الجمعة، 30 نوفمبر 2012

الصورة الفنية في الشعر العربي

الصورة الفنية في الشعر العربيالطيب عبدالرازق النقر عبدالكريم

توطئه:إنّ الشعر العذب الذي يشنَّف الأسماع، ويُسكر الألباب، ويأخذ بمجامع القلوب، هو الشعر الذي يموج موجاً بالصور الشعرية الحافلة التي تشكل نواة القصيدة، فالشاعر المتصرف في فنون الشعر و الذي يتسم شعره بدقة المعاني، ولطافة التخيل وملاحة الديباجة، هو الشاعر الذي يدمغ شعره المهفهف في دخائل كل نفس، ويوطد دعائم أبياته المطهمة العتاق في مدارج كل حس، والأشعار التي تفتقد لهذه الصور البديعة يتخطفها الموت، ويكتنفها الظلام، ولا يترنم بها الناس في دروب الحياة ومتعرجاتها. لأجل ذلك أضحت الصورة الشعرية هي جوهر الشعر وأساس الحكم عليه، ولقد اهتم النقاد بجانب التصوير منذ قديم الأزل، وقدموا جهودهم في هذا الصدد، وإن اقتصرت جهودهم على حدود الصور البلاغية كالتشبيه والمجاز ولم تتعداها لتشمل الصور الذهنية ،النفسية، الرمزية، والبلاغية، التي تتبلور وتتناغم في وجدان الشاعر. ولعل الحقيقة التي يجب عليّ بسطها هنا أن الصور التي يعدها أصحاب الحس المرهف أغلى من أقبية الديباج المخوص بالذهب ليست قاصرة على الشعر بل نجدها منثورة في حوايا النثر، والتفاتات أذهان كُتابه.معنى الصورة:عادة\"تستعمل كلمة صورة للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي، وتطلق، أحياناً، مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات\". والصورة في مجملها تعتبر وسيلة الشاعر أو الأديب\"في نقل فكرته وعاطفته معاً إلي قرائه أو سامعيه. ويقاس نجاح الصورة في مدى قدرتها على تأدية هذه المهمة، كما إن حكمنا على جمالها أو دقتها يرجع إلي مدى ما استطاعت الصورة أن تحققه من تناسب بين حالة الفنان الداخلية وما يصوّره في الخارج تصويراً دقيقاً خالياً من الجفوة والتعقيد فيه روح الأديب وقلبه\".نشأة الصورة كمفهوم وصلتها بالنقد الأدبي عند العرب:الصورة قبل أن تندرج كمفهوم تلوكه الألسن، وتتعاوره الأذهان في ميادين النقد الأدبي والنظرية النقدية، كانت قد استحوذت على اهتمام فلاسفة الغرب القدامى على شاكلة ((افلاطون)) التي ابتدأت في عهده، واستقام ذكرها مع ((أرسطو)) وأعتبرها ركناً أساسياً في ثنائية الصورة أو المبدأ، والمبدأ أو الماهية و\"هو أمر أفضى إلي ظهور نظرية العلل الأرسطية:الصورية والفاعلة والمادية والغائية.إذ تقف العلة المادية وحدها بإزاء، العلل الأخرى التي تندرج كلها في ضرب من الصور الخالصة، والبحث في هذه القضية، أدى إلي ظهور ((مبدأ الفاعلية))، الذي أصبح، في القرون الوسطى، موضوعاً اشتغلت فيه وعليه، الفلسفة السكولانية الغربية.ثم استأثر الأمر، باهتمام ((كانت)) الذي بحث بعمق، في أمر التمييز بين:جوهر المعرفة ومادتها من جهة، وتجلياتها الصورية من جهة ثانية. وبذا انتقلت مقولة ((الصورة)) من حقل ((الميتافيزيقيا)) وما يتصل بها في الفلسفة القديمة، إلي حقل ((المعرفة)) وفي ضوء هذا التحديث، دخلت الصورة في صلب التفكير المعرفي في العصر الحديث. ووجد هذا ((المفهوم)) صداه في الدراسة الأدبية، سواء ما كان منها بلاغياً أو أسلوبياً، أم كان بنائياً أو دلالياً.وكان النقاد العرب القدماء؛ مثل:الجاحظ وقدامة بن جعفر وعبدالقاهر الجرجاني وابن الأثير والقرطاجي، قد انصرف جزء كبير من اهتمامهم في أمر الصورة\". إذن الصورة سقطت للعرب بمعناها الفلسفي عبر الفلسفة الإغريقية،\"وبالذات الفلسفة الأرسطية. حيث دعم الفصل بين الصورة وهي الشكل والهيولي وهي المادة.فالمنضدة هيولاها الخشب والغراء، وصورتها هي التركيب المخصوص الذي تألف به الخشب والغراء حتى ظهرا على هذا الشكل. ونجد أن طائفة المعتزلة قد استسقت فلسفتها من الفكرة القائمة على الفصل بين اللفظ والمعنى في تفسير القرآن الكريم. وسرعان ما انتقل هذا الفصل بين اللفظ والمعنى إلي ميدان دراسة الشعر، الذي هو رافد من روافد تفسير القرآن. فلم يساووا بين التعبير الشعري والتعبير في غيره من الحديث فحسب، بل ساووا بين فن الشعر نفسه وبين أي صناعة من الصناعات اليدوية، تحت مثال ((المنضدة)) المشهور، الذي ضربه أرسطو مثلاً للفرق بين الصورة والهيولي\".إنّ الشاعر حينما تتدفق شاعريته وتنثال عليه المعاني سهواً ورهواً ويبدأ في نظم القريض إنما يريد أنّ يعبر عن شيء قد استبدّ في ذهنه وربض في دواخله، ولأن الشاعر يتخير تعبيره وينتقي ألفاظه، ويتنزه بها عن التعابير الممجوجة التي يتفوه بها ملايين البشر،يأتي تعبيره مغايراً لتلك التعبيرات التي يجود بها الشخص العادي، تعبير أكبر من أن يتسامى في ابتداعه شخص ناضب القريحة، صلد الذهن، تعبير يبهر العيون، ويسحر الأفئدة،كلام فني انسجمت قطعه وحسُن توزيعه، وألفاظ أتأدت حركاتها، واتزنت كلماتها، جُمل مُرصّفة تضفى على النفس ما يضفيه شدو القيان، وهزج المزامير، جُمل مترعة بالصور الشعرية الخلابة، صور \"تصور الانفعال وتنقل إحساس المعبّر وذبذبات نفسه نقلاً أميناً، وعلى الشاعر أن يُحسن اختيار صوره وعرضها بما يناسب طبائع الناس وأمزجتهم، وأن يجعل هدفه نقل العاطفة والفكرة في صوره لا أن يجعل همه إتقان اشعره وجودة رصفه وإحكامه فليس الفن سوى التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي يعبر بها عن هذه العاطفة\". إذن الشعر في كنهه صور تعبر عن مخاض عاشه الشاعر، فنحن حينما نعثر على صورة من تلك الصور، فإننا حتماً نعثر من خلالها على شرخ أدمى قلب الشاعر، أو لوعة أوهت كبده، أو حسرة سحّت جفونه، أو سعادة ردت له الروح، وجددت في أوصاله الحياة\"وترتبط لغة الشاعر بعمق التجربة التي يعيشها. فقد تأتي صريحة يرسم من خلالها الصورة، وقد تتفاوت في مواقع البلاغة، فتختلف بين الإيجاز والإطناب مما يجلب للقارئ اللذة أحياناً، والسآمة أحياناً أخرى\". على ضوء ما تقدم نستطيع أن نجزم بيقين لا يخالجه شك أو تخامره ريبة أن الصورة الشعرية هي\"جوهر الشعر وأداته القادرة على الخلق والابتكار، والتحوير والتعديل لأجزاء الواقع، بل اللغة القادرة على استكناه جوهر التجربة الشعرية وتشكيل موقف الشاعر من الواقع، وفق إدراكه الجمالي الخاص\". ولعل مما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الصورة الشعرية ليست شيئاً طارئاً، بل وجدت منذ أن وجد الشعر على ظهر البسيطة ولكنها تختلف وتتفاوت بين شاعر وآخر، كما أن ملامح الصورة تتنوع بتنوع اللغات والمجتمعات. وراضة الشعر أصحاب الملكات الشعرية هم الذين لم يتركوا شيئاً إلا وسددوا إليه سهامهم وأضفوا عليه قبساً من حمم قريحتهم الملتهبة، وخلعوا عليه من أحاسيسهم المرهفة وخيالهم الخصب وميضاً يبدد عتمة الحياة، وميض يمسح الكرى عن الجفون، والقذى عن العيون، ويُبصّر أصحاب الخاطر المكدود الذين يكابدون غصص الحرمان، بمواطن الحسن، ومنازل الجمال، على قلتها وضآلتها حتى يتقلبوا في أعطافها، وينالوا من ألطافها، تلك المواطن التي يمر عليها أصحاب الجفن القريح، والجرح الدامي دون أن ينبسوا ببنت شفة في الإفصاح عنها،\"فكثير من الأشياء المألوفة تناولها الشعراء فصوروها بأقلامهم تصويراً يجعلنا نحس بجدة هذه الأشياء كلما قرأنا صورهم، وكأن هذه الأشياء المألوفة نعرفها لأول مرة، الأمر الذي قاد النقاد للقول بأن أكثر الصور إمتاعاً هي التي تكون الصورة الشعرية فيها حاضرة في أذهان معظم الناس. و رغم أن المعاني عامة لدى جميع الناس ومنهم الشعراء، ولكن العبرة في مدى قدرة الشاعر على صوغ هذه المعاني في ألفاظ وقدرته على تصويرها\". كما إن \"بناء الصورة الفنية لا يتم فقط بإدراك المشابهة القائمة بين بعض الأشياء كما يحدث للإنسان العادي، بل لا بد من عبقرية الشاعر التي تتعمق في إدراك هذه العلاقة، فلا يكتفي بالنظرة المجملة، بل يلحُّ على النظرة المفصلة التي تتجاوز المألوف، سعياً وراء النادر والغريب، فالصورة المجملة العجلى هي نظرة الإنسان العادي التي غالباً ما تتسم بالبلادة والإهمال، في حين أن النظرة المفصلة هي نظرة الإنسان التي تتسم بالذكاء المستيقظ للأفكار والصور. ولذلك نجد الشاعر، بخلاف الإنسان العادي، يدقق ويتأمل، ويقدم التشبيهات والاستعارات والتمثيلات الدقيقة، ويوقع الائتلاف بين المختلفات\".فالألم الذي يصلي الضلوع، ويضرم الأنفاس، شائع الآن، ومنغصات العيش، وغصص العمر، ومكدرات الحياة، طعنت بسيفها المصقول حتى من لم يصدع بكلمة بعد، أو يتفوه بحرف، ولكن البوح عن الداء والشقاء أمر لا يتسنى إلا للشعراء الذين يجلوا أبكار المعاني، ويروضوا القوافي الصعبة. و\"يكمن الفن الحقيقي للشاعر في صنعته الشعرية في شقيها المعنوي واللفظي، والشاعر المحنك هو الذي يترك للألفاظ عنان الزخرف والتنميق فتطغى على بقية عناصر صنعته الفنية، ولكن حاجته إلي هذه الزركشة تعد أمراً ضرورياً إذا ما نجح في استخدامها عنصراً مساعداً، يساعده على خلق الصورة الشعرية، أو يزيد من تأثيرها في المتلقي\". وللصور الشعرية أشكال متباينة، ونماذج متعددة،وهي تختلف من فترة إلي أخرى فلقد تطورت عبر القرون والحقب،\"وفق التطور العام لنظرية الفن السائدة، ويظهر هذا التطور في علاقة طرفي الصورة، فقد تكون علاقة تهتم بالشكل الخارجي والعلاقات المنطقية بين الأشياء كما يقول الشاعر:أنظر إليه كزورق من فضة قد أثقله حمولة من عنبرفالعلاقة تهتم بالشكل الخارجي للقمر وتأتي بصورة شعرية تشابهه في المظهر. وقد تهتم الصورة الشعرية بعلاقة الانصهار بين طرفيها، ةتنحت من الطرفين صورة واحدة يتجلى ذلك في علاقة التشخيص مثلاً كما يقول الشابي عن الشعر:أنت يا شعر فلذة من فؤادي تتغنى وقطعة من وجوديوالصورة الشعرية الناجحة يتبادل طرفاها التأثير والتأثر حتى يخلق معنى جديداً ليس معنى كل طرف على حدة\".الصورة الشعرية عند النقاد العرب القدامى:نحن إذا بحثنا عن هذا المصطلح في أمهات الكتب القديمة الجامعة لشتيت الفؤائد، وأمعنّا في البحث بكل ما تدخره قوانا هذا من جهد لذهب مجهودنا أدراج الرياح، وخرجنا صُفر اليدين نجرجر أذيال الخيبة، فمصطلح الصورة بهذه الصياغة الحديثة، لا وجود له في\"الموروث البلاغي والنقدي عند العرب، ولكن المشاكل والقضايا التي يثيرها المصطلح الحديث ويطرحها موجودة في الموروث، وإن اختلفت طريقة العرض والتناول، أو تميزت جوانب التركيز ودرجات الاهتمام\". ولعل أبرز النصوص التراثية التي يقترب مفهومها من مفهوم الصورة في عصرنا الحديث، هو النص الذي أدلى به أمير البيان، وعميد كُتاب الضاد على مر العصور، الجاحظ أمضى الكُتّاب سليقة، وأعذبهم لفظاً، وأغزرهم مادة، فلقد قال:\"إنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير\". فلقد قرن الجاحظ القصيدة في هذا النص بالصورة وهو تشبيه شائع في عصور مختلفة، منذ هوارس، حتى قيل:الرسم شعر صامت والشعر صورة ناطقة. ويبدو أن الجاحظ يقصد بالتصوير صياغة الألفاظ صياغة حاذقة تهدف إلي تقديم المعنى تقديماً حسياً وتشكيله على نحو صوري أو تصويري، ويعد تصوير الجاحظ خطوة نحو التحديد الدلالي لمصطلح الصورة لا سيّما أن الجاحظ لم يقرن مصطلحه بنصوص عملية تضئ دلالته فضلاً عن تعلق مفهومه بالثنائية الحادة التي شغلت نقادنا القدامى القائمة على المفاضلة بين اللفظ والمعنى طبقاً للمفهوم الصياغي، أو الصناعي، للشعر\". و سعى الناقد أبي هلال العسكري الخبير في محاسن الكلام ومساوئه أن يحدد معالم الصورة ومكانتها في الصياغة الإبداعية بين اللفظ والمعنى، أو الصورة والمادة، ومن ثم الوصول إلي رؤية ثابتة في مقياس التمييز بين أساليب الصياغة الجمالية فرأى قدامة:\"إن المعاني كلها معروضة للشاعر، وله أن يتكلم فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة فيها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة\".\"فالصورة، إذاً، طبقاً لتحديده، الوسيلة أو السبيل لتشكيل المادة وصوغها شأنها في ذلك شأن غيرها من الصناعات، وهي أيضاً نقل حرفي للمادة الموضوعة:المعنى، يحسنها ويزينها ويظهرها حلية تؤكد براعة الصائغ من دون أن يسهم في تغيير هذه المادة أو تجاوز صلاتها أو علائقها الوضعية المألوفة. وقيل إن هذا الفصل بين المادة والصورة ناشئ من تأثير الفلسفة اليونانية. وما حدده قدامة من مفهوم للصورة لا يخرج عن الإطار الذي وضعه الجاحظ بل يعتبر امتداداً له ولم يضف إليه ما يقربه من حدود المصطلح\".إنّ النقاد العرب في حقيقة الأمر لم يكن جهدهم منصرفاً لوضع المصطلحات الأدبية، ولكن السعي لتأطير ذلك الفن الراقي بتقويم خطل الشعراء، وتبصيرهم بمواطن الزلل والهفوات في اشعارهم، ولكن النقاد القدامى الذين لا يصوبون سهام التجريح إلا لمن حاد عن المنهج الذي وضعوه، وافياً في موضوعه، مقنعاً في أدلته في ذلك العهد، نجد أننا الآن رغم إكبارنا إياهم، وهيامنا بمؤلفاتهم التي ما هانت أو ذلت يوماً علياً، رغم كل هذا الحب والتبجيل، نضعهم مكرهين خلف أقفاص الاتهام، ونوجه لهم التهم الفواجر تهمة تلو أخرى، رغم أن جلنا يود أن يعيش في سجية الماضي، أول هذه التهم هي تعطيلهم لخاصية الخيال الذي يسمو به العمل الفني ويحلق به في مدارات يستعصى العقاب الطرير في الوصول إليها،لقد كان أسلافنا قدامى النقاد لا يحفلون بالخيال ويسيئون الظن به،\"إذ كانوا يعدونه صنعة من الصناعات ينبغي أن تخضع لقوانين العرض والطرب كأي سلعة أخرى، فراحوا يقيدونه بقوانين صارمة تضمن للشاعر عدم كساد سلعته، قال صاحب ((البرهان في علوم القرآن)) قدامة بن جعفر:((وينبغي لمن كان قوله الشعر تكسباً لا تأدباً أن يحمل إلي كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل مقصود بالشعر على مقدار فهمه، فإنه ربما قيل الشعر الجيد فيمن لا يفهمه فلا يحسن موقعه منه، وربما قيل الشعر الداعر لهذه الطبقة فثرت فائدة قائله لفهمهم اياه)). ومن الواضح مجافاة الفهم لروح الفن في الشعر، والنظر إليه من معيار أنه مصدر كسب لجلب المال.كما أنهم جعلوا أساس التفاضل بين الشعراء في\"شرف المعنى وصحته وجزالة الألفاظ واستقامته، وسلموا قصب السبق لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، وبده فأغزر ولمن كثرت سوائر أمثاله، وشوارد أبياته ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة\". وهكذا كان اهتمام نقاد العرب القدماء موجهاً إلي صحة المعنى وقوة اللفظ ووضوح التشبيه وتحدده، وإلي الشعر الذي يحوي حكماً، أما الاستعارة والخيال فندر أن وجهوا عنايتهم لها، وقد قال ابن رشيق القيرواني:\"والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل فتترك لفظة للفظة، أو معنى للمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى،وإبرازه وإتقان بنية الشعر وإحكام القوافي، وتلاحم الكلام بعضه ببعض\". وحتى في الحالات التي يستخدم فيها الشاعر الاستعارة، اشترطوا القرب والمداناة والشبه بين المستعار والمستعار له.كما اهتم نقاد العرب بوضوح التشبيه اهتماماً كبيراً، كما اهتموا بوضوح المعنى ولزوم بعده عن الغموض والإبهام\".الصورة الشعرية في النقد الحديث:بون شاسع وفراسخ وأميال بين الصورة الشعرية في القرون المندثرة وبين الصورة في عصرنا الحديث، فالصورة في عصرنا الحالي تتجاهل كل مباحث البلاغة العربية ومقاييسها ويعتمد في تقييمه للعمل الأدبي على مقاييس وموازين جديدة تقوم على أسس نفسية غالباً، ومصطلح الصورة الشعرية معناه:جميع الطرق الممكنة لصناعة نوع التعبير الذي يُرى عليه الشيء مشابهاً أو متفقاً مع آخر، ويمكن أن يتركز ذلك في ثلاثة أصناف هي التشبيه والمجاز والرمز، ويهتم النقد الحديث بالخيال اهتماماً كبيراً بل يجعله الأساس لكل صورة أدبية، ويترك للشاعر الحرية في الانطلاق كيف يشاء دون تقييد أو حصر، كما يهتم النقد الحديث بالعمل الأدبي الذي يتكون من صور جزئية متماسكة متكاملة، ويعتمد في تقييم هذه الصور على مقاييس نفسية ووجدانية. ويكثر الشاعر الحديث من تتابع الصور، كثرة تفوق ما هو مشاهد في الشعر القديم، وجميع هذه الصور تشرئب لنيل غاية بعينها وهي التأثير في نفس المتلقي وتمكين المعنى الذي يرومه الشاعر في نفسه، وأن يترك في نفسه انطباعاً جميلاً لا يمحوه تعاقب السنون، فالصورة في الشعر الحديث هي مناجاة للنفس، ومحاورة للضمير، وتأثير في الحواس، ويجب أن يحرص كل شاعر أن تصاحب قصيدته متعة تحبب إليها الأسماع ولا تكون مجرد كلمات جوفاء، ولا تعتبر القصيدة ناجحة إلا إذا كانت مترعة بالشحن العاطفية في جزئية من جزئياتها، فالعاطفة هي التي تهب للحدس تماسكه ووحدته، ولا يعتبر الحدس حدساً إلا لأنه يمثل عاطفة ملتهبة، كما أن نقاد العصر الحديث اجتمعت كلمتهم على أن جمال الصور ليس دقتها أو مطابقتها للواقع، ولكن بمقدار الانفعال الطاغي الذي يربض هائجاً في داخلها، وإذا كانت الصورة لا قيمة لها بدون عاطفة فالعاطفة لا معنى لها بدون صورة، فالعاطفة بدون صورة ضريرة عمياء، والصورة بدون عاطفة خالية جوفاء، كما ينبغي أن تكون العاطفة صادقة وليست زائفة وأن يكون دافع هذه العاطفة صحيحاً وليس أمراً مصطنعاً، كما يشترط في العاطفة ثباتها وعدم تقلصها.ولأن العاطفة تعتبر أهم ما في الصور الأدبية يجب على الشاعر أن يشرح خواصها وينقل تأثيرها وروعتها بلفظ يأسر القلوب، ويفتن الوجدان، لأن اللفظ هو البنية الأساسية لأي عمل أدبي، وبمقدار ما ينجح الشاعر في تخير اللفظ المناسب الملائم للمعنى بقدر ما يقدم فناً أدبياً يسمو به فوق ذرى المجد. والظاهرة الأخرى التي يشترط النقد الحديث توافرها في الصورة هي الايحاء، فالصور الايحائية أبعد تأثيراً في النفس وأكثر علوقاً في القلب من الصور التقريرية الوصفية، وهي أبعث بالتالي على المتعة والإحساس بالجمال، كما يشترط النقد الحديث ويلح في الإشتراط على توفر الوحدة المهيمنة على جميع الصور التي تبدت في القصيدة، فصور الشاعر ينبغي أن تتم في نطاق وحدة معينة لا تكون متنافرة لا رابط بينها\".خاتمة:إنّ الصورة الشعرية ليست مجرد زخارف أو ألوان زاهية ترصدها العيون، وتتطلع إليها الأفئدة، أو مجرد صور تلقائية من صور التعبير تضج به حركة القصيد، ولكنها العمود الرابط الذي يجمع بين جزئيات مادة الشعر، وينبغي لهذا الرابط أن يتسم بالرقة والجمال والصدق لأنه لب العمل الفني الذي يظل حاضراً في معظم أذهان الناس إذا توافرت فيه عوامل النجاح وإذا كان صاحبه ينشد من وراءه أن يحظى بشيء من التقدير والإعجاب. ولقد توصلنا من خلال هذا البحيث أن الصور الشعرية ليست قاصرة على الشعر وحده بل هي مبعثرة في حوايا النثر وإن ارتبطت أكثر بالشعر ولازمته ملازمة الفصيل لأمه. وأيضاً توصلنا أن الصور الشعرية لم تعد تقتصر على ضروب البلاغة ومجافاة الخيال ووأده وحبس أنفاسه كما كان موجوداً في السابق، ولكنها انطلقت لفضاء أرحب، وحرية لا تحدها حدود، أضاعت هذه الحرية في وجهة نظري القاصرة الهالة التي كانت تصاحب الشعر وتجعل من أحرفه ترانيم مقدسة، وجعلت أصحاب الغثاثة والهزال ينظمون سخافاتهم على معاني سقيمة، وقوالب مبتذلة.الطيب عبدالرازق النقر عبدالكريمولاية النيل الأزرق-الدمازين

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...