الأربعاء، 22 يونيو 2011

المنهج النفسي في دراسة الأدب بقلم: حسين علي الهنداوي

المنهج النفسي في دراسة الأدب

(( سيكولوجيا الأدب ))

تعد العلاقة شديدة الاتصال بين الأدب وعلم النفس . وحسب الأدب أن يكون واضعه ومتلقيه ومحرره إنساناً حتى يغري دارسه بدراسته.

ويقدم علم النفس المفاتيح السحرية لدراس الأدب تجربة وإبداعاً وتحليلاً ولقد استخدم المنهج النفسي في دراسة الأدب منذ القديم ومع أنه بقي غير كاف في توضيح جميع جوانب الأدب إلا أنه يبقى مفيداً في الكشف عن غوامض وخبايا العمل وصاحبه .

يقول الدكتور محمد مندور في كتابه (( في الأدب والنقد ))ص 188 :

((أما علاقة الأدب بالفرد فتدور حول الحاجات الإنسانية التي يمكن أن يشبعها كفن جميل وكأداة للتعبير عند الفرد . وأهم مبحث هو تحليل حاسة الجمال عند البشر والبحث عن أصولها وأهدافها المختلفة والتمييز بين مفارقاتها فهناك الشيء الجميل أو اللطيف أو الجليل ومن حيث أن الأدب تعبير جمالي نفسي فعلى علم الجمال الأدبي أن يقف عند (( نظرية انتقال المشاعر )) كأن يحب الشاعر مثلاً كلب معشوقته من أجلها)). والشعراء العرب كثيراً ما كانوا يحبون ديار محبوباتهم لأنها تمثل هذه المحبوبة.

وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا

وما وصف الأطلال عند شعراء الجاهلية إلاّ بشخصيات نوعاً من هذه النظرة (( انتقال المشاعر )) وإذا كان من اللزام على الدارس أن ينبش الكنوز المختبئة في بواطن الأدب فإن من المفيد له أن يمعن النظر في عملية الإبداع وفي المبدع نفسه والقوانين النفسية المتحكّمة بشخصيات العمل الأدبي وبالأدب نفسه وسنفصّل القول في هذه القضايا.ففي دراسة عملية الإبداع وآليتها يمكن لنا أن نشير إلى نظرية الإلهام عند أفلاطون الذي يعتبر أن المقدرة الإبداعية عند الأديب هي (( الحماسة أو الحب )) –إيروس .

وتقوم عمليّة الإلهام عنده على تذكرّ الإنسان لما رآه من صور وماهيّات في عالم المثل الذي كانت تحيا فيه النفس ومن ثمّ تقليد هذه الصور في عالم المحسوسات مما يجعل الشاعر يحسّ بالجزع والحزن الذي يعقبه شعور بالحماسة يدفع الشعر على شكل أغانٍ.وأكثر الشعراء مدانون بأشعارهم الجميلة للحماسة ولنوع من الغييبوبة لا للفن وهم يشبهون على حد قول أفلاطون ....الذين لا يرقصون إِلا إِذا خرجوا عن شعورهم وهذه الحالة تشبه حالة الوجد والشوق عند بعض فرق الصوفية في بلادنا والتي ترقص إِذا هي ..... وتجاوزت الوجود وقد اتبع أصحاب المذهب الرومانسي طريق أفلاطون لقد كانت نظرة الرومانسيين الأوروبيين للإِلهام تلتقي مع نظرتهم للطبيعة فكلامها هبة من الله .

ويعتبر الإمام أبو حامد الغزالي أن الإلهام كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صافٍ لطيفٍ فارغ .

بينما يرى محي الدين بن عربي أن الإلهَام ظاهرة ممكنة الحدوث لأيّ إنسان بشروطٍ هي :

- إيمان هذا الإنسان بقدرة القوة الخارقة /الله / .

- كون الإنسان صافي الذهن .

- استعداده لإدراك لطائف المعرفة .

ولكنه أي (( ابن عربيّ )) كأفلاطون يرى أن الإلهام فيض يتلقاه الإنسان من خارج الذّات .

ويعد ابن سينا الإلهام حدساً أو إِشراقاً يتحصل في النفس فتدرك الموجودات والمعقولات بما تستفيد ه من العقل الفعال وقد يكون الإلهام رؤيا بينما يكون الحدس متفاوتاً بين الناس ولا يمكن التوصل للعقل الفعال إِلا بالاتصال بالله و ملائكته وقد أعتبر ابن سينا الإلهام طريقة لتحصيل المعرفة من العقل الفعّال وترى الاتجاهات الحديثة وعلى رأسها ((ووردزوورث )) أن الشعر تعبير عن انفعال مستعاد بهدوء تظهر فيه غريزة إِظهار النفس ((حبّ الظهور )) وهذه الغريزة الاجتماعية ناجمة عن الرغبة في التعاطف ،والتلذذ بإِنشاء شيء جديد الشاعر كالطفل ينشئ لينفّسَ عن وجدانه الزائد . وهو أي الإلهام تألق وانجذب عند ((دي لاكروا )) و (( فيليكس )) بينما يرى (( ديكارت وبرغسون و اوستن وارين )) أن الإلهام عملية تأمّل لا شعوري ينتهي بالحدس .

ويبدو أن الفنان كما تزعم (( أديت ستويل )) يحتفظ روحياً ونفسياً برؤياه كما يحتفظ الطفل بمباهج الكون حين تبدو له.... (( لامب )) أن الفنان يحلم في اليقظة بينما يرى ((بول فاليري)) أن الملهم تستلب إِرادته فتنهال عليه الأفكار .وإِذا تجاوزنا ((لامب )) إلى ((بودلير )) نجد أن مبدأ الشعر عنده يعتمد على الطموح الإنساني إلى جمالٍ سامٍ يكمن بالحماسة وانخطاف الروح وهو أي الإلهام عند ((بالدوين )) إِشراق ذهني يأتي مما وراء الطبيعة وهذا يخالف ما قاله ((ادغار آلن بو )) من أن عملية الإلهام موجهة من الشعور ويرى (( فرويد )) أن الإلهام حالة اللاشعور – التسامي – بينما يعتبر تلميذه يونغ أن مصدر هذا الإلهام الإسقاط في اللاشعور الجمعي الذي تكوَّن ضمن بيئة معينة وتلقى مفاهيم مختلفة . لقد تحدث أرسطو عن التطهير الذي تحدثه المأساة فينا وأشار إلى الإلهام، ولكن يبقى أن نقول إِن الإلهام عملية معقدة لم يستطع الأدباء والشعراء ولا علماء النفس أن يجدوا لها التفسير النهائي وستبقى الآراء متضاربة ومختلفة حول ماهية الإلهام .فهو كالروح سر من أسرار الوجود يشع ولا نرى مصدر إشعاعه ويتحدث ولا تبصر فمه ويسري في عروقنا ولا نلمسه بأيدينا .

إِن التفسير الخرافي الذي تبنّاه شعراء العرب سابقاً يجعلنا نؤكد أن عملية الإلهام عملية معقدة وهذا ما جعلهم ينسبون الشعر لشياطينهم حتى أنهم جعلوا بعض هذه الشياطين ذكوراً وبعضها إناثاً (( ولي صاحب من بني الشيصبان / فطوراً أقول وطوراً هو )) وقد بقيت التفسيرات الأدبية لمصدر الإلهام غامضة حتى جاء فرويد وتبنى نظرية جديدة في تفسير عملية الإلهام وما يميز نظرية فرويد هذه عن غيرها أن فرويد زعم أن أفعالنا تحفزها قوى نفسية لا نعرف الكثير عنها وأن هذه القوى الغامضة لا نستطيع التحكم بها إذ أنَّ مركز الثقل في الحياة النفسية الإنسانية هو اللاشعور ولا يمكن لنا أن نعرف هذا ((اللاشعور )) إلا من خلال تأثيره اللاحق في حياتنا وبعد فوات الأوان فالعمليات الواعية تكون واعية لفترة قصيرة ترتد بعدها إلى دائرة / اللاوعي / وهذا / اللاوعي / عالم محوط بالأسرار العميقة ويميز فرويد بين نوعين من / اللاوعي / نوع يمكن تحويله بسهولة وبشروط إنسانية إلى وعي ونوع يستحيل تحويله إلى وعي إلاّ بمعجزة كبيرة .

وقد أفسخ فرويد مجالاً للواقع الجنسي في اللاوعي الإنساني وهذا ما أخذ ّ عليه وقد رفض ذلك تلميذاه (( يونغ وإدلر )) .

هذا وقد قسم فرويد المناطق النفسية إلى منطقة ال/ هو / وهي مركز الثقل في حياتنا النفسية وخزّان الدافع الجنسي ومنبع الطاقات الحيوية فينا يحكم هذه المنطقة مبدأ اللذة وإِشباع الغريزة وهذه المنطقة تعادي وتكره المنطق ولا تعرف القيم الاجتماعية ولا الضوابط الخلقية تنطوي على دوافع متناقصة يمكن لها أن تتجاوز دون مشكلة غايتها إِرضاء الغرائز وهي مدمرّة في نهاية المطاف لا تهتم بسلامة الذات والآخرين .

ومنطقة ال (أنا ) وتعتبر النظم الأول لطاقات ال(هو) والرقيب عليها تنظم الدوافع على نحو يسمح به الواقع ويرضى به المجتمع حيث تجنّب الذات النهاية المدمرة فما يسمح به الواقع يلبى وما لا يسمح به يدفع إلى أعماق ال (هو) فإذا كان عسيراً تحول إلى /عقد / ويعتبر الجزء الكبير من منطقة الأناغير واعٍ ويسمى الجزء الواعي منه/ العقل الواعي / .

ويسند على الأنا دور الوسيط بين ((اللاوعي )) و(( العالم الخارجي ))وبين الرغبات غير المحدودة التي تقّرها الظروف والشروط الواقعية . ومنطقة الأنا الأعلى وهي المنظم الثاني لمنطقة ال((هو )) والحارس المتيقظ عليها خزان الأخلاق والمروءة والضمير الجزء الكبير منه غير واعٍ وهي قوة هامة يستنجد بها المجتمع لحماية نفسه من النزوات والرغبات والغرائز المدمرّة والتي لا يستطيع ال (( أنا )) وحدة تدبيرها أو كبحها أو لجمها يمارس عمله من خلال ال (( أنا )) أو مباشرة يقف أمام اندفاع اللاوعي عندما لا يقره المجتمع وينمو من خلال تربية الأسرة والمربين وهو محكوم بمبدأ الأخلاق ومبدأ الثواب والعقاب، فإذا كان نشيطاً أدى إلى الإحساس بالذنب .

هذا التقسيم الذي تبناه فرويد لاقى أستحساناً من قبل الأدباء و دارسي الأدب و ساهم بشكل كبير في فهم عملية الإبداع ورغم أن فرويد حيى بأنه مكتشف اللاوعي في الاحتفال بعيد ميلاه السبعين إِلا انه أشار إلى أن الشعراء والفلاسفة هم مكتشفو اللاوعي وما كشفه فرويد هو المنهج العلمي لدراسة اللاوعي إِن علم النفس يقول/رينيه ويليك/ و/ أوستن وارين / في كتابهما (نظرية الأدب ) ساهم في الكشف عن عملية الإبداع , وفي نبش خبايا نفس المبدع وفي الكشف عن غوامض العمل الأدبي (2) .

وفي دراسة نفسية الكاتب يبدو أن العبقرية لدى الكاتب / الشاعر / كانت تقرن بالجنون عند الإغريق وتنسب إلى شياطين الشعر في وادي عبقر عند العرب وأصبحت حديثاً تؤوّل بالمدى الممتد من العصاب إلى الذهان فالشاعر رجل مجذوب عند البعض والموهبة تعويض عن نقص عند الكاتب على مبدأ كل ذي عاهة جبار فقد كان أبو حيان التوحيدي أعور وابن سيدة اللغوي الأندلسي أعمى وكذلك بشار بن برد وأبو العلاء المعري وربيعة الرقي وطه حسين وعبد الله البردوني وكان بيتهوفن أصم وكتيس قصيراً وبروست عصابياً وبايرون أعرج وبوب أحدب ، فالكاتب عند فرويد عصابي عنيد يصون نفسه بوساطة العمل الأدبي من الانفجار وتثير نظرية الفن كعصاب التي تبناها الكثير من المفكرين مسألة علاقة المخيلة بالاعتقاد ، فالروائي يشبه الطفل الحالم الذي يحكي لنا الحكايات فيخلط عالم الواقع بتخيل من عالم آلامه وآماله ومخاوفه ويرى أليوت أن الفنان أكثر بدائية كما هو أكثر تمدناً من معاصرية وباعتبار أنّ الكاتب عضو في مجتمعه فهو أكثر الناس تمكناً في التعبير عن أحاسيسه رغم أنه ليس أكثر الناس إِحساساً ، ويوفرّ الكتَّاب والشعراء المادة الخصبة للمحلل النفسي لأن شخصيات أعمالهم تمثل أنموذجاً يمكن دراسته والحكم عليه إِن / أوستن وارين / يعتبر الشاعر حالم يقظة يحظى بقبول المجتمع وبدلاً من أن يغير شخصيته ينمي خيالاته وينشرها (3) .

يقول فرويد ((الفنان في الأصل رجل تحول عن الواقع لأنه لم يستطع أن يتلائم مع مطلب نبذ الإشباع الغريزي فأطلق الفنان كامل رغباته الغرامية ومطامحه الذاتية في حياة الخيال ثم وجد طريقاً للعودة من عالم الخيال إلى عالم الواقع وهو يصوغ نوعاً آخر من الواقع / العمل الأدبي / )) .

إِن الأديب إِنسان شفّاف مشرق الروح والفكر تتميز أعصابه بحساسية دقيقة تكتشف الواقع بكل أبعاده ومعانيه وتتحسس الصعوبات التي تتوضع في حياة الآخرين سواء أكانت فكرية أم اجتماعية أم فلسفية وهو في الوقت نفسه يعشق الجمال والكمال المطلق بفطرته التي وهبها الله له وباعتبار أن الصراع قائم بين ما هو واقع / فعل _ فكر غير مرضي / وبين طموح الانسان لبلوغ الكمال المطلق فإن الأديب يرسم لنا صورة هذا الصراع ويفترض الحلول المشرقة لصورة الواقع المشّوهة. فصورة المرآة في الواقع أقل مكانة من صورتها في الأدب وكذلك صورة المعلم / كاد المعلم أن يكون رسولا / إذاً لا يقبل الواقع على ما هو عليه لأن شكل الكمال المطلق الموجود خياله وفكره .

وتدعونا دراسة نفسية الكاتب إلى الكشف عن القوانين النفسية التي تحكم الشخصيات التي يرسمها هؤلاء الكتاب في أعمالهم ذلك أن الإنسان هو محور الأدب وهذا ما يدعونا في قراءتنا لأي نص أن نجد نموذجاً لإنسان ما يحملنا على التفكير في الأسباب التي دعت هذا الأنموذج من الناس إلى التصرف على هذه الشاكلة أو تلك ./ فدون كيشوت سير فانتس / قتل مجموعة من الأغنام وتصورها أعداء له ولما اكتشف أنها أغنام وليست بشر قال : الحمد لله الذي مسخ أعدائي أغناماً وكذلك فعل الشاعر العربي (( الراعي النميري)) المصاب بلوثة في تفكيره مع كلب وظاناً أنه لص .وأوديب تزوج أمه وقتل أباه وشهريار كان مولعاً بالزواج والقتل يتزوج كل ليلة أمرأة ويقتلها في الصباح وشخصيات قصائد نزار قباني من النساء لأن مأساة أخته وصال بقيت ماثلة أمام عينيه .

وكثيراً ما يعكس الكاتب دوافعه النفسية على لسان شخصياته أو كثيراً ما تندفع الشخصيات بالحديث المختبئ في عمق وجدان الكاتب ذلك أن الكاتب عضو في مجتمع يستمد منه أفكاره وتؤثر فيه معطياته .

إن شخصيات قصة / أرزاق يا دنيا أرزاق / للكاتب السعودي علوي طه الصافي هي شخصيات من صميم المجتمع تحكمها دوافع نفسية راسبة في أعماق لا وعيهم فأعظم شخصية في هذه القصة تحكمها آلام القهر والصمت والفقر وأكثر ما يبعث التناقض في حياة هذه الشخصية أن المغنّي يجمع الملايين بينما الملايين لا يجدون إلا أوراق الشجر طعاماً لهم ، وكذلك شخصية الزوج السكير في قصة / شمس صغيرة / لزكريا تامر فهو حالم يقظه يتصور الخروف جنياً يمكن أن يقدم جدار من الذهب التي وعده إياها ويمكن له بذلك أن يحل مشكلة الفقر التي تسيطر عليه وتسير حياته ، أنه رجل تحكمه ال (هو ) بما فيها من رغبات وغرائز .

وبناءً على ذلك يمكننا أن نجمل القول بأن علم النفس دخل في صميم الأدب وأصبح مسباراً فعالاً يساهم في الكشف عن جوانب العمل الأدبي وفي نبش ذات الكاتب وتوضيح اتجاهاته وهو ضرورة هامة من ضرورات الأدب .



حسين علي الهنداوي

سورياــ درعا

مصطفى ناصف في { قراءة ثانية لشعرنا القديم }

مصطفى ناصف في { قراءة ثانية لشعرنا القديم }


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقتبس
يعتبر الدكتور مصطفى ناصف من أهم نقاد العرب الذين اشتغلوا على التراث العربي القديم والحديث من زوايا منهجية مختلفة تتراوح بين الدراسة البلاغية والأسلوبية والتفكيكية والتأويلية والأسطورية. ولقد كان الشعر العربي القديم هدفا لكثير من دراساته ولاسيما كتابه القيم” قراءة ثانية لشعرنا القديم”، وهو عبارة عن فصول نقدية متنوعة انكب فيها على الشعر الجاهلي بالفحص والتحليل والتقويم من خلال رؤية جديدة وهي الرؤية الأنتروبولوجية أو المنهج الأسطوري. إذاً، ماهي القضايا النقدية التي يطرحها هذا الكتاب؟ وماهي خصائصه المنهجية والفنية؟ وماهي الملاحظات التقويمية التي يمكن أن نخرج بها بعد قراءتنا لهذا المتن النقدي؟

-ولد مصطفى ناصف بمحافظة الغربية في جمهورية مصر العربية سنة 1922م، وحصل على دكتوراه الدولة في البلاغة من جامعة عين شمس عام 1952 م. وقد اهتم بالنقد النظري والتطبيقي منذ أمد طويل. واهتم كثيرا بالتراث العربي القديم ومناهجه البلاغية والنقدية مقارنا إياها بمستجدات الفكر الغربي المعاصر. وكان هدفه من مقارباته النقدية التأصيل والتأسيس لنقد عربي جديد وقراءة واعية للتراث الأدبي دون الانسياق وراء مفاهيم التجريب وما تراكم في الغرب من نظريات نصية وممارسات تطبيقية إجرائية .

وللدكتور مصطفى ناصف كتب عديدة منها: نظرية المعنى في النقد العربي، ودراسة الأدب العربي، والصورة الأدبية، ونظرية التأويل، والنقد العربي نحو نظرية ثانية،واللغة بين البلاغة والأسلوبية،وخصام مع النقاد، وطه حسين والتراث، وصوت الشاعر القديم، والوجه الغائب، واللغة والبلاغة والميلاد الجديد، واللغة والتفسير والتواصل.

استنتــــــاج نهائـــــي:

وعلى الرغم من سلبيات المنهج الأسطوري والنقد الأنتروبولوجي في فهم النص الأدبي وتفسيره وتأويله، فإنه يبقى منهجا ناجعا في مقاربة رموز العمل الإبداعي من خلال تحديد نماذجه التصويرية البدائية وربط حاضر المبدع بماضي الإنسان البشري والتغلغل في أعماق النص العرفانية والباطنية والفلسفية والاجتماعية والوراثة الثقافية قصد رصد الظواهر الجماعية ، ولكن بشروط علمية ضرورية كالابتعاد عن الانطباعية واللجوء إلى التوثيق التاريخي والأركيولوجي واحترام خطوات المنهج الأسطوري تصورا ورؤية وتطبيقا. ولكن يبقى المنهج النقدي التكامل أفضل المناهج في مقاربة النصوص الأدبية؛ لأنها يحيط بالعمل الإبداعي من كل جوانبه الدلالية والفنية والمناصية والمرجعية.

الثلاثاء، 21 يونيو 2011

الأسلوبية والتداولية - نقد حديث


بحث عن الأسلوبية والتداولية ...لقد ارتبطت الأسلوبية ارتباطاً معقّداً بالبنيوية وبالإرث النظري الذي تركه الشكلانيون الروس فضلاً عن ارتباطها باللسانيات في صيغتها السوسيرية (نسبة إلى دي سوسير F.De Saussure ) فشارل بالي أحد اثنين جمعا محاضرات دي سوسير التي نُشرت إثر وفاته، وهو الذي أنشأ الأسلوبية التعبيرية [1] . ولقد تعددت مذاهب الأسلوبية، وكثر مزاولوها وتكاثر مع ذلك منتقدوها، بل والقائلون بجفافها وقرب زوالها .[2] ويصرّ المتمسكون بهذا المنهج أنه صالح للتطبيق على النصوص، وأنّه لا يتعارض مع الثورة المعرفية التي تشهدها علوم اللسان ما دام مسلكاً إجرائياً في مقاربة الخطابات الأدبية خصوصاً.
وقد تعددت العناوين التي تعتبر الأسلوبية مزوّداً منهجياً للمحلّل بقائمة من الأدوات والرؤى التي تسهّل على صاحب القراءة الوقوف على أدبية النص من خلال "دراسة شروطها الشكلية دراسةً فنية". [3]
إن المقاربة الأسلوبية بما هي تطبيقية إجرائية، تلغي الأبعاد التي تخرج عن البعد اللساني المحض للظاهرة الأدبية، وإن أقرّت بوجود نواحِ اجتماعية ونفسية وثقافية واقتصادية تؤثر في "صناعة النص"، فإنها لا تهتم بها في تحليل النص لأنّ مثل ذلك الاهتمام يؤدي بالأسلوبية إلى إبداء حكم قيمة، وهو ما تعزف عنه عزوفاً مبدئياً، وهو ميسمٌ فارق يميّزها عن النقد الأدبي الذي يعطي حكما على الأثر/ النص المنقود.
بهذا المعنى نفهم الاتصال بين الأسلوبية والمنهج النصّاني والانفصال بينهما في الوقت ذاته. فهما متصلان لانكبابهما كليهما على النص إجراء وتطبيقاً ولاشتراكهما في اعتماد الوسائل اللغوية (الأصوات، المفردات، التراكيب، الصور، المجازات، الجُمَل (…في تحليل النص. وهما مختلفان من جهة الرؤية: فالنص في المنهج النصّاني هو مركز يستقطب التحليل، أمّا منزلة النص في الأسلوبية فيُنظر إليه من جهة وقوعه ضمن ثنائية السُّنَّة والعدول (أو النمط والانزياح، أو الاستعمال المعياري والاستعمال الأدبي، أو اللغة العادية والكلام الأدبي...) لذلك قيل إنّ الدراسات النصية تنظر "إلى المنظور الأسلوبي بصورة هامشية. فالأسلوبية تضع قاعدة أو معيارا متحققا بالقوة في اللغة العادية، وتقابلها مع الانحرافات في الأسلوب. ويتعارض هذا التصوّر مع فكرة مركزية النص. إن الشعرية المقارنة تلجأ إلى التحليلات الأسلوبية لكنها تضعها ضمن نظام، حتى أنّ مصطلح النقد النصي ذاته لا يُستخدم إلا بشيء من التحفّظ" [4] ولعل هذه المفارقة التي تسم الممارسة الأسلوبية هي التي بوّأتها منزلة العلم المساعد الذي يقف في مفترق الطرق. فالشكلانيون الروس من جهة وشارل بالّي من جهة أخرى، قد حدّدوا - فيما يذكر مولينييه- وقوع الأسلوبية في مفترق الأدب واللسانيات، أي في تقاطع مجموعة محدّدة (النصوص الأدبية) مع جهاز من التصوّرات والمناهج المتدبرة بطريقة خصوصية (اللسانيات البنيوية). ومنذ ذلك الحين، لم توجد أسلوبية إلا وهي بنيوية" [5].
فالأسلوبية تحلل النصوص الأدبية خاصة: تصف أدبيتها وتبيّن الخواصّ الفنية الموجودة في الجماليات الكلامية"[6] لذلك فهي تقف عند حدود التشخيص والوصف الفني ولا تتجاوز ذلك إلى الحكم على الأثر (كما هو الحال في النقد الأدبي) ولا تقف على أغراض القائل المقامية ولا تتبيّن الاستراتيجية الخطابية للنصّ بما هو قول (كما تفعل ذلك التداولية/ البراغماتية). وليس تعيين حدود الأسلوبية هذه قولا يُنقص من قيمتها أو يدعو إلى هجرها، ولكن من المفيد - فيما نزعم- فهم سيرورة المناهج وأنماط التعالق الناتجة عن احتكاكها وتعايُشها. كما أنّ دعوى التفاضل بين المناهج هي دعوى مردودة لقيامها على مقارنة غير علمية. ثم انّه من الطريف أن نتذكّر أنّ للثورة المعرفية التي حصلت في اللسانيات منذ بداية القرن العشرين لم تُلغِ الأنحاء التقليدية ولكنها غيّرت النظر إليها وراجعت سلطة تلك الأنحاء على الألسنة، ببيان حدودها وتبيّن وجود منوالات كثيرة ممكنة لوصف الألسنة الطبيعية، وهو أمر ولّد وضع الأنحاء التقليدية بوصفها إحداثيات على شبكة تحليل كبرى وُضعت عليها كذلك الأنحاء الصورية واللغات (بما هي أنظمة من العلاقات اللسانية) وغير ذلك من الأنساق ذات القدرة التفسيرية الشاملة للظاهرة اللغوية (ولعلّ من المقترحات البارزة في هذا السياق مفهوم "النحو الكلّيّ"grammaire universelle) ) كما صاغه نعّوم تشومسكي. غير أن مولينييه يقيم علاقة تواصل متين بين الأسلوبية والبراغماتية تجعل الأولى موجّهة - فيما بدا لنا- للثانية، وليس العكس كما هو منتظر.

ينطلق صاحب كتاب "الأسلوبية" من أن البراغماتية تدرس نظرية الأعمال اللغوية كما ظهرت مع أوستين وسورل، فهي تنظر إلى الأقوال بما هي مسرح تظهر عليه ثلاثة مستويات من العمل اللغوي:
- العمل اللغوي.
- العمل المتضمن في اللغة (أو اللاقولي).
- عمل أثر القول.
ويعود مولينييه إلى بروندونير "الذي يرى أن كل فعل كلامي هو تحقيقي لذاته ولمجرد كونه إنتاجا كلاما، في حين أن القيمة التأثيرية تختص بتحقيق موقف ملموس تحقيقا فعليا بواسطة التكلم وحده"[7].
ويرى الباحث الفرنسي أن قيمة العمل الفني هي شيء إضافي، فهي "لا توجد في أي مكون من مكوناته "وهي - مع ذلك- " تنتمي إلى طبيعة لغوية- وهذا هو واقعها المادي- وتنتمي في الوقت نفسه إلى طبيعة الحدث غير اللغوي بقدر ما يصبح الفعل اللغوي نفسه حدثا في العالم، تماما مثل اللوحة الفنية، أو السيمفونية، أو المنحوتة في عالم الأشكال الجمالية، ومثل الطاولة أو المحرك في العالم الاجتماعي- الاقتصادي. هذه القيمة علامة الرهان البراغماتي للفن الكلامي، وهي هدفه ونتيجة له" [8].
ويفسر مولينيه تصوره للقيمة البراغماتية/ التداولية للعمل اللغوي ذي الطبيعة الأدبية، فهذه القيمة البراغماتية" تقوم بعملية إبدال وتحويل وتصعيد بحيث تجعل من العمل الكتابي شيئا فنيا. وتضع هذه القيمة النشاط الكتابي على أساس كونه ممارسة للمرجعية الذاتية في العمل اللغوي. إن الفعل الكلامي الذي يتسم بكونه أدبيا هو "تأثيري" أولا يكون شيئا. فالأدبية هي انجازية performativité مطلقة للغة إذ تتحول إلى وظيفة شعرية، أي إن الفعل الخلاق لشيء لغوي يكون هو نفسه مرجع هذا الشيء" [9].
يبدو لنا هذا التوجيه الذي عمد إليه مولينييه لكل من التداولية والأسلوبية محكوما بمحاولة إخراج الأسلوبية من المضيق الذي آلت إليه ولا سيما "أسلوبية الأثر" كما يقول هو [10]. ثم إن إمكانية تلاقي هذين المنهجين على صعيد واحد، لا يمكن أن تتم إلا إذا صادق التداوليون والأسلوبيون معا على تصور موحد في نظرية المعنى: فإذا اقتصر التداوليون على المعنى المقامي واعتبروه عمدة التفسير، وانكب الأسلوبيون على المعنى اللغوي (الحرفي المجازي على حدّ تعبيره) فقط فإن هذا الافتراق الجوهري في تصور المعنى لا يسمح بتلاقي المنهجيْن إلا إذا عدّلَ كل منهما من منظوره إلى هذه المسألة المركزية. وثمة مَشابِهُ كثيرةٌ للخلط بين منهج الأسلوبية ومنهج التداولية (مع تسليمنا بوجود أسلوبيات شتى وتداوليات مختلفة) لعل من بينها علاقة المنهجين كليهما بالبلاغة. فضلا عن الرأي القائل بوراثة الأسلوبية للبلاغة. فقد شاع أن "الأسلوبية مرتبطة تاريخيا بالبلاغة/ الخطابة"[11] ثم ما تشهده الوسائل والوجوه البلاغية من استثمار واستغلال في إطار الأسلوبية المطبقة على النص الأدبي. ويقوم التصور الأسلوبي للبلاغة- من منظور مولينييه - على اعتبار البلاغة ثلاث بلاغات: 1- البلاغة الإقناعية وهي "التيار الأكثر ذيوعا، وهو المتصل بفن الإقناع، إذ يعمد باثّ (خطيب) إلى فعل أمر أو تفكير بأمر أو التفكير بأمر لا يوجد مبدئيا ما يدعوهم أو يرغبهم في فعله أو التفكير فيه، نصل هكذا إلى التفريق بين ثلاثة أصناف كبيرة من الفصاحة اعتبارا لما نريد أن نقنع به وهي: - أ - الإقناع بالصحيح أو بالخطأ - ب - الإقناع بالعادل أو بالظالم - ج - الإقناع بالنافع ( المشرف) أو بالضارّ (المخزي) " [12] ولا يخفى أنّ هذا التصور قادم رأسا من الإرث الأرسطي في "الخطابة" و "الشعر". 2- البلاغة الإنشائية "هي -إجمالا- دراسة التعبيرات البيانية" وأعلام هذا الصنف من البلاغة [13] قد أنشأوا نظرية المجازات ذات بنى صغرى وأخرى ذات بنى كبرى وهذه النظرية تشكل التفكيك الأسلوبي لبعض الآثار مهما كانت، إذ علينا أن نلاحظ جيدا ضرورة التفريق في الاستعمال اللغوي الأساسي للغة المجازية بين وجهة نظر الباث الذي يعمل على نقل مدلول ثابت إلى مجموعة من الدوال وبين وجهة نظر المتلقي الذي يتقبل دالا واحدا فيسعى إلى وضعه في تركيب المدلولات الصحيح، أو لا يسعى إلى ذلك". 3- البلاغة النمطية ويقصد بها فنون محاكمة مؤلفات الفكر محاكمة جيدة، وهي فنون لا تحصى، تتوجه للنقاد كما لممارسي اللغة الجميلة، وقد سيطرت بذلك على عالم الكتابة الرسمية منذ عصر لابرويار إلى زمن أناتول فرانس وأندريه جيد". ويشير مولينيه إلى أن هذا الضرب الأخير من البلاغة الذي ظهر على هامش الضربين الأولين وازدهر في فرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتواصل في التعليم المؤسساتي حتى القرن التاسع عشر، قد لفظ أنفاسه الأخيرة وأصبح مسدود الأفق [14].
والملاحظ أنّ الأسلوبية المعاصرة قد استثمرت كلاّ من البلاغة الإقناعية والبلاغة الإنشائية بل أكثر من ذلك، فمباحثهما - عند مولينييه - جزء لا يتجزأ من الأسلوبية. فالبلاغة الإقناعية هي التي تحلل "مجازات ذات بنى كبرى من الدرجة الثانية وهي نماذج منطقية مقالية خاصة بإثراء الاستراتيجيات البرهانية (...) هذا التوجه (...) يتفق مع الأبحاث الحالية في البراغماتية سواء بمحاولة سبر الأساليب البرهانية والفعّالة الراجعة إلى تلفّظ خيالي بالكلام داخل كون أدبي معطى أو بمحاولة قياس المحول الثقافي في المنتجات الأدبية المعتبرة أعمالا لغوية مخصوصة" [15].
فهذا التصوّر النظري للأسلوبية يشير إلى أنّ البلاغة والتداولية تعدّان منجميْن تغرف الأسلوبية منهما ما تعتبره صالحا ليُثريَ مقاربتها للنص. إن رؤية الأسلوبية لهذين العلمين تتسم - فيما يبدو لنا - بالتجزيئية، بمعنى أنها تهمل "فلسفة" كل علم ومقوماته الابستيمولوجية وتعتبره مادة خاماً قابلة للاستغلال في إطار الأسلوبية المعرفية. وليس الأمر على القدر ذاته بالنسبة إلى البلاغة أو بالنسبة إلى التداولية. فالأسلوبية قد "استباحت" أدوات التحليل البلاغي بل وظّفتها بشكل يستأصلها من المحضن النظري التقليدي. أمّا التداولية - بما هي علم/ منهج حديث - فتستفيد منها الأسلوبية من جهة تعديل النظرة إلى العمل الأدبي باعتباره واقعا تحت طائلة نظرية الأعمال اللغوية (العمل القولي والعمل اللاقولي وعمل أثر القول)، مع أن البعد الثالث المتصل بالقيمة غير اللسانية للقول ليست هدفا أدبيا، فالأسلوبية لا تهتم بها، ولكنها تقر لها حسابا. وتترك أمر تحليلها للتداولية. فالأسلوبية والتداولية كلتاهما منهج من مناهج تحليل الخطاب. وهما تتقاطعان من بعض الجهات نحو اهتمامهما بالكيان اللغوي الذي يتجلى فيه القول، غير أن كل واحدة منهما تتميز بخصوصية المقاربة: فإذا كانت الأسلوبية تقف عند حدود جمالية القول، فإن التداولية تنظر في قيمة القول خارج العالم اللساني، أي هي تنظر إلى البعد العملي للقول. فإذا أخذنا بهذا التفريق القائم على التمييز بين المنظورين الأسلوبي والتداولي، أدى بنا ذلك إلى التساؤل عن وجاهة الربط بين التداولية والأسلوبية على أساس علاقة التضمن أو الاندراج، أي أن تندرج التداولية في الأسلوبية- كما يقترح مولينيه- أو أن تندرج الأسلوبية في التداولية كما يمكن أن يقترح ذلك [16] . يبدو منطقيا، أن نعتبر أن أولى المنهجين بالاندراج في الآخر هو أقلّهما شمولا على صعيد النظريات التي يقوم عليها المنهج، أي أن أوسع المنهجين من حيث الطاقة التفسيرية هو الأقدر على أن يندمج المنهج الآخر فيه. فإذا نظرنا إلى أدوات التحليل التداولي ألفيناها أقرب إلى المنطق، والمنطق يتخذ من الأقوال العادية والأقوال المصطنعة مدونة له (يماثل في ذلك ما يأتيه النحاة التقليديون عند التمثيل بأمثلة لا صدى فيها للاستعمال أحيانا). أما الأسلوبية فتتناول - في أغلب اتجاهاتها- تحليل الخطاب الأدبي، ومن ثمة فإن التداولية والأسلوبية تتخذان مدونتين نصيتين متنافرتين عند التطبيق. ولما كانتا تنزعان منزعا "علميا" في المقاربة، فانه يعسر وصمهما -أو إحداهما- بالاتجاه نحو تعميم النتائج المتوصل إليها في مقاربة مدونة معينة على مدونة أخرى لم تؤخذ بعين الاعتبار عند تصميم المنهج ولا عند تطبيقه. إن الذي نقف عليه في هذه المماثلة العامة بين التداولية والأسلوبية أنهما تتوازيان توازيا يشاكل ذاك الذي شهده تاريخ البلاغة بين ضربي البلاغة الكبيريْن:
البلاغة الإقناعية / الخطابية.
البلاغة الإنشائية / الجمالية.
فالتجاور بينهما قد استُعيد في هذا العصر بين التداولية (بما هي وريثة الضرب الأوّل من البلاغة) والأسلوبية (بما هي وريثة الضرب الثاني). ولعل مبحث أصنافيات النصوص(typologie de textes) يُفيد في تدبُّر وجوه التجاور والتقاطع بين ما هو من مشمولات التداولية وما هو من مشمولات الأسلوبية.
وثمة خطر آخر قد ينساق إليه الباحث إذا انجر وراء التعميم "السهل" عندما يقرأ تاريخ البلاغة العربية بوصفه- في نظره- مثيلا لتاريخ البلاغة الغربية. طبعا لا ننفي المشابه الكثيرة بين التاريخين، بيد أن تبين خصوصيات كل بلاغة ولا سيما الخصوصيات الثقافية، تسهم في تصويب الحكم على تاريخها تصويبا سديدا، وإلاّ فإن إرسال الحكم بإطلاق اعتمادا فقط على النتائج التي تم الاطلاع عليها انطلاقا من البحث في تاريخ البلاغة الغربية، قد يؤدي إلى ضرب من سوء الفهم أو التعسف في التأويل، ما من شأنه حجب دقائق الاختلاف بين السيرورات المتباينة التي اتخذتها كل منظومة لغوية، وما وجهها من إطار ابستيمولوجي حاف تراوح بين الجمود والحراك خلال التاريخ بفعل عوامل ذاتية وأخرى خارجية معقدة ومتداخلة.

*الهوامش:
[1] يقول جورج مولينييه عن مدرسة بالّي الأسلوبية:" فأسلوبية بالي ليست إنجازا أدبيا ولا فرديا. (إنه) يستعمل العمل الأدبي كسند وكإطار أو كذريعة تتيح تحليل أفعال اللغة الشعورية، وتكتسي هذه العلاقة الأخيرة أهميتها انطلاقا من هذه النظرية واعتبارا لعموميتها ولتمثيليتها البنيوية بالنظر إلى النسق الشامل للغة ما (مثلا الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين)". تاريخ الأسلوبية: جورج مولينييه، تعريب عز الدين العامري وعبد المنعم الشنتوف، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان- طرابلس ليبيا، صيف- خريف 1996، العددان85- 86، السنة17، ص146. [2] يقول جورج مولينييه:" كان يظن سنتي 1968 و 1974 أن الأسلوبية قد ماتت، إذ إن للعلوم أعمارا (...) وابتداء من سنة 1987 عشنا عودة الأسلوبية" لجورج مولينييه تعريب صابر الحباشة، جريدة الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243- 29 أكتوبر 1999.
[3] المرجع نفسه.
[4] جيزيل فالانسي Gisèle Valency: "النقد النصي"، ضمن كتاب:"مدخل إلى مناهج النقد الأدبي"، ترجمة د. رضوان ظاظا، مراجعة د. المنصف الشنوفي، عالم المعرفة، الكويت، العدد221، مايو/ أيار 1997، ص 216.
[5] جورج مولينييه:" الأسلوبية"، تعريب صابر الحباشة، جريدة الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243، 29 أكتوبر 1999.
[6] جورج مولينييه: «دراسة الأسلوب والبحث، وأدوات الفن الأدبي»، ترجمة د. بسام بركة، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت لبنان- طرابلس ليبيا، شتاء 1998 العدد94، السنة 19، ص 231.
[7] المرجع نفسه، ص232.
[8] المرجع نفسه، ص234.
[9] المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.
[10] المرجع نفسه، الصفحة.235.
[11] جورج مولينييه:" الأسلوبية" مقال في E.U ترجمة صابر الحباشة، الصحافة، الورقات الثقافية، العدد 243، 29 أكتوبر 1999.
[12] المرجع نفسه.
[13] من أعلام هذا الصنف من البلاغة الذين نظروا له دي مارسيه (DuMarsais) وفونتانيي(Fontanier) وبون أوم (Bonhomme) ولوغارن (LeGuern) وفريق مو.
[14] المرجع نفسه.
[15] المرجع نفسه.
[16] هذا مبحث شديد الأهمية- فيما نرى- خصوصا إذا انتبهنا إلى أن المتحدثين عن "التداولية المندمجة" نحو أوزفالد ديكرو، لا يربطون بينها وبين الأسلوبية، بل يعودون إلى الأصل الجامع أي إلى المنظومة اللغوية عموما، وفي ذلك تجاوز لإشكاليات خصوصية المدونة التي تشتغل عليها الأسلوبية: هذا المنهج الذي سماه مولينييه "الدلائلية الأدبية" (sémiotique littéraire).

*قراءة صابر الحباشة : باحث في اللسانيات وناقد أدبي تونسي




الأسلوبية والتداولية : التجاور والتداخل

الاثنين، 6 يونيو 2011


.
.
.|

حبذا ماضي الزمنْ...................ومناجاة الدِّمنْ1
.
.
وهدوءٌ ساحرٌ.......................وعصافير الشجنْ
.
.
ليس فيه هاتفٌ.......................كلما فكرت رنَّ
.
.
وغروب الشمس قلبي........من غروب الشمس جنْ2
.
.
وإذا الليلُ تدلى .....................قرِّب الشعر وغنّ
.
.
وتسلَّ ونجوماً.....................كلما اشتقن ضونْ3
.
.
إن هذي لحياةٌ..........................لا تساوى بثمنْ
.
.
لا كعيش ٍ صاخبٍ...................في بناياتِ الكفنْ4
.
.
أتعبتْ روحي وبعد الـــــــــــــــــــــــروحِ ضرتْ بالبدنْ
.
.
أنا طيرٌ عازفٌ..........................فوق غصنٍ وفننْ
.
.
أنا طيرٌ سابحٌ............................أفمثلي يُسجننْ ؟
.
.
موطني الكون الفسيــحُ......... وهل سوى الكون وطن !
.
.
.

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...