السبت، 22 أغسطس 2015

تطور النثر العربي 

،  بقلم رضوان باغباني

النثر لغة:

يقول صاحب اللسان: «النثر نَثرُكَ الشيءَ بيدك ترمي به متفرقا مثل نثر الجوز واللوز والسکر وکذلك نثر الحبّ إذا بُذر». [1] فالمعنی اللغوي يعني الشيء المبعثر (المتفرق) الذي لايقوم علی أساس في تفرقه وبعثرته، أي: لا يقوم علی أساس من حيث الکيف والکم والاتساع.

النثر اصطلاحاً:

هو الکلام الذي ليس فيه الوزن ويعتمد علی الحقائق. بتعبير آخر: النثر هو کلام المقفي بالأسجاع.
النثر أدب إنساني، «وهو علی ضربين: أما الضرب الأول فهو النثر العادي الذي يقال في لغة التخاطب، وليست لهذا الضرب قيمة أدبية إلا ما يجري فيه أحيانا من أمثال وحکم، وأما الضرب الثاني فهو النثر الذي يرتفع فيه أصحابه إلی لغة فيها فن ومهارة وبلاغة، وهذا الضرب هو الذي يعنی النقاد في اللغات المختلفة ببحثه ودرسه وبيان ما مر به من أحداث وأطوار، ومايمتاز به في کل طور من صفات وخصائص، وهو يتفرع إلی جدولين کبيرين، هما الخطابة والکتابة الفنية ـ ويسميها بعض الباحثين باسم النثر الفني ـ وهي تشمل القصص المکتوب کما تشمل الرسائل الأدبية المحبرة، وقد تتسع فتشمل الکتابة التاريخية المنمقة». [2]

نشأة النثر الفني:

يجد الباحث عنتا کبيرا حينما يحاول تحديد الوقت الذي نشأ فيه النثر الفني في اللغة العربية. إذ أن الباحثين الذين تصدوا لدراسة الأدب الجاهلي قد اضطربوا في تقدير الوجود الأدبي لعرب الجاهلية وبخاصة فيها يتعلق بالنثر، ولم يستطيعوا علی الرغم من جهودهم ودراساتهم أن يصلوا في ذلك الموضوع إلی نتيجة ثابتة أو رأي موحد يمکن الاطمئنان إليه.أما هذه الآثار النثرية المختلفة التي تنسب إلی الجاهليين، فيکاد مؤرخو الأدب يتفقون علی عدم صحة شيء منها، والسبب في عدم الثقة بهذه النصوص هو أن وسائل التدوين لم تکن ميسرة في العصر الجاهلي.

الآراء حول نشأة النثر الفني في العصر الجاهلي:

يؤکد الدکتور زکي مبارك أنه قد کان للعرب في الجاهلية نثر فني له خصائصه وقيمته الأدبية، وأن الجاهليين لابد وأن يکونوا قد بلغوا في ذلك المضمار شأوا بعيدا لايقل عما وصل إليه الفرس واليونان في ذلك الوقت، بل أنهم في إنتاجهم الأدبي في النثر لم يکونوا متأثرين تأثراً کبيرا بدولة أخری مجاورة أو غير مجاورة، وإنما کانت لهم في کثير من الأحيان أصالتهم وذاتيتهم واستقلالهم الأدبي الذي تقتضيه بيئتهم المستقلة، وحياتهم التي کانت أقرب إلی الانعزال. وإذا کانت الظروف المختلفة لم تساعد علی بقاء هذا التراث من النثر الجاهلي، فليس معنی ذلك أن نهدره ونحکم بعدم وجوده، وإنما يجب أن نلتمسه في مصادر أخری. ونحن إن فعلنا هذا فسوف نجد بين أيدينا حجة لاتنکر، ودليلا لا يجحد علی أن ثمة نثرا جاهليا، ألا وهو القرآن الکريم. فإذا کنا نؤمن بأن هذا القرآن قد نزل لهداية هؤلاء الجاهليين، وإرشادهم، وتنظيم حياتهم في نواحيها المختلفة من دينية، وأخلاقية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وأنه کان يخاطبهم وهم بطبيعة الحال لايخاطبون إلا بأسلوب الذي يفهمونه ويتذوقونه، وأنه کان يتحداهم في محاکاته، والإتيان بسورة من مثله ولا يسوغ في العقل أن يکون هذا التحدي إلا لقوم قد بلغوا درجة ما من بلاغة القول، وفصاحة اللسان تجعلهم أهلا لهذا التحدي حتی يصدق معناه، إذا کان هذا کله، وأن القرآن الکريم قد نزل بلغة العرب وعلی لسان واحد منهم ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ تأکد لنا أن العرب الجاهليين قد عرفوا النثر الفني، وأن القرآن يمکن أن يعطينا صورة ـ ولو تقريبية ـ عن شکل هذا النثر، ومنهجه، وحالته التي کان عليها. [3]
وکذلك يعتقد الدکتور محمد عبدالمنعم خفاجي بوجود النثر الفني في الجاهلية. [4]
ويری الدکتور طه حسين بأن النشر الفني بمعنی أنه تعبير جميل رصين محکم يستدعي الرؤية والتفکير والإعداد، لايتصور أن يکون موجودا في العصر الجاهلي؛ إذ أن هذا اللون من النثر إنما يلائم نوعا من الحياة لم يکن قد تهيأ للعرب إذ ذاك. فهذه الحياة الأولية الفطرية السهلة التي کان يحياها العرب قبل الإسلام لم تکن تسمح بقيام هذا اللون من الکتابة الفنية التي تستدعي بطبيعتها الرؤية، والتفکير، ووجود جماعة إنسانية منظمة تسودها أوضاع سياسية واجتماعية معقدة. وهذا النثر المنسوب إلی الجاهليين ليس إلا شيئا منحولا مدسوسا عليهم. حيث إنه علی هذا النحو الذي روي به لايکاد يمثل الحياة الجاهلية تمثيلا کاملا. فهذه الخطب، والوصايا، والسجع، والکلام الذي ينسب لقس بن ساعدة، وأکثم بن صيفي، وغيرهما يکفي أن ننظر إليه نظرة واحدة لنرده بأجمعه إلی العصور الإسلامية التي انتحلت فيها کل هذه الأشياء؛ لنفس الأسباب التي انتحل الشعر من أجلها وأضيف إلی الجاهليين. [5]
ويتحدث شوقي ضيف عن نشأة النثر الفني في الأدب العربي بقوله «نحن لانغلو هذا الغلو الذي جعل بعض المعاصرين يذهب إلی أن العرب عرفوا الکتابة الفنية أو النثر الفني منذ العصر الجاهلي، فما تحت أيدينا من وثائق ونصوص حسية لا يؤيد ذلك إلا إذا اعتمدنا علی الفرض والظن، والحق أن ما تحت أيدينا من النصوص الوثيقة يجعلنا نقف في مرحلة وسطی بين الرأيين، فلا نتأخر بنشأة الکتابة الفنية عند العرب إلی العصر الجاهلي، بل نضعها في مکانها الصحيح الذي تؤيده المستندات والوثائق، وهو العصر الإسلامي». [6]

النثر في العصر الإسلامي:

النثر الفني في عهد النبوة، لم يکد يختلف اختلافا جوهريا عن النثر الجاهلي. «دخل النثر العربي في طور جديد بظهور الإسلام، بعد أن تعرضت الحياة الأدبية لانقلاب شامل وتطور بعيد المدی. ولم يکن ثمة بد من أن يتأثر الأدب بالحياة الجديدة وأن يکون صدی لأحداثها واتجاهاتها. وکانت مظاهر التطور في النثر أوضح منها في الشعر، لأن الشعر فن تقليدي يترسم فيه الشاعر خطا سابقيه، ويلتزم أصولا محددة، ولذلك يکون أبطأ من النثر استجابة لدواعي التطور». [7]
أما أغراض النثر ومعانيه، فإنها بلا شك قد تغيرت تغيرا محسوسا بظهور الإسلام، و «تلوّن النثر في هذا العهد بجميع ألوان الحياة الجديدة فکان خطابة، وکتابة، ورسائل وعهودا، وقصصا، ومناظرات، وتوقيعات، وکان علي کل حال أدبا مطبوعا. وامتاز النثر في هذا العهد بالإيجاز علی سنة الطبيعة العربية الأصيلة». [8]

النثر في العصر الأموي:

کانت الکتابة ضرورة إدارية ملحة لا غنی عنها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، في المکاتبات والدواوين المختلفة. کما کانت ضرورة اجتماعية لا غنی عنها في المعاملات. وکانت کذلك ضرورة علمية لا غنی عنها في الحرکة العلمية التي ازدهرت في العصر الأموي وتعاظمت في أواخره. ونتيجة لذلك کله توسع انتشار الخط واستعمال الکتابة، إبان ذلك العصر، توسعا عظيما، نظراً لإقبال الناس علی طلبه.
يقول الدکتور شوقي ضيف: «أن الکتابة نمت في العصر الأموي نموا واسعا، فقد عرف العرب فکرة الکتاب وأنه صحف يجمع بعضها إلی بعض في موضوع من الموضوعات، وقد ألفوا فعلا کتبا کثيرة». [9]
وقد کانت لمن يعرف الکتابة مکانة رفيعة عند الناس، إذ کانوا يعرفون له قدرة، وکان سعيد بن العاص يردد دائماً قوله: «من لم يکتب فيمينه يسری». [10]
لعل من أهم الأسباب التي هيأت لرقي الکتابة الفنية في هذا العصر تعريب الدواوين في البلاد المختلفة. [11]، وتعقد الحياة السياسية، وکثرة الأحزاب والمذاهب. [12]
«وقد تجلت بواکير الکتابة في أواخر العصر الأموي بفضل موهبة عبدالحميد بن يحيی الکاتب». [13] ولقد أجمع النقاد والمؤرخون في القديم والحديث علی أن عبدالحميد إمام طور جديد في الکتابة العربية، وأنه هو الذي وضع الأساس لهذا المنهج الکتابي الذي اقتفاه الکتاب من بعده، وهو «أبلغ کتاب الدواوين في العصر الأموي وأشهرهم، وقد ضربت ببلاغته الأمثال». [14]، و«کان عبدالحميد أول من فتق أکمام البلاغة وسهل طرقها وفك رقاب الشعر». [15]
وقال ابن النديم: «عنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل». [16]
إذن لقد تواترت آراء المؤرخين والأدباء منذ القرن الثالث الهجري علی أن الرجل ذو مکانة ملحوظة في تاريخ النثر العربي، وأنه ذو أثر عميق في تطور الکتابة الفنية، وأنه قد سن طريقة جديدة سار علی نهجها من جاء بعده من الکتاب.

النثر في العصر العباسي:

زخر العصر العباسي بالأحداث التاريخية، والتقلبات السياسية، کما زخر بالتطورات الاجتماعية التي نقلت العرب من حال إلی حال، وقد کان لکل هذا، فضلا عن نضج العقول بالثقافة، أثر واضح في تطوير الأدب بعامة، والکتابة بصفة خاصة. لقد تقدمت الکتابة الفنية في هذا العصر تقدما محسوسا؛ وسارت شوطا بعيدا في سبيل القوة والعمق والاتساع.
و«أصبح النثر العربي في العصر العباسي متعدد الفروع، فهناك النثر العلمي والنثر الفلسفي والنثر التاريخي، والنثر الأدبي الخالص، وکان في بعض صوره امتدادا للقديم؛ وکان في بعضها الآخر مبتکرا لا عهد للعرب به». [17]
وکان تشجيع الخلفاء والوزراء والرؤساء للأدب وللکتاب باعثا علی النهوض بالکتابة، داعيا إلی ارتفاع شأنها، وسمو منزلتها، ثم کان التنافس القوي بين الأدباء وتسابقهم إلی خدمة الخلفاء والرؤساء حافزا علی تجويدها والتأنق في أساليبها. [18]
«إن الکتابة کانت جواز عبور إلی الوزارة وبعض الوظائف المرموقة في مرافق الدولة لذلك کان علی الراغبين في الوصول إلی هذه المناصب العليا إتقان صناعة الکتابة حتی يحققوا أهدافهم التي کانوا يطمحون إليها». [19]
والأغراض التی عبر عنها النثر الفني في هذا العصر قد اختلفت و«بعد أن کان النثر الأموي خطابته وکتابته منصرفا بوجه عام إلی أغراض سياسية وحزبية، ولم يتجه إلی الأغراض الأخری إلا في صورة ضئيلة، فانه في العصر العباسي قد اتجه إلی کثير من الأغراض والموضوعات الشخصية والاجتماعية والانسانية؛ کالمدح والهجاء والرثاء والاعتذار والتهنئة والتعزية والاستعطاف، والوصف والنسيب والفکاهة والنصح». [20]
ونستطيع القول بأن النثر خطا خطوة واسعة؛ فهو لم يتطور من حيث موضوعاته وأغراضه فقط؛ بل إن معانيه قد اتسعت وأفکاره قد عمقت، وأخيلته قد شحذت؛ لأن مشاهد الحياة ومقوماتها العامة قد تغيرت.

مظاهر نهضة النثر في العصر العباسي:

1ـ تنوع فنونه وأغراضه: فقد تناول کل مجالات الحياة واستخدمته الدولة في الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية.
2ـ وصول الکتاب إلی المناصب الوزارية.
3ـ أنه أصبح وعاء لثقافات جديدة، کانت نتيجة لامتزاج الفکر العربي بأفکار الأمم الأخری.
4ـ رقي الأفکار وعمق المعاني.
5ـ التفنن في أساليبه وظهور مدارس متنوعة. [21]

أسباب نهضة النثر في العصر العباسي:

  1. استقرار الأمور في الدولة واتساع العمران، وما يتبع ذلك من رخاء.
  2. النضج العقلي وظهور آثار التقدم الفکري في الدولة.
  3. ظهور أجيال جديدة من المثقفين من أبناء الأمم المستعربة الذين جمعوا إلی الثقافة العربية الأصيلة فنونا جديدة من ثقافات آبائهم الفرس، الهنود و اليونان.
  4. تشجيع الخلفاء والأمراء للکتاب وإغداق الأموال عليهم.
  5. وصول الکتاب إلی المناصب الکبيرة جعل الکتابة مطمح کل راغب في الجاه والسلطان.
  6. التنافس بين الکتاب في سبيل الإجادة الفنية.
  7. کثرة المذاهب الکلامية وحاجة کل مذهب إلی التأييد وشرح مبادئه. [22]

النثر الحديث:

«في النصف الأول من القرن التاسع عشر، کان النثر في هذه الفترة رکيك الأسلوب يعتمد علی المحسنات البديعية، مسيطرا عليه طريقة القاضي الفاضل علی أساليب کتاب عصره و نهج نهجه، فبدت علی أساليب هؤلاء مظاهر التکلف فأسرفوا في المحاکاة وأوغلوا في الصنعة، وتعمد تصيد الألفاظ والأساليب ذات البريق واللمعان». [23]
في بدايات النثر الأدبي الحديث «کانت القرائح حبيسة الأغراض الضيقة والمعاني التافهة، وقلّما کانت تتجاوز الرسائل الاخوانية، من تهنئة بمولود، أو تعزية بفقيد، أو معاتبة لصديق، وقلّما تعدی موضوع النثر هذه الحدود الضيقة ليلامس اهتمام الناس ويعالج شؤون المجتمع». [24]
«انطلق الفکر الحديث ناشطا و راح يرود آفاقا أرحب تتصل بالواقع وبالمجتمع، نتيجة انتشار أنوار النهضة في أرجاء المشرق العربي. وبدأت الأساليب تتحرر في بعض جوانبها من قيود التصنع اللفظي. غير أن فئة من الناثرين ظلت علی تعلقها بالعبارات المنمقة، وراحت تجد فيها نمطا أدبيا متميزا لا يحسن التفريط به. ومن هذا المنطلق ساغ للشيخ ناصيف اليازجي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر فن المقامات؛ فدأب علی إحيائه، وجهد في النسج علی منواله... وفي الوقت نفسه کان ثمة ناثرون رواد ومؤلفون کبار أخذوا يراوحون بين النثر المقيد والنثر المرسل، ترفدهم في الحالين موهبة فذة، وفي مقدمة هؤلاء أحمد فارس الشدياق، أحد أرکان النهضة الفکرية، ورائد الصحافة الأدبية». [25]
ويمکن القول بأن اتصال الشرق العربي بالغرب ظل قاصرا في أول الأمر علی النواحي العلمية والفنية التطبيقية. أما النواحي الأدبية فظل فيها الاتصال معدوما. وطبيعي ألا تنهض اللغة وتظل علی عهودها السابقة جامدة راکدة مثقلة بالسجع والمحسنات البديعية». [26]
واشتد احتکاك الشرق العربي بالغرب في منتصف القرن التاسع عشر و «أرسلت طائفة من الشباب المصري إلی أوربا وعلی رأسها رفاعة الطهطاوي «الذي تعلم في الأزهر وتخرج فيه، و رافق البعثة الکبری الأولی لمحمد علي إماما لها. ولم يکتف بعمله، بل أقبل علی تعلم اللغة الفرنسية، حتی أتقنها. وفي أثناء إقامته بباريس أخذ يصف الحياة الفرنسية من جميع نواحيها المادية والاجتماعية والسياسية في کتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». وعاد إلی مصر فاشتغل بالترجمة وعيِّن مديرا لمدرسة الألسن، وأخذ يترجم مع تلاميذه آثارا مختلفة من اللغة الفرنسية. وکان ذلك بدء النهضة الأدبية المصرية، ولکنه کان بدعا مضطربا، فإن رفاعة وتلاميذه لم يتحرروا من السجع والبديع، بل ظلوا يکتبون بهما المعاني الأدبية الأوربية. ومن الغريب أنهم کانوا يقرءونها في لغة سهلة يسيرة، ثم ينقلونها إلی هذه اللغة الصعبة العسيرة المملوءة بضروب التکلف الشديد، فتصبح شيئا مبهما لايکاد يفهم إلا بمشقة». [27]
«هناك ظاهرة جديرة بالتسجيل تتعلق بالأدب في تلك الحقبة، وهي الالتفات من بعض الکتاب إلی موضوع الوطن والوطنية، بالمفهوم الحديث تقريبا؛ فقد کان الوطن من قبل ذائبا في جملة العالم الإسلامي أو دولة الخلافة، وليس له دلالة خاصة، وبالتالي ليس هناك کتابات تدور حوله وتتغنی به. أما الآن ومع کتابات رفاعة الطهطاوي بصفة خاصة، فنحن نجد فکرة الوطن تبرز، والتغني به يبدأ، حتی ليمکن أن يعتبر ما کان من ذلك حجر الأساس في الأدب المصري القومي في العصر الحديث. وهکذا نری أن رفاعة الطهطاوي يعتبر واضع بذور التجديد في الأدب المصري الحديث، فأدبه يمثل دور الانتقال من النماذج المتحجرة التي تحمل غالباً عفن العصر الترکي إلی النماذج المجددة التي تحمل نسمات العصر الحديث». [28]
«وکان لازدهار النثر الفني عوامل کثيرة من بينها: العناية بدراسة اللغة العربية وآدابها في الأزهر والمدارس والمعاهد والجامعات، وإحياء مصادر الأدب العربي القديم وطبع أحسن مؤلفات الأدباء المعاصرين، وظهور المجلات الأدبية، وعناية الصحف اليومية بالأدب، وإنشاء دارالکتب المصرية، وکثرة ما ترجم من آداب الغرب إلی العربية، وتعدد الثورات الشعبية، التي احتاجت للخطابة، وقيام الصحف مما دعا إلی نهضة الکتابة». [29]
تطور النثر بعد الحرب العالمية الأولی، وظهر الاتجاه الأدبي الذي يدعو أصحابه إلی الأسلوب الفصيح الرصين الجزل، حتی يکون لأدبهم موقع حسن في الأسماع والقلوب، فهم يحرصون علی الإعراب وعلی الألفاظ الصحيحة. وکانوا في إطار تجديد، لا يخرجون عن أصول العربية، ويقوم هذا الاتجاه علی التحول والتطور في اللغة العربية علی نحوما تحولت وتطورت الآداب الأوربية، دون قطع صلتها بالقديم، ومن أصحابه في مصر، طه حسين، هيکل والعقاد. وهذه النزعة المجددة کانت إحياء للقديم وبعثا وتنمية في صور جديدة، ويعتمد علی عنصرين متکافئين وهما المحافظة علی إحياء القديم والإفادة من الآداب الغربية. [30]
وقد ظهرت، في أواخر القرن التاسع عشر، أربع طوائف في النثر وهي: طائفة الأزهريين المحافظين، وطائفة المجددين المعتدلين الذين يريدون أن يعبرو بالعربية دون استخدام سجع وبديع، وطائفة المفرطين في التجديد الذين يدعون إلی استخدام اللغة العامية، ثم طائفة الشاميين، التي کانت في صف الطائفة الثانية، واشتدت المعارك بين الطائفة الأولی والطوائف الأخری، حتی انتصرت طائفة المجددين المعتدلين، فعدل الکتاب إلی التعبير بعبارة عربية صحيحة لا تعتمد علی زينة من سجع وبديع، بل يعتمد علی المعاني ودقتها. [31]
وکان محمد عبده علی رأس طائفة المجددين المعتدلين. وهو الذي أخرج الکتابة الصحفية من دائرة السجع والبديع إلی دائرة الأسلوب الحر السليم. وکوّن لنفسه أسلوبا قويا جزلا، ومرّنه علی تحمل المعاني السياسية والاجتماعية الجديدة والأفکار العالية، ومعنی ذلك أنه طور النثر العربي من حيث الشکل والموضوع. [32]
ثم جاء تلميذه لطفي المنفلوطي فقطع بهذا النثر شوطا کبيرا بکتبه ومقالاته، فأنشأ أسلوبا نقيا خالصا ليس فيه شيء من العامية ولا من أساليب السجع الملتوية إلا ما يأتي عفواً، ولم يقلد في ذلك کاتبا قديما مثل ابن المقفع والجاحظ بل حاول أن يکون له أسلوبه الخاص، فأصبح النثر متحررا من کل أشکال قيود السجع والبديع، وبذا يعد المنفطوطي رائد النثر الحديث.
وکانت الشهرة التي حظي بها المنفلوطي، تعزی إلی أسلوبه أکثر مما تعزی إلی مضمون مقالاته. وهو أدرك الحاجة إلی تغيير أساليب اللغة العربية، وکثيرا ما عبّر عن اعتقاده بأنّ سرّ الأسلوب کامن في تصوير الکاتب تصويرا صادقا لما يدور في عقله من أفکار. [33]

دور الصحافة والطباعة في تطور النثر:

کانت للصحافة تأثير کبير في حرکة التطور. ولئن کانت في المرحلة الأولی وسيلة السلطة فحسب، فقد غدت، فيما بعد، محرضا وباعثا علی النهضة والتطور. وقد کانت تضم مقالات أدبية أو اجتماعية أو علمية، يفيد منها القراء. وأول من فکر في إنشاء صحيفة، نابليون، الذي أمر بإصدار ثلاث صحف، اثنتين بالفرنسية وواحدة بالعربية. ثم أنشأ محمد علي باشا جريدة رسمية باسم السلطة.
وللسوريين واللبنانيين سهم کبير في إصدار عدد ضخم من الصحف والمجلات کالأهرام والمقتطف والمقطم والهلال. [34]
وکانت الصحافة هي التي عادت بالکتابة الأدبية إلی أصالتها من حيث کونها خلصتها من التصنع والزخرف ورجعت بها إلی الوضوح ودقة التعبير وطوعتها من جديد للتعبير السمح عن خطرات التفکير ومشاعر الوجدان. [35]
«ففي حقل الصحافة استطاعت الصحف الاسلامية والوطنية أن تصل إلی طبقات کاملة من القراء». [36]
وازدهار الصحافة کان نتيجة نمو الحرکات السياسية والاصلاحية واستعلاء الوعي القومي من ناحية والوعي الديني من ناحية أخری. فأصبحت الصحف منابر لتلك الحرکات والمنظمات التي تمثل مختلف الدعوات والمواقف الايديولوجية. وکان القصد عند هؤلاء وأولئك التأثير في الرأي العام والتعبير عن قضاياه. وبذلك يکون ظهور فن المقالة نتيجة من نتائج هذه العوامل کلها، من ظهور الصحافة، وظهور الرأي العام، وظهور الحرکات السياسية والاصلاحية. فعاد الأدب إلی الحياة مرة أخری يعبر عن قضاياه ومنازعها.
«وقد کان لمحمد عبده أثر کبير في نهضة الصحافة في أواخر القرن التاسع عشر، وهو الذي تولی العمل في الوقائع المصرية». [37]
وکان للطباعة أيضاً أثر کبير في تطور النثر و «ما کان للنهضة أن تحدث لولا الطباعة، فهي وسيلة النشر الأولی، في عصر يتسم بالتطور السريع، والحاجة إلی الکتاب والصحيفة والمجلة». [38]
«کان لازدياد المطابع، والرغبة الأکيدة في طلب المعرفة أن زادت حرکة إحياء التراث العربي، فطبعت أمهات الکتب العربية: الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني، و العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسی ...». [39]
وفي البلاد العربية کان السبق للبنان في استعمال المطبعة. [40]

موضوعات النثر في عصر النهضة:

کانت موضوعات النثر واسعة الأفق، و تناولت مشکلات الحياة وما يهم الشعوب وما يبعث علی اليقظة والنهضة ممثلة في:
  1. الدفاع عن الشعوب المظلومة.
  2. الدعوة إلی الأخذ بنظام الشوری في الحکم.
  3. محاربة الاستعمار، وإثارة الحمية الوطنية في نفوس الشعوب المستذلة.
  4. السعي في إصلاح المفاسد الاجتماعية. [41]

خصائص النثر في عصر النهضة:

  1. سلامة العبارة وسهولتها، مع المحافظة علی سلامة اللغة وخلوها من الوهن والضعف.
  2. تجنب الألفاظ المهجورة والعبارات المسجوعة، إلا ما يأتي عفواً ولايثقل علی السمع.
  3. تقصير العبارة وتجريدها من التنميق والحشو حتی يکون النثر علی قدر المعنی.
  4. ترتيب الموضوع ترتيبا منطقيا في حلقات متناسقة، وتقسيم المواضيع إلی فصول وأبواب وفقرات بحيث لايضيع القارئ، ويفهم تناسق الأجزاء ويتبع تسلسلها بسهولة. [42]

أغراض النثر في عصر النهضة:

1ـ النثر الإجتماعي الذي يتطلب صحة العبارة، والبعد عن الزخرف والزينة، ووضوح الجمل، وترك المبالغات، وسلامة الحجج وإجراءها علی حکم المنطق الصحيح، لأن الغرض منه معالجة الأمر الواقع، فلا ينبغي استعمال الأقيسة الشعرية، ولا الخيال المجنح.
2ـ النثر السياسي أو الصحفي، ويمتاز بالسهولة والوضوح بحيث يکون معناه في ظاهر لفظه؛ لأن الصحف تخاطب الجماهير، ويقرؤها الخاصة والعامة.
3ـ النثر الأدبي، وهو أشد أنواع النثر حاجة إلی تخير اللفظ، والتأنق في النظم، حتی يخرج الکلام مشرقا منيرا، لطيف الموقع في النفوس، حلو النبرة في الآذان، لأن للموسيقی اللفظية أثرا کبيرا في الأذهان. وهو أدنی أنواع النثر إلی الشعر. [43]
من مجموع ما مضی «يمکن أن نطلق علی الأدب العربي في القرن التاسع عشر عصر الأدب الاتباعي الکلاسيکي، إلا أن الإتباعية فيه کانت ذات ثلاثة مستويات معرفية: الأول، يعتمد في نثره الأساليب الراقية الفنية في العصور العربية الزاهية، والثاني، کان امتدادا لعصور الانحطاط التي بدأت قبل سقوط بغداد فيما يخص التطور النثري فاکتسب طابعها، اغراق في المحسنات البديعية... وثالث مازج بينهما فکان في نثره يجمع بين کلا الطابعين الأدبيين». [44]

خاتمة البحث:

تبين لنا من خلال هذا البحث أن نشأة النثر العربي في العصر الجاهلي کانت غامضة؛ وکان حظ النثر من الحفظ أقل من حظ الشعر. وفي العصر الإسلامي کانت مظاهر التطور في النثر أوضح منها في الشعر ؛ وأغراض النثر ومعانيه قد تغيرت تغيرا محسوسا بظهور الإسلام. وکانت الکتابة ضرورة علمية لا غنی عنها في الحرکة العلمية التي ازدهرت في العصر الأموي وتعاظمت في أواخره؛ ونتيجة لذلك توسع انتشار الخط واستعمال الکتابة، إبان ذلك العصر، توسعا عظيما، نظراً لإقبال الناس علی طلبه. وفي العصرالعباسي خطا النثر خطوة واسعة، فهو لم يتطور من حيث موضوعاته وأغراضه فقط؛ بل إن معانيه قد اتسعت وأفکاره قد عمقت، وأخيلته قد شحذت؛ لأن مشاهد الحياة ومقوماتها العامة قد تغيرت. وفي العصر الحديث خرج النثر من عهد الانحطاط، وبدأت الأساليب تتحرر في بعض جوانبها من قيود التصنع اللفظي؛ وکان للطباعة و الصحافة أثر کبير في تطور النثر.

فهرس المصادر والمراجع:

  1. الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام: محمد عبدالمنعم خفاجي. دارالتأليف، القاهرة، ط 1، 1952م.
  2. الأدب العربي المعاصر في مصر: شوفي ضيف. دارالمعارف، القاهرة، ط 7، لاتا.
  3. الأدب العربي من الانحدار إلی الازدهار: جودت الرکابي. دارالفکر، دمشق، ط 2، 1996م.
  4. الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي: محمد عبدالمنعم خفاجي. دارالجيل، بيروت، لاط، 1990م.
  5. الأدب والنصوص: سيد سعيد غزلان وآخرون. لانا، لاط، لاتا.
  6. أعلام في النثر العباسي: حسين الحاج حسن. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1993م.
  7. تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن الزيات. دارالمعرفة، بيروت، ط 11، 2007م.
  8. تطور الأدب الحديث في مصر: أحمد هيکل. دارالمعارف، القاهرة، ط 6، 1994م.
  9. الجامع في تاريخ الأدب العربي: حناالفاخوري. منشورات ذوي القربی، قم، ط 3، 1427هـ.
  10. دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه: محمد عبدالمنعم خفاجي. دارالجيل، بيروت، ط 1، 1992م.
  11. دراسات في الأدب العربي: هاملتون جيب. المرکز العربي للکتاب، دمشق، لاط، لاتا.
  12. الرائد في الأدب العربي: إنعام الجندي. دارالرائد العربي، بيروت، ط 2، 1986م.
  13. صبح الأعشی في صناعة الإنشاء: أبوالعباس أحمد بن علي القلقشندي. وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، لاط، لاتا.
  14. الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث: محمد الکتابي. دارالثقافة، ط 1، 1982م.
  15. العقد الفريد: ابن عبدربه. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، لاط، 1942 م.
  16. الفن ومذاهبه في النثر العربي: شوقي ضيف. دارالمعارف، القاهرة، ط 12، لاتا.
  17. الفهرست: ابن النديم. دارالمعرفة، بيروت، لاط، لاتا.
  18. في الأدب الجاهلي: طه حسين. مطبعة فاروق، القاهرة، لاط، 1933م.
  19. في الأدب الحديث: عمرالدسوقي. دارالفکر، القاهرة، ط 8، 1973م.
  20. لسان العرب: ابن منظور. دارإحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1992م.
  21. المقال وفنونه عندالشيخ علي يوسف: طاهر عبداللطيف عوض. مکتبة الکليات الأزهرية، القاهرة، لاط، 1989م.
  22. المقدمة في نقد النثر العربي: علي حب اللَّه. دارالهادي، بيروت، ط 1، 2001م.
  23. من حديث الشعر والنثر: طه حسين. مطبعة الصاوي، القاهرة، ط 1، 1936م.
  24. مواکب الأدب العربي عبرالعصور: عمرالدقاق. طلاس، دمشق، ط 1، 1988.
  25. النثر الفني في القرن الرابع الهجري: زکي مبارك. المکتبة العصرية، بيروت، لاط، لاتا.
  26. النثر الفني وأثر الجاحظ فيه: عبدالحکيم بلبع. مکتبة الأنجلو المصرية، لاط، لاتا.
  27. النصوص الأدبية: نوري حمودي علي وآخرون. دارالحرية، بغداد، ط 1، 1979م.

حواشي

[1لسان العرب: ابن منظور، دارإحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1992م، مادة (نثر)
[2الفن ومذاهبه في النثر العربي: شوقي ضيف، دارالمعارف، القاهرة، ط 12، لاتا، ص: 15
[3النثر الفني في القرن الرابع الهجري: د. زکي مبارك، المکتبة العصرية، بيروت، لاط، لاتا، ج: 1، ص: 50 و مابعدها
[4الأدب العربي بين الجاهلية والاسلام: د.محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالتأليف، القاهرة، ط 1، 1952م، ص:78
[5في الأدب الجاهلي: د. طه حسين، مطبعة فاروق، القاهرة، لاط، 1933م، ص: 369؛ ومن حديث الشعر والنثر: د. طه حسين، مطبعة الصاوي، القاهرة، ط 1، 1936م، ص: 24 وما بعدها
[6الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 104
[7مواکب الأدب العربي عبرالعصور: د. عمر الدقاق، طلاس، دمشق، ط 1، 1988، ص: 77
[8الجامع في تاريخ الأدب العربي (الأدب القديم): حنا الفاخوري، منشورات ذوي القربی، قم، ط 3، 1427هـ، ص: 322
[9الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 100
[10صبح الأعشی في صناعة الإنشاء: أبوالعباس أحمد بن علي القلقشندي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، لاط، لاتا، ج:1،ص: 37
[11النثر الفني وأثر الجاحظ فيه: عبدالحکيم بلبع، مکتبة الأنجلو المصرية، لاط، لاتا، ص:122
[12المصدر نفسه، ص: 125
[13مواکب الأدب العربي عبرالعصور، ص: 118
[14الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 114
[15العقد الفريد: ابن عبد ربه، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، لاط، 1942 م ،ج:2،ص:106
[16الفهرست: ابن النديم، دارالمعرفة، بيروت، لاط، لاتا، ص: 170
[17الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 125
[18الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي: د. محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالجيل، بيروت، لاط، 1990م، ص: 312
[19أعلام في النثر العباسي: د. حسين الحاج حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1993م، ص: 18
[20النثر الفني وأثر الجاحظ فيه، ص: 148
[21الأدب والنصوص: سيد سعيد غزلان وآخرون، لانا، لاط، لاتا،ج:2، ص:178
[22المصدر نفسه،ج:2، ص: 178ـ179
[23المقال وفنونه عند الشيخ علی يوسف: طاهر عبداللطيف عوض، مکتبة الکليات الأزهرية، القاهرة، لاط، 1989م، ص: 46
[24مواکب الأدب العربي عبرالعصور، ص: 249
[25المصدر نفسه، ص: 250ـ 251
[26الأدب العربي المعاصر في مصر: شوقي ضيف، دارالمعارف، القاهرة، ط 7، لاتا، ص: 170ـ 171
[27المصدر نفسه، ص: 171
[28تطور الأدب الحديث في مصر: أحمد هيکل، دارالمعارف، القاهرة، ط 6، 1994م، ص: 41ـ 42
[29دراسات في الأدب العربي الحديث و مدارسه: محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالجيل، بيروت، ط 1، 1992م ،ج:2، ص:303
[30الأدب العربي المعاصر في مصر، ص: 192 ـ 193
[31الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 392
[32الأدب العربي المعاصر في مصر، ص: 227
[33دراسات في الأدب العربي: هاملتون جيب، المرکز العربي للکتاب، دمشق، لاط، لاتا، ص: 55
[34الرائد في الأدب العربي: إنعام الجندي، دارالرائد العربي، بيروت، ط 2، 1986م، ج:2، ص: 243ـ 244
[35الصراع بين القديم و الجديد في الأدب العربي الحديث: محمد الکتابي، دارالثقافة، ط 1، 1982م، ج:1، ص: 482 ـ483
[36دراسات في الأدب العربي، ص: 51
[37دراسات في الأدب العربي الحديث و مدارسه، ص: 311
[38الرائد في الأدب العربي، ج:2، ص: 245
[39النصوص الأدبية: نوري حمودي علي و آخرون، دارالحرية، بغداد، ط 1، 1979م، ص: 57
[40تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن الزيات، دارالمعرفة، بيروت، ط 11، 2007م، ص: 314
[41في الأدب الحديث: عمرالدسوقي، دارالفکر، القاهرة، ط 8، 1973م، ج:1،ص: 340 وما بعدها
[42الأدب العربي من الانحدار إلی الازدهار: جودت الرکابي، دارالفکر، دمشق، ط 2، 1996م، ص: 327 ـ 328
[43في الأدب الحديث، ص: 325 وما بعدها
[44المقدمة في نقد النثر العربي: علي حب اللَّه، دارالهادي، بيروت، ط 1، 2001م، ص: 225 ـ 226

الأربعاء، 12 أغسطس 2015

الحكاية المثلية «نوعاً أدبياً»
الرسالة والقضايا

عبد الواحد التهامي العلمي
عندما يريد الباحث في الأدب العربي القديم أن يقف على الأجناس الأدبية بشكل عام وأجناس السرد بشكل خاص، فإن ما يصطلح عليه بالحكاية المثلية يشكل أحد أهم الأجناس الأدبية السردية التي أسهمت في صياغة الأدب العربي القديم على نحو ما أسهمت في التعبير عن الرؤى الإيديولوجية التي عبر عنها مجموعة من كتّاب هذا الجنس، كما جسدت التواصل الحضاري الذي خاضت فيه الثقافة العربية مع ثقافات الشعوب المجاورة. ومن نصوص الحكاية المثلية: «النمر والثعلب» لسهل بن هارون، و«الأسد والغواص» المجهولة المؤلف، و«كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع.

1- الحكاية المثلية «جنساً أدبياً قديماً»
الحكاية المثلية مجموعة من القصص أو الحكايات ترتكز على أحداث متتابعة يكون أبطالها من الحيوانات التي تتحاور فيما بينها، وغالباً ما يكون هذا الحوار موجهاً لنقد سلوك الناس وطبائعهم وأخلاقهم أو معالجة قضايا اجتماعية وسياسية كثيرة عن طريق التلميح والترميز. وهي فن من فنون النثر العربي القديم المعروفة في التراث القصصي، «إذ لم يخل منه عصر، فضلاً عن كونه «فنًّاً كونياً عرفته كل الثقافات عبر التاريخ» (1)، واختلفت في تسميته حيث عُرِّف هذا الجنس بتسميات متعددة كـ «المثل» أو «الأمثولة» أو «الحكاية المثلية» أو «الخرافة» أو «الحكاية» أو «القصة على لسان الحيوان»، أو «رواية الحيوان».

لقد اختلف الدارسون حول نشأة هذا الفن؛ فبعضهم يرى أن أصوله يونانية، وبعضهم الآخر يكاد يجزم أن الهند كان لها السبق في ظهور هذا النوع من الحكايات، بينما يرى آخرون أن هذا الفن كان له ارتباط وثيق بالحكاية أو القص الشعبي والأسطورة، مما حقق له الشيوع والانتشار في كثير من الأمم.

إن أي فهم حقيقي لهذا الجنس الأدبي ينبغي أن بضع في اعتباره أنه جنس أدبي كلاسي يجري عليه ما يجري على الأجناس الأدبية التي أنتجت في العصر الكلاسي عربياً أو غربياً؛ أي أن الحكاية المثلية شأنها شأن الخطبة والخبر والنادرة والمقامة والقصيدة... إنما صيغت لتستجيب لحاجات جمالية وأخلاقية متداخلة. فالتصور الكلاسي للأدب لا يفصل بين الفن والأخلاق ويقوم الإنتاج الأدبي بتواشج أدبيته بنجاعته في مجال الأخلاق والسلوك والاعتقاد. وهذا يعني أن المدخل الصحيح لقراءة الحكاية المثلية ينبغي أن يقوم على مراعاة هذا الوضع الأدبي المخصوص. فالوظيفة الحجاجية أو التداولية تكيف الوظيفة الأدبية، كما أن الوظيفة الأدبية تتخلل الوظيفة الحجاجية والتداولية. وهذا يعني أننا لا نستطيع استخلاص المكونات التي صنعت أدبية هذا النوع دون مراعاة التباسها بالوظيفة الحجاجية التي منحتها صيغتها التي تشكلت بها داخل النص المعطى. إننا لا نستطيع أن نفصل مكونات البنية السردية على سبيل المثال عن المقصدية التداولية العامة التي تتحكم في بنية النوع؛ فالزمن، والمكان، والشخصيات، والتضمين، عناصر سردية وضعت على نحو يخدم المقصدية الأخلاقية والتعليمية التي تنهض عليها نصوص الحكاية المثلية في كليلة ودمنة على سبيل المثال. كما أن مقاصد الحكاية المثلية ليست عقلية خالصة، بل تداخلت مع المكون الجمالي بحيث يمكن القول إن استدعاء السرد والرمز والتمثيل والهزل والغرابة كان لأجل إضفاء الطابع الأدبي على التواصل الذي تراهن عليه نصوص هذا النوع.

ولإبراز هذا التداخل نشير على سبيل المثال إلى حكاية «القرد والغيلم» التي تقوم على حبكة سردية مثلما تقوم على رسالة عملية؛ فهذه الحكاية تحكي قصة قرد هرم كان ملك القردة، لكن قرداً شاباً قوياً تغلب عليه ونزع منه الملك. وبعد هروبه إلى الساحل صعد شجرة تين وجعلها مكاناً لإقامته ثم شرع يأكل ويرمي بعض التين في الماء، وكان الغيلم يلتقط الذي يسقط من أعلى الشجرة. هكذا نشأت صداقة متينة بين القرد والغيلم أنسته زوجته. ولما طال غيابه فكرت زوجته السلحفاة بمساعدة جارتها في حيلة للقضاء على القرد بعد أن تظاهرت بالمرض، وادعت الجارة لزوجها أن علاجها الوحيد هو قلب القرد بناء على وصفة الأطباء. وكاد الغيلم أن يغدر بصديقه لولا فطنة القرد عندما علم بنوايا الغيلم فخاطبه قائلاً: «وما منعك أصلحك الله، أن تعلمني عند منزلي حتى كنت أحمل قلبي معي؟ فإن هذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحدنا لزيارة صديق له خلَّف قلبه عند أهله أو في موضعه لننظر إذا نظرنا إلى حُرَمِ المَزُر وليس قلوبنا معنا. قال الغيلم: وأين قلبك الآن؟ قال خلفته في الشجرة. فإن شئت فارجع بي إلى الشجرة حتى آتيك به»(2). وهكذا يتبين أن هذه الحكاية تحمل رسالة إلى المتلقي، وتعالج عدة قضايا إنسانية وأخلاقية: كالوفاء، والمكر، والكيد، والغباء، والفطنة، والصراع بين الخير والشر، وبين الوفاء والغدر؛ كما يظهر ذلك جلياً في حديث الغيلم مع نفسه: «كيف أغدر بخليلي لكلمة قالتها امرأة من الجاهلات؟ وما أدري لعل جارتي قد خدعتني وكذبت بما روت من الأطباء. فإن الذهب يجرب بالنار، والرجال بالأخذ والعطاء، والدواب بالحمل والجري. ولا يقدر أحد أن يجرب مكر النساء ولا يقدر على كيدهن وكثرة حيلهن»(3).

2 -الحكاية المثلية جنس مركب:
في حقيقة الأمر يمكن القول إن الحكاية المثلية هي خطاب مركب من صيغتين؛ صيغة السرد وصيغة القول، أي أنها تتكون في بنيتها الخِطابية من حكايات يرويها راوٍ أو رواة، وتجري في زمان ومكان، ويقوم بأفعالها شخصيات، وتتوالى أحداثها أو تتتابع، كما أنها تخضع للتحول. غير أن السرد ليس الصيغة الوحيدة التي تشكلت بها نصوص الحكاية المثلية؛ فقد صيغت الحكاية المثلية أقوالاً حجاجية، وهذا هو الذي كان يعنيه عبد الفتاح كيليطو عندما رأى أن المثل يتكون من عنصرين هما: السرد أي الحكاية التي تجري أحداثها بين الحيوانات والحكمة التي تشكل الغاية من الحكاية المثلية، والحكمة بدورها ما هي إلا وسيلة تؤدي إلى غاية هي: العمل(4). وبتعبير آخر، تنطوي الحكاية المثلية في نصوص كليلة ودمنة على سبيل المثال على وظيفة تخييلية سردية تتمثل في إقناع القارئ بحكايات رمزية ووصف وتشويق وحوارات، كما تنطوي على وظيفة تداولية تتمثل في توجه النص ضمناً أو صراحة إلى المتلقي يدعوه إلى العمل بالتوجيهات التي يسعى إلى ترسيخها في السلوك الفردي والاجتماعي(5).
يقول أحد الباحثين إن الحكاية المثلية ملتقى أنماط كتابة عديدة؛ فهي من جهة نص سردي يعتمد الوصف والإخبار، وهي من جهة أخرى نص حجاجي ذو مقاصد أخلاقية واجتماعية وسياسية وفكرية تحتاج إلى أساليب الوعظ(6). وينتهي الباحث إلى إبراز أهم مكون في الحكاية المثلية هو الترابط بين «أدب الفكرة (الحجاج) وأدب السرد (القص)؛ ذلك أن الحكاية المثلية تقنعنا وتمتعنا؛ تقنعنا لأنها حلقة من السلسلة الحجاجية، أي دعامة من دعائم كامل الاستدلال، وتمتعنا بما تتضمنه من الإثارة رغم اختزالها وما تفتحه للقص من أفق ومشاريع وبما تشف عنه من دلالة فكرية وثقافية»(7).

لقد اختلف الدارسون حول نشأة هذا الفن؛ فبعضهم يرى أن أصوله يونانية، وبعضهم الآخر يكاد يجزم أن الهند كان لها السبق في ظهور هذا النوع من الحكايات، بينما يرى آخرون أن هذا الفن كان له ارتباط وثيق بالحكاية أو القص الشعبي والأسطورة، مما حقق له الشيوع والانتشار في كثير من الأمم
ويبدو أن الباحث كان محقاً عندما نعت الحكاية المثلية أو صنفها في إطار ما أسماه بالأدب الحجاجي(8)؛ فالحكاية المثلية في ذاتها تعد حجة كما بيَّن سيمور شتمان قائلاً: «فحينما نجد حجاجاً... فهو في الأغلب صنيع الأمثال السائرة... ولنتذكر الأمثال والحكايات الخرافية كما بينت لنا سوزان سليمان في كتاب رائع حول رواية الأطروحة»(9). والحكاية المثلية حجة لأنها ترتبط بسياق تواصلي يتوخى فيه السارد إقناع المتلقي بالأطروحة التي يرغب في توصيلها له.

3 - بلاغة الحكاية المثلية:
تفضي القراءات الحديثة التي قامت بفحص نماذج من الحكاية المثلية قي التراث العربي (كليلة ودمنة) على سبيل المثال إلى النظر إلى هذا النص باعتبار بلاغته المخصوصة المتمثلة كما قلنا سابقاً في الجمع بين البعد التعليمي الأخلاقي والبعد الأدبي التمثيلي. فهذا النموذج من التعبير الأدبي يجمع بين خصائص الخطاب الحجاجي وخصائص الخطاب الأدبي؛ ذلك أنه لا يوجد أي تعارض بين الغرض الحكمي المعلن داخل النص وبين تعدد الدلالات والتأويلات المحتملة التي يمكن أن تنبثق عن تنظيمه الجمالي. يقول سامي سويدان إن كتاب كليلة ودمنة على الرغم من وظيفتيه الإمتاعية والتعليمية فهو لا يخلو من بعد رمزي «فمزية الرمز افتراضه التأويل، والتأويل في أساسه متعدد في وسائله كما في نتائجه. وإذا كان تكرار إعلان الحكمة المرجو بلوغها من الحكاية - المثل في البدء (الطلب) وفي النهاية (الجواب) محاولة لحصر هذا التأويل أو تلك وجهة النظر، فإنه مع ذلك لا يلغي تعددهما. بل قد يكون النص نفسه، بقدر ما يقع الإعلان المذكور في المستوى الظاهر منه، ناهيك بالقراءات المتعددة التي يتيحها بناؤه ونظمه، حاضاً على تجاوزه ودافعاً إلى استكناه دلالاته المتنوعة(10). ويختلف مع هذا الرأي عبد الوهاب الرقيق الذي يرى أن الحكاية المثلية نوع سردي حجاجي ينطوي على معنى وحيد هو المعنى المعلن الذي يترك للقارئ مجالاً للتأويل(11). ومثل هذا الرأي يركز على البعد العملي في الحكاية المثلية أي أنها نص تعليمي في المقام الأول تسعى إلى توضيح الفكرة أو توجيه السلوك. الحكاية المثلية وفق هذا الرأي قرينة الخطابة والنصوص الدينية والسياسية. غير أن النظر إلى ما تتوفر عليه الحكاية المثلية من وجوه ومقومات جمالية يؤكد أن القراءة المنايبة لطبيعة هذا النوع الأدبي ينبغي أن تتجاوز معنى الظاهر إلى معانٍ باطنية يقوم المتلقي باستخراجها واكتشافها، لكن ذلك لا ينبغي ألا يفيد أننا بإزاء نص رمزي مركب؛ فالرمزية التي اعتمدها النص هي: «رمزية بسيطة أولية تتفق مع المستوى العقلاني للحكم والأفكار التي تعبر عنها، بقدر ما تتفق مع التصور الكامن وراء هذا النمط من التعبير لأدائها. فالرؤية العقلانية التي تكمن وراء العمل تتوسل شكلاً بسيطاً لتبليغ البعيد والعميق من طروحاتها، وهو أمر يتلاءم مع الهم الإصلاحي الذي يتوخى الفعالية الأقوى في الإفهام والاتساع الأقصى في دائرة الاتصال»(12).

ومجمل القول في بلاغة الحكاية المثلية أنها قامت على جملة من المقومات والسمات التي تضفى على النص الأدبي. وسنقف فيما يأتي على أبرز مقومات أدبية الحكاية المثلية:

أ- التمثيل والترميز:
يقول ابن المقفع: «فأول ما ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له والرموز التي رُمزت فيه وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مُفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً، فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني ولا أي ثمرة يجتني منها ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب. وإنه إن كانت غايته منه استتمام قراءته والبلوغ إلى آخره دون تفهم ما يَقرأ منه لم يعد عليه شيء يرجع إليه نفعه»(13).

تقوم الحكاية المثلية على تجسيد المعاني المجردة في صور محسوسة؛ فالعدالة والمحبة والحكمة والتعاون والأنانية معانٍ يتوسط بها ترغيباً وترهيباً في حكايات مخترعة أبطالها من الحيوانات. ويشير عبد الوهاب الرقيق في هذا السياق إلى أن التشخيص أبرز تقنية في الترميز في الحكاية المثلية أي تقديم الحيوان في هيئة الإنسان و«تشخيص الحيوان بالكلام والفكر ظاهرة قارة في الحكاية المثلية إلى حد أننا لا نحتاج إلى التمثيل عليها. ولكننا نحب أخيراً أن ندقق أن الحيوان الموضوع للإنسان بالتشخيص لا يرمز إلا إلى مظهر واحد من الإنسان إذ ليس في كليلة ودمنة حيوان واحد يرمز إلى الإنسان في كليته وتعدد أبعاده»(14).
تنزع الحكاية المثلية إلى التغريب، لكنه تغريب مشدود إلى الواقع بحكم أن الحيوان ليس سوى قناع يخفي وراءه الإنسان أحد أبعاده الأخلاقية؛ فهذه الحيوانات هي كائنات حقيقية موجودة في الطبيعة، وقد أسبغ عليها النص خصائص سلوكية إنسانية؛ فالغرابة تزول بمجرد ما ندرك أن الحيوان ليس إلا رمزاً للتعبير عن سلوك الإنسان. إن الغرابة في الحكاية المثلية تختلف عن غرابة الحكاية العجيبة - مثلاً- في كونها لا تخرق الواقع الطبيعي إلا في خاصية إسناد الكلام إلى الحيوانات، لكن الحكاية المثلية تحتفظ بالخصائص الطبيعية للحيوانات، في حين أن الحكاية العجيبة تقوم على شخصيات وأحداث مفارقة للطبيعة.

ب - البنية السردية أو التضمين:
إن المتأمل في نصوص الحكاية المثلية باعتبارها نوعاً كلاسياً من أنواع الجنس القصصي، يلاحظ أنها تنطوي على بعض المؤشرات الخاصة بها والدالة عليها، وعلى ما يميزها عن غيرها من النصوص. هكذا أشار عبد الوهاب الرقيق إلى أنها تشترك مع النصوص السردية الأخرى في بعض العناصر القصصية كالمكان، والزمان، والشخصية القصصية، والراوي أو الرواة، والحوار، والتوتر، والعقدة، والحل، والمغزى...
لقد تناول الباحث الراوي والتضمين باعتبارهما مكونين لأدبية الحكاية المثلية «فالراوي هو هيئة قصصية على درجة من التعقيد والتشعب لا تعرفها الأنواع السردية الكلاسية» الخبر، والمقامة، والنادرة، والتضمين هو أسلوب في الربط بين المقاطع وهو ظاهرة بنيوية مهيمنة في الحكاية المثلية،... باختصار، الراوي، والتضمين، والرمز هي العلامات الجوهرية الجديرة بأن ترفع الضباب عن أدبية الحكاية المثلية»(15).
ويرى الباحث أن «الهيئة السردية» في كليلة ودمنة هي هيئة متعددة الأصوات؛ إذ لا يتكلف فيها راوٍ واحد بمهمة السرد، وإنما يتوزع الرواة إلى مجموعة من الساردين، كالسارد الأصلي الذي ينشئ القص، وهو الراوي الأساس، «الخفي»، «المجهول»، «الغيري»، الذي يتفرع عنه رواة آخرون، وسمي «غيرياً» لأنه يقتصر على «سرد حكاية غيره دون المشاركة في أحداثها. هو إذن سارد أصلي، غيري، شمولي المعرفة، حريص على الحياد والموضوعية، مقتصر على عرض الوقائع بغير تعليق أو انحياز»(16)؛ وعن هذا الراوي الأصلي يتفرع راوٍ آخر، وهو كما يقول عبد الوهاب الرقيق: «سارد فرعي غيري بما أنه يقع على مستوى قصصي ثانٍ ويقص حكاية غيره، حكاية ليس هو شخصية من شخصياتها؛ هذا الراوي هو بيدبا الفيلسوف؛ ففي باب «البوم والغربان»، على سبيل المثال، نجد هذا الراوي الذي لا يشارك في الأحداث بل يكتفي بروايتها. «قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل من الجبال شجرة من شجر الدوح فيها وكر ألف غراب وعليهن والٍ منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم...»(17).
وقد يتكلف بالسرد، في «كليلة ودمنة»، راوٍ آخر، وهو في الغالب شخصية من شخصيات الحكاية، ككليلة، أو دمنة، أو الأسد، أو النمر، أو الغراب، أو البوم، أو القرد، أو الغيلم، إلى غير ذلك من الشخصيات التي تتولى رواية الأحداث.
وهناك راوٍ أو سارد آخر، سماه الباحث: «السارد الفرعي الذاتي» لأن هذا السارد هو شخصية من شخصيات الحكايات التي تقوم بسرد حكاية تكون مشاركة في أحداثها أو قامت بها. «ومثال ذلك في باب «الحمامة والثعلب الحزين» تلك الحمامة التي ابتليت بالثعلب الخبيث. فاشتكت لمالك الحزين قائلة: «إن ثعلباً دهيت به كلما كان لي فرخان، جاء يتهددني ويصيح في أصل النخلة فأفرق منهن فأطرح إليه فرخي»(18).

خلاصة:
تثبت الحكاية المثلية العربية أن التراث العربي لم يكن تراثاً شعرياً فقط، ولكنه كان أيضا تراثاً سردياً استجاب لغريزة الحكي عند الإنسان العربي، غير أن السرد الرسمي (العالِم) كان يختلف عن السرد الشعبي، في كونه يمثل جزءاً من بنية الثقافة العربية التي اشترطت في قبولها السرد بناء على الشعر أو الحكمة. وقد مثلت الحكاية المثلية نموذجاً للسرد العربي الذي امتثل لشروط النص في الثقافة العربية.

الهوامش:
1- عبد العزيز شبيل، التناص والتراث العربي بين «كليلة ودمنة» و«الأسد والغواص»، حوليات الجامعة التونسية، عدد52، 2007، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، ص 144.
2- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، دار الجيل، الطبعة الثالثة، 2006، ص241.
3- نفسه، ص 239.
4- عبد الفتاح كيليطو، الحكاية والتأويل، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1988، ص. 37.
5- نفسه.
6- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع، دار صامد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2007، ص 92.
7- نفسه، ص 96.
8- نفسه، ص 96.
9- سيمون شتمان، الحجاج والسرد، ترجمة عبد الواحد التهامي العلمي، مراجعة الدكتور محمد مشبال، مجلة الصورة، العدد الخامس، 2003، ص 58.
10- سامي سويدان، ص 305.
11- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة، مرجع مذكور، ص 72.
12- سامي سويدان، ص 304-305.
13- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، مرجع مذكور، ص 69.
14- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لابن المقفع، مرجع مذكور، ص 109.
15- نفسه، ص 98.
16- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، مرجع مذكور، ص 99.
17- نفسه، ص 208.
18- عبدالوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لابن المقفع، مرجع مذكور، ص 100.

الأربعاء، 5 أغسطس 2015

العجائبي

بهاء بن نوار

 











تعدّ العجائبيّة أحدَ المصطلحات النقديّة والروائيّة المستحدثة، الجديدة على قِدَمِها، ورسوخها في التراثيْن: العربيّ، والعالميّ، حيث نجد لها حضورا طاغيا في جميع مناحي الحياة، ومشاربها؛ في حياة الفرد اليوميّة بما يعتريها من تهاويم خيال، وأحلام يقظة، ونوبات كوابيس، وفي حياته الفكريّة العميقة بما يسودها من قلق وجوديّ، ونزوع استباقيّ، ورغبة جامحة في تحطيم أسوار كلّ ما هو متداوَلٌ، ومألوف. وما يعنينا هو البحث في موضوع تلقي النقد العربيّ مصطلحَ العجائبيّة الأدبيّة والروائيّة تحديدا، التي من الصعب جدا تحديد مفهومها تحديدا دقيقا، نظرا لتنوّع موضوعاتها، وتعدّد أساليبها، وتداخل العلاقات فيها بين العالم الذي يقدّمه الخيال من جهة، وذاك الذي يخصّ القارئَ من جهة أخرى.(1(



ويُعدّ كتاب تودوروف (Todorov) "مدخل إلى الأدب العجائبيIntroduction à la  Littérature Fantastique المطبوع سنة 1970، من أبرز الآثار النقديّة المنظرة لموضوع العجائبيّة، والمحدّدة أطرَه، وضوابطه، وجميعَ تفرّعاته النظريّة، والتطبيقيّة. وقبل التعرّض إلى أهمّ ما تطرّق إليه تودوروف في نظريّته التي تفرّد بها عن بقيّة المنظرين، فإنّ علينا أن نتتبّع تطوّر هذا المصطلح في مفهومه العام أولا، فمفهومه الخاص، الذي تكوّنت منه رؤية النقاد المعاصرين له الآن. وفي هذا السياق، نجد في القواميس التاريخيّة للغة الفرنسيّة أنّ أصل كلمة العجائبية (Fantastique) يعود إلى المفردة اللاتينيّة (Phantasticus) المأخوذة بدورها عن الإغريقيّة (Phantastikos) التي تخصّ "المخيّلة"، وتعني في القرن السادس عشر كلَّ ما هو "شارد الذهن"، و"أخرق"، و"خارق"، ثمّ "خياليّ".(2) وكذلك نجد في قاموس لغة القرن السابع عشر أنّ العجائبيّة تعني كلَّ ما يقع خارج الواقع، وكلّ ما هو مستبعَد، وشاذ، وخارق. (3)



فالعجائبيّة في معناها العام، والبسيط تعني اختراق كلِّ ما هو واقعيٌّ، ومعقول، ومعانقة كلّ ما يتجاوز هذا الواقع، ويستبقه، سواء كان هذا الاستباق سلبيّا بالوقوع في بؤرة "الشاذ"، و"الأخرق"، و"الشارد"، أم إيجابيّا بالانفتاح على كلِّ ما هو خارق، ومنفلتٌ من قيود المنطقيّ، واليوميّ، حيث تعدّ العجائبيّة هنا فسحة تحرّر، وتنفيس، يتخفف فيها المبدع من قيود العرف، وضوابطه الثقيلة. وقد ازدهر هذا النزوعُ العجائبيّ الجامح نحو الخارق والخياليّ في أدب القرون الوسطى، حيث لا زالت العقولُ مرتبطة بالأسطورة، وحيث الحدودُ غير واضحة بين المنطقيّ واللامنطقيّ، فكان العجيب يُدرَك تقريبا على أنه حقيقيّ، لتتقلّص مكانته في الفترة الكلاسيكيّة الديكارتيّة، وما أن يحلّ القرن الثامن عشر حتى يستعيدها، فيقتحم الأدبَ، ويغدو المجال المفضّل للرومانسيّة. (4)



هذا على المستوى العام، أمّا على المستوى الخاص؛ المستوى التنظيريّ الذي تناوله النقاد، والدارسون بوصفه تقنيةً أدبيّة، كثيرا ما يلجأ إليها المبدعون في تمرير رسائلهم الفنيّة، فلعلّ من أبرز من تناول هذا الجانب – إلى جانب تودوروف – روجيه كايوا (Roger Caillois) في مقالة له كتبها سنة 1966، ويحدّده من خلالها بأنه اقتحام الممنوع، الذي لا يمكن أن يحدث، ولكنه رغم ذلك يحدث، في نقطة، وفي لحظة دقيقة، وفي قلب عالم متجدّد بامتياز [...] حيث يُعَدُّ وليدَ استقرار فظّ لما فوق الواقع في عالم عاديّ. (5) وما يوحي به تعريف "كايوا" هو أنّ العجائبيّ وليد اختراق مطلق، وصدع مستديم في بنية الواقع، ببعثرة قوانينه الطبيعيّة، والهزء منها، وبثّ روحٍ جديدة فيها، جوهرها الاقتحام، والمغامرة، والتجدّد الدّائم.



وما نلحظه على هذا التعريف أنّه يرتكز على ماهية العجائبيّ بوصفه صدعا يتبطّن جسدَ المألوف، ويخترقه، وينشر الفوضى، والانقباض فيه.  وهذا ما يختلف عن رؤية تودوروف، الذي يركّز على زمن امتداد العجائبيّ، ويسعى جاهدا إلى حصره بدقة ضمن لحظة زئبقيّة، تتوسّط عالميْن مختلفيْن، أو جنسيْن متباينيْن هما: "الغريب"L'étrange ، و"العجيب "Le merveilleux حيث "يستغرق العجائبيّ زمن التردّد أو الريب؛ وحالما يختار المرء هذا الجواب أو ذاك، فإنه يغادر العجائبيّ كيما يدخل في جنس مجاور هو الغريب، أو العجيب.  فالعجائبيّ هو التردّد الذي يحسّه كائنٌ لا يعرف غير القوانين الطبيعيّة، فيما يواجه حدثا فوق طبيعيّ حسب الظاهر.(6)



وهنا لا بدّ من تعريف الحدَّيْن الآخريْن، اللذيْن يؤطران مفهوم العجائبيّ، ويسيّجانه: الغريب، والعجيب: حيث يعرّف تودوروف أوّلهما بأنه ذاك الذي تتلقى فيه الأحداث التي تبدو على طول القصة فوق طبيعيّة، تفسيرا عقلانيّا في النهاية.(7) أمّا ثانيهما، فيعرّفه بأنه ذاك الذي يقترح علينا وجود فوق الطبيعيّ، من جرّاء بقائه غير مفسَّر، وغير متعقّل.(8) وهذا يعني أنّ تودوروف يضع العجائبيّ في لحظة زئبقيّة منفلتة، يحتار معها المتلقي بين قبول التفسير الطبيعيّ المنطقي (الغريب) أو الارتماء في أحضان التفاسير الخرافيّة، واللاعقلانيّة (العجيب)؛ أي أنّ الشكَّ، والحيرة هما جوهر العجائبيّ، وصميم تكوينه.



ونلاحظ من خلال تمييز تودوروف بين حدَّيْ: العجيب، والغريب، وجعله العجائبيّ حالا وسطى بينهما، أنه يشقّ لنفسه طريقا بكرا، ويبتدع تنظيرات جديدة، تختلف عن التنظيرات القديمة المتداولة في مختلف القواميس، حيث لا نكاد نجد أيَّ فرق واضح بين موضوعيْ: العجيب، والغريب، بل يكادان يغدوان مترادفيْن: فالغريب "الذي توضّح معناه مع القرن الحادي عشر مأخوذٌ عن الأصل اللاتينيّ: (Extraneus) الذي يعني كلَّ ما هو خارجيٌّ، ليتطوّر إلى كلِّ ما هو خارج المتداوَل، وفوق المألوف، فالشاذ، والمتفرّد. (9) أمّا العجيب، الذي ترسّخ في القرن نفسه، فمأخوذٌ عن أصل لاتينيّ آخر دارج وكلاسيكيّ (Mirabilia) الذي يخصّ الأشياء المذهلة، والمدهشة، ليرتبط مع اللاتينيّة المسيحيّة بالمعجزات، ثمّ يشمل بعد ذلك جميعَ الأحداث المدهشة، والغريبة، وغير المألوفة. (10)



ولا يكاد يختلف قاموس لغة القرن السابع عشر عن هذا التحديد، حيث نجد أنّ الغريب يفيد كلَّ ما هو خارج الشروط التي نحياها عادة، وكلّ ما هو غير مألوف.(11) في حين يفيد العجيب جميعَ الظواهر فوق الطبيعيّة، أو تلك المنجزة بفضلٍ إلهيّ، أو معجزة. (12) والفرق الوحيد الذي نلمسه بينهما هو أنّ العجيب يميل إلى المعجزات الإلهيّة، وإلى الإدهاش بمعناه المشرق، والإيجابيّ، بعكس الغريب، الذي تشوبه غالبا بصمةٌ من قلق هنا، أو شذوذ هناك.  ممّا يعني – إن صحّ التعبير – أنَّ العجيب يمثل الجانبَ الحلميّ من الخارق، في حين يمثل الغريب الجانبَ الكابوسيّ.



وكما رأينا فإنّ تودوروف لا يلتزم بهذه المعاني الأوّليّة، بقدر ما يضيف إليها معانٍ جديدة، يجعل فيها من فهم القارئ، وتلقيه، محكَّ التجربة ومعيارها؛ فما يهتدي إلى منطقيّته، ومعقوليّته يُعدّ غريبا، وما لا يهتدي منه إلى ذلك يُعدّ عجيبا، علما أنّ معايير الفهم، والتفسير تختلف من فرد إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن، ممّا يطبع نظريّة تودوروف ورؤيته لكلٍّ من العجائبيّ، والغريب، والعجيب بطابع النسبيّة، والتزأبق، والتمنّع على أيّة محاولة للحصر الشامل، والدّقيق.



ولا يكاد يختلف أبتر (Apter) عن تودوروف في تأكيده على ضرورة توافر عنصر التردّد، والشكّ في خضم الأدب العجائبيّ؛ حيث "في أعماق الفنتازيا في القصّ الحديث ثمّة شكٌّ بخصوص العالم الذي تنتمي إليه: أهو هذا العالم، أم عالمٌ مغايرٌ تماما." (13) ونلاحظ أنّ أبتر برغم اتفاقه المفاهيميّ مع تودوروف إلا أنّه يختلف عنه في بناء المصطلحات، وتوليدها؛ فما يسمّيه تودوروف "فانتاستيكًا" هو لدى أبتر "فنتازيا"، وما يصطلح عليه تودوروف بالتردّد (Hésitation) هو ما يصطلح عليه أبتر ب"المأزق الإدراكيّ". (14) وأيّا كان اختلافهما حول المصطلح، فإنّ ثمّة اختلافات أخرى كثيرة، يمكن تلمّسها، والحكم من خلالها بانفصال كلتا النظريّتيْن، رغم تشابههما الظاهر؛ فما يؤكد عليه تودوروف من ضرورة التمييز بين جنسَيْ: "الغريب"، و"العجيب"، وحصر كلٍّ منهما في نطاق محدّد لا يتعدّاه، لا نجد له أيَّ حضور في نظريّة أبتر، الذي يبني رؤيته على نظريّة التحليل النفسي، وعلى تحليل نماذج تطبيقيّة، كبعض أعمال پو (Poe) وهوفمان (Hoffmann) وبورخيس (Borges) وغيرهم، انطلاقا من هذه النظريّة، ومن تشخيصات فرويد  (Freud)، وتأويلاته.



وما نلحظه على جهود الدارسين العرب المعاصرين أنّ أغلبهم يجعل من نظريّة تودوروف – لا أبتر – مرجعا، وأساسا، لا سبيل إلى تجاوزه، وتناسيه، في سياق التنظير، أو التطبيق لموضوع العجائبيّة، وتجلّيها في القصة، أو الرواية، أو حتى الشعر العربيّ. وقبل التعرّض إلى آراء هؤلاء، فإنّ السؤال المطروح هو عن مدى حضور مصطلح العجائبيّة في التراث العربيّ: هل لهذا المصطلح، وهذه النظريّة من صدى في ذاك التراث؟ أم أنها وليدة الفكر الغربيّ، وأحد نتاجاته الكثيرة، التي امتصصناها منه، وتمثلناها، دون أيّة محاولة للإضافة، والتجديد؟ ولمناقشة هذا الإشكال، لا بدّ من التعرّض إلى المستوى المعجميّ الأوّليّ، الذي خير ما يمثله معجم "لسان العرب" لابن منظور، الذي نجد فيه من معاني مادة: ع ج ب: العُجْب، والعَجَب: إنكار ما يرد عليك لقلّة اعتياده، وجمع العجَب: أعْجابٌ. قال [الشاعر]:



يا عجَبا للدّهر ذي الأعْجابِ         الأحدب البرغوث ذي الأنياب



والاسم: العجيبة، والأعْجوبة.  والتعاجيب: العجائب، لا واحد لها من لفظها. [...] العجيب: الأمر يُتعجّب منه.  وأمرٌ عجيبٌ: معجِبٌ، وقولهم: عجَبٌ عاجبٌ كقولهم: ليلٌ لائلٌ، يُؤكّد به.  والعجَب: النظر إلى شيء غير مألوف، ولا معتاد. (15)



ونجد في مادة غ ر ب: الخبر المُغرِب: الذي جاء غريبا، حادثا، طريفا. [...] وأغرب الرّجل: جاء بشيء غريب، وأغرب عليه، وأغرب به: صنع به صنعا قبيحا.  الأصمعي: أغرب الرجل في منطقه: إذا لم يبق شيئا إلا تكلّم به. (16)



ونلاحظ أنّ المعنى العام الذي أرساه لسان العرب، لا يكاد يختلف عن المعنى الأجنبيّ العام، الذي لمسناه في بعض قواميس اللغة الفرنسيّة؛ حيث لا يتجاوز معنى العجيب الاصطدامَ بكلِّ ما هو غير مألوف، وغير دارج الحدوث.  ولا يتنزّه الغريب عن بعض المعاني السلبيّة المعتمة. ونلمس تعريفا آخر أكثر تخصيصا في كتاب "عجائب المخلوقات" للقزويني (ت682هـ)، الذي يذكر في مقدمته أنّ العجب هو "الحيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء، أو عن معرفة كيفيّة تأثيره فيه، مثاله أنّ الإنسان إذا رأى خليّة النحل، ولم يكن شاهده من قبل لكثرت حيرته، لعدم معرفة فاعله، فلو علم أنّه من عمل النحل، لتحيّر أيضا من حيث أنّ ذلك الحيوان الضعيف كيف أحدث هذه المسدّسات المتساوية الأضلاع" (17) وفي سياق تعريفه للغريب يقول: "الغريب كلّ أمر عجيب، قليل الوقوع، مخالف للعادات المعهودة، والمشاهدات المألوفة، وذلك إمّا من تأثير نفوس قويّة، وتأثير أمور فلكيّة، أو أجرام عنصريّة.  كلّ ذلك بقدرة الله تعالى، وإرادته." (18)



وفضلا عن التباس معنييْ: العجيب، والغريب، وتداخل مدلولاتهما، فيما أورده ابن منظور، والقزويني، فإننا نلاحظ غياب صيغة "العجائبي" لديهما معا، ممّا يرجّح أنّها من اجتهاد بعض النقاد المعاصرين، الذين لجأوا إليها إمعانا في مجاراة تودوروف، وتمييزا لهذا المصطلح عن صنوه الآخر: "العجيب". وممّا يؤكد هذا أننا لا نجد هذه الصيغة أيضا في القرآن الكريم، حيث يتراوح حضور مادة "ع ج ب" بين الفعل في مختلف أزمنته، كقوله تعالى: «أوَعَجِبْتم أنْ جاءَكمْ ذكرٌ من ربِّكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم تـُرحمون»(19) وقوله أيضا: «قلْ لا يستوي الخبيثُ والطيِّبُ ولو أعْجَبَكَ كثرةُ الخبيث»(20) أمّا الصيغة الاسميّة، فنلمسها مثلا في قوله:



«أمْ حسِبْتَ أنَّ أصحابَ الكهف والرَّقيم كانوا مِنْ آياتنا عَجَبا»(21) وقوله أيضا: «بل عجبوا أنْ جاءهمْ منذرٌ منهمْ فقالَ الكافرون هذا شيءٌ عجيبٌ»(22)



وعليه يمكن القول بأنّ مصطلح "العجائبيّة"، أو "العجائبيّ" بصيغته هذه، ما هو إلا محاولةٌ لخلق تواطؤٍ منهجيّ بين المفهوم الأجنبيّ، الذي أرسى معالمَه تودوروف، والمفهوم العربيّ، الذي برغم تملّصه النظريّ من التحديدات التودوروفية، فإنه بما يمتلكه من ثراء، وشساعة، وتنوّع في الرّؤى والمصادر، يستوعب النظريّة الغربيّة، ويفيض عنها. وبعيدا عن التراث القديم، المليء بما لا يمكن حصرُه من الصّور، والأخيلة، والمشاهد العجائبيّة الطافحة، فإنّ الرواية العربيّة المعاصرة، تعجّ بدورها بكثير من تلك الصور، والأخيلة، والمشاهد، وإن أتت معها بعيدةً عن عفويّتها الأولى، وتلقائيّتها، التي نلمسها من خلال التراث؛ بسِيَره الشعبيّة، ولياليه، وأساطيره، وخرافاته، حيث يميل الروائيّ المعاصر في سياق نزوعه التجريبيّ، ورغبته الجامحة في اختراق جميع الأطر، والمعايير، إلى الاستئناس بعجائب الموروث العربيّ – والإنسانيّ عامّةً – ونفض الغبار عنها، بغية إعادة توظيفها، واستلهام أبعادها اللانهائيّة الفيض، والإيحاء.



وبالاطلاع على أكثر الدراسات النقديّة، المهتمّة بموضوع التجريب الرّوائي، ونزعات تحديث الشكل، والمضمون كليْهما، نجد أنّ "العجائبيّة" تقع منها موقعا مفصليّا، من إيجابيّاته الكثيرة محاولةُ البحث، والسعي نحو تأصيل، وتثبيت هذا النزوع الإبداعيّ الجديد/ القديم، بالعودة إلى التراث من جهة، والانفتاح على أحدث النظريّات الغربيّة من جهة ثانية. ومن سلبيّاتها الكثيرة أيضا – وهي من سلبيات صناعة المصطلح النقديّ العربيّ بعامة – اختلافُ أو عدم توحيد المصطلح فيما بين المنظرين، على عدم استحالة ذلك، بل إمكانه، إلى جانب ضبابيّة المفهوم، والتخبّط، والضياع بين رصانة التراث من جهة، وإغراءات الحداثة من جهة ثانية، ممّا لا ضرورة أبدا إلى التورّط فيه.



وأوّل ملاحظة يمكن تسجيلها في هذا الصّدَد اختلافٌ كبيرٌ، وتبايُنٌ شديد بين الدّارسين حول تكوين المصطلح، بغضّ النظر عن المفهوم المتفق عليه، والذي غالبا ما يكون مجرّد نقل، وإعادة إنتاج لمفهوم تودوروف. ومن أمثلة ذلك ما نجده في "معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة" للدكتور "سعيد علوش"، الذي من بين ما جاء فيه ما يلي: الفانتاستيك: Fantastique



1. نوعٌ أدبيّ، يوجد في لحظة تردّد القارئ بين انتماء القصة إلى الغرائبيّ، أو العجائبيّ.



2. و(القصة الفانتاستيكيّة) هي قصةٌ تضخّم عالمَ الأشياء، وتحوّلها عبر عمليّات مسخيّة.



3. ويُعدّ (هوفمان) من بين كتاب هذا النوع القصصيّ." (23)



حيث نلاحظ أنه اعتمد كلَّ الاعتماد على تعريف تودوروف، وعمد إلى تعريب المصطلح بالفانتاستيك، مصطلحا في الوقت نفسه على العجيب – وبالمعنى نفسه الذي أرساه تودوروف – بالعجائبيّ، وعلى الغريب بالغرائبيّ. ولعلّه فعل هذا اجتنابا لما يمكن أن يحدثه التشابه الصوتيّ والاشتقاقيّ بين "العجائبيّ" و"العجيب" من تداخل، والتباس، قد لا ينجو منهما القارئ غير المتخصّص، وغير الملمّ بخبايا تلك النظريّة.



ومثله يفعل الدكتور "شعيب حليفي" في كتابه "شعريّة الرواية الفانتاستيكيّة"، حيث يتبع هو أيضا طريقة التعريب، معرِّفا الفانتاستيكيّ بأنّه "يتموضع بين ما هو عجائبي وغرائبي، ويجعل القارئ كما يجعل الحدث ونهايته عاملين في تحديد فانتاستيكية العمل الروائي، فإذا انتهت الرواية إلى تفسير طبيعي فإنها تنتمي إلى الأدب الغرائبي [...] أما العجائبي فهو حدوث أحداث، وبروز ظواهر غير طبيعية؛ مثل تكلم الحيوانات، ونوم أهل الكهف لزمن طويل، والطيران في السماء، أو المشي فوق الماء."(24) ويجاريهما "المصطفى مويڤن في كتابه "بنية المتخيل في نص ألف ليلة وليلة"، الذي يقول فيه: "يتموقع الفانتاستيك بين العجائبي والغرائبي، حينما يكون المتلقي والحدَث عنصريْن أساسيْن في تحديد فانتاستيك العمل برمّته؛ فإذا ما انتهينا مع العمل الإبداعيّ إلى تفسير، ونتيجة طبيعيّتيْن، كنّا إزاء أدب غرائبي، بعدما نكون قد صادفنا أحداثا ذات بُعْد فوق طبيعيّ، غير أنها تجد لها حلا طبيعيّا.  أمّا العجائبيّ فيكون مع حدوث أحداث ووقائع غير طبيعيّة، تنتهي بتفسير فوق طبيعيّ."(25) وإن كان بعكسهما – علوش وحليفي – لم يلتزم بهذه الصيغ، ولم يوحّد رؤيته، وموقفه من اشتقاقاتها؛ فنجده تارةً يعمد إلى التعريب: "الفانتاستيك"، وأخرى يترجم ترجمات متباينة: "العجيب"، "العجائبيّ"، ممّا يشكل أكبر مأخذ يمكن أن يؤخذ عليه.(26)



ونجد الدكتور "لطيف زيتوني" في "معجم مصطلحات نقد الرواية" يتنبّه كذلك – وإن لم يذكر هذا – إلى مزالق التداخل الذي يستجلبه تجاور مصطلحَيْ: العجائبي، والعجيب، فيعمد إلى تفادي ذلك، لا بالاعتماد على التعريب، بل باتباع طريق الترجمة، واختيار مصطلح: "الخارق" مقابلا لـ: Fantastique  «يقوم الخارق على تقاطع نقيضيْن: العقلانيّة، التي ترفض كلَّ ما لا يقبل التفسير، واللاعقلانيّة، التي تقبل بوجود عالم غير عالمنا، له نظامه، ومقاييسه المخالفان لتجربتنا البشريّة، ومبادئنا العقلانيّة.»(27)



وبالموازاة مع هؤلاء الدّارسين، نجد آخرين يستعملون مصطلح العجائبية، أو العجائبيّ، مع العناية اللازمة بشرح المصطلحيْن الآخريْن الملازميْن له: العجيب، والغريب. ومن أبرز هؤلاء الدكتور محمد الباردي، في كتابه: "الرواية العربيّة والحداثة"، الذي يقف في كثير من صفحاته وقفة متأنية أمام المصطلح، وأمام كثير من إشكالاته: «لقد استعملنا مصطلح العجائبي بالمعنى نفسه الذي يؤدّيه المصطلح الفرنسيّ  Le Fantastiqueونحن نميّز بينه وبين المصطلحيْن القريبيْن منه، وهما: حكاية الخوارق Le merveilleux والحكاية الغريبة L'étrange» (28)ونلاحظ رغم اجتهاده في ترجمة العجيب بحكاية الخوارق، أنه يحتذي خطوات تودوروف احتذاءً شبه حرفيّ، لعلّ من أبرز ملامحه ما جاء في كتابه الآخر: "إنشائيّة الخطاب في الرواية العربية الحديثة"، الذي يتمثل فيه أهمَّ شروط تودوروف لتحقق العجائبي – شرط التردّد والشكّ بين التفسير الطبيعيّ، أو التفسير الخرافيّ – فينفي عجائبيّة رواية "أبواب المدينة" لإلياس خوري (29): «إنّ الفنَّ العجائبيّ يعرف كيف يبقى في الالتباس.  اعتمادا على هذا المفهوم، لا نجد في رواية "أبواب المدينة" أيَّ إشارة سرديّة تضع حدّا فاصلا للأحداث التي تخرق الطبيعة، فالسارد ينهي أحداثه وهو يوهم القارئ بأنها وقعت فعلا. ولذلك هي أقرب إلى حكاية الخوارق منها إلى الحكاية العجيبة، رغم توفر شرط يعتبره جلُّ النقاد أساسيّا في الحكاية العجائبيّة، وهو معنى الخوف.»(30)



ونجد الدكتور "لؤي علي خليل" في كتابه: "عجائبية النثر الحكائي؛ أدب المعراج والمناقب" يحاكي بدوره وبدقة شديدة ما جاء في نظرية تودوروف، لا على مستوى التنظير فحسب، بل على مستوى التطبيق أيضا، حيث عمد إلى تقسيم موضوعات العجائبيّ في نصوص المعراج والمناقب على الغرار نفسه اتبعه تودوروف في كتابه، وكذلك فعل لدى حديثه عن "الوظائف".(31) ويُعَدّ كتابه: "تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث؛ المصطلح والمفهوم" من أبرز الدراسات العربيّة المهتمّة بموضوع تلقي العجائبية لدى النقاد العرب، وعلى حدِّ تعبير الدكتور "علي أبو زيد" في تقديمه للدراسة، فإنّ هذا الكتاب يُعدّ "أوّلَ دراسة عربيّة تبحث في مفهوم العجائبي، وتلقيه عند الدارسين والنقاد العرب، على الرغم من وجود بعض الدراسات التي تناولت جانبا منه، أو طبّقته في جانب، إلا أنها لم تكن على مستوى شموليّة هذا الكتاب."(32)



ونلمس في هذه الدراسة تتبّعا دقيقا لتلقي المصطلح والمفهوم كليْهما لدى النقاد العرب، مع محاولة شرح، وتحليل أهمّ خفايا النظرية التودوروفيّة، ومناقشة أبرز إشكالاتها. وإلى جانبه نجد الدكتور "سعيد يقطين" يتبنى الرؤية التودوروفيّة أيضا في كتابه: "السرد العربي؛ مفاهيم وتجليات" – وإن لم يكن مقتصرا على موضوع العجائبية فحسب – حيث يشرح لنا تعريف العجائبي حسبها، ويؤكد تماما مثلما فعل تودوروف على ضرورة توافر عنصر الشك، أو الحيرة في صميم السرد والوصف كليْهما، كي تتحقق صفة العجائبية: «إنّ حصول هذه "الحيرة"، أو "العجز" عن معرفة كيفيّة وقوع الفعل "العجيب" هو الذي يولّد، ويحدّد "العجائبيّ" كما تقدّمه لنا مختلف "الحكايات" أو "الأخبار" التي تزخر بها كتب العجائب العربيّة.»(33)



وغير بعيد عنه نجد الدكتور "فوزي الزمرلي" في كتابه: "شعرية الرواية العربية"، الذي يتبنى فيه مصطلح العجائبية وفق رؤية تودوروف، ويتعمّق في شرح أبعاد نظريّته، وحدودها، فيشير كما فعل سابقوه إلى الفرق بينه وبين العجيب والغريب من جهة، ويؤكد على ضرورة توافر عنصر الشك والحيرة من جهة ثانية، ويلمح كذلك – واقتداءً بتودوروف – إلى أنّ العجائبيّ ليس بالجنس الأدبيّ المستقلّ بنفسه، "بما أنه يقيم في واقع الأمر على تخوم جنسيْن أدبيّيْن مجاوريْن له: وهما الغريب، والعجيب."(34) وهو ما أشار إليه قبله د. شعيب حليفي في "أنه ليس جنسا أدبيا قائما بذاته، ولكنه صيغة،[...] والحقيقة أنه يسم كل الأجناس الأخرى، بل إنه يدخل في باب تشكيل النص في الشعر، والمسرحية، وفي الرواية الواقعية والرومانسية، ومعنى هذا أنه ليس هناك جنس الفانتاستيك، بل هناك تقنية الفانتاستيك."(35) وهذا هو عين ما ذهب إليه تودوروف حين أشار إلى أنّ اقتصار ديمومة العجائبي على زمن تردّد القارئ، وحيرته في تفسير الظواهر الخارقة للواقع هو ما يؤدي إلى نزع صفة الجنس أو النوع الأدبي عنه؛ فهو "يحيى حياة ملؤها المخاطر، وهو معرَّضٌ للتلاشي في كلِّ لحظة.  يظهر أنه ينهض بالأحرى في الحدِّ بين نوعيْن؛ هما العجيب والغريب، أكثر ممّا هو جنسٌ مستقلٌّ بذاته."(36)



أمّا الدكتور "نضال الصالح" في كتابه: "النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة"، فنجده يقف أمام مصطلحَيْ: العجائبي، والغرائبيّ – وإن لم تكن وقفته هذه مقصودة لذاتها بل أتت في سياق تنظيره لهاجس النزوع الأسطوريّ وحده – شارحا أولهما وفق رؤية تودوروف، وثانيهما وفق رؤية أبتر، ونجده يعنى بالتفريق بين الأسطوريّ والعجائبيّ، اللذين كثيرا ما يختلط مفهوماهما، وكثيرا ما تضيع الحدودُ الفاصلة بينهما، نظرا لتشابههما في تقديم عوالم فوق واقعيّة، ونظرا لتعدّد مستويات التأويل في كليْهما، ورغم كلّ هذا فإنّ القطيعة بينهما واضحة، ويمكن إرجاعها إلى شرط التردّد، أو المأزق الإدراكيّ – كما يصطلح عليه أبتر – الذي يعدّ أحد شروط العجائبي، في الوقت الذي تنبذه فيه الذهنيّة الأسطوريّة، القائمة على تلاشي الحدود بين ما هو واقعيّ وفوق واقعيّ، بل اعتبار هذا الأخير حقيقة لا مجال أبدا إلى الشكّ فيها.(37)



وبهذا نكون قد عرضنا لبعض الآراء التي تمثلت رؤية تودوروف، واحتذت خطواته.  وعلى الرغم من التباين الشديد بينهم في تلقي المصطلح، والتراوح بين ترجمته حينا، وتعريبه حينا آخر، فإنّ المفهوم يكاد يكون موحّدا فيما بينهم، وبعيدا عن أيِّ تفاوت، واختلاف. وغير بعيد عن هؤلاء نجد باحثين آخرين، يعملون على التنظير والتطبيق لبنية الخارق، والخياليّ، وما فوق الواقعيّ، في بعض الأعمال الأدبيّة العربيّة، من قصة قصيرة، ورواية، ومسرح، وغيرها، ولكنهم بعيدون كلَّ البعد عن مصطلحات تودوروف، وتحديداته المنهجيّة. فلا نجد مثلا في "معجم المصطلحات الأدبيّة" لإبراهيم فتحي أيّة إشارة إلى مصطلح "العجائبيّة"، وصنوَيْه: العجيب، والغريب، وفق ما حدّده تودوروف، وأقرب إشارة إليه نجدها لدى حديثه عن مصطلح: "الحكاية العجيبة Tall Tale" «سردٌ قصصيٌّ، يروي أحداثا ووقائع حافلة بالمبالغة، ويصعب تصديقها، ومن أشهر أمثلتها: "الضفدعة الشهيرة النطاطة من بلاد كالا فاريس.»(38)



ونلاحظ هنا تركيزا مطلقا على عنصرَيْ المبالغة، وصعوبة التصديق، اللذيْن يشكلان مفصلَ هذا المصطلح، ويؤطران جميعَ تخومه، وحدوده؛ فما يصنع عجائبيّة هذا النوع من الحكايات هو خروجه عن ضوابط العقل، والمنطق، وعلوّ سمة التضخّم، والاختراق فيه؛ تضخم الأحداث أو الشخصيات، وبلوغها حدَّ الوهم، والخرافة، واختراق بلادة الواقع، وجموده. ونجد كذلك الباحثيْن: "أحمد جاسم الحميدي"، و"محمد جاسم الحميدي" في كتابهما المشترك: "الرواية ما فوق الواقع"، يعملان على إرساء حدود مصطلح جديد، هو "ما فوق الواقع"، ويحاولان من خلاله التحرّرَ من رؤية تودوروف، والتركيز على أهمية ذلك النوع من الروايات ما فوق الواقعيّة، التي "استطاعت أن تتجاوز عقدة (السرد الحكائيّ الأليف) وبناء معماريّة خاصة بها، كما أنها فصلت العالم الروائي عن العالم الفعليّ." (39) والتي يعلو فيها ويتزايد "تطلّع الفنان إلى ريادة أرض بكر، واكتشاف أشكال جديدة، أكثر اقترابا من المخيلة العربية، والمناخات العربية، بأجوائها، وميثولوجياتها، وأساطيرها."(40) ويبدو جليّا من خلال ما سبق، ابتعادُ الباحثيْن عن تنظيرات تودوروف، في مقابل ما يبدو من إصرارهما الشديد على ضرورة التمرّد على أطر الرواية التقليديّة الجامدة، التي تحاكي الواقعَ وأحداثه محاكاةً حرفيّة، تخلو من أيِّ بادرة توهّج، أو إدهاش، ممّا يمسخ خصوصيّة الفنِّ الروائيّ من فنٍّ تخييليّ، يتراوح حضوره بين الإحالة إلى الواقع من جهة، وتجاوزه واستباقه من جهة ثانية، إلى عمليّة نسخيّة باهتة، تتكرّر فيها إلى حدِّ السأم، والابتذال رتابة الواقع، ونشازاته.



ونجد الأستاذ "فاضل ثامر" في كتابه: "المقموع والمسكوت عنه في السرد العربيّ"، يراوح بين مصطلحيْ: "الغرائبيّة"، و"الفنطازيّة" في سياق تحليله لتجلياتهما في نماذج من القصة القصيرة الأردنيّة، مؤكدا على ضرورة توافر البعد السحريّ في الأعمال الأدبيّة، لأنه السبيل الأوحد لتفادي نمطيّة التقليد، والنسج على منوالٍ واحد، أحاديِّ البعد، مسطح الإيحاءات: «فبدلا من الامتثال لتقديم لوحة سوداء، مليئة بمظاهر الاختناق، والاستلاب، [...] وبدلا من التمسّك برومانسيّة ثوريّة، قد تصبح ساذجة في تفاؤليّتها أحيانا، تتحدّى البنية الواقعيّة/ الغرائبيّة الجديدة الواقعَ الضاغط، المهيمن بامتداداته الخارجيّة، المرتبطة بالآخر، وجذوره الدّاخليّة المقيّدة لحريّة الإنسان، وتسخر منه، وتنزله من عرشه، وتقيم بدلا منه نظاما فنطازيّا، وسحريّا بديلا، هو الآخر مرتبط بمثال متجذر في الوعي الشعبيّ، وبإمكانات تحوّل هذا الوعي من سكونيّة "الوعي القائم" إلى ديناميّة "الوعي الممكن.»(41)



ويجتهد كثيرا الأستاذ ثامر في تبيان أهمية هذا البعد "الغرائبيّ" في إثراء المعنى، وتعميقه، وإضفاء سمة تأويليّة، تتضاعف من خلالها قوته، ويتزايد تأثيره.  ونلاحظ أنه على الرغم من إشارته مرات كثيرة إلى نظرية تودوروف، يتحرّر منها، ولا يلزم نفسه بشيء من مقولاتها، سواء كان هذا على مستوى التنظير، أم على مستوى ما طبّقه على ما انتقاه من نماذج. وهو الأمر الذي عابه عليه د. لؤي خليل، وعدَّه اضطرابا منهجيّا في الوعي بنظرية تودوروف. (42) ويبدو انتقادُ د. خليل من باب المغالاة في تطبيق نظرية تودوروف، والمبالغة في تتبّع جميع خطواته، وتوصياته، واجتناب تحذيراته كلّها، وتحفظاته، وهو ما لا نوافقه على جزء كبير منه؛ ذلك أنه من العبث، ومن غير العمَليّ تتبّعُ جميع ما أرساه اجتهاد فرد واحد – أيّا كان علمه، وأيّا كانت ريادته، وبراعته – وتطبيقه على جميع النتاج الإبداعيّ العربيّ الضخم، والممتدّ على مدى عقود طويلة، عرفت فيها البلدانُ العربيّة من التغيّرات الاجتماعيّة، والسياسيّة ما يمنحها خصوصيّة، وثراءً يستعصي على محاولة حصره ضمن نظرية فرديّة واحدة، أيّا بلغت درجة دقتها، وشمولها، ورصانتها.  وإذا أضفنا إلى هذا أنّها وليدة بيئة، وسياقات أدبيّة، واجتماعيّة مختلفة كلَّ الاختلاف عن خصوصيّات، وسياقات البيئة العربيّة، لبدا بجلاء حجمُ الإجحاف الذي يقع فيه كلُّ مَن يحاول المبالغة في تمثل، وتقليد النظريّة الغربيّة، ومحاسبة مَنْ لا يجاريه في ذلك.



وهذا هو ما يراه "كمال أبو ديب" في كتابه: "الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ"، الذي على الرغم من أنه استعمل فيه المصطلح التودوروفيّ: "العجائبيّ" إلا أنه يثور – في مقدمة كتابه – على تلك النظريّة ثورة عارمة، وينعى على الباحثين العرب تهافتهم عليها، ومبالغتهم في تقليد صاحبها، والافتتان بكلِّ ما يقرّره، وينفيه، متناسين روعة التراث العربيّ الأصيل، الثريّ، والحافل بما لا تستطيع أيّة نظريّة غربيّة استيعابه. "يحقّ للإبداعيّة العربيّة أن تنسب لنفسها في سياق التاريخ الأدبيّ، الذي كانت تعيه ابتكارَ فنّ أدبيّ جديد؛ هو فنّ العجائبيّ، والخوارقيّ: فنّ اللامحدود، واللامألوف؛ فنّ الخيال المتجاوز، الطليق، وابتكار المتخيّل الذي لا تحدّه حدود، ويجلو ذلك عبثيّة الادّعاءات الصّريحة أو المتضمّنة، التي يقوم عليها عملُ باحثين مثل تزيفتان تودوروف، ينسبون إلى الغرب حصرا ابتكارَ ما أسموه الآن: "الفانتاستيك"، وعبثيّة مَنْ يتعقبهم من الباحثين، وهواة البحث من العرب، الذين يفتنهم كلُّ غربيّ بما يزعمه لنفسه، لمجرد أنه زعمَه لنفسه."(43)



بل إنّ نظريّة تودوروف نفسها لم تسلم من انتقاد الدارسين الغربيّين أنفسهم لكثيرٍ ممّا جاء فيها جملة، وتفصيلا؛ فهي كما يرى دنيس لابيه Denis Labbé وجيلبير ميليه Gilbert Millet إن كانت صالحة لبعض القصص العجائبيّة في القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر (موباسان Maupassant  وغوتييه  Gautierوبو) إلا أنها لا تبدو أبدا ملائمة لرواية الرعب الحديثة."(44) وقبلهما يذهب مارسيل شنايدر Marcel Schneider في تأريخه للأدب العجائبيّ في فرنسا إلى ضرورة توسيع نظريّة العجائبيّة، وعدم حصرها ضمن ما اجتهد فيه كايوا، أو حتى تودوروف؛ فالعجائبيّة حسبه "ليست لعبا بما هو مرعب (كما يرى كايوا) ولا هي تلك اللحظة الملتبسة، التي يُتردّد معها بين الحلّ المعقول، والحلّ اللامعقول (كما يرى تودوروف) ولا هي تشكّلٌ خفيّ، ولا مجرّد تجلٍّ لما فوق الواقع: إنها نتاجُ انشقاق، وتصدّع مفاجئ في التجربة المعاشة يوميّا."(45) وتبدو من خلال هذا القول دعوةٌ صريحةٌ إلى ضرورة توسيع مفهوم العجائبي، وعدم سجنه داخل جدران نظريّة أحاديّة ضيقة، لأنه فنٌّ متعلّقٌ بالحياة نفسها، بكلِّ ما يسودها من مفارقات، وتناقضات، وعبث، وألغاز، لا يجد كثيرٌ منها لنفسه أيَّ حلّ، أو يجد حلولا كثيرة متناقضة بدورها هي الأخرى، وغامضة.



وهو عين ما ذهب إليه – وإن اختلفت طرق التعبير – ألبيريس (Alberes) في تأريخه للرواية الحديثة، حين افترض عدمَ خلوّ أيّة رواية مهما كانت واقعيّة من جانبٍ سحريّ هنا، أو خياليّ – مغرق في الخيال – هناك، يقول: «إنّ في كلِّ رواية إناءً مقدّسا ينبغي اكتشافه، لأنَّ كلَّ رواية تشتمل على سرّ، وبحث، ومغامرة، ودلالة تكون خافية أول الأمر، وهكذا فإنّ كلَّ رواية هي شيءٌ "عجيبٌ" بمعنى ما، ولكنّ هذا العجيب قد يكون ضعيفا، أو عجيبا اجتماعيّا، أو سايكولوجيّا، وقد يكون في بعض المرّات بوليسيّا بكلِّ يسر... أمّا في الرواية الصوفيّة فيظلّ العجيب معنى فلسفيّا، باطنيّا للوجود.»(4)



وعليه فإنّ من الضروريّ جدّا العمل على توسيع مفهوم العجائبيّة، وعدم حصره ضمن أطر ضيّقة، كثيرا ما تكون قاصرة عن استيعاب تجلياته الكثيرة في العمل الإبداعيّ، وكثيرا ما لا تكون قادرة على مجاراة شطحات المبدع، وهواجسه، وخيالاته البالغة التعقيد، والاشتباك؛ ذلك أنّ لكلّ عمل أدبيّ خصوصيّاته، وأسراره، وطاقاته المتجدّدة على السحر، والإدهاش؛ ذلك الإدهاش الذي تزداد قوته كلما ازداد غموضه، وكلما كثرت تأويلاته، وتعدّدت أسئلته، وإشكالاته. وهي الإشكالات التي نجدها متزاحمة جدّا لدى تأمّلنا ما وصلت إليه الرواية العربية اليوم من نزعات تجديديّة، وهواجس تجريبيّة، كثيرا ما تكون متضخمة، وفي غير محلها أحيانا، ولكنها إن عكست شيئا فإنما تعكس لنا مدى حاجة المبدع العربيّ إلى الانفتاح، والمغامرة، والبحث المستميت عن أطر جديدة تستوعب انشغالاته الكثيرة، وترتـّق فجواته الذهنيّة المتورّمة تورّمَ اضطرابات هذا العصر، والمتزايدة بتزايد أسئلته، واحتداماته.







الهوامش:

: (1) La littérature fantastique, Denis Mellier, Ed Seuil, Paris, 2000, p4.



(2) Dictionnaire étymologique et historique de la langue française, Emmanuèle Baumgartner et Philippe Ménard, Librairie générale française, 1996, p317.



(3) Dictionnaire de français classique la langue de XXVIIIºs, Gaston Cayrou, Klincksieck, Paris, p355.



(4) Dictionnaire de critique littéraire, Joëlle Gardes- Tamine et Marie Claude Hubert, Armand Colin, paris, p81.



(5) Le fantastique, Denis Labbé et Gilbert Millet, Ellipses Édition, Paris, 2000, p6.



(6) مدخل إلى الأدب العجائبيّ، تزفيتن تودوروف، ترجمة: الصديق بوعلام، دار شرقيات: القاهرة، ط1، 1994، ص: 44.



(7) المرجع نفسه، ص: 59.



(8) المرجع نفسه، ص: 63.



(9)  p 301. Dictionnaire étymologique et historique de la langue française,



(10) Ibid, p 494.



(11) Dictionnaire de français classique la langue de XVIII's, p337.



(12) Ibid, p 503.



(13) أدب الفنتازيا؛ مدخل إلى الواقع، ت. ي. أبتر، ترجمة: صبّار سعدون السعدون، دار المأمون: بغداد،1989، ص: 13.



(14) المرجع نفسه، ص: 41.



(15) لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين بن منظور، دار صادر: بيروت، ط1، (د.ت)، مج: 10، ص: 38.



(16) المرجع نفسه، مج11، ص: 23- 24.



(17) عجائب المخلوقات، والحيوانات، وغرائب الموجودات، زكريا بن محمد القزويني، منشورات مؤسسة الأعلمي: بيروت، ط1، 2000، ص: 10.



(18) المرجع نفسه، ص: 15.



(19) سورة الأعراف، الآية: 63.



(20) سورة المائدة، الآية 100.



(21) سورة الكهف، الآية: 9.



(22) سورة ق، الآية: 2.



(23) معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني: بيروت، ودار سوشبريس: الدار البيضاء، ط1، 1985، ص: 170.



(24) شعريّة الرواية الفانتاستيكيّة، د. شعيب حليفي، دار الحرف: القنيطرة، المغرب، ط2، 2007، ص: 50.



(25) بنية المتخيل في نص ألف ليلة وليلة، المصطفى مويڤن، دار الحوار: اللاذقية، ط1، 2005، ص: 237- 238.



(26) ينظر المبحث الثاني من الفصل الثالث من الكتاب: من الصفحة 229 إلى 246.



(27) معجم مصطلحات نقد الرواية (عربي، إنكليزي، فرنسي)، د. لطيف زيتوني، مكتبة لبنان ناشرون: بيروت، ودار النهار: بيروت، ط1، 2002، ص: 86.



(28) الرواية العربية والحداثة، د. محمد الباردي، دار الحوار: اللاذقية، ط1، 1993، ص: 187.



(29) يشعر قارئ هذه الرواية فعلا بامّحاء الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، وبغموض أجوائها غموضا لا نجد له أيَّ تفسير، لا في بداية الأحداث، ولا في نهايتها، حيث تمتدّ فيه الوقائع امتدادا حلزونيّا متداخلا، ربما يكفي لتلمّسه ما جاء في أولى صفحات العمل: "كان رجلا غريبا، لم يروِ قصّته لأحد، لم يكن يعرف أنها قصّةٌ تُروى [...] رأى نفسه وسط الحكاية، ولم يسأل كيف بدأت، كان مشغولا بنهايتها، وحين أتت النهاية وجد أنه لا يعرف النهاية أيضا..."   أبواب المدينة، إلياس خوري، دار الآداب: بيروت، ط2، 1990، ص: 6.



(30) إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، د. محمد الباردي، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2000، ص: 251.



(31) ينظر عجائبية النثر الحكائي؛ أدب المعراج والمناقب، د. لؤي علي خليل، دار التكوين: دمشق، ط1، 2007، ص: 66، وما بعدها.



(32) تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث؛ المفهوم والمصطلح، د. لؤي علي خليل، هيئة الموسوعات العربية: دمشق، ط1، 2005، ص: 13.



(33) السرد العربي؛ مفاهيم وتجليات، د. سعيد يقطين، دار رؤية: القاهرة، ط1، 2006، ص: 267.



(34) شعرية الرواية العربية؛ بحث في أشكال تأصيل الرواية العربية ودلالاتها، د. فوزي الزمرلي، مؤسسة القدموس الثقافية: دمشق، 2007، ص: 108.



(35) شعرية الرواية الفانتاستيكيّة، ص: 44.



(36) مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 57.



(37) النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، د. نضال الصالح، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2001، ص: 21- 22.



(38) معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين: تونس، ط1، 1986، ص: 143.



(39) الرواية ما فوق الواقع، ص: 31.



(40) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.



(41) المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي، فاضل ثامر، دار المدى: دمشق، ط1، 2004، ص: 92.



(42) ينظر تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث، ص: 33.



(43) الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ، ص: 9.



(44) Le Fantastique, p 7.



(45) Histoire de la littérature fantastique en France, Marcel Schneider, Fayard, 1985, p8.



(46) تاريخ الرواية الحديثة، ر. م. ألبيريس، ترجمة: جورج سالم، منشورات بحر المتوسط: بيروت، باريس، ومنشورات عويدات: بيروت، باريس، ط2، 1982، ص: 421.







 

http://www.alkalimah.net/article.aspx?aid=6853

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...