من ألغي المعقفات التي تشير إلي التضمين الحرفي، وصار ينسب لسواه أقوالاً يصوغها بأسلوبه الخاص ضمن ما يُدعى بالنقل أو الاستشهاد غير المباشر."([35])، ثم تذكر أن آنيك كوزيك بوياجي في أطروحتها الجامعية المعنونة بـ "الممارسة التناصية عند مارسيل بروست، في روايته "البحث عن الزمن المفقود": مجالات الاقتباس"؛ قد أوضحت "إمكانية تنظيم مجالات تعريف الاقتباس التناصي عن طرق تقاطع مفهومي: "الحرفي" و"الواضح" وفق ما يلي:

1 ) الاستشهاد: هو اقتباس حرفي وواضح.

2 ) الانتحال: هو اقتباس حرفي غير واضح.

3 ) الايحاء: هو اقتباس غير حرفي وغير واضح."([36]).

2. التناص غير المباشر: فينضوي تحته التلميح؛ وهو عملية لا شعورية ينتجها الأديب من النص المتداخل معه.

ويشير الدكتور محمد مفتاح إلي أن دراسة التناص ـ في الأدب الحديث ـ قد انصبت أول الأمر في حقول الأدب المقارن والمثاقفة، كما فعل عز الدين المناصرة في كتابه "المثاقفة والنقد المقارن: منظور شكلي"، ثم دخل الباحثون العرب في إشكالية المصطلح نتيجة لاختلاف الترجمات والمدارس النقدية، فمحمد بنيس يطلق عليه مصطلح "النص الغائب"، ومحمد مفتاح يسميه بـ "التعالق النصي" حيث عرفه بأنه: "التناص هو تعالق - الدخول في علاقة- نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة". وقد أضاف النقاد العرب الكثير من الإضافات ـ التي تتسم بالارتباك الاصطلاحي ـ حول مصطلح التناص ضمن جوهره، فعرفه محمود جابر عباس بإسهاب بأنه: "اعتماد نص من النصوص على غيره من النصوص النثرية أو الشعرية القديمة أو المعاصرة الشفاهية أو الكتابية العربية أو الأجنبية ووجود صيغة من الصيغ العلائقية والبنيوية والتركيبية والتشكيلية والأسلوبية بين النصين". وقد توسع أيضا بذكر التحولات التي تحدث في النص الجديد نتيجة تضمينه للنص الأصلي مع احتفاظ كل نص منهما بمزاياه وأصدائه. وعرفه الدكتور أحمد الزعبي بأنه: "أن يتضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكاراً أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي وتندغم فيه ليتشكل نص جديد واحد متكامل"، وتعرفه نهلة فيصل الأحمد بأنه: "هو التفاعل النصي الصريح مع نصوص بعينها، واستحضارها استحضاراً واضحاً، وتضمينها في النص عن طريق آليات كثيرة ظاهرة كـ (الاستشهاد) وأقل وضوحاً كـ (الإلماح).. وهكذا"([37])، وتعريفات التناص Intertextuality كما بينها النقاد الحداثيين كثيرة جدا ومتشعبة وكلها تدول حول جوهر التناص الذي يصب في النهاية في كونه تأثر نص بنص سابق، دون وجود تعريفاً جامعاً ضابطاً.

فمثلاً؛ تتحدث نهلة فيصل الأحمد عن العبر نصية Transtextuality؛ فتذكر:

"العبر نصية تظهر بدورها انفلاقات عميقة بين مختلف أشكال العلاقات التي يمكن لنص أن يقيمها مع نصوص أخرى"([38])

وهي بهذا الرأي تذهب إلي أن أصناف التناص التي حددها جيرار جينيت تندرج تحت مفهومها للعبر نصية. ولا تلبث نهلة فيصل الأحمد إلا أن تكشف عن فهمها الملتبس للمصطلح؛ رغم محاولتها المضنية لضبطه والبحث في أصوله لدي المفكرين والكُتاب الغربيين؛ فتورد تنبيهاً يكشف بنفسه عن هذا الخلط في استخدام المصطلح، إذ تقول:

"بقي أن أنبّه إلي أنني استخدم مصطلح التفاعل النصي أو (التناصية) بديلاً مقابلاً للمصطلحين الأجنبيين: (Intertextualityو Transtextuality)، التفاعل النصي أو التناص كما هو عند كريستيفا والتعالي النصي كما هو عند جيرار جينيت.

وأري أنه الأقرب للمقصود من المصطلح الأجنبي ونستبعد ترجماته العربية التي لا تخلو من مزاجية مبكرة. مثل (هجرة النصوص، والتعالق النصي، النص الغائب والأخر.. إلخ)"([39])

وتري أن أسباب ذلك العدول الاصطلاحي؛هي:([40])

1. إن ما يحدث بين النصوص من علاقات لتشكيل نص جديد هو عملية تفاعل أي ممارسة اندماجية ومزج كيميائي بدرجات متفاوتة.

2. أن باختين وهو يبحث عن شعرية منفتحة يتجاوز فيها شعرية الشكلانيين والألسنيين المنغلقة، اختار مصطلحاً من الحقل الماركسي هو "تفاعلية" واستخدمه لضبط شعرية دستويفسكي في كتابيه "شعرية دستويفسكي" و"الماركسية وفلسفة اللغة"، وهو المصطلح الذي أخذته كريستيفا وبحثت في البداية في مصطلح قريب من مصطلح باختين ينطلق مثله من الماركسية هو "إنتاجية" ثم سمته تناص كما نقله العرب الأوائل الذين فرغوا إلي ترجمته ومن ثمَّ عرفته "بالتشرب والتحويل" وكأنها تصف معادلة كيميائية.

وتقدم نهلة فيصل الأحمد اقتراحاً بتقسيم ما اصطلحت عليه ـ في تصورها المتداخل ـ بـ "التفاعل النصي"، إلي "تفاعل نصي عام" و"تفاعل نصي ذاتي"، وتحدد "التفاعل النصي العام" بأنه: "يحدث بين النص ونصوص جنسه من جهة وبين النص والأنواع المختلفة (من غير جنسه) من جهة ثانية."([41])، ثم تعرض لقائمة من التفاعلات النصية المحتملة لأي نص، وهي:([42])

ـ التفاعل النصي مع الأسطورة (حدثاً وجواً).

ـ التفاعل النصي الديني.

ـ التفاعل النصي مع التوراة.

ـ التفاعل النصي مع الإنجيل.

ـ التفاعل النصي مع القرآن.

ـ التفاعل النصي مع الحديث الشريف.

ـ التفاعل النصي مع الصوفية (نصاً وأجزاء نصوص. حدثاً وثيمة، قصة وجواًَ، أسلوباً، لفظاً وتركيباً، إيقاعاً ورمزاً.. إلخ).

ـ التفاعل النصي مع الطقوس.

ـ التفاعل النصي مع الحكمة.

ـ التفاعل النصي مع المثل.

ـ التفاعل النصي مع النكتة.

ـ التفاعل النصي مع نثر الحياة اليومية.

ـ التفاعل النصي مع الوسيط العصري.

ـ التفاعل النصي مع السينما.

ـ التفاعل النصي مع الأغنية.

ـ التفاعل النصي مع الحكاية، والرواية، والمسرحية (حدثاً وأسلوباً، آلية وتقنية، لفظاً وتركيباً، جواً وموسيقى وإيقاعاً).

أما "التفاعل النصي الذاتي"؛ فتحدده بأنه الذي يحدث بين نصوص الكاتب نفسه، أي أن النصوص تقيم حواراً ذاتياً داخلياً([43]).

ثم تقدم سرداً لآليات "التفاعل النصي" ـ كما تراها ـ وتعتمد هذه الآليات علي آليتين كبيرتين تندرج باقي الآليات الأخرى ـ الفرعية ـ تحتها؛ وهاتين الآليتين الكبيرتين هما: الاستدعاء([44]) والتحويل.

ويمكن أن نخلص إلي أن النقاد العرب في هذه المنطقة تباين ضبطهم للمصطلح، وذلك راجع إلي تباين ضبط المصطلح في الكتابات الغربية ذاتها أولاً، وتعدد الترجمات ثانياً، وتباين استخدامهم ومفهومهم للمصطلح ثالثاً.

أنهم ميزوا بين آليتي العمد والمصادفة في معالجتهم للمصطلح ودلالته . كما أنهم اهتموا ـ كالكتاب الغرب ـ بالآلية والشكل دون الوظيفة في تناولهم للمصطلح .




--------------------------------------------------------------------------------


( 1 ) يعين جيرار جنيت كفاءة القارئ المحتملة أو المتغيرة بأنها " المتأتية من العادة ، والتي تمكنه من أن يسترمز بسرعة متزايدة الشفرة السردية عموماً ، أو الشفرة الخاصة بجنس أو عمل أدبي ما " .

راجع ؛ جيرار جنيت ـ خطاب الحكاية ـ ترجمة : محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر حلي ـ المشروع القومي للترجمة ـ الطبعة الثانية ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ مصر ـ 1997 م ـ ص 84 .

( [2] ) د. الطاهر الهمامي ـ القارئ سلطة أم تسلط ـ مجلة الموقف الأدبي ـ العدد 330 ـ دمشق ـ سوريا ـ 1998 م ـ ص 23 .

( [3] ) راجع ؛ جميس فريزر ـ الفولكلور في العهد القديم ـ ترجمة : نبيلة إبراهيم ـ مكتبة الدراسات الشعبية ـ الأعداد : 22؛23؛24 ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة ـ مصر ـ 1998 م.

وراجع ؛ جيمس هنري بريستيد ـ فجر الضمير ـ ترجمة : د. سليم حسن ـ طبعة مكتبة الأسرة ـ القاهرة ـ مصر ـ 1999 م ـ ص 302 : 305 ؛ ص 390 : 414 ؛ ص 427 : 433.

( [4] ) د. عبده عبد العزيز قلقلية ـ النقد الأدبي في المغرب العربي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ مصر ـ 1988 م ـ
ص 380 .

( [5] ) د. مصطفي السعدني ـ التناص الشعري : قراءة أخرى لقضية السرقات ـ الناشر المؤلف نفسه ـ الإسكندرية ـ مصر ـ 1991 م ـ ص 53 .

( [6] ) عبد القادر الجرجاني ـ أسرار البلاغة ـ مطبعة وزارة المعارف ـ استانبول ـ بدون تاريخ ـ ص 241 .

( [7] ) المصدر السابق ـ ص 313 .

( [8] ) المصدر السابق ـ ص 313 و314 .

( [9] ) أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري ـ الصناعتين ـ عيسى الحلبي وشركاه ـ القاهرة ـ مصر ـ بدون تاريخ ـ
ص 202.

( [10] ) راجع ؛ المصدر السابق ـ ص 202 و ما بعدها ؛ ص 235 وما بعدها .

( [11] ) د. مصطفي بيومي ـ دوائر الاختلاف : قراءات التراث النقدي ـ دار فرحة للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ مصر ـ بدون تاريخ ـ ص 12.

( [12] ) عبد الله أبو هيف ـ التنمية الثقافية للطفل العربي ـ مصدر سابق ـ ص 82 .

( [13] ) المصدر السابق ـ ص 82 .

( [14] ) المصدر السابق ـ ص 83 .

( [15] ) المصدر السابق ـ ص 83 .

( [16] ) المصدر السابق ـ ص 83 .

( [17] ) المصدر السابق ـ ص 83 .

( [18] ) المصدر السابق ـ ص 83 .

( [19] ) المصدر السابق ـ ص 84 .

( [20] ) المصدر السابق ـ ص 84 .

( [21] ) المصدر السابق ـ ص 23 .

( [22] ) راجع ؛ المصدر السابق ـ ص 23 .

( [23] ) راجع ؛ المصدر السابق ـ ص 23 .

( [24] ) المصدر السابق ـ ص 24 .

( [25] ) المصدر السابق ـ ص 246 .

( [26] ) حاتم الصكر ـ ترويض النص : دراسة للتحليل النصي في النقد المعاصر : إجراءات .. ومنهجيات ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ مصر ـ 2007 م ـ ص 184 .

( [27] ) المصدر السابق ـ ص 184 .

( [28] ) جان إيف تادييه ـ النقد الأدبي في القرن العشرين ـ ترجمة : د. قاسم المقداد ـ الطبعة الأولي ـ منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق ـ سوريا ـ 1993 م ـ ص 318 .

نقلاً عن ؛ نهلة فيصل الأحمد ـ التفاعل النصي ـ ص 121 .

( [29] ) بيير مارك دوبيازي ـ نظرية التناصية ـ ترجمة : الرحوتي عبد الرحيم ـ مجلة علامات ـ الجزء 21 ـ مجلد 6 ـ جدة ـ المملكة العربية السعودية ـ سبتمبر 1996 م ـ ص 314 .

( [30] ) جيرار جينيت ـ مدخل لجامع النص ـ ترجمة : عبد الرحمن أيوب ـ الطبعة الثانية ـ دار توبقال ـ المغرب ـ 1986 م ـ ص 90 .

( [31] ) د. نضال الصالح ـ النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ سوريا ـ 2001 م ـ ص 213 .

( [32] ) راجع ؛ نهلة فيصل الأحمد ـ التفاعل النصي ـ مصدر سابق ـ ص 176 .

( [33] ) مجموعة كتاب ـ نظرية الأجناس الأدبية ـ ترجمة : عبد العزيز شبيل ـ كتاب النادي الثقافي بجدة 99 ـ الطبعة الأولي ـ النادي الثقافي بجدة ـ المملكة العربية السعودية ـ 4/11/1994 م ـ ص 146 .

( [34] ) المصدر السابق ـ ص 148 .

( [35] ) نهلة فيصل الأحمد ـ التفاعل النصي ـ مصدر سابق ـ ص 163 .

( [36] ) المصدر السابق ـ ص 177 .

( [37] ) المصدر السابق ـ ص 284 .

( [38] ) المصدر السابق ـ ص 176 .

( [39] ) المصدر السابق ـ ص 272 و273 .

وما تذهب إليه نهلة فيصل الأحمد ؛ لا يمكن إلا تسميته بالخلط البين بين المصطلحات ؛ للأسباب التالية :

1 ) أن البادئة Inter في مصطلح كريستيفا (Intertextuality ) تختلف من حيث كونها دالة لغوية عن البادئة Trans في مصطلح جيرار جينيت (Transtextuality) ، والتي هي بدورها دالة لغوية أخرى .

2 ) مفهوم المصطلحين متباين رغم ما قد يبدوا عليهما من تشابه ملبس ؛ فمفهوم مصطلح كريستيفا (Intertextuality )
يعني " التفاعل النصي داخل النص الواحد " مما يشي بعلاقة تاريخية وأخرى اندماجية .

راجع ؛ جان إيف تادييه ـ النقد الأدبي في القرن العشرين ـ مصدر سابق ـ ص 314 .

أما مفهوم مصطلح جيرار جينيت (Transtextuality) فيعني : " كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص
أخرى " .

راجع ؛ جيرار جينيت ـ مدخل لجامع النص ـ مصدر سابق ـ ص 90 .

مما يجعل مصطلح جيرار جينيت أكثر اتساعاً من مصطلح كريستفيا .

3 ) تاريخ تدشين مصطلح كريستيفا سابق علي تاريخ تدشين جينيت لمصطلح ؛ ( كريستيفا 1966 ، جينيت 1982 ) ؛ مما يشي بمعرفة جينيت لمصطلح كريستيفا ، وأنه أراد بمصطلحه مصطلحاً مغايراً ـ كدال ـ في دلالته لمصطلح كريستيفا .

4 ) أن مصطلح كريستيفا (Intertextuality ) قد حل محل مفهوم التذاوت (الذاتية المتبادلة) (Intersubjectivity) ، وأن لهذا المصطلح أبعاده الخاصة بإنتاجية النصوص ومقروئيتها .

راجع ؛ د. عمر عبد الواحد ـ دوائر التناص : معارضات البارودي للمتنبي .. دراسة في التفاعل النصي ـ الطبعة الأولي ـ دار الهدي للنشر والتوزيع ـ المنيا ـ مصر ـ 2003 م ـ ص 13 .

5 ) أن جينيت يعرف مصطلح التناص (Intertextuality ) ؛ بأنه " علاقة حضور متزامن بين نصين أو عدة نصوص " بمعنى ، عن طريق الاستحضار (Eidetiqument) .

راجع ؛ د. عمر عبد الواحد ـ التعلق النصي : مقامات الحريري نموذجاً ـ الطبعة الأولي ـ دار الهدي للنشر والتوزيع ـ المنيا ـ مصر ـ 2003 م ـ ص 66 .

( [40] ) راجع ؛ نهلة فيصل الأحمد ـ التفاعل النصي ـ مصدر سابق ـ ص 273 و274 .

( [41] ) المصدر السابق ـ ص 277 .

( [42] ) المصدر السابق ـ ص 278 .

( [43] ) المصدر السابق ـ ص 279 .

( [44] ) تقع نهلة فيصل الأحمد في نفس الخطأ الاصطلاحي الذي سبقها إليه الدكتور أحمد مجاهد ؛ إذ اعتمد في دراسته المعنونة بـ "أشكال التناص الشعري" (1998) علي جعل الاستدعاء شكلاً من أشكال التناص ، وخص منها بدراسته استدعاء الشخصية التراثية ، دون أن يعتني بتقديم أي مجهود نظري ، قبل أن يشرع في عمله الإجرائي النقدي ، وكأنه يتحدث عن معلوم من النقد بالضرورة .

راجع ؛ أحمد مجاهد ـ أشكال التناص الشعري : دراسة في توظيف الشخصيات التراثية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ مصر ـ 1998 م ـ ص 83 وما بعدها ؛ ص 87 : 89 ؛ ص 99 وما بعدها ؛ ص 353 : 355 .

آليات التنـــــاص

آليات التنـــــاص

الدكتور جميل حمداوي
يعد التناص من أهم المفاهيم النقدية التي اهتمت بها الشعرية الغربية وما بعد البنيوية والسيميائيات النصية؛ لما له من فعالية إجرائية في تفكيك النص وتركيبه، والتغلغل في أعماق النص ولا شعوره الإبداعي. وإذا كان التناص مصطلحا نقديا تسلح به النقاد العرب الأقدمون تحت تسميات عديدة مثل: السرقات الشعرية والتضمين والنحل والانتحال والأخذ والتأثر، فإن النقاد والدارسين الغربيين ابتعدوا عن هذا المفهوم القدحي إلى حد ما للتناص، واهتموا بالجانب الإيجابي الذي يتمثل في أصول الإبداع ومكوناته الجننينية وعلاقات التفاعل والتأثر والتأثير. ويعد التناص كذلك من أهم المفاتيح الإجرائية لفهم الأدب المقارن ورصد عملية التثاقف والحوار بين الحضارات والثقافات الإنسانية في شتى المجالات الفكرية والفنية والأدبية، وكذلك أداة ناجعة لمقاربة النص الأدبي واستنطاق سننه اللغوي وبنيته العميقة، والدخول إلى أغوارالنص واستكناه دلالاته وتفاعلاته الخارجية والداخلية. لأن النص مهما كان فهو شبكة من التفاعلات الذهنية، ونسق من المصادر المضمرة والظاهرة التي تتوارى خلف الأسطر وتتمدد في ذاكرة المتلقي عبر آليات مثل: المعرفة الخلفية وترسبات الذاكرة والخطاطات النصية والسيناريوهات التصورية والتداخل النصي وتعدد الأصوات والأسلبة والتهجين...
ويدل التناص كذلك على أن النص الأدبي عصارة من التفاعلات والتعالقات النصية التي تتم على المستويين: الدلالي والشكلي. والتناص أيضا مجموعة من الأصوات والإحالات التي تنصهر في النص الأدبي بطريقة واعية أو غير واعية أو هو التداخل النصي بصفة عامة. ومادام التناص موجودا، فمن الصعب الحديث عن إبداع أصيل خالص للمبدع أو عن النص- الأب أو النص الأصل- كما يرى رولان بارت في كتابه(درس السيميولوجيا ،ص:63، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دارتوبقال، الدار البيضاء، طبعة1985)، بل النصوص الإبداعية هي امتصاص ومحاكاة للنصوص السابقة وتفاعل معها عبر عمليات الحوار والنقد والأسلبة والباروديا والتهجين والسخرية والحوارية..
وإذا كان التناص مصطلحا معروفا في النقد العربي بدلالات أخرى، فإن الغرب طور هذا المفهوم وأصبح تقنية فعالة وإجرائية في فهم النص وتفسيره، وآلية منهجية في مقاربة الإبداع وتشريحه قصد إثرائه بالدلالات الظاهرة أو المضمرة. وأصبح المبدع اليوم يكثر من الإحالات التناصية والمستنسخات النصية والرموز الموحية والخلفيات المسكوت عنها إلى أن أصبح النص مصبا للنصوص واختزالا لأفكار السابقين في إطار عصارة تناصية تحتاج إلى استنطاقها واستجلائها قصد تحديد مرجعيات الكاتب ومصادره الثقافية والأصول المولدة لفكره ورؤيته للعالم.
هذا ، ويعد جنس الرواية( دون أن نقصي الشعر والدراما...) الفن الأدبي الوحيد الذي يزخر بالتفاعلات التناصية والتداخلات الحوارية والتعالق التفاعلي كما أشار إلى ذلك كثير من الدارسين والمنظرين ولاسيما ميخائيل باختين وجوليا كريستيفا وگريماس ورولان بارت وتودوروف وجيرار جنيت وكل الباحثين الذين درسوا النص الموازي وعتباته. وتعتبر الرواية أيضا الجنس الأدبي الأكثر انفتاحا على الذات والموضوع والنصوص السابقة أو الراهنة تعالقا وتفاعلا. وهو كذلك جنس أدبي تنصهر فيه كل الأجناس الأدبية والأساليب والخطابات النصية. أي إن الرواية مظهر بارز للتناص والتداخلات المناصية وتكاثر المستنسخات والإحالات والأصوات الأجناسية، وهذا ما جعل باختين وجوليا كريستيفا يهتمان اهتماما شديدا بهذا الجنس الأدبي عندما انكب باختين على روايات دوستيفسكي وكريستيفا على سيميائية الخطاب الروائي.
وفي العالم العربي، بدأ الاهتمام بالتناص في أواخر السبعينيات من القرن العشرين مع النقاد المغاربيين واللبنانيين كمحمد مفتاح وسعيد يقطين ومحمد بنيس وبشير القمري وسامي سويدان...، وراحوا يفرعونه في شكل أنواع وأقسام ومفاهيم اصطلاحية، ويحللون به النصوص الأدبية العربية القديمة والحديثة تحليلا ونقدا ، حتى أصبح هذا المفهوم النقدي شائعا في الساحة الثقافية العربية قلما تخلو منه دراسة أدبية أو نقدية.
ومن آليات التناص التي ينبغي أن يعرفها الناقد أو المحلل أو القارئ أثناء مقاربته للنص الأدبي، والتي تساعد ه على استكناه النص وسبر أغواره، نذكر
المفاهيم التالية:
1- المستنسخات النصية( ألفاظ وشواهد وعبارات واقتباسات بارزة...)؛
2- المقتبسات النصية( تكون في بداية الرواية أو الفصل أو المتن في شكل نصوص ومقاطع وفقرات موضوعة بين علامات التنصيص تضيء الرواية تفاعلا وحوارا...)؛
3- العبارات المسكوكة( أمثال وحكم وعبارات مسكوكة في نسقها اللغوي والبنيوي بطريقة كلية عضوية ومتوارثة جيلا عن جيل مثل:أكلت يوم أكل الثور الأبيض، من جد وجد ومن زرع حصد، راح يصطاد اصطادوه...)؛
4- الهوامش النصية: يورد المبدع في عمله الإبداعي المتن ويذيله بهوامش إحالية ومرجعية. وغالبا ماتوضع هذه الهوامش في أسفل النص أو في آخر العمل، حيث تقوم بوظيفة الوصف والتفسير لما غمض من النص، وما يحمله من إشارات نصية كما فعل عبد الله العروي في روايته " أوراق"؛
5- الحواشي النصية: قد يرفق المبدع نصه بحواش في بداية العمل أوفي نهايته أو في آخره لتفسير النص من خلال تحديد سياقه وإبراز مناسبته أو شرح بعض الألفاظ أو تفسير بعض أسماء الأعلام أو تعيين المهدى له هذا العمل، أو تبيان الدواعي التي دفعته لكتابة النص وتحبيره....؛
6- الاقتباس( هو أن يأخذ المبدع القرآن والسنة ويدرجه في كلامه بطريقة صريحة أو غير صريحة...)؛
7- التضمين( أن يضمن المبدع كلامه شيئا من مشهور الشعر أو النثر لغيره من الأدباء والشعراء...)؛
8- المحاكاة: يلتجئ المبدع إلى توظيف المقتبس أو المستنسخ بطريقة حرفية دون أن يبدع فيها؛
9- الإحالة: غالبا ما نجد الكاتب يوظف بعض الكلمات أو العبارات التي توحي بإشارات أو إحالات مرجعية رمزية أو أسطورية.....؛
10- المناص métatexte: ينطلق المبدع من عمل أو حدث أو فكرة أو مرجع أو مصدر لمبدع آخر فيحاول محاكاته أو نقده وحواره كما فعل بنسالم حميش في روايته:" العلامة" الذي استلهم فيها سيرة العلامة ابن خلدون بطريقة تخييلية فنية رائعة؛
11- الاستشهاد: يورد المبدع مجموعة من الاستشهادات التي يضعها بين قوسين أو بين علامات التنصيص للاستدلال والإحالة وتدعيم قوله؛
12- الباروديا: هي عبارة عن محاكاة ساخرة يتقاطع فيها الواقع واللاواقع،
الحقيقة واللاحقيقة، الجد والسخرية، النقد والضحك اللعبي؛
13- التهجين أو الأسلبة: المزج بين لغتين اجتماعيتين في ملفوظ لغوي وأسلوبي واحد، وهذا يعبر عن البولوفونية( التعددية) اللغوية القائمة على تعدد الأصوات واللغات والأساليب والخطابات والمنظورات السردية. وهذا التعدد في الحقيقة يعبر عن التعددية الاجتماعية واختلاف الشخصيات في الوعي والجذور الاجتماعية والطبقية؛
14- الحوار التفاعلي: يعد أعلى مرتبة في التواصل مع النصوص والتعالق بها
واستنساخها. أي إن المبدع لا يقف عند حدود الامتصاص والاجترار والاستفادة، بل يعمد إلى ممارسة النقد والحوار؛
15- المعرفة الخلفية: هي تلك المعرفة التي يتسلح بها قارئ النص اعتمادا على التشابه النصي والسيناريوهات والخطاطات والمدونات، والتي بها يحلل النص ويفككه ويعيد تركيبه من جديد .
16- النص الموازي: هو عبارة عن مجموعة من العتبات المحيطة داخليا وخارجيا تساهم في إضاءة النص وتوضيحه كالعناوين والإهداء والأيقون والكتابات والحوارات
والمقدمات والتعيين الجنسي.... وعلى الرغم من موقعها الهامشي فإنها تقوم بدور كبير في مقاربة النص ووصفه سواء من الداخل أم الخارج.
تلكم هي أهم آليات التناص التي تسعفنا في فهم النص وتفسيره ، وتحليله وتركيبه.
وعلينا أن نستبعد السرقات الشعرية وما يتصل بها من مفاهيم موروثة عن النقد العربي القديم ؛ لأن ذلك لايدخل ضمن التناص الذي يعد عملية إبداعية فنية مقصودة عن وعي أو عن غير وعي، الغرض من توظيفه هو تحقيق الوظيفة الشعرية والجمالية، والتفاعل مع النص والتعالق به نقدا وحوارا



المصدر: مجلة أقلام

التناص (النشأة والمفهوم) ... إيمان الشنيني

جدارية محمود درويش نموذجا -

أ‌- في الأدب الغربي :

إذا ما تتبعنا نشأة التناص وبداياته الأولى كمصطلح نقدي نجد أنه كان يرد في بداية الأمر ضمن الحديث عن الدراسات اللسانية (1) وقد وضح مفهوم التناص العالم الروسي ميخائيل باختين من خلال كتابه (فلسفة اللغة) وعنى باختين بالتناص: الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص – أو لأجزاء – من نصوص سابقة عليها والذي أفاد منه بعد ذلك العديد من الباحثين (2) حتى استوى مفهوم التناص بشكل تام على يد تلميذة باختين الباحثة جوليا كرستيفا

وقد أجرت كرستيفا استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها (ثورة اللغة الشعرية) وعرفت فيها التناص بأنه " التفاعل النصي في نص بعينه" (3) كما ترى جوليا أن " كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى "(4) .ثم التقى حول هذا المصطلح عدد كبير من النقاد الغربيين وتوالت الدراسات حول التناص وتوسع الباحثون في تناول هذا المفهوم وكلها لا تخرج عن هذا الأصل ، وقد أضاف الناقد الفرنسي جيرار جينيت لذلك أن حدد أصنافاً للتناص وهي :

1- الاستشهاد وهو الشكل الصريح للتناص

2- السرقة وهو أقل صراحة .

3- النص الموازي : علاقة النص بالعنوان والمقدمة والتقديم والتمهيد.

4- الوصف النصي : العلاقة التي تربط بين النص والنص الذي يتحدث عنه.

5- النصية الواسعة : علاقة الاشتقاق بين النص( الأصلي/القديم) والنص السابق عليه (الواسع/الجديد).

6- النصية الجامعة : العلاقة البكماء بالأجناس النصية التي يفصح عنها التنصيص الموازي (5(

وبعد ذلك اتسع مفهوم التناص وأصبح بمثابة ظاهرة نقدية جديدة وجديرة بالدراسة والاهتمام وشاعت في الأدب الغربي ، ولاحقاً انتقل هذا الاهتمام بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية ونقدية غربية ضمن الاحتكاك الثقافي .


ب - في الأدب العربي القديم والمعاصر:

وإذا ما انتقلنا لمفهوم التناص ونشأته في الأدب العربي نجد أن مفهوم التناص هو مصطلح جديد لظاهرة أدبية ونقدية قديمة فـ "ظاهرة تداخل النصوص هي سمة جوهرية في الثقافة العربية حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل"(6) فالتأمل في طبيعة التأليفات النقدية العربية القديمة يعطينا صورة واضحة جداً لوجود أصول لقضية التناص فيه ، واقتفى كثير من الباحثين المعاصرين العرب أثر التناص في الأدب القديم وأظهروا وجوده فيها تحت مسميات أخرى وبأشكال تقترب بمسافة كبيرة من المصطلح الحديث، وقد أوضح الدكتور محمد بنيس ذلك وبين أن الشعرية العربية القديمة قد فطنت لعلاقة النص بغيره من النصوص منذ الجاهلية وضرب مثلاً للمقدمة الطللية ، والتي تعكس شكلاً لسلطة النص و"قراءة أولية لعلاقة النصوص ببعضها وللتداخل النصي بينها" فكون المقدمة الطللية تقتضي ذات التقليد الشعري من الوقوف والبكاء وذكر الدمن فهذا إنما يفتح أفقاً واسعاً لدخول القصائد في فضاء نصي متشابك ووجود تربة خصبة للتفاعل النصي.(7)

وإذا استمرينا في تتبع أصول التناص في أدبنا القديم نجد أن الموازنة التي أقامها الآمدي بين أبي تمام والبحتري تعكس شكلاً من أشكال التناص ، وكذلك المفاضلة كما هو عند المنجم، والوساطة بين المتنبي وخصومه عند الجرجاني، ولما كانت السرقة كما يقول جينيت صنفاً من أصناف التناص فإنه بإمكاننا اعتبار كتب النقاد القدامى كسرقات أبي تمام للقطربلي وسرقات البحتري من أبي تمام للنصيبي والإبانة عن سرقات المتنبي للحميدي ، تظهر بشكل جلي مدى تأصل ظاهرة التناص في الشعر العربي ، وهذا لا يعد أمراً غريباً لأن التناص أمر لابد منه و"ذلك لأن العمل الأدبي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدة تماماً مثل الكائن البشري ، فهو لا يأن فراغ كما أنه لا يفضي إلى فراغ ، إنه نتاج أدبي لغوي لكل ما سبقه من موروث أدبي ، وهو بذرة خصبة تؤول إلى نصوص تنتج عنه"(8)، وعلى الرغم من هذه الموازنات والسرقات والمعارضات والجدل الطويل الذي دار بين النقاد القدامى الذين درسوا هذه الظواهر التي تتفاوت فيها الصلة بين النص الجديد والنص القديم (9) إلا أن هذا الجهد يدل على انشغال الثقافة العربية بعلاقة النصوص ببعضها البعض ، وإدراك النقاد القدامى "للغة والأسلوب من جهة وبنية الخطاب من جهة أخرى وهكذا أنزلوا الأولى منزلة السرقة والثانية منزلة الإجبار الذي هو شرط أسبق في بناء الخطاب"(10) وبذلك يكونوا قد أدركوا مضمون التناص .

والتناص في الأدب العربي مر ببدايات غنية تحت مسميات نقدية تناسب عصوره القديمة وعاد من جديد للظهور متأثراً بالدراسات اللسانية الغربية الحديثة كمصطلح مستقل له أصوله ونظرياته وتداعياته، ففي الأدب العربي المعاصر حظي مفهوم التناص باهتمام كبير لشيوعه في الدراسات النقدية الغربية نتيجة للتفاعل الثقافي وتأثير المدارس الغربية في الأدب العربي وكانت دراسة التناص في بداياتها قد اتخذت شكل الدراسة المقارنة وانصرفت عن الأشكال اللفظية والنحوية والدلالية(11)

ويشير الدكتور محمد مفتاح أن دراسة التناص في الأدب الحديث قد انصبت أول الأمر في حقول الأدب المقارن والمثاقفة كما فعل عز الدين المناصرة في كتابه (المثاقفة والنقد المقارن: منظور شكلي) (12) ثم دخل الباحثون العرب في إشكالية المصطلح نتيجة لاختلاف الترجمات والمدارس النقدية فمحمد بنيس يطلق عليه مصطلح "النص الغائب "ومحمد مفتاح يسميه بـ "التعالق النصي" حيث عرفه فقال "التناص هو تعالق - الدخول في علاقة- نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة"(13) ، وقد أضاف النقاد العرب المعاصرين الكثير من الإضافات حول مصطلح التناص ضمن جوهره فعرفه محمود جابر عباس بإسهاب بأنه "اعتماد نص من النصوص على غيره من النصوص النثرية أو الشعرية القديمة أو المعاصرة الشفاهية أو الكتابية العربية أو الأجنبية ووجود صيغة من الصيغ العلائقية والبنيوية والتركيبية والتشكيلية والأسلوبية بين النصين"(14) وقد توسع أيضا بذكر التحولات التي تحدث في النص الجديد نتيجة تضمينه للنص الأصلي مع احتفاظ كل نص منهما بمزاياه وأصدائه وتتركز قدرة الشاعر اللاحق على تعميق إيحاءات النص بحيث يعطيه أبعاداً جديدة، كما عرفه الدكتور أحمد الزعبي بأنه "أن يتضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكارا أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي وتندغم فيه ليتشكل نص جديد واحد متكامل"(15) ، وتعريفات التناص كما بينها النقاد الحداثيون كثيرة جدا ومتشعبة وكلها تدول حول جوهر التناص الذي يصب في النهاية في كونه تأثر نص بنص سابق.


تقنية التناص وأشكاله:

تعتمد تقنية التناص على إلغاء الحدود بين النص والنصوص أو الوقائع أو الشخصيات التي يضمنها الشاعر نصه الجديد حيث تأتي هذه النصوص موظفة ومذابة في النص فتفتح آفاقاً أخرى دينية وأسطورية وأدبية وتاريخية عدة مما يجعل من النص ملتقى لأكثر من زمن وأكثر من حدث وأكثر من دلالة فيصبح النص غنياً حافلاً بالدلالات والمعاني، ويوضح الدكتور علي العلاق هذه التقنية "القصيدة باعتبارها عملاً فنياً تجسد لحظة فردية خاصة وهي في أوج توترها وغناها وهذه اللحظة تتصل على الرغم من تفردها بتيار من اللحظات الفردية المتراكمة الأخرى"(16) وهذا ما يسميه أيضا عبدالله الغذامي بتناص النصوص فالنص ابن النص(17) على حد تعبيره فكل نص هو إناء يحوي بشكل أو بآخر أصداء نصوص أخرى ولاشك أن الشاعر يتأثر بتراثه وثقافته ويبني عليها شعره ، فالتناص أمر لا مفر منه وهو موجود في كل نص شعري إذ إنه "لافكاك للإنسان من شروطه الزمانية والمكانية ومحتوياتها"(18) ولكن يبقى السؤال كيف نحدد مواطن التناص في نص ما؟ وكيف نعرف أن الشاعر قد استثمر هنا بيتاً أو أسطورة أو معركة؟ والجواب يكون أن تمييز إشارات الشاعر وتلميحاته لنصوص أخرى أمر نسبي لأن ذلك يعتمد على المعرفة ، أي معرفة المتلقي ومدى اتساع ثقافته "فالمعرفة ركيزة تأويل النص من قبل المتلقي"(18) ، فكل حضور ذهني لدلالة ما ونحن نقرأ نصاُ فإن مرده إلى التناص وعلينا حينئذٍ أن نبحث عن مصدر لذلك الصدى في مخزوننا الثقافي الخاص ومنه نتعرف على كيفية استثمار الشاعر له ، والذائقة الشعرية تميل إلى الاستمتاع بتأويل التناص في النص كلما كانت الصلة بين النصين أخفى وأبعد وأعمق(19) حيث يمنح القارئ وقفة تأملية بين دلالاتين مختلفتين تتحدان معاً في نص واحد جديد مثيرة دلالات أخرى جديدة تحمل أكثر من بصمة وأكثر من بعد . ويستقي الشاعر التناص من مصادر متباينة هي:

1- المصادر الضرورية: ويكون فيها التأثير طبيعياً وتلقائياً وهو ما يسمى بالذاكرة أو الموروث العام ، مثل المقدمة الطللية في القصيدة الجاهلية.

2- المصادر اللازمة : داخلية تتعلق بالتناص الواقع في نتاج الشاعر نفسه مثل قصيدتي السياب (أنشودة المطر) و (غريب على الخليج).

3- المصادر الطوعية : وهي اختيارية وتشير إلى ما يطلبه الشاعر عمداً في نصوص متزامنة أو سابقة عليه وهي مطلوبة لذاتها(20)

وينقسم التناص حسب توظيفه في النصوص إلى:

1- التناص الظاهر: ويدخل ضمنه الاقتباس والتضمين ويسمى أيضاً التناص الواعي أو الشعوري.

2- التناص اللاشعوري: (تناص الخفاء) ويكون فيه المؤلف غير واعي بحضور نص في النص الذي يكتبه (21)


التناص ودلالاته في جدارية لمحمود درويش

حول الجدارية:

جدارية هو ديوان / قصيدة للشاعر محمود درويش يمثل تجربة جديرة بالتأمل والدراسة لما تحويه من غنى وتنوع في الظواهر الأدبية والفنية ، تجسد (جدارية) بشكل عام صراعاً بين الموت والحياة في إشارات واضحة لذلك على مدار القصيدة ، يعاني فيها الشاعر موت أمور كثيرة فمن موت اللغة إلى ضياع الهوية إلى عبث ولا جدوى ، وتحدي وإصرار على المواجهة ، القصيدة (أرض خضراء) جمعت جوانب أدبية ودينية واجتماعية وفلسفية وسياسية بحيث ألقى فيها الشاعر جل همومه. أحيانا يلجأ إلى تصويرها وحين يشتد به الأسى يلجأ كثيراً إلى أسلوب التداعي الحر في بعض المقاطع ، واستخدامه للرمز والأسطورة والتناص وهو ما تم التركيز عليه في هذا البحث ، في هذا الفصل نقدم نماذج لبعض مواطن التناص الواردة في القصيدة مع يقين مطلق بأن ما سيتم ذكره من تناصات هو جزء بسيط من تلك التناصات الخفية التي لم يفطن لها.

التناص ودلالاته في جدارية لمحمود درويش

أ- التناص الأدبي:

والتناص الأدبي هو تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعراً أو نثراً مع نص القصيدة الأصلي بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الشاعر.(22(


1- النص الموازي (جدارية):

النموذج الأول للتناص في الجدارية هو عنوان الديوان/ القصيدة (جدارية) ولأن أرض قصيدته خضراء كما يردد الشاعر في النص فقد كانت بالفعل كذلك أرضاً خضراء غنية بالتناصات حتى إنه ليطالعنا في النص الموازي (العنوان على الغلاف) فحين كتب محمود درويش هذه القصيدة أسماها (جدارية) وهي مفردة مرادفة لـ (معلقة) فلعل الشاعر بهذا يرغب في أن يعود لنقطة البداية من جديد بعد صراع محموم مع النهاية (الموت) في معلقته أو جداريته، ولأن للمعلقات مكانة خاصة ومتميزة في الشعر العربي فإن اختياره لهذا العنوان يرفع من القيمة الأدبية لعمله ويضعه في مصاف المعلقات وربما كان ذلك إيماناً من الشاعر بعبقريته الشعرية وبرؤيته لنصه على أنه يستحق أن يعلق على الجدران كما كان الحال مع المعلقات الخالدة، والدلالة الأخرى التي يثيرها عنوان جدارية هي أن الشاعر في هذه الجدارية يشعرنا بأنه قد أودعها خلاصة شعره وتجربته الحياتية والأدبية وحكمته فأراد لها أن تبقى حية في الأذهان خالدة في الذاكرة كخلود المعلقات الجاهلية ، أو لأن النص بريء وعفوي يتعامل مع "أصغر الأشياء" ببساطة وعفوية البدايات البشرية، وكلما توغلنا في النص كلما تكثفت دلالات المعلقات وما ارتبط بها وبشعرائها - كما سنرى لاحقاً- ، كل هذه الدلالات تفجرها لفظة جدارية التي وسم بها محمود درويش ديوانه هذا .


2- امرؤ القيس:

شغل امرؤ القيس الشعر والشعراء في كل عصور الأدب العربي وله فيه مكانة كبيرة ولاشك وذلك لغنى تجربته الأدبية والحياتية ، و"تكاد تكون شخصية امرىء القيس شخصية نموذجية في رحلة الشعر العربي القديم والحديث ، فلطالما استلهم الشعراء شعر امرىء القيس بأساليب مختلفة ومتعددة ، وهذا بحد ذاته أمر يشير إلى أهمية امرىء القيس" (23) وقد استثمر محمود درويش في جداريته محور الغربة في حياة امرىء القيس ووظفه في نصه بشكل موفق ، يقول محمود درويش :

" يا اسمي: سوف تكبر حين أكبر
سوف تحملني وأحملك
الغريب أخ الغريب" (24)

وجد الشاعر في رحلة امرىء القيس وغربته مادة يمكن أن يزاوج فيها بين واقع الإنسان المعاصر وواقع امرىء القيس وهو واقع لا يعرف الاستقرار ، وهنا تتلاقى تجربة امرىء القيس ومحمود درويش حيث يسيطر إحساس عالٍ بالغربة على الشاعر فيشطر من ذاته شطرين ويخلق من نفسه آخراً يستعين به على غربته ، وقد جمع هذا الإحساس بالغربة بين هذين الشاعرين فكلاهما غريب عن أرضه وتجمعه الغربة بألفة هي ألفة الغريب بالغريب كما في قول امرىء القيس :

أجارتنا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب

كما أن رحلة امرىء القيس بكل ما فيها من ألم ومغامرة تلتقي مع رحلة درويش الماضية في فضاء أبيض شفاف هو نقاء النهايات التي يقابلها الشاعر بنوع من التحدي حيناً والاستسلام حيناً آخر ، فالغربة والإحساس بدنو النهاية جمع كلا الشاعرين ولعل درويش في هذا التناص يقول لنا أن غربته طويلة ومتأصلة في داخله وتمد جذورها في روحه منذ أيام امرىء القيس حتى يومنا هذا .ويعود محمود درويش في موطن آخر من جداريته ليلتقي بامرىء القيس ولكن هذه المرة يتماس معه في نقطة أخرى ومحور ثان هو الرحلة ، يقول :

"كلابنا هدأت
وماعزنا توشح بالضباب على
التلال. وشج سهم طائش وجه
اليقين. تعبت من لغتي تقول ولا
تقول على ظهور الخيل ماذا يصنع
الماضي بأيام امرىء القيس الموزع
بين قافية وقيصر..." (25)

نعرف أن رحلة امرىء القيس كانت لإعادة ملك مسلوب وهذا الملك المسلوب هو أيضاً ما يرتحل من أجله محمود درويش ملك الأرض والوطن المسلوب ، ولكن درويش يبدو فارساً منهكاً لا يجد في رحلته جدوى حين يطبق عليه اليأس الخناق حيث تغيب معاني الأمل والحياة أمامه فيقع تحت شعور ثقيل بعبثية الحياة والوجود وتجمد الأشياء وتتصلب عند مؤشر واحد هو الموت ، موت الحياة بكل ما فيها من مظاهر ساذجة وحميمة ، وما يزيد من إحساس العبث هذا هو ذلك السهم "الطائش" الذي شج وجه اليقين وهو معادل موضوعي لفكرة الموت في نفس الشاعر، فحينها لا يعود للارتحال ولا للمغامرة ولا لطلب أي هدف معنى لذلك جاء تناصه مع رحلة امرىء القيس هنا مرتداً للماضي الموزع بين الشعر والغاية التي كرس لها الشاعر حياته كما كرس امرىء القيس حياته من أجل قضيته وفي النهاية لم ينل أي منهما سوى ذلك اليقين الأبدي .. الموت.


3- المعري:

يستعرض محمود درويش في لحظات سريعة مشارفته على الموت في مشاهد متتالية ذات إيقاع سريع ومتوتر فيطل على شرفات الموت ليلتقي ويصافح من سبقوه إلى مصيره الذي هو سائر إليه طوعاً أو كرهاً فيقول :

" رأيت المعري يطرد نقاده
من قصيدته :
لست أعمى
لأبصر ما تبصرون
فإن البصيرة نور يؤدي
إلى عدم....... أو جنون" (26)

اجتمع محمود درويش بالمعري تحت سماء البصيرة ويتحد صوتيهما حين يجسد محمود درويش فلسفته بأن البصيرة نور يؤدي إلى العدم أو الجنون ، وكما انكشف الحجاب أمام المعري لقوة بصيرته تخترق بصيرة درويش عالمنا الضيق ويظل على مشارف الموت ويتعرف على عوالمه ومظاهره ، واختيار الشاعر للمعري خصوصاً يكشف عن عدة أبعاد عناها الشاعر من هذا التناص فمحمود درويش يتعالى ويأنف مما يراه حوله من حياة كالحة قبيحة يسلب فيها الإنسان أبسط حقوقه بالأمن والسلام والوطن، فيصبح الراكنون إلى الحياة دون هذه الحقوق عمياناً في نظره وكذا كان المعري الذي ملأ الدنيا بفلسفته ، ولئن كان المعري يطرد نقاداً من قصيدته فبإمكاننا أن نستشف ونقيس على حال المعري أن درويش أيضاً - باعتبار قضيته الوطنية- يمارس أيضاً هذا الطرد ولكنه هنا يطرد أعداءً من أرضه، فكلاهما يشتركان معاً في الرفض وفي نفاذ البصيرة ، وهكذا اتكأ محمود درويش على فلسفة المعري ليعمق دلالاتها في نصه بما يخدم فكرته التي يدعو لها.


4- طرفة بن العبد:

حوار مع الموت ، هكذا كان لقاء درويش بطرفة بن العبد :

" أيها الموت انتظرني خارج الأرض
انتظرني في بلادك ريثما أنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي
قرب خيمتك ، انتظرني ريثما أنهي
قراءة طرفة بن العبد" (27)



يستمر نص الجدارية في حوار مع الموت والمرء لا يحاور إلا من كان حاضراً ماثلاً أمامه وهكذا كان الموت لمحمود درويش ماثلاً أمامه حتى لنكاد نشتم رائحة ألفة ما في صيغة هذا الحوار والخطاب للموت، هذا الزائر الذي لامفر منه والقدر المحتوم الذي يتربص بالجميع يبلغ اقترابه من نفس الشاعر حد الاعتياد والألفة، وكما مر على طرفة وغيره من قبل وطواهم فإن الشاعر يبدو على أهبة الاستعداد لامتطاء صهوته ، إن محمود درويش في هذه الأسطر يبدو وكأنه يتلو صك الموت ويمسكه بين يديه تماماً كما حدث لطرفة بن العبد حين كان يمسك بيده أمر قتله سائراً إلى حتفه، استلهم درويش هذه الحادثة ببراعة مثيراً مشاعر العظمة والشفقة المتناقضة وفي آن واحد... عظمة السير بخطى ثابتة نحو النهاية، والشفقة على الإقبال على الموت مخدوعاً، كما أن ذكره قراءة طرفة يستحضر إلى الأذهان معلقة طرفة بن العبد التي أكثر فيها من ذكر الموت وندب نفسه، لقد منح الشاعر فكرة الموت في تناصه مع طرفة إيحاءات كبيرة حين ربط بين ذاته وبين ذاك الشاعر الجاهلي بأكثر من رابط وصلة : أولها أن لكل منها معلقة وفي كل معلقة حضور طاغي للموت وعامل مواجهة الموت بثبات، وقد وفق درويش ببراعة في هذا التناص وإذابته في جسد قصيدته بشكل تقاطرت فيه قوافل الموت من أيام طرفة حتى ساعات درويش الأخيرة مع صراعه.



5- لبيد بن أبي ربيعة:

يبلغ اليأس واليقين مداه في مقطع آخر من الجدارية ويتدثر الشاعر بعباءة الحكيم مردداً:

" باطلٌ باطلُ الأباطيل....باطلْ
كل شيء على البسيطة زائــلْ" (28)

ويقرر ثلاثاً بأن كل شيء باطل مضمناً مقولته الحكيمة هذه رائحة الأسلاف الحكماء الذين خبروا الدنيا وأهدونا خلاصة تجاربهم يمثلهم في هذا الموطن لبيد بن أبي ربيعة الذي يرن صدى بيته:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل

فحين يذكر درويش الحكمة في مقطع ما في قصيدته يختمها ببيت لبيد الحكيم على مدى أربعة مرات على مدار القصيدة، فهذا البيت ذو صلة وطيدة بالنص حيث يصب هو الآخر في فكرة الخلود التي يطرحها الشاعر في نصه، وحين يورد هذه الحكمة يعلو الإيمان واليقين المطلق بأن الدنيا فانية مباهجها زائلة وأن كل ما عليها فانٍ فإنه بذلك يشهد ويقر بهذه الحقيقة الأزلية وكأنه يلوذ بإيمانه وبالحكمة خلف بيت لبيد ليواسي نفسه - رغم تماسكه أمام الموت - مردداً خلف لبيد بيته موصلا هذه الحقيقة التي استشعرها بعمق للآخرين.



ب-التناص الأسطوري:

ويعني التناص الأسطوري استحضار الشاعر بعض الأساطير القديمة وتوظيفها في سياقات القصيدة لتعميق رؤية معاصرة يراها الشاعر في القضية التي يطرحها(29)


1- طائر الفينيق:

يقول محمود درويش:

" سأصير يوماً طائراً
وأسل من عدمي
وجودي. كلما احترق الجناحان
اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من الرمــاد" (30)

في غمرة شعوره باليأس وثقل وطأة فكرة الموت عليه تومض الحياة ببريقها اللامع من جديد وينهض الأمل فيؤكد في هذا المقطع بأنه سيصر يوماً ما ما يريد وهو هنا يريد أن يكون طائراً بكل ما يملك الطائر من حرية التجوال والاختيار، إن الشاعر الذي يعاني صراعاً مع الموت والعدم يجد أن هذا الموت قد يكون أحياناً باعثاً للحياة وهو يستلهم هنا أسطورة طائر الفينيق الذي يحترق كل ليلة ويعود يبعث من الرماد طائراً مرة أخرى ويستمد درويش من هذه الأسطورة فكرة التجدد في إشارة حافلة بدلالة الأمل والحياة والإصرار على الوجود فيستل من عدمه وجوده ومن فنائه حياة جديدة وهذا ما منح هذا الاستثمار بعد الخلود والديمومة فهو سيبقى قادراً على إيجاد حياة من العدم وخلق شيء من لا شيء، ويعكس هذا التناص بوضوح عمق الجدل بين فكرة الموت والحياة والفناء والبقاء ولكن الشاعر استطاع أن يوفق بينهما باختياره تلك الأسطورة التي جمعت بين النقيضين.


2- ملحمة جلجامش:

بما أن نص الجدارية يحكي كما ذكر أكثر من مرة فكرة (الموت والحياة) والصراع بينهما، ولأن محمود درويش شاعر صاحب مخيلة خصبة فقد كان لابد من إغواء الأساطير وحضورها وهي التي نسج أغلبها تجسيداً لهذه الفكرة المقرونة بميلاد الحياة ، يقول محمود درويش في مقطع طويل جسد فيه بشكل متواصل ومطول تلك الأسطورة

" كم من الوقت
انقضى منذ اكتشفنا التوأمين : الوقت
والموت الطبيعي المرادف للحياة؟
ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا،
فنحن القادرين على التذكر قادرون
على التحرر، سائرون على خطى
جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن.../
هباء كامل التكوين...
يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة.
نام أنكيدو ولم ينهض. جناحي نام
ملتفاً بحفنة ريشه الطيني. آلهتي
جماد الريح في أرض الخيال. ذراعي
اليمنى عصا خشبية ، والقلب مهجور
كبئر جف فيها الماء فاتسع الصدى
الوحشي : أنكيدو! خيالي لم يعد
يكفي لأكمل رحلتي واقعياً . هات
أسلحتي ألمعها بملح الدمع ، هات
الدمع ، أنكيدو، ليبكي الميت فينا
الحي ، ما أنا؟ من ينام الآن
أنكيدو؟؟ أنا أم أنت؟"(31)

ويتابع بعد أسطر فيقول :

" لابد لي من حمل هذا اللغز ، أنكيدو، سأحمل عنك
عمرك ، ما استطعت وما استطاعت
قوتي وإرادتي أن تحملانك. فمن
أنا وحدي؟ هباء كامل التكوين .
من حولي" (32)

ويستمر بعد ذلك فيقول:

" أنكيدو ترفق بي وعد من حيث مت، لعلنا
نجد الجواب ، فمن أنا وحدي؟"(33(

ضمن محمود درويش المقطع السابق إشارات كثيرة مباشرة لملحمة جلجامش حيث وظف سعي جلجامش خلف أسرار الحياة وعشبة الخلود في قصيدته خير توظيف ، إذ إن هذه الأسطورة تختصر الكثير مما يود أن يوصله من معاني تشبث الإنسان بكل طمعه وحبه الغريزي للبقاء والحياة، فقد جاب جلجامش المسافات بحثاً عن ذات الهدف الذي يبحث عنه درويش السائر على خطى جلجامش ككل البشر ، كيف لا وقد أدرك الإنسان ثنائية الحياة والموت المترادفتان، ولأن الخطى واحدة كانت النتيجة واحدة وهي أن أضاع الإنسان سر الخلود وهو وهم كبير ويتلاشى في النهاية أمام حقيقة الموت.

ويستفيض الشاعر في دمج تفاصيل هذه الأسطورة ذات العلاقة المباشرة بجوهر الجدارية وذلك حين يعبر عن انكساره وهو المتواري خلف شخصية جلجامش حين ينكسر أمام الغياب... الغياب الأبدي الذي سلبه صديقه أنكيدو ولم يبق ِ له من سمات الحياة والتواصل شيئاَ فقد ذهب أنكيدو ليعانق الموت ويتركه إزاء فلسفة الموت، ويشتبك فضاء الموت والفلسفة والأسطورة في مزيج مذهل ويتصاعد توتر لغة النص حتى تبلغ مداها فيندفع الشاعر بأسلوب التداعي الحر على لسان جلجامش معبراً عن حيرته تارة وعن انكساره تارة أخرى وحيناً يتلبسه الإصرار والثبات، وفي دراسة لقصيدة أخرى لمحمود درويش أشار الدكتور محمد بنيس إلى دلالة الموت في قصائد محمود درويش عامة، إذ غالباً ما ترتبط قضية الموت عنده بعبور الخطر لمواجهة الموت وترتبط أيضاً بتصعيد القلق، ويرى أن محمود درويش يذكر الموت متفاعلاً مع مواجهته حتى النهاية في ظل غياب الله عن العالم فالشاعر وحده هو الذي يواجه الموت (34) وهذا ما نلمسه بوضوح في هذا النص الوارد هنا من الديوان، ويستمر محمود درويش في مخاطبة صديقه الغائب جسداً وهو يتأرجح بين الرفض والقبول لفكرة الموت معلناً في لحظة تحدي أن يحل لغز الموت المحير، ويبدو الشاعر في هذا المقطع مفتوناً بسحر الأساطير ومفعماً بتلك القدرة الخارقة التي تضفيها الأسطورة على أبطالها إلا أن الضعف الإنساني يطغى في النهاية وتنتصر حقيقة هي الموت.


3- زهرة النرجس:

وإن كان ذكر هذه الأسطورة جاء في معرض حديث واسع ولم يكن لها حضور طاغي كسابقتها إلا أن فضيلتها تكمن في إضفائها نوعاً من التوازن لجو الجدارية حيث يقول الشاعر :

" خضراء أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها
ولي منها : تأمل نرجس في ماء صورته" (35)

فرغم ارتفاع نبرة الأسى والإحساس بدنو النهاية واليأس يوجد بالمقابل إحساس عال بالذات وتميزها وتفردها فالشاعر مزهو بهذا الفعل الإنساني النبيل (الشعر) فهي دلالة زهو وافتخار وشعور بالأمل ووجود حياة تبض في جو تسيطر عليه وحشة الموت ، وإن كان الشاعر هنا يتأمل ذاته من خلال قصيدته الخضراء العالية، فهو بناء على الأسطورة سيلقى حتفه نتيجة هذا التأمل والإعجاب وهذا صحيح إذ أن الموت يحيط بهذا النص من كل جانب لكن استلهام الاسطورة يقدم له بالقابل الخلود كما خلدت زهرة النرجس من قبل صاحبها .



جـ- التناص التاريخي :

يعرف التناص التاريخي بأنه تداخل نصوص تاريخية مختارة ومنتقاة مع النص الأصلي للقصيدة تبدو مناسبة ومنسجمة لدى المؤلف (36) ، والحقيقة أن في نص جدارية الكثير من التناصات التاريخية في جوانب متعددة من النص وبتوظيفات مختلفة ولكن جاء اختيار مقطع واحد يحوي أكثر من إشارة دالة .في جولة جديدة من المواجهة يقول محمود درويش :

" هزمتك يا موت الفنون جميعها.
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين . مسلة المصري. مقبرة الفراعنة،
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت ، وأفلت من كمائنك
الخلود..." (37)

يتبنى الشاعر موقفاً جديداً مليئاً بالثقة والتحدي ويكيل للموت الهزائم ويتحول الصراع هنا إلى هزيمة ونصر حيث كسب الشاعر جولة ضد الموت تغنى فيها بانتصاراته، وهي انتصارات البشرية انتصار الذاكرة والحضارة والتاريخ وذلك من خلال ذكره للانجازات الإنسانية الخالدة، فالموت رغم تسلطه ومده لنفوذه على البشر إلا أنه يعجز عن ابتلاع الإنجازات القيمة لهولاء البشر ، يعجز أمام اللغة والحضارة والثقافة لأنها خالدة ولأن الإنسان إنما ينتصر بفعله وحضارته وانجازاته لا بـ" الطيني البشري" منه على حد تعبير الشاعر، فبلاد الرافدين منطلق الحضارات الإنسانية قاطبة، والمسلات والمقابر الفرعونية شاهدة على حقبة تاريخية حافلة بالإنجاز لاسيما للعالم العربي ونقوش المعابد بما يرتبط فيها من علم وتأريخ للماضي كلها تقف ببسالة أمام شراسة الموت واندفاعه فهذا التناص التاريخي منح النص بعداً ثقافياً وكان بمثابة لفتة وإشارة تربوية للإنسان العربي خاصة بأنه إنما ينتصر بعلمه وإنجازاته وانطلاقه من هويته الخالدة وتاريخه العظيم.

وهكذا نكون قد عرضنا لظاهرة التناص نشأةً ومفهوماً مع التطبيق على نص شعري برزت فيه ظاهرة التناص بشكل جلي مع الوقوف على بعض دلالات التناص فيها بشكل مبسط ، ولله الحمد .

الهوامش

1- شربل داغر ، التناص سبيلاً إلى دراسة النص الشعري ، مجلة فصول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، المجلد 16، العدد الأول ، القاهرة ، 1997، ص 127
2- محمد بنيس ، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها ، ج 3 : الشعر المعاصر، درا توبقال ، المغرب،ط1، 1990، ص ص 183- 185
3- انظر : شربل داغر ، التناص ، ص 128
4- أحمد الزعبي، ، التناص نظرياً وتطبيقياً ، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع ، الأردن ، ط2 ، 2000 ، ص 12
5- انظر: محمد بنيس ،الشعر المعاصر ، ص 186
6- عبدالله الغذامي، ، ثقافة الأسئلة " مقالات في النقد والنظرية" ، النادي الأدبي الثقافي، جدة ،ط2، 1992،ص 119
7- انظر : محمد بنيس ، الشعر المعاصر ، ص 182
8- الغذامي ، ثقافة الأسئلة ، ص 111
9- علي العلاق، الدلالة المرئية ، دار الشروق ، عمان ، ط1 ، 2002 ،ص 52
10- محمد بنيس ، ص 183
11- شربل داغر ، ص 130 – ص 131
12- المرجع نفسه ،ص 130
13- محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري : استراتيجية التناص ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، ط3، 1992، ص 121
14- محمود جابر عباس ، استراتيجية التناص في الخطاب الشعري العربي الحديث ، علامات في النقد ،ج 46، م 12، نادي جدة الأدبي ، شوال 1423هـ،ص266
15- أحمد الزعبي ، التناص نظرياً وتطبيقياً ، ص 11
16- علي العلاق، الدلالة المرئية ، ص 51
17- عبدالله الغذامي انظر فصل ( تداخل النصوص : النص ابن النص)
18- محمد مفتاح ، استراتيجة التناص ، ص 123
19- محمود جابر عباس ، استراتيجية التناص ، ص 267
20- شربل داغر ، ص 132- ص 134
21- مفيد نجم، التناص بين الاقتباس والتضمين والوعي واللاشعور، جريدة الخليج ، ملحق بيان الثقافة، ع 55، يناير2001
22- انظر :أحمد الزعبي ، ص 50
23- موسى ربابعة ، التناص في نماذج من الشعر العربي الحديث ، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية ، الادرن ط1 ، 2000 ، ص 11
24- محمود درويش ، جــداريـة، رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت ، ط2، 2001،ص 16
25- محمود درويش ، جدارية ، ص 70 – ص 71
26- المصدر السابق ، ص 31- 23
27- المصدر السابق ، ص 49
28- نفسه ، ص 87
29- أحمد الزعبي ، التناص نظرياً وتطبيقياً ، ص 117
30- محمود درويش ، جدارية ، ص 12
31- المصدر السابق ، ص 82
32- نفسه ، ص 83
33- نفسه ، ص 84
34- انظر : محمد بنيس ، الشعر المعاصر ، فصل : فضاء الموت، ص 252
35- محمود درويش ، جدارية ، ص 41
36- أحمد الزعبي ، ص 29
37- محمود درويش ، جدارية ، ص 54


المصــادر والمـــراجع

1- أحمد الزعبي ، التناص نظرياً وتطبيقياً ، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع ، الأردن ، ط2 ، 2000
2- شربل داغر ، التناص سبيلاً إلى دراسة النص الشعري ، مجلة فصول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، المجلد 16، العدد الأول ، القاهرة ، 1997
3- عبدالله الغذامي ، ثقافة الأسئلة " مقالات في النقد والنظرية" ، النادي الأدبي الثقافي، جدة ،ط2، 1992
4- علي العلاق ، الدلالة المرئية ، دار الشروق ، عمان ، ط1 ، 2002
5- محمد بنيس ، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها ، ج 3 : الشعر المعاصر، درا توبقال ، المغرب،ط1، 1990
6- محمود جابر عباس ، استراتيجية التناص في الخطاب الشعري العربي الحديث ، علامات في النقد ،ج 46، م 12، نادي جدة الأدبي ، شوال 1423هـ
7- مفيد نجم ،التناص بين الاقتباس والتضمين والوعي واللاشعور، جريدة الخليج ، ملحق بيان الثقافة، ع 55، يناير2001
8- محمود درويش ، جــداريـة، رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت ، ط2، 2001
9- محمد مفتاح ، تحليل الخطاب الشعري : استراتيجية التناص ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، ط3، 1992
10- موسى ربابعة ، التناص في نماذج من الشعر العربي الحديث ، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية ، الادرن ط1 ، 2000

الأربعاء، 17 أغسطس 2011

الأسلوبية عند ميشال ريفاتير

الأسلوبية عند ميشال ريفاتير
٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦بقلم طارق البكري

إشراف: الأستاذ الدكتور موسى ربابعة
تمهيد:

الأسلوب في اللغة والاصطلاح :

يقول ابن منظور في اللسان: ( يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد فهو أسلوب، فالأسلوب هو الطريق والوجه والمذهب، ويقال أنتم في أسلوب سوء... ويقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه). ويعرف ابن خلدون الأسلوب في المقدمة فيقول: ( إنه عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار فادته كمال المعنى من خواص التركيب الذى هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار افادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي وظيفته البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب) ويخلص للقول إن الأسلوب هو(الصورة التي ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب الصحيحة باعتبارالإعراب والبيان فيرصها فيه رصاً). وفي اللاتينية كلمة(stilus) تعني ريشة ثم تطورت لتصل إلى الأعمال الأدبية . وأشهر تعريف للمصطلح الحديث المعاصر نجده عند الكونت بوفون بقوله: ( الأسلوب هو الإنسان نفسه ولا يمكن أن يزول ولا ينتقل ولا يتغير) .

مقدمة : يعتبر ميشال ريفاتير من أبرز الباحثين في الدراسات الأسلوبية الحديثة، فقد قدم العديد من الأفكار والمبادئ التي تفاعلت بمجملها مع أفكار غيره المصنفين في دائرة الأسلوبية البنيوية وسواهم من الضالعين في سبر أغوار الأسلوبية وسبك بنائها المتماسك من نواحيه.

وبالفعل، فقد وضع ريفاتير مجموعة قيمة من الأسس استطاعت أن تشقً طريقها وتثبت ذاتها، وتقدم للباحثين أضواء ساطعة كاشفة . ركز ريفاتير على جملة من القضايا الهامة، وتكلم على عدد من الظواهر الأسلوبية البارزة في النص، ولفت إلى الجمل التي تستوقفنا كقراء وتلفت انتباهنا، معتبراً أن الأسلوب يعد إبداعا من المنشيء وإرجاعا من المتلقي ، فالمبدع يسعى للفت انتباه المخاطب والوسيلة هي شيفرات تستوجب كشفاً من القارىء. ويعتبر ريفاتير من أبرز الأسلوبيين، وقد عمل في جامعة كولومبيا منذ مطلع العقد الخامس من القرن الماضي وله دراسات عديدة منها "إنتاج النص" و " دراسات في

ريفاتير والأسلوب:

يصنف ريفاتير مع الأسلوبية البنيوية ومن الذين يقولون بأن الأدب شكل راق من أشكال الإيصال وأن النص الابداعي ما أن يتم خلقا ويكتمل نصا حتى ينقطع عن مرسله لتبقى العلاقة بين الرسالة والمستقبل زمنا لا يتنتهي دوامه. وهو بذلك خالف ياكبسون الذي يهتم بالمرسل والمرسل إليه وينصب اهتمامه بالدرجة الأولى على القارئ دون أن ننسى الوظيفة الشعرية.

ويعتبر ريفاتير من المجددين في التنظير الأسلوبي بمقالاته التي نشرها في بداية الستينات ثم جمعت واستكملت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي في كتابه مقالات في الأسلوبية البنيوية (Essais de stylistique structurale). ويعرف ريفاتير الأسلوب بأنه: ( إظهار عناصر المتوالية الكلامية على اهتمام القارئ ) وتظهر من كتابات ريفاتير أن الأسلوبية ما هي( سوى هذا التأثير المفاجئ الذي يحدثه اللامتوقع في عنصر من السلسلة الكلامية بالنسبة إلى عنصر سابق).ويستشهد ريفاتير ببيت شعر لكوريني: (هذه عتمة مضيئة تسقط نجوما) ويقول : هذه مفارقة غير متوقعة.

ولا شك أن ريفاتير أحسن كثيرا بالاستشهاد بهذا النص الفريد، فمن حيث التباين الظاهر يقع القارئ في حيرة بين الضوء والعتمة والاستعارة غير المتوافرة في تكتيك شعري فريد ينقل المتلقي من حيثيات الكلمات المعتادة إلى أفق جديد غير متوقع ، وهذه الصدمة المفاجئة التي تحدث لدى المتلقي هي المقصودة من فعل التغيير المنطقي للكلمات المتتالية في السياق، ويرى البعض أن هذه الطريقة هي بنية ثنائية متباينة منتظمة في زمن التكون التتابعي للنص . ويقدم ريفاتير في كتابه أسلوبية البنيوية تعريفاً محدداً للأسلوب يتولى بعد ذلك شرحه والتعليق عليه، فيقول :

يفهم من الأسلوب الأدبي كل شكل مكتوب فردي ذي قصد أدبي أي أسلوب مؤلف ما أو بالأحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن نطلق عليه الشعر أو النص وحتى أسلوب مشهد واحد.. ويعلق المؤلف نفسه على تعريفه هذا بقوله: إن هذا التعريف محدود للغاية وكان من الأفضل أن نقول بدلا من (شكل مكتوب) كل شكل دائم ، حتى يشمل الآداب الشفاهية التى لا تستمر نتيجة للحفاظ المادي عليها كشكل نصي متكامل فحسب، بل بوجود خواص شكلية فيها تجعل من الميسور فك شفراتها، مثل : الافتتاحية الموسيقية بطريقة منظمة ومستمرة ، وقابلة لأن نتعرف عليها بالرغم من أي تنويعات أو أخطار في طريقة عزفها أو تفسيرها من مختلف القراء. أما قوله:( ذو قصد أدبي) فلا يشير في هذه الحالة إلى ما أراد المؤلف أن يقوله ولا يهدف إلى التمييز بين الأدب الجيد والردئ ولكنه يعني أن خواص النص المحدد تدل على أنه ينبغي اعتباره عملاً فنياً وليس مجرد تعاقب كلمات. من هذه الخواص شكل الطباعة وشكل الوزن وعلامات الأجناس الأدبية والعناوين الفرعية مثل رواية أو قصة أو حتى ظهوره في الوقت الحاضر في مجموعات معينة قصصية أو مسرحية أو شعرية .

ويبدو أنه من الأسهل لنا في ريفاتير أن نطلق كلمة الأدب على كل كتاب ذات طابع أثري أي كل كتابة تجذب انتباهنا بصياغتها وشكلها. ثم يعود إلى تعريفه للأسلوب قائلا :

وهنا نفهم من الأسلوب كل إبراز وتأكيد سواء أكان تعبيريا أو عاطفيا أو جماليا يضاف إلى المعلومات التي تنقلها البنية اللغوية دون التأثير على معناها. ويشرح كلماته فيما بعد مشيرا على أن هذا التعريف لا يتميز بالمهارة اللازمة لأنه يبدو كما لو كان يفترض معنى أساسياً لوناً من ألوان درجة الصفر- على حد تعبير بارت- تقاس عليه عملية التكثيف التي نسعى لتقييمها ولا يمكن أن نصل إلى هذا المعنى الأساسي إلا عن طريق نوع من الترجمة أي عن طريق تحطيم النص كشيء أو نقص القصد منه أي استبعاد النص المكتوب وإحلال فرض يدور حول المؤلف حوله. ثم يضيف: ( لكنني كنت أفكر في نوع من الكثافة التي يمكن أن تقاس عند كل نقطة من القول في المحور التركيبي طبقا للمحور الاستبدالي حيث تعد الكلمة الماثلة في النص (أقوى) بشكل أو بآخر من نظيراتها أو مترادفاتها الممكنة دون أن يؤدي هذا إلى خلل في المعنى، لكن هذا المعنى - مهما كان المستوى اللغوي الذي ننظر إليه من خلاله- لا بد أن يختلف بما يسبقه وما يلحقه). ويردف قائلا: (وربما كان من الأوضح والأدق أن نقول أن الأسلوب هو البروز الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الكلمات في الجمل على انتباه القارئ بشكل لا يمكن حذفه دون تشويه النص ولا يمكن فك شفرته دون أن يتضح أنه دال ومميز مما يجعلنا نفسر ذلك بالتعرف فيه على شكل أدبي أو شخصية المؤلف أو ما عدا ذلك. وباخصار فإن اللغة تعبر والأسلوب يبرز).

الأشكال الفردية:

الأشكال الفردية عند ريفاتير بالنسبة للأسلوب كالكلام بالنسبة للغة، فدراستها تسمح بالحصول على البيانات اللازمة لإقامة النظام وعندما يستخدم المؤلف عناصر اللغة الأدبية لإحداث تأثير خاص تتحول إلى عناصر أسلوبية وميزتها تكمن في هذا التنفيذ الخاص لقيمتها لا في قيمتها المحتملة في نظام موحد. ولولم تستخدم لإحداث تأثير محدد فإن أقصى ما يقال حينئذ إنها تمثل خلفية سياقية متخصصة بالنسبة للأسلوب الفردي أكثر من القول العادي.على أن الأساليب الفردية في الكلام يصعب في أحسن الحالات وصفها ويسهل وضعها في أنماط عامة، مما يجعلها أقل تخالفاً فيما بينها وأقرب إلى اللغة العامة من الأساليب الكتابية، أما الأساليب الأدبية فهي معقدة متشابكة، ولهذا فهي ذات ملامح يمكن تمييزها بوضوح .

وعي المؤلف:

ويرى ريفاتير أنه إذا كانت مهمة عالم اللغة تنحصر في الإمساك بجميع ملامح القول دون استثناء فإن دارس الأسلوب ينبغي له أن يعتد فحسب بتلك الملامح التي تنقل المقاصد الواعية للمؤلف، مما لا يعني أن وعي المؤلف يشمل كل ملامح القول. وغالبا ما يستحيل التعرف على هذه المقاصد دون تحليل الرسالة مما يمكن أن يؤدي إلى حلقة مفرغة لولا أن هذه المقاصد ربما تتضح بإجراءات أخرى، مثل التحليل الفيلولوجي أو تصريح المؤلف بها وغير ذلك من الإشارات. كما يرى أن هذا التمييز بين الاختيارات الواعية واللا شعورية لا يفيد إلا في حالة دراسة كيفية توليد الأسلوب، إما في دراسة ظاهرة الأسلوب نفسها وتأثيرا على توجه إليه، فإن جدواه ضئيلة للغاية، إذ لا يمكن الوصول فيه حينئذ إلى نتائج حاسمة .

الفرادة في العمل الأدبي :

يذهب ريفاتير في كتابه ( إنتاج النص) باحثا عن سمة الفرادة في العمل الأدبي ومن أجل الوقوف على هذه السمة يقترح مقاربة شكلية ويذكر أن التحليل الذي يعتزم إجراءه لا علاقة له بالأسلوبية المعيارية القديمة أو البلاغة، وإذا كان ريفاتير للبلاغة مفارقا فإنه أيضا من النقد الأدبي نفور.

وليس ذلك منه إلا لأنه لا يريد أن يجعل من التحليل مطية تعلوها أحكام القيمة، وما هذا الموقف بدعا، فمنهجه في التحليل يقف عند الظاهرة ويتحقق من وجودها، وأما النقد فيأتي بعد ذلك أي بعد هذه الخطوة فيتبنى الظاهرة التى وقف عليها وتحقق من وجودها.ولكن ريفاتير عندما عمد إلى دراسة سلوك الكلمة في العمل الأدبي، لاحظ أن سمة قرابة تجمع بين دراسته التحليلية والدرس اللساني، غير أنه أكد أم السمات الخاصة بالعمل الأدبي تتطلب أن يبقى التحليل النصي واللسانيات مختلفين ضمن هذا التقارب نفسه .

ولتعليل هذا الأمر يرى أنه لا يكفي أن نلجأ إلى اللسانيات فقط لدراسة الأدب، ذلك لأن العمل الفني يطرح على اللسانيات قضية غير لسانية، ألا وهي الأدبية. ويلاحظ ريفاتير أن ثمة محاولة قامت لحل هذه القضية وذلك بتعميم الوقائع التي تم الكشف عنها في النصوص من جهة وباستخلاص القواعد الخاصة باللغة الشعرية من جهة أخرى .

وقد كانت غاية هذه المحاولة - كما يرى ريفاتير- تكمن في وضع التعبير الأدبي في إطار نظرية عامة للإشارات، غير أنه لم يلبث أن وجد في هذه المحاولة مطعنا جعله يعرض عنها، ويمكن أن نستدل على هذا الأمر بقوله: ( إن هذا البحث الذي هو ميدان الشعرية، لا يستطيع أن يكشف عن السمة الخاصة بالرسالة الأدبية)، وهويرى( أن الشعرية تعمم هي الأخرى على حين أن طبيعة الرسالة هي النص). ويؤكد ريفاتير أننا لا نستطيع أن نعرف حقاً هذا النوع من الرسائل إلا بالنصوص، خاتماً نقده لهذه المحاولة بقوله: ( إن القواعد المستخلصة من النص حتى ولو كانت لا تنتج إلا جملا منحرفة وموازية لجمل النص فإنها لا تنتج مع ذلك نصا أدبيا جديداً). ثم يتدرج ريفاتير منهجا وطريقة في بحثه إلى أن ينتهي إلى تقرير أمور ثلاثة:

1- الأدبية وفرادة النص .

2- الفرادة هي الأسلوب.

3- النص والأسلوب .

وسنحاول فيما يلي تقديم تعريف مختصر لكل من هذه الأمور الثلاثة :

أولاً: الأدبية وفرادة النص : يقول ريفاتير: ( النص فريد دائما في جنسه، وهذه الفرادة هي التعريف الأكثر بساطة، وهو الذى يمكن أن نعطيه عن الأدبية، ويمكننا أن نمتحن هذا التعريف فورا إذا فكرنا أن الخصوصية في التجربة الأدبية تكمن في كونها تغريبا وتمرينا استلابياً وقلبا لأفكارنا ولمدركاتنا ولتعبيراتنا المعتادة) .

ثانياً: الفرادة هي الأسلوب:

يقول ريفاتير:( إن النص يعمل كما يعمل برنامج الحاسوب، وذلك لكي يجعلنا نقوم بتنفيذ تجربة الفرادة .. الفرادة التي نعطيها اسم الأسلوب، والتي تم خلطها ردحا طويلاً مع الفرد المفترض المسمى الكاتب).

ثالثا: النص والأسلوب :

في نهاية المطاف يعلن ريفاتير مقرراً:( الأسلوب في الواقع هو النص).

وأشار هنا بعض الباحثين إلى ملاحظتين:

الأولى : أن الأسلوب يخرج من كونه بصمة من بصمات الشخص ليصبح شيئا من أشياء النص، او بمعنى أدق ليصبح هو النص نفسه وليس الشخص أو الرجل كما ذهب بيفون إلى ذلك.

الثانية : أن هذا الأمر عند ريفاتير بمنزلة الشيء الذي يدور على نفسه، إذ إن مفهوم النص عنده يرتبط بأدبيته والأدبية ترتبط بالفرادة والفرادة أسلوب والأسلوب هو النص، وبما أن الأدبية لا تقوم إلا ضمن هذا الأخير فإن خلو أي نص من الأدبية يرفع عن صفته كنص.

ويستنتج الباحثون من هاتين النقطتين السابقتين ما يلي : إن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أن حاجة النص الأدبي إلى أسلوبه حاجة واكدة، بها يصير إلى وجوده، وهذا يعني أنه لا وجود لنص إلا في أسلوبه ولا وجود لأسلوب إلا في فرادته. وهكذا ترتبط الفرادة والأدبية بالنص كما يرتبط النص بالأسلوب، ويدور الأمر على نفسه حتى لا إنفكاك.

ريفاتير وموقفه من القاريء:

يرى ريفاتير في كتابه دراسات في الأسلوبية البنيوية (أن القاريء يجلي الأسلوب بفعل الأثر الذي يتركه، فالأسلوب يستأثر بانتباه القاريء واهتمامه عبر ما يفضيه في سلسلة الكلام ، والقارئ يستجيب بدوره للأسلوب فيضيف إليه من نفسه عن طريق رد الفعل الذي الذي يحدثه فيه)، وهذا يشير إلى خلاصة مفادها أننا نقول ما نقول، أي نعبر في استعمالنا للكلام،ولكن الأسلوب هو يجعل لما نقول ميزة ويعطيه فرادته ، وريفاتير يقول:

( إن االلغة تعبر والأسلوب يجعل لهذا التعبير قيمة).

ويرى ريفاتير ( أن إطالة الأثر الأسلوبي زمنا والإحساس بالشعر في أي لحظة من اللحظات إنما هو أمر يتعلق كلية بالقارئ. ثم يخلص للقول: ( إن هذا التداخل بين الطريقة الأسلوبية والإحساس بها، إنما هو من صلب القضية) ولذا يقترح أن نتبنى هذا الإحساس ( لتعيين الوقائع الأسلوبية في الخطاب الأدبي). ويعلق عبد السلام المسدي عل موقف ريفاتير هذا فيقول: ( ويفضي هذا التقدير بريفاتير إلى اعتبار أنً البحث الموضوعي يقتضي ألا ينطلق المحلل من النص مباشرة، وإنما ينطلق من الأحكام التي يبديها القارئ حوله . وفي كتابه إنتاج النص يتضح منظوره بشكل أكبر فيما يخص القارئ حيث يرى أن ( الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) .

من هنا نستطيع أن نستنتج أن ريفاتير يولي الأهمية الكبرى لأمر خارج حدود النص نفسه، فهو لا ينسب الفضل للمؤلف ولا للسياق الأسلوبي أو التعبير النسقي في الكلام ولكنه يميل صراحة إلى الاعتراف بدور القارئ باعتباره المنتج الأول للنص حيث تتحدد قيمة النص عبره وحده. وهذا الاعتبار الذي يقودنا إليه ريفاتير يقدم للقارئ فضاءات واسعة ويجعلة حاكماً وحكماً ومنفذاً للحكم، وبذلك يكون القارئ هو صاحب السلطة والسلطان والقدرة على التحكم بالنص برفعه أو بخفضه.

وهو يقول بشكل أو بآخر ( إن النص في وجوده مدين لمباشرة القارئ له، أو بكلمة أخرى وجود غير محقق لا يتم ظهوره وتنفيذه إلا بقراءة القارئ له ). وبهذا نستطيع أن نفهم معنى قوله ( إن الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) . ويطلق ريفاتير اسم (القارئ النموذج) ويدفع الباحث عن نفسه تهمة إحلال القارئ ورد فعله محل المؤلف ونفسيته، ملاحظا أن المؤلف لا يبقى منه سوى النص، أما القارئ فالبرغم من أن عملية تلقيه إنما هي نفسية، إلا أنه وباستخدام القارئ النموذجي فإننا نصفي العناصر الشخصية من المتلقي بحيث لا يبقى منها سوى ما يتصل بالمثيرات الموضوعية، وإقامة التفسير بعد ذلك على أساس الوقائع نفسها لا على أساس النص الذي استصفته شخصية القارئ أو حصرته فيما يذكره به بما يتوافق مع ذوقه أو فلسفته أو ما يظن أنه ذوق وفلسفة المؤلف المدروس. ويؤكد ريفاتير أهمية الزمن كعامل مغير في الدلالة الأسلوبية، فاستجابة القارئ النموذجي لا تصلح إلا بالنسبة لحالة اللغة التي يفهمها، إذ إن وعيه اللغوي الذي يتحكم في ردود فعله يتصل فحسب بفترة زمنية وجيزة في تطور اللغة.

النص والمستقبل :

وهنا يعالج ريفاتير القضية بما لها من صلة من نظرية الإيصال، بحيث يصل إلى نتيجة يفترق فيها الإيصال الأدبي عن العادي فالإيصال الأدبي لا يحتوي إلا عنصرين لهما تمثيل مادي فيه وهما: النص والقارئ، أما العناصر الأخرى التى يقوم عليها الإيصال العادي فأشياء بديلة عن النص.

ويعلق على الشرح الذي يستهدف القارئ بقوله: ( إن الشرح يقتضي إظهار الأثر الأدبي الذي تحمله العبارة في مظانها فهي توجه القارئ نحو بعض التأويلات وتزوده بشفرات لفك شيفرات النص). وهنا يؤكد مجددا على دور القارئ وعلى مكانته الأولى بالنص مهما كان هذا النص باعتبار أنه رسالة موجهة إليه ولولاه لما كان هنالك رسالة والرسالة نفسها لا تنفتح على مغاليقها إلا من خلال قارئ يفك رموزها.

طاعة واعية للنص:

لكنه من جانب آخر يؤكد أن الوحدات الأسلوبية تفرض نفسها على القارئ وهو يرى وجود شرطين للتحقق من وجودها:

أولا : يجب أن يقوم التحليل على طاعة مطلقة للنص.

ثانيا: أن تكون الطاعة القاعدة الأصولية للشرح.

لكن تجدر ملاحظة قضية هامة وهي أن الطاعة للنص عند ريفاتير ليست مطلقة، ولا تعني مجرد أن يبتعد القارئ تماما عن التدخل في النص لتصحيحه أو لاستكماله، ولكنها تعني أيضا أن يكون الشرح قائما على عناصر ذات قابلية إدراكية إجبارية، وهو يؤكد ( أن الشرح يختلف بهذا التحديد عن التأويل البنيوي العادي الذي يبحث أن يضم كل شيء إلى نظامه ولكنه لا ينجح إلا في ضم النص باعتباره مادة لسانية وليس باعتبار النص نصا ً).

الوحدة الأسلوبية :

ويقدم ريفاتير تعريفا قيما للوحدة الأسلوبية بأنها: ( ثنائية لقطبين لا يفترقان، الأول منهما يبدع الاحتمال والثاني يلغيه) ويعتبر أن الأثر الأسلوبي ينتج عن التضاد الحاصل بينهما).ولا يمكن لهذه الوحدة الأسلوبية برأيه أن تختلط مع التقطيع الطبيعي، أي مع الكلمة والجملة ذلك لأنها ( لا تستطيع أن تكون سوى مجموعة من الكلمات أو الجمل المرتبطة بطريقة أخرى غير المقطعية ). وقد دفع هذا الموقف بريفاتير إلى الإعراض عن شرح الكلمة معزولة لأن ذلك يؤدي إلى إنكار الحدث الأسلوبي ( ومن أراد الشرح عليه أن يذهب إلى ما وراء الكلمة ). ويقترب ريفاتير هنا تماما مع رأي عبد القاهر الجرجاني بأن الكلمة المفردة وحدها ليست هي الأسلوب بل طريقة نظم الكلم .

السياق الأصغر والسياق الأكبر:

الطريقة الأسلوبية ليست عند ريفاتير هي الأسلوب، فما هي سوى مظهره المنتظم، إن أسلوب نص أو عمل أو كاتب ليس مجموع طرائقه الأسلوبية،بل هو علاقاتها التركيببية المحتملة. وأول خطوة على طريق توسيع المنظورات يميز ريفاتير إلى جانب السياق الذي يسميه بالسياق الأصغر (Microcontexte) الذي يسهم في إنتاج الأسلوبية، ويميز ما يطلق عليه السياق الأوسع (Macrocaontexte)، وهو بالتحليل الأولي خارجي ومتقدم على هذه الطريقة الأسلوبية ولكنه ذات مدى متبدل سواء في البداية أو النهاية وقابل للائتلاف مع سابقه، أو لإعادة التشكيل في نهايته، والتحديد من خلال اللامتوقع في العناصر التي تكونه.

الانحراف والسياق:

الانحراف عند ريفاتير حيلة مقصودة لجذب انتباه القارئ، وكان الاعتقاد السائد أن النمط العادي يحدده الاستعمال، غير أن مفهوم الاستعمال نسبي، ولا يمكن الدارس من مقياس موضوعي صحيح، فيقترح ريفاتير تقويض مفهوم لاستعمال بماهو يسميه ( السياق لأسلوبي ).

ومفهوم الانزياح والانحراف عند ريفاتير ( انزياح عن النمط التعبيري المتواضع عليه، وهو خرق للقواعد حينا ولجوء إلى ما ندر من الصيغ حينا آخر). وقد استقر ريفاتير عند فكرة الانحراف الداخلي بعد أن تبين له أن طريقة القارئ العمدة -الذي سنتعرض له لاحقاً- تكفي لاكتشاف الانحراف، ويحدد ريفاتير معيار الانحراف بالسياق الخارجي ويسمي وحدته الأساسية السياق الأصغر فهما مع الانحراف أو المخالفة يكونان معا ما يسميه مسلكا أسلوبيا نحو وصف الشيء بما لا يعد من صفاته، كأن يقال: شمس سوداء أو ضوء خجول، فالاسم الأول من العبارتين سياق أصغر والوصف مخالفة أو انحراف، ويضع ريفاتير المعادلة التالية:

سياق أصغر + مخالفة = مسلك أسلوبي

لكن لا بد ملاحظة أن السياق الأصغر لا يقتصر على هذا النوع فقط . وعموماً يمكن للسياق الأصغر أن يدخل في سياق أكبر، ليشكل سلسلة لغوية ممتدة يكون السياق جزئا منها، ولا تنحصر داخل حدود الجملة النحوية أو عدد معين من الجمل، وإنما تتحدد نهايتها بشعور القارئ كما تتحدد بدايتها بقدرته على التذكر.ويعين ريفاتير شكلين أساسيين للسياق الأكبر:

سياق + مسلك أسلوبي + سياق سياق + مسلك أسلوبي يبتدئ سياقاً أسلوبياً جديدا + مسلك أسلوبي

فكأن السياق الأكبر في كلتا الحالتين يتحدد بالعبارات التي تحيط بالسياق الأصغر، وإن كان من الجائز أن تمتد المخالفة حتى تصبح هي نفسها سياقاً. ولتوضيح ما يقصده، نورد هذا المثال الذي قدمه للنوع الأول وهو قول لبرنارد شو: إنهم يصورون المسكين على أنه مجرم، مع أنه لم يكن إلا رجلاً إنكليزياً صميماً ذا عيال. فالعبارة الأخيرة تكون مع العبارة التي تسبقها مباشرة مسلكاً أسلوبياً، وهي في هذه الحالة تعد سياقاً أصغر، والعبارة ليست في النهاية إلا جزءا من السياق الأكبر الذي يبدأ مع بداية الجملة حتى نهايتها.

التشبع عند ريفاتير: التشبع مصطلح يستخدم بالكيمياء عادة، ويعني أن المادة المنحلة في السائل - كالسكر في الماء - قد بلغت كميتها حداً لم يعد لكمية السائل معه القدرة عل الامتصاص.

أما ريفاتير فقد استعمل هذا المصطلح مجازا للدلالة على أن الخاصية الأسلوبية هي بمثابة المادة المنحلة، والنص بمثابة السائل، فإذا تكررت السمة الأسلوبية باطراد تشبع النص فلم يعد يطيق إبرزها كعلامة مميزة. ومثال ذلك أن ينبني نص على ظاهرة السجع فإذا تراوحت مواطنها ظلت محتفظة بطاقتها التأثيرية، وإن اطردت اختفي تأثيرها بل لعل عدول صاحب النص عن ظاهرة السجع يصبح هو نفسه خاصية أسلوبية. ويمكن تلخيص هذه الفكرة بأن الاستخدام المتكرر لظاهرة أسلوبية معينة لدى كاتب ما أو عدة كتاب يجعل الظاهرة أمراً عادياً ولا يعود لها أي مزية أسلوبية، وهذا الأمر يستدعي من الكاتب أن يبتكر دائماً ولا يعتز بظاهرة معينة ويواظب على استخدامها، فمع استخدامها المتكرر تفقد بريقها ولا تعود لها قيمة لدى القارئ .

القارئ العمدة (architecteur):

لكن من هو القارئ الذي لديه القدرة على تمييز النص واكتناهه وسبر محتواه؟ الأثر الأسلوبي كما ذكرنا سابقاً يتعلق بالقارئ، لذا فإن النص نفسه سيتعدد دائما بتعدد القراء له ، لذلك أراد ريفاتير أن يحل العقدة فرأى تعيين الانحراف بمعونة عدد من القراء، وبمجموع القراءات يصل إلى ما يسميه بالقارئ العمدة. فريفاتير يعين مواضع الانحراف بمعونة عدد من القراء المدربين على هذا النوع من القراءة، كما يفعل علماء اللغة في الفروع الأخرى لهذا العلم، فيعتمدون على أخبار الرواة من أهل اللغة عن كيفية النطق ومعاني الكلمات...، ويسمى مجموع هذه الأخبار على سبيل التجريد " القارئ العمدة". وعيب على هذا الاقتراح الأخير أنه يجرد العملية التذوقية من محتواها الشخصي باسم الموضوعية.

والقارئ العمدة بتعبيره هو محصلة ردود أفعال عدد من الخبراء اللغويين تجاه النص بضمنهم نقاد ومترجمون وعلماء وشعراء وغيرهم، فالقارئ العمدة ليس قارئا بعينه إنما هو مجموعة الاستجابات للنص التي يحصل عليها المحلل من عدد من القراء الخبراء. ويحدد ريفاتير القارئ العمدة بقوله: ( هو مجموع الرواة الذين يستخدمون لكل مثير أو متواليه أسلوبية كاملة... إنه وسيلة لاستخراج مثيرات النص لا أكثر ولا أقل) لكنه يستدرك قائلا:( من الضروري أن نستبعد تصنيفات القراء حتى لا نتورط في تصنيفات جاهزة). وهنا لا بد من الاشارة إلى أن قضي القارئ العمدة تحتاج إلى دراسة قائمة مستقلة تتناول هذا الجانب بالبحث والتحليل نظرا لأن ريفاتير أولى هذه المسألة جانبا مهما من أبحاثه وهي تحتاج إلى تعمق أكبر ومجال أوسع للبحث .

الأسلوبية البنيوية:

مع ميشال ريفاتير بدأت الأسلوبية البنيوية مساراً مهماً في تناول الأسلوب في النص الأدبي، وقد افرد كتابا خاصاً لهذا الغرض وسماه (محاولات في الأسلوبية البنيوية) صدر عام 1976. وتمثلت غاية الكاتب في أن الأسلوبية البنيوية تقوم على تحليل الخطاب الأدبي لأن الأسلوب يكمن في اللغة وووظائفها ولذلك ليس ثمة اسلوب أدبي إلا في النص.وقد عرف ريفاتير الأسلوب الأدبي بأنه كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً. ويرى ريفاتير في مقال له ( لا يمكن فهم الوقائع إلا في اللغة، لأن اللغة هي أداتها، ومن ناحية أخرى يجب أن تكون للوقائع الأسلوبية خاصة مميزة، وإلا لم نستطع أن نميزها عن الوقائع اللغوية).

التواصل :

يركز ريفاتير على فكرة التواصل التى تحمل طابع شخصية المتكلم في سعيه إلى لفت نظر المخاطب، ولهذا اعتنى عناية كبيرة بالمنشيء الذي هو يشفر (Encode) تجربته الذاتية، وبالمخاطب الذي يفك شيفرة (decode) .

هذا التعبير، وهو بذلك يؤكد تجاوز ما جاء به جاكبسون الذي كانت نظريته لا تنظر إلى الرسالة الشعرية بوصفها تكيفاً لمتطلبات التواصل، وبدلا من ذلك ينظر إلى إسقاط مبدأ التماثل على الرسالة بكيفية ما، بوصفه يحررها من المقام الأول ويجعلها غامضة وغير تداولية، وبذلك يتجاوز ما يطرحه جاكبسون في أن الرسالة قائمة بذاتها، ولا يظهر من ذلك أن هذه الرسالة تحقق تواصلا مع المخاطب، أما ريفاتير فإنه يرى أن الرسالة لا يمكن أن توجد بذاتها، وإنما هناك علاقة يجب أن تنشأ بين الرسالة والمخاطب، فالعلاقة التي تقوم بينهما عنصر مهم من عناصر الأسس التي أقام عليها ريفاتير أسلوبه ، وهي رؤية تتجاوز كون الأسلوبية تحليلا ألسنيا يميز عناصر الأسلوبية في رسالة ما، وإنما يكون للقارئ دور في تمييز هذه العناصر، ولذلك يقوم القارئ في أسلوبية ريفاتير بدور مهم جدا(كما أشرنا سابقاً) وهو دور يقوم على الوعي والإدراك لما تمثله العناصر الأسلوبية من وظائف داخل النص الأدبي.

ويصبح طرفا الإخبار عند ريفاتير المرسل والمتلقي، ويتضح ذلك من القول: ( فإذا كانت عملية الباث في عملية الإبلاغ العادي أن يصل بالمتقبل إلى مجرد تفكيك الرسالة اللغوية لإدراكها، فإن الغاية من الباث في عملية الإبلاغ الأدبي تتمثل في توجيه المتقبل توجها يقوده إلى تفكيك الرسالة اللغوية على وجه معين مخصوص، فيعمد الباث عندئذ إلى شحن تعبيره بخصائص أسلوبية تضمن له هذا الضرب من الرقابة المستمرة على المتقبل في تفكيكه للمضمون اللغوي). وهذه الأفكار الخطيرة التي يطرحها ريفاتير بجرأة تفصل ما بين نوعين من التواصل البشري، الأول التواصل العادي المجرد من الأسلوب الأدبي البليغ، والتواصل القائم على الحاجات والتبادل والخدمات، أما الجانب الأدبي وهو الجانب المتمثل بالشعور فغير ذلك تماماً، فالنص الذي يشحنه الشاعر أو الأديب بنصه يحتاج برأي ريفاتير إلى رقابة مستمرة ليس على نفسه فقط بل وأيضا على المستقبل في عملية التمحيص والتفكيك وإعادة التشكيل، ولكن من حيث الاجمال فإن ذلك يبدو مستحيلا من الناحية العملية، وربما يكون القصد غير ذلك حيث على الباث أن يكون مهيئاً ليستوعب قدرة المتقبل على تفكيك النص واستشعاره، وهو أقرب إلى الظن لأن الباث بطبيعة الحال يستحيل له مراقبة كل المستقبلين وخصوصاً مع مرور الزمن واستمرارية النص بعد سنين من زوال صاحبه .

عنصر المفاجأة:

وهنك عنصر مهم جدا أشار إليه ريفاتير أهميته ليست دون أهمية ما سبق، وهو عنصر المفاجأة من خلال المثير والمنبه الأسلوبي، حتى إنه رد الميزة بالنص إلى هذا العنصر، فقال: ( تنتج القوة الأسلوبية من إدخال عنصر غير متوقع إلى نموذج، فالسياق الأسلوبي يتكون من نموذج لغوي يكسره بغتة عنصر لا يتنبأ به). ويرتبط مفهوم الأسلوب عنده بعنصر المفاجأة التي تصدم المستقبل وتحدث صدمة في نفسه، فكلما كانت السمة الأسلوبية متضمنة للمفاجأة فإنها تحدث خلخلة وهزة في إدراك القارئ ووعيه.

وقد ساق ريفاتير مثلا هو قول كورني ( عتمة مضيئة تسقط نجوما) فجمع العتمة مع الضوء، وبهذا أحدثت المقابلة منبها أسلوبيا لا بد له أن يحدث استجابة ما لدى المستقبل، فكل واقعة أسلوبية تنشأ من سياق ومن تعارض ولذلك على الدارس الأسلوبي أن يمنح التعارض عنايته، لأنه يشكل الأجراء الأسلوبي في النص المدروس. ومما لا شك فيه أن عنصر المفاجأة عند ريفاتير هو بنفسه تجسيد للانحراف( الذي تحدثنا عنه سابقا)، فقد عرف الأسلوب على أنه انحراف عن المعيار، كما وصف الانحراف بالانزياح، والمقصود انزياح أو انحراف الأسلوب عن الاستخدام العادي للغة، مما يجعل اللغة تستخدم استخداما غير مألوف. وقد لقي مفهوم الانحراف عند ريفاتير تطورا جذريا استخلص منه مقولة ( التضاد البنيوي ) وحدد ما يترتب عليها من إجراءات أسلوبية أي من عمليات التكوين الأسلوبي حسب مصطلحه، وهي إجراءات تعتمد على القارئ أساسا لأنه هدف الكاتب الموجه إليه الرسالة.

ولا شك أن الكتابة الفنية تتطلب من الكاتب أن يفاجئ قارئه من حين لآخر بعبارة تثير انتباهه حتى لا تفتر حماسته بمتابعة القراءة أو يفوته معنى يحرص الكاتب على إبلاغه إياه. وفي هذا تختلف الكتابة الفنية عن الاستعمال العادي للغة فالإنسان في حديثه العادي يستطيع أن يلجأ إلى وسائل كثيرة مصاحبة للكلام كي ينبه سامعه إلى فحوى الرسالة: من استخدام النبر والتعبير بحركات الوجه أو الإشارة باليدين إلى هز ذراع السامع إذا كان المتكلم في حالة انفعالية تدفعه إلى ذلك، وأما إذا تأملنا الكتابة الفنية وجدنا في تعابير اللغة أحيانا ما يشبه هز الذراع وربما الإمساك بالتلابيب، وإذا كانت هذه الحركات والنبرات في لغة الحديث لا تفعل فعلها إلا لكونها خارجة عن المألوف، فكذلك وسائل اللغة التي يراد بها جذب الانتباه إنما تحدث ذلك بفضل ما فيها من المفاجأة أو الخروج على سياق الكلام العادي ، أي بفضل ما فيها من الانحراف.

السياق الأسلوبي :

بما أن التقوية الأسلوبية تنتج من إدخال عنصر غير متوقع في نسق، فهي تفترض إشعارا بالانقطاع الذي يغير السياق، وهنا فرق جوهري - كما يقول ريفاتير- بين المفهوم الشائع لكلمة السياق وبين السياق الأسلوبي. فليس السياق الأسلوبي ترابطيا، بمعنى أنه ليس السياق اللفظي الذي يقلل تأثير لمشترك اللفظي أو يضيف إيحاءات إلى لفظة ما، فالسياق الأسلوبي كما يقول ريفاتير: ( نسق لغوي يقطعه عنصر غير متوقع- مفاجئ كما أشرنا في الفقرة السابقة- والتقابل الذي ينشأ عن هذا الاقتحام هو المثير الأسلوبي) ويوضح ريفاتير أنه يجب أن يفهم أن هذا الانقطاع ليس من باب الفصل، فقيمة المقابلة الأسلوبية ترجع إلى نظام العلاقات الذي تقيمه بين العنصرين المتصادمين، وما كانت لتحدث أي تأثير بدون وصلهما في متتابعة.

إن صنع النسق الذي تتوقف عليه "المفاجأة" يرجعه ريفاتير بالضرورة إلى سير المتواليات، والسياق يبتع القارئ مارا بكل متواليات الحدث. ويرى ريفاتير أن السياق لا ينفصل عن الإجراء الأسلوبي ويتمايز بالخواص التالية :

1- التلاؤم اللازم مما لا يحدث بالنسبة للقاعدة.

2- قابليته الفورية للتحديد وإمكانية الإمساك به على التو فليس غامضا ولا مبهما ولا ذاتيا.

3- التنوع، إذ إنه يشكل مجموعة من مظاهر التضاد مع الإجراءات الأسلوبية المتوالية، وهذا التنوع هو الذي يوضح لنا السبب في أن وحدة لغوية ما تكتسب تأثيرها الأسلوبي أو تعدله أو تفقده نظرا لوضعها، كما أنه هو الذي يوضح السبب في عدم اعتبار اطراد القاعدة واقعة أسلوبية بالضرورة بمثل ما أن التأثير الأسلوبي لا يتوقف دائما على الشذوذ عن القاعدة.

الانصباب:

وهناك ظاهرة تتصل بالسياق الأسلوبي يطلق عليها ريفاتير اسم الانصباب، فقد تتجمع العناصر الناجمة عن الإجراءات الأسلوبية مما يجعل تأثيرها يعتمد على التوافق بين الجوانب الدلالية والصوتية وتتراكم حتى تصل إلى نقطة محددة، بحيث يكون كل إجراء أسلوبي منها- على استقلاله في ظاهر الأمر- جزءا من بنية أكبر تمثل القوة التعبيرية التي تصب فيها جميع الإجراءات المستخدمة. وهذا الانصباب ذو طبيعة تراكمية ويمثل السياق الدلالي الذي يحد من تعدد معاني النص ويوضح مقاصد المؤلف، كما أن هذا الانصباب هو الإحراء الوحيد الذي يمكن أن يوصف بأنه يتم بطريقة واعية إذ إنه حتى لو كان قد نبت في النص بشكل لا شعوري من المؤلف فإنه لا يلبث أن يدركه على التو عند قراءة ما كتب ولو اقتصر على الاحتفاظ به أو اجتهد في تكوينه، فإنه يصبح مثلا للوعي الواضح في استخدام اللغة.

ويعد الانصباب أقوى وأعقد أشكال الإجراءات الأسلوبية، ومن المسلم به أنه معيار خصب للتحليل فلو فرض أن القارئ النموذجي قد لاحظ وجود إجراء أسلوبي ما لكنه لا يمثل تضادا موسوما مع السياق السابق فبوسع الدارس أن يبحث حينئذ عن الانصباب كواقع أسلوبي.

وكثيرا ما ينجم عن خطأ حذف لإجراءات الأسلوبية ألا يستطيع قارئ اليوم استجلاء البروز الأسلوبي للنصوص القديمة وبوسعه حينئذ أن يعتمد على الانصباب ليكتشف هذا البروز بتحليل اتجاه الإجراءات الأسلوبية الأخرى، وتوقع أن تكون الإجراءات المندثرة مساوقة للتيار نفسه مما يساعده في نهاية الأمر على اكتشافها وتحديدها وجبر حذفها. فالانصباب في الواقع هو العامل الأسلوبي الذي يضمن استمرار نظام التشفير في النص، ولو كانت هناك أجيال من القراء لم تعد تتبين اتجاه بعض الإجراءات الأسلوبية لأنها فقدت قدرتها على التضاد في النظام اللغوي الجديد، كأن تكون المصطلحات الجديدة أو المستعارة قد فقدت جدتها وطرافتها وصارت من اللغة الأدبية المشتركة فمن الممكن أن تظل بعض هذه العناصر محتفظة بفاعليتها كمثير أسلوبي للتعبير يمس مجموعة الإجراءات التي وضعها المؤلف، ويصبح الانصباب هو وسيلتنا للتعرف على بقيتها.

الخاتمة:

يتوارد إلي ذهني في نهاية هذه الدراسة الموجزة مجموعة ضخمة من التداعيات كنتيجة حتمية لما يورثه البحث في جانب من جوانب الأسلوبية وخصوصاً عند علم من أعلامها الكبار( ريفاتير)، ويتضح من الصفحات السابقة جملة كبيرة من القضايا التي تناولها ريفاتير بإسهاب ولم نورد إلا قليلا من تحديداته الأسلوبية البالغة الأهمية والـتأثير على المدارس الأسلوبية قديما وحاضراً.

ومن هذه التداعيات؛ تصور عن مدى تحقق هذه الأفكار والقدرة على ترجمتها إلى الواقع النقدي المشرقي بالتحديد، وقلب المفاهيم الرائجة بإحداث ما يشبه الثورة أو الهزة، فضلاً عن تقارب المفاهيم التي أرساها ريفاتير مع المفاهيم البلاغية القديمة التي نشأت مع الجرجاني وغيره، وقدمت أفكارا لم نستفد منها حتى تاريخنا المعاصر بالشكل النقدي المطلوب، فجاء من الغرب من يوقظ فينا هذا المارد النقدي ويلفتنا بشدة إلى تراثنا الذي قد يحتاج إلى رؤية جديدة تختلف تماما عن الرؤية القديمة باعتبار أن النصوص تتحكم بها السيرورة التاريخية. وقد تبينا في هذا البحث المدى الخطير الذي وصل إليه ريفاتير مما جعله أهلاً ليتبوأ مكانة مرموقة في الدراسات الأسلوبية، وقد لا نتصفح كتاباً في بابه، ولا أقول نتفحصه، حتى نعثر على شخصية ريفاتير منتشرة في جوانبه، توافقا أو اعتراضا. ولعلنا لا نبعد كثيرا عن تقرير أن دراسات ريفاتير لم تتناول بالشكل المعمق الذي تستحقه، وربما يدعونا هذا البحث إلى إجراءات مماثلة لا تستنكف عن تعميق دراسة كل جانب من آرائه - التي لم نتناولها كلها بالطبع واكتفينا بأبرزها- وسبر قيعانها وتتبع الإشارات النقدية التي أرسى قواعدها فنالت استحسان الكثيرين ونقدهم في جانب آخر، وإن كنا لم نتناول النقد الذي وجه لأفكاره وآرائه لأن مكانها ليس هذا البحث المختصر.

ولا أدعي أنني بهذا البحث قد أوفيت كل الجوانب الكبرى التي أثارها ريفاتير - ولا حتى معظمها ربما - ولكنني حاولت تتبع بعض ما قيل عن هذا الباحث الأسلوبي الكبير، ورصد بعض الإشارات الهامة التي قالها بكثير من الاهتمام والترصد، نظرا لما تصبه من رؤى نقدية تختلف كثيرا عن الرؤى والأفكار السائدة والرائجة التي هي تحتاج - بالتأكيد- إلى مراجعة وإعادة تقويم، بالنظر إلى ما استجد من رؤى تقدمية ذات تطلعات منسلة من الأثواب التقيليدية الموروثة، التي تحد تالياً من قدرة الناقد وكذلك من قدرة المؤلف على حد سواء.

وأعتقد أن البحث الأسلوبي الحديث لو قدر له أن يستمر، وينهض، لوجد له قبولا واسعا بين صفوف الدارسين، ليس في المراحل الجامعية العليا فحسب، بل في المراحل الجامعية الأولى وربما المدرسية، ولتبدلت نظرتنا إلى النصوص التي نتلقاها ولأوجدنا أجيالا نقدية قادرة على استجلاب الكثير من الخير، ونزع البرقع الذي يكلل خفايا تراثنا العريق الممتد بدلا من العيش في رؤى نقدية مكرورة لا تحمل روح العصر ولا التفاتاته حتى.

ولا يعوزنا إلا النظر إلى كبار النقاد العرب القدماء - من أمثال الجرجاني - الذين بإمكاننا أن نعتبرهم مجددين في عصرهم وفي العصور التالية، فقد كان لهم الجرأة الأدبية على قول كلمة التغيير وتبديل المفاهيم التي كانت بمثابة (كليشيهات) رائجة، ولم يتوان الجرجاني نفسه عن تفسير بعض آيات القرآن الكريم بأسلوب مختلف عن الأساليب التقليدية مطمئنا إلى سداد رأيه في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة...

وأخيرا، هل بإمكاننا القول إن الدراسات الأسلوبية قد نالت حقها من البحث والتمحيص؟

الواقع بلا شك يبشر بكثير من الخير ويجعلنا نطمئن إلى ما نحن قادمون عليه، والدراسات الأسلوبية باتت سمة العصر، وباتت الكتب التي تتناول هذا الموضوع متوافرة رغم قلتها والحاجة إلى أضعاف منها، وتبسيطها لتصل إلى ذهن القارئ المتوسط الذي تحدث عنه ريفاتير، لا القارئ الخبير فقط.

وبعد، ماذا نتوقع للأسلوبية؟

لا شك أن الغد يخفي الكثير، والوعي الأسلوبي لا بد وأن يتحقق في ضوء الأسلوب الحديث بالنقد والتحليل، وقد ظهر الكثير من الدلائل والمبشرات، ولعل أقلها إقبال الدارسين على هذا النمط الذي بات سمة المثقفين في هذا العصر.

مصادر البحث الأولية:

1- ابن منظور: لسان العرب.

2- بيير جيريو : الأسلوبية ، ترجمة منذر عياش.

3- عبد السلام المسدي : الأسلوب والأسلوبية.

4- شكري عياد : مبادئ علم الأسلوب العربي.

5- شكري عياد : اتجاهات البحث لأسلوبي.

6- صلاح فضل : علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته.

7- محمود عياد : الأسلوبية الحديثة: محاولة تعريف.

8- منذر عياش: مقالات في الأسلوبية.

9- موسى ربابعة: الأسلوبية مفاهيمها وتجلياتها.

المنهج الأسلوبي .. دراسة موجزة نظرية / تطبيقية -أ.أسماء السقيلي

لقد تقدمت المناهج النقدية في عالمنا العربي تقدماً ملحوظاً وإن لم تكن قد وصلت إلى المستوى الذي وصلت إليه أوروبا بيد أن النقاد العرب قد شغفوا بها وأخذوا بلجامها في دراسة وتحليل وتقويم النص الأدبي..
ومن هذه المناهج التي خدمت النصوص الأدبية وبلورت جمالياتها هي (الأسلوبية)..



فماذا يقصد بالمنهج الأسلوبي أو "الأسلوبية"؟


المنهج
كما عرفه الجيلالي: (طريقة موضوعية يسلكها الباحث في تتبع ظاهرة، أو استقصاء خبايا مشكلة ما لوصفها أو لمعرفة حقيقتها وأبعادها ليسهل التعرف على أسبابها وتفسير العلاقات التي تربط بين أجزائها ومراحلها وصلتها بغيرها من القضايا، والهدف من وراء ذلك هو الوصول إلى نتائج محددة يمكن تطبيقها وتعميمها في شكل أحكام أو ضوابط وقوانين للإفادة منها فكرياً وفنياً) (1).

أما الأسلوب:
ففي لسان العرب يقال للسطر من النخيل أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب الفن يقال أخذ فلان في أساليب من القول: أي أفانين منه.(2)
وعرف "ريافتير" الأسلوب بأنه: "كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً".(3)
ويعتبر شارل بالي الفرنسي النمساوي تلميذ دي سوسير "مؤسس المنهج البنيوي" من أوائل المؤسسين لهذا المنهج وتبعه جاكبسون الذي عرف الأسلوبية بأنها "البحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً".(4)

وقد ألمح عبد القاهر الجرجاني إلى الأسلوب في نظرية النظم، فالنظم عند الجرجاني هو الأسلوب، ومن هذه النظرية بنى الأسلوبيون منهجهم الحديث "الأسلوبية" فأضحت بفضل الكثير من الملاحظات المتراكمة علماً خاصاً بدراسة جماليات الشعر والنثر.
ولم يعد المنهج الأسلوبي يعتمد على الألفاظ وعلاقاتها بالجمل والتراكيب والقواعد النحوية فحسب بل " توسع مفهوم علم الأسلوب ليشمل كل ما يتعلق باللغة من أصوات و صيغ و كلمات وتراكيب فتداخل مع علم الأصوات و الصرف و الدلالة و التراكيب لتوضيح الغاية منه, و الكشف عن الخواطر و الانفعالات و الصور , وبلوغ أقصى درجة من التأثير الفني , بل توسع أكثر من ذلك أخيرا (5) و اشتمل على علم النفس و الاجتماع و الفلسفة وعلوم أخرى شهدت دقة مناهجها ومدى صلاحيتها في إغناء المنهج الأسلوبي.
يقول غزوان " وقد أدى الاهتمام بدراسة الأسلوب وتحليله لغويا على وفق معايير لغته أو فنياً على وفق المعايير الفنية , إلى ظهور ما يسمى بالأسلوبية اللغوية التي ترى أن الأسلوب قد يكون انزياخا أو انحرافا, أو عدولا عن السياق اللغوي المألوف في هذه اللغة أو تلك , أو قد يكون تكرارا للمثال , أو النموذج النصي الذي يهتم به الذوق العام أو قد يكون كشفا خاصا لبعض أصول اللغة ومرجعياتها ولا سيما في الوجه الجمالي للتعبير أو ما يسمى بالوجه البلاغي أو البياني"(6)

ومن هنا نستخلص بأن الأسلوبية إنما تعتمد اعتمادا كبيرا على الدراسات اللغوية التي تمهد لدراسة النص الأدبي , لأن الناقد الأدبي -على حد تعبير غزوان- قبل كل شيء يجب أن يكون لغويا جيدا لأنه" لا وجود لأي نص أدبي خارج حدود لغته"(7) وهذا يدفعنا إلى أن الأسلوبية لا تكتفي البتة ببنية النص كما هي البنيوية بل تنظر إلى ما يحيط بها نظرة شمولية تهدف من وراءها إلى خلق جماليات النص الأدبي و تنويره للقارئ.
هذا بالإضافة إلى علاقتها بالبلاغة العربية و ما يعرف بالانزياح و التكرار و الإيحاءات التي يستشفها الناقد من السياقات المختلفة.
ويتحدد المنهج الأسلوبي وفق خمسة اتجاهات(8) :

1- الأسلوبية الصوتية:
وهي التي تهتم بالأصوات و الإيقاع و العلاقة بين الصوت و المعنى.

2-الأسلوبية الوظيفية:
وتهتم بدراسة العدول أو ما يسمى بالانحراف أو الانزياح.
وتقوم على مبدأين:
أ‌-دراسة نصوص كثيرة تمثل أنواعاً أدبية مختلفة وأجناسا متعددة وعصورا بغية الكشف عن الآليات التي تتحكم في تكوين الأسلوب الشعري.
ب‌- الإفادة من نتائج علم النفس ..فدراسة العمل الأدبي أسلوبياً يتطلب التحرك بمرونة قصوى بين الأطراف و المركز الباطني للنص , والوصول إلى تلك النتائج يتطلب إعادة قراءة النص مرارا.

3-الأسلوبية التعبيرية:
وكان رائدها بالي الذي شق الطريق للتفريق بين أسلوبين أحدهما ينشد التأثير في القارئ و الآخر لا يعنيه إلا إيصال الأفكار بدقة . وطور تلاميذه هذا الاتجاه عن طريق التوسع في دراسة التعبير الأدبي , فالكاتب لا يفصح عن إحساسه الخاص إلا إذا أتيحت له أدوات ملائمة , وما على الأسلوبي إلا البحث عن هذه الأدوات.

4-الأسلوبية الإحصائية:

تقوم على دراسة ذات طرفين , أولهما: هو التعبير بالحدث , و الثاني هو التعبير بالوصف , ويعني بالأول الكلمات أو الجمل التي تعبر عن حدث و بالتالي الكلمات التي تعبر عن صفة , ويتم احتساب عدد التراكيب و القيمة العددية الحاصلة تزيد أو تنقص تبعاً لزيادة أو نقص عدد الكلمات الموجودة في هذه التراكيب , وتستخدم هذه القيمة في الدلالة على أدبية الأسلوب و التفريق بين أسلوب كاتب و كاتب .
فمثلاً كتاب " الأيام" لطه حسين تبين مثلاً أن نسبة الجمل الفعلية إلى الوصفية 39% في حين أن نسبة تكرار هذه الجمل في كتاب " حياة قلم" للعقاد لا تتعدى 18% , ومعنى ذلك أن كتاب الأيام أقرب إلى الأسلوب الانفعالي و الحركي من كتاب العقاد الذي يميل فيه إلى الطابع الذهني العقلاني.


5-الأسلوبية النحوية:
تهتم بدراسة العلاقات و الترابط و الانسجام الداخلي في النص و تماسكه عن طريق الروابط التركيبية المختلفة , ومن هذه العلاقات : استخدام الضمائر و العطف و التعميم بعد التخصيص... وهذه العلاقات يلجأ إليها الكاتب لتنظيم جملة بعضها إلى جانب بعض مما يؤدي إلى تماسكها و ترابطها ..

وعلى هذا فإن الأسلوبية تواصل تأملها لعالم النص عن طريق القراءة المتعددة الوجوه , وتتحدد هذه الاتجاهات بعضها مع بعض في كيان عضوي يجذب القارئ و يستثير تساؤلاته.


---
(1) مجلة الموقف الأدبي , العدد 404
(2)انظر لسان العرب مادة (سلب)
(3)اتجاهات البحث الأسلوبي , لشكري عياد
(4) النقد الأدبي الحديث أسسه الجمالية , للدكتور: سعد أبو الرضا
(5) المرجع السابق.
(6) أصداء دراسات أدبية نقدية , للدكتور: عناد غزوان.
(7) المرجع السابق.
(8) في النقد و النقد الألسني: للدكتور: إبراهيم خليل।
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
]استقبال القمر

إبراهيم ناجي



يحلل شكري عيّاد هذه القصيدة فيقول:

(يوحي عنوان هذه القصيدة بنوع من التفاؤل أو الفرح، فالاستقبال يكون لضيف عزيز نسعد بقدومه، أو لشخص عظيم نحتفل بلقائه، والوزن القصير المرن (مجزوء الكامل الذي تتعادل فيه المقاطع القصيرة والمتوسطة الطول) يزيد القصيدة إشراقاًَ.
ومناجاة القمر تستمر مع الشاعر من أول القصيدة إلى آخرها.
ولعلنا وقد استرعى نظرنا امتداد الحوار بين الشاعر والقمر على طول القصيدة، نجد من الأوفق أن نبدأ تحليلنا الأسلوبي لها بملاحظة طريقة خطاب الشاعر للقمر.
والسمة المميزة لخطاب القمر هنا هي كثرة أفعال الأمر التي يراد بها الدعاء أو الرجاء أو التمني، وفعل الأمر هنا يقوم بترقيم القصيدة أو بتحديد بدايات الفصول، فالمقطع الأول يبدأ بفعل أمر (أقبل)، والمقطع الثاني يبد بفعل أمر كذلك (كن)، وبعد ثلاثة مقاطع تأتي بداية مختلفة ولكنها تؤدي وظيفة "الترقيم" كفعل الأمر أو أقوى منه، وهي النداء المكرر "قمر الأماني يا قمر" ويمكننا أن نلاحظ هنا ما في إضافة القمر إلى الأماني من حذف حرف النداء ثم كرر النداء بـ (يا) في ذات البيت، وفي الفصل الأخير تتعاقب ستة أفعال أمر في ثلاثة مقاطع وهم "اسكب، أفرغ، اخلع، خذني، نجني، اسقني" أما المقطع الختامي فيبدو أنه مميز عن الفصل السابق إذ بدئ باسم فعل مضارع يدل على التعجب "واهاً" وخلا من أي فعل أمر.
ويبدو لنا أن تركز أفعال الأمر الدعائي في المقاطع الثلاثة التي سبقت المقطع الأخير يعبر عن تصاعد انفعال الشاعر، في حين أن خلو المقطع الأخير منها يدل على الوصول إلى نقطة إشباع. ويؤكد ذلك استعمال اسم الفعل الذي يدل على التعجب، والعطف بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.
ويستوقف نظرنا من بين هذه الأفعال قوله في ابتداء المقطع الثالث "كن حيث شئت" فهذا الأمر يختلف عن فعل الأمر السابق "أقبل"، وعن الأفعال التالية "اسكب...وأفرغ.." التي تدل على التضرع والدعاء.
إن الذي يقول كن حيث شئت يريد بها نوعاً من التحدي، وكأنه يقول "لا يهمني من أنت، ولا ابن من تكون" وبهذا يشعر خصمه أنه أعد له اللقاء المناسب، ولكن انظر إلى ما أعده الشاعر هنا "ما أنا إلا معنىً بالمحال" إن شجاعته هي شجاعة من استعد لأن يضرب حتى الموت وكأنه يقول "عظمتك لا تخيفني، لأني أعلم أني لا شيء".

أما إذا نظرنا إلى الصور فمخاطبة الشاعر للقمر كما لو كان إنساناً عاقلاً أمر غير مستغرب في لغة الشعر... فتلك الصور التي رسمها الشاعر تعبر عن شوقه إلى الانعتاق من هموم الدنيا، وقد عرف بسخطه على الحياة والأحياء، ناعياً سوء حظه وضياع عمره، ولكن لا بد أن نتوقف عند سلبية الصور التي يرسمها لنفسه، فهو لا يخوض صراعاً من أي نوع كان، وإنما هو فريسة الهم والسقم والشقاء، ولذلك فإن "القمر" يجب أن يصنع له كل شيء، ويجب أن يشفيه من همه المسقم، وأن يجعله خالداً مثله، ويأخذه بعيداً عن عالم المعاناة هذا، وربما خيل إلينا قوله "واخلع على قلبي الصفاء" أنه يعاني نوعاً من الصراع الداخلي، لكننا لابد أن نستبعد هذا الفهم حيث نجده يقول: قدحي ترنَّق فاسقني *** قدح الشعاع مطهرا
فهو (مستقبل) فحسب، الحياة تسقيه كدرا، وهو يريد شراباً صافياً، مع أنه لم يفعل شيئاً يستحق هذه النعمة إلا الصبر والتمني.
ولابد أن نلاحظ أيضاً أن تمثيل الشاعر للنعمة التي يرجوها من القمر قد غلبت عليها صورة "الشراب": "ما أظمأ الأبصار لك"، "ظمآن أرشف ما تجود"، "اسكب ضياءك في دمي"، "أفرغ خلودك في الشباب"، وإن كانت هناك صورة لمسية وهي صورة العناق "طابا عناقاً في الأثير"، وصورة بصرية "العين بعدك عمياء"، وثالثة مستعارة من اللبس "اخلع على قلبي الصفاء"... وغلبة صورة الشراب تجعلنا نميل إلى الظن بأن في القصيدة حزمة انفعالية ترجع في منشئها إلى المرحلة الفمية في حياة الطفل... فعلماء التحليل النفسي يقولون: ترتكز حياة الطفل النفسية في أشهره الأولى حول فمه، فالفم هو مصدر المعرفة ومصدر الوجدان والنزوع جميعاً، فهو يرضع بفمه، يحب بفمه، يناغي بفمه، ويميز الأشياء بفمه، والدليل على أن هذا الفم هو مصدر الأحاسيس الوجدانية لدى الإنسان في مراحل حياته الأولى هو أننا ربما لاحظنا أن الطفل عندما ينتهي من الرضاعة يتصبب عرقاً، وهذا يدل على الاندماج الكامل بين الأم والطفل، وعندما تنزع الأم طفلها قبل إتمام الرضاعة فإن أمارات الفزع والغضب تبدو واضحة عليه تماماً.
فالشاعر يريد أن يشعر بالاندماج الكامل بينه وبين القمر فيخلع عليه صفات الأم من العناق في قوله "طابا عناقاً في الأثير" فهو تعبير دقيق عن عناق الأم لطفلها، ومن الحنان في قوله "تحنو عليك وتلثمك"، أما في قوله "العين بعدك عمياء" فهي تطابق المعروف عن اكتمال الإحساسات البصرية لدى الرضيع وأنها أول ما تتركز على أمه.
فالصور تغوص في أعماق العقل الباطني وإن تشربت كثيراً من التجارب الواعية، فهو –الشاعر- يعيش وسط أحلام وأماني وأوهام يحاول أن يصل إلى السعادة المفتقدة من خلال مناجاته مع القمر وكأنه طفل يحاول أن يتشبث بتلابيب أمه الغائبة.
فرؤيا الشاعر المفتقدة التي يختم بها قصيدته رؤيا التوحد مع الأم، في وجود لا مكان فيه لغيرهما، وقد شعر بأنه مع ذلك الكائن العجيب القادر يحلق في الأعالي وهذا ما يقوله اللاوعي واللاشعور... أما وعي الشاعر فيقول إنه حلم مستحيل ولكنه وقد أعد نفسه له لا يملك إلا أن يسترسل فيه).(9)
[align=center]*
*
*[/align]

إن قراءة نقدية كقراءة شكري عياد تعد من القراءات النقدية الحديثة التي خدمت القصيدة وبلورت معالمها، فلا تعد قراءة في –مجال النقد الأدبي- خاطئة وصائبة، ولكنها إما قاصرة أو كاملة... فالمجال النقدي مجال مرن يتقبل وجهات النظر المبنية على أسس ومناهج علمية مدروسة.

لقد أجاد الناقد في تحليله من حيث ترسمه للاتجاهات الأسلوبية الصوتية والتعبيرية والوظيفية والإحصائية والنحوية...
تلك الاتجاهات التي اتضحت جليةً في تحليله، فالمستوى الصوتي اتضح في بيانه للوزن والقافية ومدى أثرهما على النص، والتعبيري في بيانه استخدام الشاعر لخطابه الخاص الموحي بالحرمان والشوق إلى الانعتاق من هموم الدنيا، أما على المستوى الوظيفي ففي مدى أثر هذا النص على المتلقي، والصورة التي بُلورت في نفس المتلقي فتراءت له معان جديدة... كصورة الأم والطفل، بالإضافة إلى اعتماده على التحليل النفسي لمراد الشاعر في إيحائه للأم من خلال حديث الشاعر للقمر.

أما المستوى الإحصائي فتراءى من خلال بيانه لأفعال الأمر التي استخدمت في القصيدة وكيف أثرت فيها، وكذلك على المستوى النحوي في عرضه لأثر العطف على الجمل الذي أدى بها إلى التماسك والترابط.


بيد أن الناقد قد غض طرفه عن أمر مهم تهتم به الأسلوبية وهي مسألة (الانحراف أو العدول) فالقصيدة مليئة بالانحرافات في مثل قوله "سحابة تحنو عليك"، "اسكب ضياءك"، "أفرغ خلودك"، "قدح الشعاع" فهذه الانحرافات من المصادر الجمالية في النص الأدبي تعطيه مزيداً من التوهج والإثارة وتمارس سلطة على القارئ من خلال ما تحمله من عنصر المفاجأة والغرابة... فهي توسع دلالات اللغة وتولد أساليب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة في الاستعمال.

وكذلك ما أحدثه التكرار لكلمة (قمر)، فقد تكررت في القصيدة أربع مرات، في العنوان وفي المقطعين الأول والسادس... ولا يخفى م لهذا التكرار الصوتي في النص من قيمة إيحائية ودلالية. فقد ارتبط القمر في عنوان القصيدة بالمصدر (استقبال) فإضافة القمر للمصدر أوضح أن ثمة لقاء سيأتي، وأن هذا اللقاء إلا لشخص بعيد عزيز لديه... لكن هل حدث هذا اللقاء أم لم يحدث لا ندري؟!.. فما إن ندلف إلى القصيدة حتى تخبرنا بأن هذا اللقاء لم يكن إلا أمانٍ وأوهام وأحلام تجلب الحسرات.. فارتباط القمر في المقطع الأول (بالعين العمياء) ليدل على استيائه ويأسه من حلول هذا اللقاء بأس شكل من الأشكال، كما هو الإنسان الأعمى الذي لن يستطيع يوماً أن تلتقي عينيه بالدنيا.
ثم يكشف الستار عن حقيقة مجلجلة في نفسه في المقطع السادس بأن هذا اللقاء الذي ينتظره –حقاً- ما هو إلا أحلام وأماني... وقد تكررت كلمة (قمر) في هذا المقطع مرتين لتدل على قيمة وجدانية علية، وأن الشاعر قد بلغ ذروة انفعاله!

يقول غريماس:"ثمة ما يبرر للتكرار وجوده، أنه يسهل استقبال الرسالة".(10)
ويقول عياشي:"غير أن وظيفة التكرار لا تقف عند هذا الحد، ذلك لأنها تخدم النظام الداخلي للنص، وتشارك فيه، وهذه قضية هامة لأن الشاعر يستطيع بتكرار بعض الكلمات أن يعيد صياغة بعض الصور من جهته كما يستطيع أن يكشف الدلالة الإيحائية للنص من جهة أخرى".(11)

فكلمة (قمر) في سياقها النصي هي الكلمة المحورية والجوهرية التي سلطت أضواءها على فضاءات النص وبلورت جمالياته.


هذا بالنسبة إلى ذات النقد، أما بالنسبة إلى المنهج المتبع وهو المنهج الأسلوبي فإنه يعيد لنا نشوة التراث حيث "نظرية النظم" عند عبد القاهر الجرجاني، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكن القارئ من الوقوف على جماليات النص الأدبي، فلا يستطيع القارئ الحكم على النص من قراءة بيت أو عدة أبيات، وإنما يقتضيه النظر والتأمل في القطعة الأدبية بكاملها.. ومن هنا يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما في النص من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير. فلا مزية للألفاظ –عند الجرجاني- من غير سياق ولا تفاضل بينها، وإنما تأتي مزيتها وأهميتها من خلال علاقة اللفظة بما سبقها من ألفاظ وما يليها من ألفاظ... فاللفظة لا يمكن أن توصف إلا باعتبار مكانها في النظم. وهذه من الأدلة التي يستند عليها الأسلوبيون في منهجهم النقدي.

وبنظرة أكثر شمولية ينفرد "حازم القرطاجنّي" بتميزه عن غيره من أهل النظر في علوم البيان والبديع.
فهو أول من قسم القصيدة العربية إلى "فصول"، وأول من أدرك الصلة الرابطة بين مطلع القصيدة وآخرها الذي يحمل في ثناياه الانطباع الأخير والنهائي عن القصيدة.
وبناؤه لهذه النظرة على الاستهلال والخاتمة قائم على أسس نفسية تراعي شعور القارئ ونمو التأثير العاطفي والوجداني فيه، فمن طبيعة القارئ الإحساس والتجاوب مع المشاعر المتجانسة التي تفيض في جوٍ أو مناخ خال من التقلبات العاطفية".(12)
وتلتقي نظرة القرطاجني في تقسيمه للقصيدة إلى "فصول" مع نظرة الأسلوبيين المعاصرين في تقسيمهم النص الأدبي –بغض النظر عن جنسه- إلى "أبنية"، فما "البنية" إلا مصطلح مقابل لما أسماه القرطاجني بالفصل حين قصد به: التقاء أبيات القصيدة وترابطها مؤلفة وحدة معنوية.


لذا من الرائع بل من الأروع أن نجمع بين تلك المناهج النقدية قديمها وحديثها، ونأخذ منها ما نراه من نظرةٍ فاحصة أنها ستخدم النص الأدبي وتكسيه حلة جديدة، وتعطي كل ذي حق حقه سواء كان من جهة المبدع أو النص أو المتلقي أي (المرسل، والرسالة، والمرسل إليه).

---
(9)مدخل إلى علم الأسلوب: للدكتور: شكري عياد.. "بتصرف"
(10)الأسلوبية وتحليل الخطاب: للدكتور: منذر عياشي.
(11)المرجع السابق.
(12)الأسلوبية ونظرية النص..للدكتور: إبراهيم خليل.

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...