الخميس، 13 ديسمبر 2012

رياضة "الطبلة" في الشعر الأندلسي

رياضة "الطبلة" في الشعر الأندلسيفي عصر بني الأحمر
الدكتور صلاح جرّار/ الجامعة الأردنية
مقدمـة:
دعاني إلى إعداد هذه الدراسة داعيان: أولهما: الكشف عن رياضة أندلسية شاعت في غرناطة في عصر بني الأحمر (635هـ- 897هـ/ 1238م - 1492م) لم يرد لها وصفٌ إلا في عددٍ من قصائد الشعراء الأندلسيين، ولم يصفها أيٌّ من المؤرخين القدماء، ولم يدرُسْها أيٌّ من الدارسين المحدثين.
وثانيهما: أن الدارسين الذين درسوا الشعر في زمن بني الأحمر، أو درسوا شعر أي من الشعراء الذين وصفوا هذه الرياضة، تجنبوا التعرّض للأبيات التي تصف تلك الرياضة، لأن أحداً من هؤلاء الدارسين لا يستطيع أن يعرف صفات تلك الرياضة من خلال قصيدة بمفردها، إذ لا بد من جمع مختلف القصائد التي وصفت الرياضة وإخضاعها للمقارنة من أجل استجلاء صورة هذه الرياضة، وهو ما تهدف إليه هذه الدراسة. وأما من استوقفته هذه الرياضة من الباحثين فقد وقف حائراً بين يديها، كما فعل إميليو غارسيا غومس في كتابه "مع شعراء الأندلس والمتنبي"() حين قال: "إن هذه اللعبة غامضة"؛ وكما فعل محقق "أزهار الرياض" في تعريفه "الطبلة" بأنها بعض آلات الحرب()، معتمداً في ذلك على معجم دوزي.
وقد عثرتُ على ثماني مقطوعات شعرية متفرّقة في وصف هذه الرياضة، وردت كل مقطوعة منها ضمن قصيدة مطوّلة في وصف الاحتفالات التي كان يقيمها ملوك بني الأحمر في المناسبات الوطنية والاجتماعية والدينية المختلفة في غرناطة، وهذه القصائد لخمسة من شعراء غرناطة في عصر بني الأحمر. وقد جعلتُ هذه المقطوعات الثماني في ملحق في آخر هذه الدراسة، وجعلتُ لكل مقطوعة رقماً، وأشرتُ في أثناء الدراسة إلى كل مقطوعة برقمها.
وقد اختلفت المصادر الأدبية في اسم هذه الرياضة فبعضهم أطلق عليها اسم "الطّلْبة" وبعضهم سماها "الطَّبْلة" بتقديم الباء على اللام، وقد آثرتُ إرجاء البحث في اسمها إلى حين الانتهاء من التعرف على ملامحها وأصولها ومبادئها كما وردت في المقطوعات المذكورة، لأن معرفة مبادئ هذه الرياضة تساعد على معرفة سبب تسميتها. وتتناول هذه الدراسة، فضلاً عن ذلك صلة هذه الرياضة بغيرها من أنواع الرياضة السابقة واللاحقة.
مبادئ اللعب:
العناصر الأساسية في هذه الرياضة هي: الهدف، والرامي، وما يُقْذَف به الهدف. ويستطيع الباحث من خلال تأمل المقطوعات الشعرية التي تصف هذه الرياضة ومقارنتها بعضها ببعض، أن يستخلص صورة للهدف وطريقة نصبه في الهواء، وصفات العصيّ أو السهام التي كان يُقْذَفُ بها، وهيئة اللاعب الذي كان يقذف الهدف بالعصيّ، وشروط الفوز والخسارة، إلى غير ذلك مما يتصل بمبادئ اللعب وأصوله.
الهـدف:
يشكل الهدف أساس هذه الرياضة، وتتجه أكثر الأبيات التي تصف هذه الرياضة إلى وصف الهدف، فمثلما كان هذا الهدف محط أنظار الرماة والمتفرجين ومحط رحال العصيّ التي تُقْذَفُ نحوه، فكذلك نال النصيب الأوفر من اهتمام الشعراء الذين وصفوا هذه اللعبة؛ فأشاروا إلى المادة التي صُنع منها الهدف، وطريقة إعداده، ثم الصورة التي يصبح عليها بعد إطلاقه في الفضاء.
وتتفق القصائد التي تصف هذا الهدف، على أنه هدفٌ خشبيّ يُجعل في مكان مرتفع جداً من الفضاء، وهذا ما نصّ عليه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة ونقله عنه المقري في نفح الطيب، حيث يقول ابن الخطيب في التقديم لإحدى قصائده: "وقولي في امتداح سلطاني لما احتفل لإعذار ولده، واستركب الفرسان لمزاملة الهدف الخشبي المتخذ في الجو المسمى بالطبلة ..." ().
ويشير ابن الخطيب إلى أنها مصنوعة من الخشب حيث يقول():
وطاعنةٍ نحْـرَ السُّكاكِ أعانهـا     على الكونِ عِرْقٌ واشجٌ ولحًى سبْطُ
(والسُّكاك: الجوّ، والعرق الواشج: المتداخلُ المتشابك الملتفّ، والسَّبْط: نقيض الجعد)().
فالهدف، على ذلك، مأخوذٌ من الشجر من ساقٍ قوية ملتفّة ذات لحاء أملس، ليساعدها ذلك على الانطلاق في الفضاء عند إرسالها فيه.
ويشير ابن زمرك الصريحيّ إلى هذا الأصل الخشبيّ للهدف، حيث يقول():

وقد أُرْضعَتْ ثَدْيَ الغمائم قبلها
فلمّا أُبينَتْ عن قرارة أصلها
بحجر رياض كنَّ فيه نواشيا
أرادت إلى مرقى الغمام تعاليا

ويقول في قصيدة أخرى مشيراً إلى صلة الرحم بين الهدف والسهام التي تطلق عليه():

تراوغها طوْراً وطوْراً تضيفها
وبالأمس كانت بعض أغصان دوحها
فحنَّت إلى أوطانها وتسابقت
فسامٍ لأعلى مرتقاها ونازلُ
فنقّلها عنها على الرغم ناقِلُ
تعاود مسراها بها وتواصِلُ

ويقول ابن زمرك في المعنى ذاته في مخمسةٍ له():

وقد قذفَتْها للعصيّ حواصِبُ
تزاوَرَ منها في الفضـاء حبائـبُ قد انتشرَتْ في الجوّ منها ذوائبُ
فبينهمـا مـن قَبْـل ذاكَ مَناسِـبُ   
لأنّهمـا في الـروض قبـلُ تولَّـدا   
بناتٌ لأُمٍ قد حيين بروحها
فأقلامهـا تهـوي لخـطٍ بلَوْحهـا دعاها الهوى من بعد كتْم لبَوْحِها
فبالأمس كانت بعْضَ أغصانِ دوْحِها   
فعادت إليها اليوم مـن بَعْدُ عُوَّدا
وهذه الصلة بين الهدف الخشبي وبين السهام التي تطلق عليه، كما بينها الشعراء تؤكد أن الهدف كان يؤخذ من ساق الشجرة بينما كانت السهام تؤخذ من الفروع الصغيرة، فالعلاقة بين الهدف والسهام علاقة الأصل بالفرع وعلاقة الأم بأبنائها، فلذلك صوّر الشعراء إقبال السهام على الهدف بأنه كإقبال الأبناء على أمهم، ولذلك يصف ابن فركون هذه العلاقة بقوله():

تحنُّ إليها الذابلات فترتمي
فروعاً يرينا الأصل كيف اجتذابُها

وبعد أن يُسْتأصَلُ الهدفُ من سيقان الشجر محكمة الالتفاف والتماسك ملساء اللحاء، كانت تجعل على شكل أسطوانة ذات طول مناسب، فيُدَبَّبُ رأسُها ليساعدها على الانطلاق عالياً في الفضاء، وكانت تجوَّفُ بحيث تبقى كالأسطوانة الفارغة أو كالطبلة، وكانت الغاية من تجويفها أولاً لتخفَّ حركتها في الفضاء فتنطلق سريعاً، وثانياً لكي تحطّ السهامُ في جوفها عندما تصيبها. ولعلّ وصف لسان الدين بن الخطيب لهذا الهدف بقوله "وطاعنةٍ نحر السُّكاك"() يشير إلى كونها مدببة الرأس، أما تجويفها فتدلُّ عليه أبياتٌ كثيرة منها قول لسان الدين بن الخطيب():

تلقَّفُ حيّات العصيّ إذا هوت
فثعبانُها لا يستتمُّ له سرْطُ

ولا يستطيع هذا الهدف أن يتلقف العصيّ الصغيرة لولا أنه مجوّف ومفتوحٌ من بعض جوانبه، ولعلنا نستطيع من هذا البيت ومن خلال العلاقة النسبية بين الثعبان والحيات الصغيرة التي يبتلعها أو يسرطها أن نتصور العلاقة النسبية في حجم الهدف الخشبي والعصيّ (السهام) التي تطلق عليه، وأطوالها.
ويستطيع الدارس أن يتصور حجم ذلك الهدف قياساً على ما يستطيع تجويفه من استيعاب للعصي التي تطلق عليه، ويظهر مدى استيعاب الهدف للعصي من خلال البيت السابق:

تلقَّفُ حيّات العصيّ إذا هوت
فثعبانُها لا يستتمُّ له سَرْطُ

ومعنى ذلك أنه مهما دخل إلى جوف ذلك الهدف من العصي فإنه لا يكاد يمتلئ(*) ويقول ابن زمرك():

فخفَّتْ إليها الذابلاتُ كأنها
حكت شبهاً للنحل والنحلُ حوله
طيورٌ إلى وكْرٍ أطلْنَ تهاويا
عصيٌّ إلى مثواه تهوي عواليا

فهو يشبّه الهدف تارة بوكر الطيور الذي تُتابعُ الطيورُ الدخولَ فيه، وتارة بخليّة النحل، والعصيّ حوله كالنحل حوله خليّته.
ويقول ابن زمرك من مقطوعة أخرى مصوراً دخول العصيّ في الهدف():

وتنتابها هيفُ العصيّ كأنها
تراوغها طوراً وطوراً تضيفُها
سهامٌ وعاها للرميّة نابلُ
فسامٍ لأعلى مرتقاها ونازِلُ

ويقول ابن فركون يصف الهدف وهو يتلقف العصيّ():

كأن طيوراً في ذرى الجو حوَّمَتْ
تقيم إذا لاقى الأمانَ ارتياعها
وثابَتْ لأوكارٍ بهن وثابها
ورتبما عنها ثناها ارتيابُها

أما فتحات ذلك التجويف فيخيل لي أنها كانت جانبية، وهذا ينسج مع تشبيه الهدف بوكر الطيور وخلّية النحل والثعبان، ويساعد هذا أيضاً على بقاء العصيّ أو السهام داخل الهدف في حالة إصابته، فأما إن كانت الفتحة في طرف الأسطوانة الخشبية لما تمكن الرماة من إطلاق سهامهم عليه، ولما استقرت داخل الهدف بل ترجع إلى الأرض بفعل الجاذبية. ويستفاد من تصوير الشعراء للهدف أن هذه الفتحات صغيرة كالثقوب.
ويفهم من المقطوعات التي بين أيدينا أنّ الهدفَ كان يُدبّبُ من رأسه وتثقب حول الرأس المدبّب ثقوبٌ تجعله أشبه بالبرج الصاعد إلى السماء، ويصفُ ابن زمرك هذا الرأس المدبّب بقوله():

وحصنٍ منيعٍ في ذراه قد ارتقى
كأنّ بروج الأفق غارت وقد رأت
فَأنشأتَ بُرْجاً صاعداً متنزلاً
فأبعد في الجوّ الفضاءِ المراقيا
بروج قصور شِدْتهنّ سواميا
يكون رسولاً بينهنّ مُداريا

ويقول من مقطوعة أخرى():

وبرج منيف في ذراها قد ارتقى
لتُرْفَعَ منه للبروج الرسائلُ

ويقول من مقطوعة ثالثة():

ويا رُبَّ حصنٍ في ذراها قد اعتلى
بروج قصـور  شِدْتَهـا متطـوّلا أنارَتْ بُروجَ الأفْق في مظهر العُلا
فأنشـأتَ برجـاً صاعـداً  متـنزلا   
يكـون رسـولاً بينهـا متـردّدا
ولعلّ جعل الهدف على صورة البرج كان المقصود منه أن ينسجم وبعض الأهداف المتوخاة من هذه الرياضة، وهي التدريبات العسكرية، لأنّ إصابة هذا الهدف وهو على شكل البرج يسهل على الفرسان إصابة أبراج الأعداء في أثناء الغزوات والمعارك().
ويظهر أن الثقوب التي كانت تحيط برأس الهدف كانت مصدراً لذلك الزمر الذي كان ينبعث من الهدف أثناء صعوده في الفضاء، ولذلك يصف ابن زمرك هذا الزمر بقوله():

فلمّا أُبينَتْ عن قرارةِ أصلها
وعدَّتْ لقاءَ السُّحْبِ عيداً وموسماً
فأضحكت البرقَ الطروبَ خلالها
أرادت إلى مرقى الغمام تعاليا
لذاك اغتدت بالزمر تلهي الغواديا
وباتَ لأكواس الدراري مُعاطيا

ويظهر أيضاً أنّ الهدف كان يضيّقُ من وسطه بحيث يبدو كأنّ خصراً. وقبل إطلاق الهدف إلى الفضاء كان يزيّن بالحلْي والقماش الملوّن، فيجعل له عند رأسه شبه التاج، وفي موضع العنق منه قماش، وفي موضع الخصر منه وشاح، وفي موضع القاعدة حليٌ كالخلخال، وبذلك فإنه كيفما تقلّب في الجوّ نتيجة ضربات السهام فإنه يظل رائق المنظر، وفي زينة الهدف يقول ابن زمرك():

تطورّ حالاتٍ أتى في ضروبها
فحِجْلٌ(*) برجْلَيْها، وشاحٌ بخصرها
بأنواع حَلْي تستفزُّ الغوانيا
وتاجٌ إذا ما حلَّ منها الأعاليا

ويقول في مقطوعة أخرى():

تطور حالاتٍ أتى في جميعها
فتاجٌ بأعلاها وشاحٌ بخصرها
بأوضاع حلْي وصفُهُ متغافلُ
وفي الساق منه قد أديرت خلاخِلُ

ويقول في مقطع من مخمسةٍ له():

وهل هي إلا هالةٌ حول بَدْرها
تطوّر أنواعـاً تشيـدُ بفخرهــا يصوغ لها حَلْياً يليق بنحرها
فحِجْــلٌ بـرجلَيْهـا بخـصرهـا   
وتـاجٌ بأعلى رأسهـا قد تنضّـدا
وقد أشار الشاعر ابن فركون إلى الحلي والقماش الذي يزين به الهدف فقال():

وصاعدة في الجو ألقت ذيولها
إذا ثبتت راق العيونَ ثباتُها
فراق بآفاق السحابِ انسحابها
أو انقلبت راقَ النفوسَ انقلابُها

فهي إذن بهذا الحلي وهذه الزينة تظلّ جميلة رائقة المنظر سواءً أكانت بوضعها الطبيعي أم انقلبت نتيجة ضربات السهام؛ وأن القماش يتبعها كالذيول.
إطلاق الهدف إلى الفضاء:
بعد أن كان الهدفُ يعدُّ على الصورة التي وصفناها ويُزَيَّن، كان يجري إطلاقه إلى الفضاء بحضور السلطان والمتفرجين والفرسان الذين يستعدون لإطلاق سهامهم نحوه. غير أننا لم نقف في الشعر أو غيره على وصفٍ للطريقة أو الأداة التي كان يطلق بها الهدف، أهو بالمنجنيق أم بآلة  قذف خاصّة أم بالحبال والبكرات، إلا أنّ ما تقدمّه المقطوعات التي بين أيدينا من وصفٍ لإطلاق الهدف يقتصر على وصف السرعة الخاطفة لانطلاقه وإلى شقّه لعنان السماء إلى الدرجة التي يكاد معها يغيب عن الأبصار؛ فهذا ابن زمرك يصف انطلاق الهدف قائلاً():

ومسافرٍ في الجوّ تحسبُ أنّه
يرقى إلى أوج السماءِ بسُلَّم

ويقول():

وطامحةٍ في الجوّ غير مطالةٍ
تمدُّ لها الجوزاء كفَّ مصافح
يردُّ مداها الطرفَ أحْسَرَ عانيا
ويدنو لها بدْرُ السماء مناجيا
  
ولا عَجَبٌ أنْ فاتت الشهب بالعلا
فبيْنَ يديْ مثواكَ قامت لخدمةٍ
وأنْ جاوزَتْ منها المدى المتناهيا
ومَنْ خَدَم الأعلى استفادَ المعاليا
 
ويقول():

وصاعدة في الجوّ ملءَ عنانها
طلعْتَ تحيّي البدْرَ منها بصعدةٍ
تُسامِتُ أعنانَ السَّما وتُطاولُ
عليها لواءُ الصُّبْح في الأفْق ماثِلُ

ويقول():

وذاهبةٍ في الجوّ ملءَ عنانها
يفوتُ ارتدادَ الطرْف لمحُ  عيانهـا وقد لفّعَتْها السُّحْبُ بُرْدَ عِنَانها
وختّمـت الجـوزاء سَبْـط  بنانِهـا   
وصاغـت لها حليُ النجـوم مقيّدا   
أراها عمودُ الصُّبْح عُلْوَ المصاعِدِ
وأوهمها قُرْبَ المدى المتباعِدِ

ويقول ابن فركون():

وصاعدةٍ في الجوّ ألقَتْ ذيولها
فراقَ بآفاقِ السحابِ أنسحابُها

ويقول ابن الحاجّ النميري():

وقد صَعَدَتْ في الجوّ آيةُ طبلةٍ
تحاكي عمود الفجر أسْفَرَ للسَّفْر

ويظهر أنّه بعد انطلاق الهدف في الفضاء بهذه السرعة وهذا العلوّ الذي يصفه الشعراء، تعود فتسبح في الفضاء بشكل منساب، ولهذا وصفها عبدالله بن لسان الدين بن الخطيب بقوله():

وساقيةِ العمادِ إذا أطلّت
إلى الأدواح تنسابُ انسيابا

ونجد إشارة في تخميس ابن زمرك قد تشير إلى ما يمكن أن يكون وسيلة لإطلاق الهدف إلى الفضاء، إذ يقول في وصف الهدف():

أراها عمودُ الصُّبْح عُلْوَ المصاعِدِ
ففاتته سبقاً في مجال الرواعد
وأوهمها قرب المدى المتباعِدِ
..........

فهل توحي كلمة الرواعد في هذا السياق، باستخدام المتفجرات أو الأسهم النارية في إطلاق الهدف؟! لا سيما أنّ بني الأحمر قد عرفوا البارود واستخدموا المدافع منذ سنة 724هـ/1323م في فتح حصن أشكر().
أما انسياب الهدف في الفضاء بعد نفاد حدّة انطلاقه، فربّما يكون مردّه إلى قطع القماش التي يزيّن بها، والتي قد تشكل له ما يشبه المظلّة أو المنطاد، ولذلك نجد لسان الدين بن الخطيب يشبه هذا الهدف بسفينة الفضاء حيث يقول في وصفها مخاطباً سلطانه():

أزرْتَ بها بحر الفضاءِ سفينةً
على الجوّ لا الجوديّ كان لها حطُّ

ومما مر من الأبيات التي تصف صعود الهدف إلى الفضاء يتبين أنه كان يثبت أحياناً في الفضاء أي يمشي بطريقة مستقرة منسابة، مما يدلّ على أن طريقة صناعة هذا الهدف مع الإضافات التي تلحق به كانت تمكنه من الاستقرار في الفضاء، مما يسهل مهمة الرماة الذين يطلقون الأسهم نحوه.
الرُّماة/ اللاعبون:
بعد أن كان الهدف يندفع إلى الفضاء كان الفرسان والرماة تتبعه بالعصيّ (السهام) بكثرة، بحيث تنهمر عليه العصيّ بكثافة تريد إصابته والدخول إلى جوفه، فبعض العصيّ تخترقه وتنزل في جوفه من فتحاته المختلفة وبعضها يخطئه فيعود إلى الأرض، وكلما رام ذلك الهدفُ هبوطاً حالت السهام دون الإذن له بذلك، وأبقته قائماً في الجو. وفي ذلك يقول ابن زمرك في وصف الهدف عندما يحاول الهبوط إلى الأرض():

رامَ اسْتراقَ السَّمْع وهو مُمَنّع
رجمتْهُ من شهبِ النصال حواصبٌ
فأصيبَ من قضب العصيّ بأسْهُمِ
لولا تعرّضُهُ لها لم يُرْجَمِ

ويقول():

وقد أعْرَبَتْ بالرَّفْع عن طيبِ فخرِها
متى نصبتها في الفضاءِ العواملُ

(والشاعر يستخدم هنا المصطلحات النحوية بقصد التورية في وصف ارتفاع الهدف في الجو وحيلولة السهام دون هبوطه إلى الأرض، فالعوامل في هذا البيت هي من جهة العوامل النحوية ومن جهة أخرى السهام).
ومثلما كانت بعض الرماة تصيب الهدف كان بعضها الآخر يخطئه، يقول ابن زمرك في وصف السهام():

فمن مثبتٍ منها الرميّة مدركٍ
ومن طائشٍ في الجوّ حلَّقَ وانيا

ويقول في وصف السهام():

ترواغها طوْراً وطوْراً تضيفُها
فسامٍ لأعلى مرتقاها ونازلُ

ويفهم من المقطوعات التي تصف هذه اللعبة أن الرماة كان يطلقون الأسهم على الهدف وهم ركوبٌ على الخيل، يدلُّ على ذلك قول عبدالله بن لسان الدين بن الخطيب():

تحفُّ بها خيولُ القوم منّا
فَتُرْسِلُ نحوها الجُرْدَ العِرابا

ويقول ابن الحاج النميري():

وقد جالَ نقْعُ الخيل في جنباتها
كما جالَ في الأفكار معنًى من الشِعْرِ
ولكنّ ذلك لا ينفي وجود رماةٍ غير ركوب يطلقون العصيّ على الهدف، غير أن استعمال الخيل في هذه الرياضة قد يكون لكون هذه الرياضة لوناً من ألوان الفروسية، وربما للتمكن من إصابة الهدف الذي ينطلق بسرعة كبيرة لا تدركها إلا الخيل.
العصيّ/ السّهام:
أما العصيُّ أو السهام التي كان يطلقها الفرسان على الهدف، فقد ورد وصفها في عدة أبيات، ويستطيع الدارس من مجمل هذه الصفات أن يتبين أنها عصيّ رقيقة قصيرة ذات رأس معدني مدبب؛ فمما قاله لسان الدين بن الخطيب في وصف الهدف وهو يتلقف العصيّ():

تلقّف حيّاتِ العصيّ إذا هوت
فثعبانها لا يستتمُّ له سرْط

ويفهم من هذه الصورة أن العصيّ قريبة الشبه بالحيّات الصغيرة من جهة الطول والسمك والرأس المدبّب، وأن الهدف قريب الشبه بالثعبان الضخم الذي يبتلع الحيّات. وفي لسان العرب الثعبان: الحيّة الضخم الطويل، الذكر خاصة، وهو من أعظم الحيّات(). ويبدو أنّ الشاعر قد تمثل عصا سيّدنا موسى وهي تتلقف الأفاعي، وذلك في قوله تعالى: )وأوحَيْنا إلى موسى أنْ ألْق عصاكَ فإذا هي تلقَفُ ما يأفِكون(()، وقوله تعالى: )قال لهم موسى ألقوا ما أنتُم مُلْقون، فألقوْا حبالهم وعصيَّهم وقالوا بعزّة فرعونَ إنّا لنحنُ الغالبون، فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقَفُ ما يأفِكون(().
ولعل لهذا البيت صلة بقول بعضهم في الرماح: "خُلِقَتْ كالأراقم، لثغر الحلاقم"().
ومما قاله ابن زمرك في وصف الهدف والعصيّ معاً():

رام استراقَ السمْع وهو مُمَنَّعٌ
رجمته من شُهْبِ النصالِ حواصبٌ
فأصيبَ من قُضْب العصيّ بأسْهُمِ
لولا تعرُّضُهُ لها لم يُرْجَمِ

وصفة العصيّ في البيت الأول أنها قضبان خشبية ولكنها مدببة الرأس كالأسهم، وفي البيت الثاني أنها نصال، والنصال لا تكون إلا معدنية، والعصيُّ إذا كانت ذات نصال في رأسها، فإنها تصبح رماحاً، وشبّهها في البيت الثاني بالشهب لأن نصالها لامعة.
وفي موضع آخر يصف ابن زمرك هذه العصيّ بالذابلات حيث يقول():

فخفّت إليها الذابلاتُ كأنّها
طيورٌ إلى وكْر أطلْنَ تهاويا

والذابلاتُ جمع ذابل وهو الرمح ذو العصا الليّنة. وقد استعملت صفة الذبلات للعصيّ في أكثر من موضع من المقطوعات التي بين أيدينا(). وهي من أفضل صفات الرمح().
وفي مقطوعة أخرى يصف ابن زمرك العصيّ بالصَّعْدة، حيث يقول():

طلعْتَ تحيّي البدْرَ منها بصعدةٍ
وقد أعرِبْت بالرفع عن طيبِ فخرها
عليها لواءُ الصُّبْح في الأفُق ماثلُ
متى نصبتها في الفَضاء العوامِلُ

والصعدة في البيت الأول هي عصا الرمح إذا نبتت مستوية ولم تحتج إلى تثقيف(). وفي البيت الثاني استخدم كلمة "عوامل" في وصف العصيّ التي أبقت على الهدف منتصباً في الجو، والعوامل جمع عامل وهو رأس الرمح إلى قدْر الثلث منه().
ويقول ابن زمرك أيضاً():

وتنتابها هيفُ العصيّ كأنّها
سِهامٌ وعاها للرميّة نابلُ

ويفهم من هذا البيت، في صفة تلك العصيّ أنها ليست من النوع الغليظ، بل من النوع الرقيق وأنها رقيقة رقة السهام التي يقذفها الرماة بالقوس.
وعلى ذلك فان هذه العصيّ المستخدمة في قذف الهدف هي قضبان رشيقة رقيقة شبيهة بالسهام لها رؤوس مدببة تساعدها على اختراق الهدف. ولعلّ النوع المستخدم في هذه الرياضة هو ما يُعْرَف بالمزراق الذي "يُرمى به للطافة عصاه، وقد يكون سنانه مربعاً لطيفاً لخرْق الدروع وشبه ذلك"(). وعندما يصف لسان الدين بن الخطيب سلاح الجمهور الغرناطي في كتابيه "الإحاطة" و"اللمحة البدرية" يقول: وسلاحُ جمهورهم العصيُّ الطويلة المثنّاةُ بعصيّ صغار ذوات عُرًى في أوساطها، تدفَعُ بالأنامل عند قذفها، تسمى بالأمداس"(). وربما تكون هنالك صلة بين هذه العصي الصغار والعصي المستخدمة في رياضة الطبلة.
ورقة هذه العصيّ وقصرها وحدّة رؤوسها ولمعانها هو الذي كان يساعدها على الانطلاق بسرعة البرق في الجوّ واختراق هدفها، ولذلك يصفها ابن الحاج النميري بقوله():

وأنحوْا عليها بالعصيّ كأنّها
بروقٌ ولكنْ بالبروق غَدَتْ تُزْري

ولكثافة هذه العصيّ حول الهدف، ممّا يدلّ على كثرة اللاعبين، فقد شبّهها الشعراء بتشبيهات عدة، فتارة شبهوها بالطيور وتارة بالنحل وتارة بالأفاعي، وهاهو عبدالله بن لسان الدين بن الخطيب يشبهها بالفراش حول المصباح، قائلاً():

تحومُ بها العصيُّ فراشَ ليل
تروم بسمعه منه اقترابا

الفوز والخسارة:
أما أسس الفوز والخسارة في هذه اللعبة، فيمكنُ أن نستأنس في معرفتها بالتصور العام لهذه اللعبة فضلاً عن بعض الإشارات الواردة في مقطوعة ابن الحاج النميري() في وصف هذه اللعبة. ولعلّ إصابة الهدف بالسهام ودخولها في جوفه تعدّ مقياساً للفوز وأنّ عدم إصابة الهدف وابتعاد العصيّ عنه يعدُّ مقياساً لخسران جولة اللعب. ونجد ابن الحاجّ النميري في أبياته يقسم النتيجة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: إصابة الهدف وكسره، وبكسره تدخل العصا إلى جوف الهدف، ويعدّ ذلك فوزاً عظيماً، فيقول في وصف الهدف():

من الطبلات اللاءِ ما زال كسرها
لدى البطل الأحمى يعدُّ من الجبْرِ

والثاني: إصابة الهدف دون كسره ودون دخول السهم في جوفه، ويعدُّ ذلك نقطة لصالح الرامي، لكنها ليست في المستوى الأول، حيث يقول():

وضاربُها يومَ الوفودِ عقوقه
وإنْ كان لا يخفى يُعَدُّ من البر

وأما الثالث: فهو عدم كسر الهدف وعدم إصابته، وفي هذه الحالة يبدو الهدف وكأنه يزري بالعصيّ التي ترمى عليه، فيقول ابن الحاج():

وأنحوْا عليها بالعصيّ كأنّها
بروقٌ ولكنْ بالبروق غَدَتْ تُزْري

ولا شك أن إخفاق الرامي في إصابة الهدف هو دليلٌ على خسرانه الجولة، فقد اتضح لنا من خلال الأوصاف المذكورة لهذه اللعبة أن السبيل إلى إبقاء الهدف سابحاً في الفضاء دون هبوطه على الأرض هو الاستمرار في إصابته بالسهام، ومتى أخفقت السهام في إصابته هبط على الأرض ليعلن خسارة الرماة في تلك الجولة.
اسم هذه الرياضة:
اختلفت المصادر في اسم هذه الرياضة، فبعضها تسميها "الطّلبة"، وبعضها الآخر يسميها "الطّبلة"؛ فقد أطلق إسماعيل بن يوسف بن الأحمر على الهدف الذي يقذَفُ بالعصيّ اسم "الطلبة"، وذلك في تقديمه لقصيدة لسان الدين بن الخطيب()، حيث يقول عن تلك القصيدة: "وتشتمل على أوصاف من ذكر الحلبة التي أرسلها، والطلبة التي نصبها في الهواء للفرسان يرسلـون العصيّ إليهـا ..."() وفي تقديمه لقصيدة ابن زمرك() يقول إسماعيل بن الأحمر: إنّ الشاعر قد "أجاد في وصف الجند والجرد والطلبة وغرائب الأوضاع"().
أما لسان الدين بن الخطيب فإنه يطلق عليها اسم الطبلة، وذلك في تقديمه لقصيدته السابقة() حيث يقول مشيراً إلى سلطانه: إنه "استركب الفرسان لمزاملة الهدف الخشبي المتخذ في الجوّ المسمى بالطبلة"().
وفي رأيي أنّ الاسم الصحيح لها هو "الطّبْلة" وذلك لورودها في الشعر على هذه الصورة، فقد ذكرها ابن الحاجّ النميري في مقطوعته حيث يقول():

وقد صعدت في الجوّ آية طبلةٍ
... إلــخ
ويقول():

من الطبلات اللاء ما زال كسرها
لدى البطل الأحمى يُعَدُّ من الجَبْرِ

ولعلّ سبب الخلط في التسمية هو تقارب صورة الاسمين، واحتمال وقوع التصحيف عند إسماعيل بن يوسف بن الأحمر أو عند المقّري الذي نقل رواية إسماعيل بن الأحمر. وربما يكون سببُ الاختلاف في الاسم أنّ كلا الاسمين ينطبق على هذه الرياضة؛ فتسميتها بالطلبة منبثق من المعنى اللغوي للطلبة، وهو: ما طلبتَهُ من شيء(). والهدفُ في هذه اللعبة كان يُطلبُ بالعصيّ. وأما تسميتها بالطبلة فمنبثقٌ من صفتها، فهي كالطبلة في كونها قطعة خشبية مجوفة يخرج لها صوت كصوت الطبل حين تظفر بها العصيّ، ولستُ أستبعد شيوع الاسمين معاً بين أهل غرناطة، وأن يكون أحدهما قد أصابه القلب فتقدم أحد الحرفين (الباء واللام) على الآخر، كما يحدث كثيراً عند عوام الناس في كثير من الأسماء، وشاع الاسمان على هذا النحو، وساعد في شيوعهما مناسبة الاسمين للمسمى دون إخلال بصفته في الحالين.
التأثر والتأثير:
لم تتعرّض المصادر الأندلسية التي أُلفت قبل عصر بني الأحمر إلى هذه الرياضة، على الرغم من أن ألعاب الخيل والفروسية كانت الرياضة المفضلة لدى المسلمين في الأندلس وغيرها عبر عصور التاريخ الإسلامي لغايات الحرب، كما هو الحال عند الرومان الذين وقف الأندلسيون على تراثهم في الأندلس، فقد كانت الرياضة العسكرية تشكل جانباً أساسياً من برنامج تربية الشباب وكانت تتضمن تدريبه على الجري والوثب والسباحة ورمي الرمح والمبارزة، وكانت الفرسان تتدرب على القوس والنشّاب والركوب().
وفي رأيي أن هذه الرياضة عند الأندلسيين كانت نتيجة طبيعية لانتشار ألعاب الفروسية وتطورها والتعرف إلى قوانين الفروسية عند الأوروبيين، والمتتبع لتاريخ الرياضة عند المسلمين يجد صوراً مشابهة لرياضة الطبلة عند المماليك، ومن ذلك رياضة "القبق"، وهي عبارة عن خشبة ينصب في أعلاها جسمٌ أشبه بالقرعة العسلية، وكان المماليك يجعلون في وسطها طير حمام، ويسوقون ويرمونها في أيام المواسم والأعياد().
والذي يبدو لي أن رياضة "الطبلة" عند الأندلسيين ورياضة "القبق" عند المماليك هما من الأشكال المتقدمة لرياضة كرة السلة.
ملاحظات ختامية:
رياضة "الطبلة" عند الأندلسيين هي إحدى ألعاب الفروسية، كان من غاياتها التدرّب على الرماية من أجل الاستعداد للجهاد، شأنها في ذلك شأن رياضة الفروسية بمختلف أشكالها، وقد أشار ابن الحاجّ النميري إلى هذه الغاية من رياضة الطبلة وعناية سلطانه بها حيث يقول():

فذلك منه للجهاد تدرُّبٌ
سيسقي به الحزْبَ الذي دان بالكُفْرِ

ويقول ابن زمرك إن سلطانه قد كلّف الأدباء وصف هذه الرياضة وغيرها من الألعاب التي جرت في أحد احتفالات السلطان():

لمولًى تولاّه وأحكم رصفه
وكلَّف أربابَ البلاغةِ وَصْفَهُ

غير أن سلاطين غرناطة كانوا يرون أن وصف هذه الرياضة يليق بشعراء دون شعراء آخرين، فيحدثنا لسان الدين بن الخطيب أنّ سلطانه نهاه عن الهبوط إلى درجة وصف المناسبات التي وصف بها لعبة الطبلة، فعندما أورد قصيدته التي تتضمن وصفاً لهذه اللعبة قال: "وهي آخر الشعر في هذا الغرض، لخجل السلطان من تنزُّلي إلى ذلك  وتنزيهي() عنه تجلّة، أجلّه الله وكرّمه"().
وفي ظني أنه لولا تحرّج السلطان من استمرار ابن الخطيب في وصف هذه الرياضة لربما قدّم لنا ابن الخطيب تفصيلات أكثر عنها. غير أنّ القصائد التي عرضت لهذه الرياضة استطاعت أن تقدّم لنا مجتمعة بعض ملامح هذه الرياضة.
ويلاحظ في جميع المقطوعات التي وصفت هذه الرياضة أنّ أيّاً منها لم يكن مستقلاً منفرداً بوصف هذه الرياضة بل جاءت كلّ منها ضمن قصيدة مطوّلة في وصف جملة ألعاب احتفالية. ولم يستطع أيّ شاعر أن يعطي وصفاً دقيقاً لهذه الرياضة بل انصرف هؤلاء الشعراء إلى المبالغات والتشبيهات المختلفة التي تجعل التمييز بين الحقيقة والخيال أمراً عسيراً، ولذلك كلّ مقطوعة من هذه المقطوعات – على حدة - وكأنها لغز. ويلاحظ أيضاً أنّ جميع هذه المقطوعات جاءت متشابهة ومتأثراً بعضها ببعض في الألفاظ والصور والتشبيهات، مما لا يعطي لأي منها خصوصية بارزة في توضيح صورة هذه الرياضة أو حتى في تمييز أسلوب شاعر عن غيره، هذا فضلاً عن أن هذه المقطوعات تتسم بالتكلّف والخلّو من الحرارة والعاطفة والطبع كما يلاحظ أن جميع المقطوعات التي تصف هذه الرياضة تنتمي إلى عصر واحد وهو عصر بني الأحمر ولا سيما بعد النصف الثاني من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.
بقي أن أقول إنّ هذه الرياضة ووصف الشعراء الأندلسيين لها تؤكد أن حلم أهل الأندلس باختراق الفضاء لم يبرح الخيال الأندلسي منذ أيام عباس بن فرناس الذي خاطر بمحاولة الطيران في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، حتى عصر بني الأحمر حيث يتبارى الشعراء في وصف المسافات التي أوغلت بها الطبلة في مدارج السماء، وحيث جهز الأندلسيون هذه "الطبلة" بكل ما يمكّنها من اختراق الفضاء لكي():

تمدّ لها الجوزاءُ كفَّ مصافحٍ
ويدنو لها بْدرُ السماءِ مناجيا


ملحق
المقطوعات الشعرية التي وصفت الطبلة
(1)
يقدّم لسانُ الدين بن الخطيب() لإحدى قصائده بقوله: "وقولي في امتداح سلطاني لما احتفل لإعذار ولده، واستركب الفرسان لمزاملة الهدف الخشبي المتخذ في الجوّ المسمى بالطّبلة ... وهي آخر الشعر في هذا الغرض لخجل السلطان من تنزّلي إلى ذلك، وترفيهي عنه تجلّة، أجلّه الله وكرمه لديه:

شَحَطَتْ وفودُ الليل بانَ به الوخْطُ
وعسكَرَهُ الزنجيُّ همَّ به القبط()

إلى أن يصل إلى وصف الطبلة فيقول():

وطاعنةٍ نَحْرَ السُّكاكِ() أعانها
تَلَقَّفُ حيّاتِ العصيّ إذا هَوَتْ
أزَرْتَ بها بحر الهواء سفينةً
على الكوْنِ عرْقٌ واشجٌ ولحًى سَبْطُ
فثعبانُها لا يَستتمُّ له() سَرْطُ
على الجو() لا الجوديّ كان لها حطُّ

(2)
قدّم الأمير إسماعيل بن يوسف بن الأحمر في كتابه "البقية والمدرك من كلام ابن زمرك"() لإحدى قصائد ابن زمرك() بقوله: "ومن ذلك ما أنشد في الصنيع الثاني المختص بعمّينا السيدين الأميرين سعد ونصر، رحمة الله عليهما، وأجاد في وصف الجُنْد والجُرْد والطّبلة وغرائب الأوضاع():

أللمحةٍ من بارقٍ متبسّمِ
أرسلْتَهُ دمعاً تضرَّجَ بالدمِ

ويقول في وصف "الطَّلبة"():

ومسافر في الجوّ تحسبُ أنّه
رام استراقَ السَّمْع وهو ممنَّعٌ
رَجَمَتْهُ من شُهبِ النصَال حواصبٌ()
يرقى إلى أوج السماءِ بسُلَّمِ
فأصيبَ من قُضْبِ العصيّ بأسهمِ
لولا تعرّضُه لها لم يُرْجَمِ

(3)
    يقول ابن زمرك من قصيدة مطوّلة في وصف بعض الاحتفالات، مطلعها():

سلْ الأفق بالزُّهْرِ الكواكبِ حاليا
فإنّي قد أودعتُهُ شرْحَ حاليا

يقول منها في وصف الطّبلة():

وطامحةٍ في الجوّ غير مُطالةٍ
تمدُّ لها الجوزاءُ كفَّ مُصافح()
ولا عَجَبٌ أنْ فاتت الشُّهْبَ بالعُلا
فبيْنَ يديْ مثواك قامت لخدمةٍ
وشاهدُ ذا أنّي ببابك واقفٌ
يردُّ مداها الطرْفَ أحْسَرَ عانيا
ويدنو لها بدْرُ السماءِ مُناجيا
وأنْ جاوَزَتْ منها المدى المتناهيا
وَمَنْ خَدَم الأعلى استفادَ المعاليا
وقد حَسَدَتْ زُهْر النجوم مكانيا

 
وقَدْ أُرْضعَتْ ثديَ الغمائم قبلها
فلما أُبينَتْ عن قرارة أصلها
وعدَّتْ لقاءَ السُّحْبِ عيداً وموسماً
فأضحكت البرْقَ الطروبَ خلالها
رأتْ نفَسها طالت فظنَّتْ بأنّها
فخفَّتْ إليها الذابلاتُ كأنّها
حكت شَبَهاً للنحل والنحلُ حوله
فمن مُثْبِتٍ منها الرمّية مُدْركٍ
وحصنٍ منيعٍ في ذراه قد ارتقى
كأنَّ بروجَ الأفق غارت وقد رأتْ
فأنشأْتَ بُرْجاً صاعداً متنزّلاً
تطوَّرَ حالاتٍ أتى في ضروبها
فحِجْلٌ برجليْها، وشاحٌ بخصرها
وما هو إلا طيْرُ سَعْدٍ بذِرْوةٍ
بحجر رياض كنَّ فيه نواشيا
أرادت إلى مرقى الغمام تعاليا
لذاك اغتدتْ بالزمْر تُلهي الغواديا
وبات() لأكواس الدراريَ مُعاطيا
تفوتُ على رغم اللحاق المراميا
طيورٌ إلى وكر أطلْنَ تهاويا
عصيٌّ إلى مثواه تهوي عواليا
ومِنْ طائش في الجّو حلّقَ وانيا
فأبْعَدَ في الجّو الفضاءِ المراقيا
بروجَ قصورٍ شدتهنّ سواميا
يكون رسولاً بينهنَّ مُداريا
بأنواع حلْي تستفزُّ الغوانيا
وتاجٌ إذا ما حلَّ منها الأعاليا
غدا زاجراً من أشهب الصُّبْح بازيا

(4)
من قصيدة لابن زمرك في وصف إحدى الاحتفالات التي في عهد السلطان يوسف الثاني، ومطلعها():

نجومٌ أمدَّتْها بدورٌ كوامِلُ
لها النور من شمس الخلافةِ شاملُ

ومنها (في وصف الطلبة)():

وصاعدةٌ في الجّو ملء عنانها
طلعْتَ تحيّي البدْرَ منها بصعدةٍ()
وقد أعْرَبَتْ بالرفع عن طيبِ فخرها
يمدُّ لها الكفُّ الخضيبُ بساعد
وتنتابُها هيف العصيّ كأنّها
تراوغها طوْراً وطوْراً تضيفُها
وبالأمْس كانت بعْضَ أغصانِ دَوْحِها
فحنَّتْ إلى أوطانها وتسابقَتْ
وبُرْجٌ منيفٌ في ذراها قد ارتقى
تطوَّرَ حالات أتى في جميعها
فتاجٌ بأعلاها، وشاحٌ بخصرها
وما هو إلا قائمٌ مدَّ مُلْكَهُ
تُسامِتُ أعْنانَ السَّما وتُطاولُ
عليْها لواءُ الصُّبْح في الأفْق ماثِلُ
متى نصبتْها في الفضاء العَوامِلُ
ويشكي السماكَ الأعْزَلَ الرمح عامِلُ
سهامٌ وعاها للرميّةِ نابلُ
فسامٍ لأعلى مرتقاها ونازلُ
فنقّلها عنها على الرغم ناقِلُ
تعاودُ مسراها بها وتواصِلُ
لتُرْفَعَ منه للبروج الرسائِلُ
بأوضاع حلْيٍ وصفُه متغافِلُ
وفي الساقِ منه قد أديرت خلاخِلُ
إلى اللّه في البقيا لما صدَّ سائلُ

(5)
يقول ابن زمرك في تخميس له يصف فيه صنيعاً لبعض أمراء بني الأحمر، مطلعه():

أرقْتُ لبرْقٍ مثل جفني ساهرا
فأضحك زهرُ الروضٍ منه أزاهرا ينظّم من قطْر الغمام جواهرا
وصبـح حكـى وجه الخليفـة باهرا   
تجسَّـم من نور الهدى وتجسّـدا
ويقول منه في وصف الطلبة():

وذاهِبةٍ في الجّو ملء عنانها
يفوتُ ارتدادَ الطرْفِ لمحُ عَيانهـا وقد لفّعَتْها السُّحْبُ بُرْدَ عَنانِها
وختَّمَـتِ الجـوزاءُ سَبْـطَ  بنانِهـا   
وصاغتْ لهـا حلْيُ النجوم مُقَيَّـدا   
أراها عمودُ الصُّبْح عُلْوَ المصاعِدِ
ففاتتْهُ سبقـاً في مجـال  الرواعِدِ وأوهما قربَ المدى المتباعِدِ
وأتحفتِ الكـفَّ الخضـيبَ  بساعِـدِ   
فطوَّقتِ الزُّهْرَ النجـومَ بها يـدا   
وقد قذفَتْها للعصيّ حواصِبُ
تزاور منهـا في الفضـاء حبائبُ قد انتشَرَتْ في الجوّ منها ذوائبُ
فبينهمــا مـن قبـل ذاكَ مَنَاسِـبُ   
لأنهما في الـروض قبلُ تولّـدا
 
بناتٌ لأمٍ قد حيين بِرَوْحها()
فأقلامُهـا تهوي لخـطٍ  بلوْحِهـا دعاها الهوى من بعد كتْم لبوْحِها
فبالأمْس كانت بعضَ أغصانِ  دوْحِها   
فعادت إليها اليومَ من بعْدُ عُـوَّدا   
ويا رُبَّ حِصْنٍ في ذراها قد اعتلى
بروجُ قصـورٍ شِدْتَهـا متطـوّلا أنارت بروجَ الأفق في مَظْهر العُلا
فأنشـأتَ برجـاً صاعـداً  متنَـزّلا   
يكـون رسـولاً بينها متـردّدا   
وهل هي إلا هالةٌ حول بدرها
تطوَّرُ أنواعـاً تشيـد بفخرهــا يصوغ لها حَلْيـاً يليق بنحرها
فحجلٌ برجليهـا وشـاحٌ بخصـرها   
وتاجٌ بأعلى رأسها قد تنضّـدا   
أرادَ استراقَ السَّمْع وهو ممنّعُ
وأصغـى لأخبـار السَّما يتسمَّـعُ فقام بأذيال الدجى يتلفَّعُ
فأتبعـه منهــا ذوابــلُ شــرَّعُ   
لتقذفه بالرجْـم() مثنًى وموْحَـدا   
وما هو إلا قائمٌ مدَّ كفَّهُ
لمولـى تـولاه وأحكـم رَصْفَـهُ ليسألَ منْ ربّ السمواتِ لُطْفَهُ
وكلَّفَ أربـابَ البلاغـةِ  وَصْقَــهُ   
وأكـرمَ منه القانـتَ المتهجّـدا   
ملاقي ركْبٍ من وفودِ النواسِمِ
مختّـم كـلٍّ بالنجـوم العواتــم مقبّل ثغرٍ للبروقِ البواسِمِ
مبلّغ قصـدٍ من  حضـور المواسِـمِ   
تجدّده مهمـا صنيعٌ تجـدّدا
(6)
أنشد أبو الحسين بن فركون() السلطان يوسف الثالث قصيدة في سنة 818هـ/1415م بمناسبة ولادة ابن للسلطان وإعذار أخوين لذلك المولود، ومطلع القصيدة():

سل البان عنها أين بانت ركابها
ولمْ رفُعَتْ فوقَ المطيّ قبابُها

ومن أبيات هذه القصيدة في وصف رياضة الطبلة():

وصاعدةٍ في الجوّ ألقت ذيولها
تحنُّ إليها الذابلاتُ فترتمي
إذا ثبتت راقَ العيونَ ثباتُها
كأنّ طيوراً في ذرى الجوّ حوّمَتْ
تقيمُ إذا لاقى الأمانَ ارتياعُها
إذا أخطأ الخطيُّ يهديه خطُّها
إذا اعتمدتْ قوسُ السماءِ عمودَها
فراقَ بآفاق السحابِ انسحابُها
فروعاً يرينا الأصل كيف اجتذابُها
أو انقبلت راقَ النفوسَ انقلابُها
وثابِتْ لأوكارٍ بهنّ وِثابُها
ورتّبما عنها ثناها ارتيابُها
وما كان يأبى أنْ يُصِيبَ صوابُها
لرمْيٍ فسَهْمُ السَّعْدِ يدنيه قابُها

(7)
من قصيدة لابن الحاجّ النميري()، مطلعها():

أتتك وقد هزَّ الدجى مضجع الفجْرِ
بكأسين من ريقٍ بَرُودٍ ومن خَمْرِ

يصفُ جانباً من إحدى احتفالات الغني بالله محمد الخامس، قائلاً():

وقد صعدت في الجوّ آيةُ طبلةٍ
وأنحوْا عليها بالعصيّ كأنّها
من الطبلاتِ اللاءِ ما زال كسرُها
وضاربها يومَ الوفودِ عقوقه
فذلك منه للجهاد تدرّبٌ
وقد جال نقعُ الخيْل في جنباتِها
تحاكي عمودَ الفجْر أسْفَرَ للسَّفْرِ
بُروقٌ ولكنْ بالبروقِ غدت تُزْري
لدى البطل الأحمى يعدُّ من الجبْرِ
وإنْ كان لا يخفى يُعَدُّ من البرِّ
سيسقي به الحزبَ الذي دانَ بالكفرِ
كما جال في الأفكار معنًى من الشعرِ

(8)
من قصيدة لعبدالله بن لسان الدين بن الخطيب() في إعذار ابن للسلطان محمد ابن يوسف بن نصر الغنيّ بالله محمد الخامس، مطلعها():

أثرْها عزمةً تنفي الركابا
وإنْ دمَيتْ لها العيْنُ انسكابا

يقول في بعض أبياتها في وصف الطبلة():

وساقيةِ العمادِ إذا أطلَّتْ
تحومُ بها العصيُّ فراشَ ليل
تحفُّ بها خيولُ القوم منّا
عجائبُ أبدعَتْ علياك فيها
إلى الأدواح تنسابُ انسيابا
تروم بسمعِهِ منه اقترابا
فَتُرْسِلُ نحوها الجرْدَ العِرابا
ومثلك يبدعُ الأمْرَ العجابا

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...