tag:blogger.com,1999:blog-44531833919452703402024-03-24T15:04:43.145-07:00أ.د.ناصر الشيحاننحو مدوَّنة متجددة نشطة تستقصي الدراسات الأدبية والنقدية...وتستقطب الأقلام السامية...والبحوث الراقية.....أهلاً بكم..
https://twitter.com/nasershehan
.
https://www.facebook.com/profile.php?id=100001143546033أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.comBlogger97125tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-87760703754409107472024-03-24T15:04:00.000-07:002024-03-24T15:04:02.692-07:00<p> النص وتعدّد القراءات</p><p>محمد محمود إبراهيم</p><p>تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هناك قراءات متعددة للنص الواحد. وذلك لاختلاف القرّاء من ناحية، واختلاف أمزجتهم وميولهم وخلفياتهم الفكرية والأيديولوجية من ناحية أخرى. ومن هنا يمكن القول: إن القراءة فعل غير بريء لأنها تعكس مفاهيم مترسبة في ذهن القرّاء، وهذه المفاهيم لها خلفيات فكرية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية وقيمية[1]. وبالتالي فإن هذه الخلفيات الفكرية والأيديولوجية تختلف من قارئ لآخر حسب إطاره المعرفي؛ وبالتالي تتعدد القراءات للنص الواحد، ولذلك يمكن أن نحصر عدد أنواع القراءة بعدد القراء ذاتهم.</p><p><br /></p><p>وتختلف أنواع القراءات طبقًا لاختلاف معايير ثلاث[2]:</p><p><br /></p><p>المعيار الأول: معيار القارئ: وتكون القراءة طبقًا لهذا المعيار عبر التلقي المباشر حيث القراءة الاستدلالية، والاستبطانية التي يشارك فيها المتلقي في تشكيل وإنتاج معنى جديد للنص.</p><p><br /></p><p>المعيار الثاني: معيار الغرض من القراءة: حيث القراءة التفسيرية أو التأويلية أو التحليلية/التركيبية.</p><p><br /></p><p>المعيار الثالث: معيار المنهج: وفيه تأخذ القراءة طبيعة المنهج المتبع فيها ومنها: القراءة التاريخية، القراءة الاجتماعية، القراءة النفسية، القراءة البنيوية، القراءة التفكيكية.</p><p><br /></p><p>ويميز “روبير اسكاربيت[3]” من منظوره الاجتماعي للأدب بين نوعين من القراءة:</p><p><br /></p><p>القراءة العارفة: هي قراءة تجاوزية تنطلق من النص لتكشف خباياه، وتحلل أدواته، وتنقب عن مرجعياته التي تصنع قيمه الجمالية.</p><p>القراءة الذوقية: هي قراءة استهلاكية تعتمد على ذوق القارئ الذي يسجل إعجابه أو استهجانه بالعمل الأدبي، وهي خاضعة لذوق القارئ المتغير بفعل الدعاية والإعلان وهوى القارئ المتقلب في المكان والزمان، وطبقًا لذلك فإن هناك أعمالًا أدبية تكون مميزة ولكنها لا ترى النور بفعل هذه المعطيات.</p><p>ويعرض تزفتان تودروف[4](Todorov) ثلاثة أنواع من القراءة:</p><p><br /></p><p>النوع الأول: القراءة الإسقاطية: لا تلتزم بالنص، ولا تركز عليه، وتتجه ناحية المؤلف أو المجتمع، وتتعامل مع النص على أساس أنه وثيقة تاريخية أو اجتماعية تقرر إشكالية أو قضية معينة، فهي تنطلق من خارج النص حيث يسقط القارئ مرجعياته الاجتماعية والثقافية على النص.</p><p><br /></p><p>النوع الثاني: قراءة الشرح: تلتزم بالنص، ولكنها لا تغوص في أعماقه لتكشف كوامنه وخفاياه، فهي أسيرة المعنى الظاهري للنص فقط، ولا شيء غيره، ولذا فإن شرح النص فيها يكون بوضع كلمات بديلة لنفس المعنى أو من خلال تكرار ساذج لنفس كلمات النص بدون أي إبداع، فهي قراءة تعيد صياغة المكتوب بلغة مغايرة.</p><p><br /></p><p>النوع الثالث: القراءة الشاعرية: أصلها متحدر من الكلمة اللاتينية Poetica التي تعني عند الفرنسيين في القرن السادس عشر: كل ما هو مبتكر مبتدع خلاق، وخلال القرن السابع عشر ظهر المصطلح بالمفهوم الأرسطي الذي عنى به: فعل أو صنع، ثم أخذ المفهوم بعد ذلك في التطور من المعنى الواسع: الصنع والابتداع والابتكار إلى معنى ضيق ومحدود ليشير إلى: فن التأليف والأسلوب الخاص بالشعر. وعد كل من تودوروف ودوكرو الشاعرية باعتبارها “نظرية للأدب”. هذا المصطلح قديمًا ترجمة العرب إلى بوطيقا أوالى فن الشعر-وقد اعتبر عبد القادر الجرجاني أن اللغة المجازية هي نبض الشعرية ومع مرور الوقت أصبحت الشعرية أحد فروع علم الجمال الفلسفي في بداية القرن الثامن عشر. ويعرف ياكبسون مفهوم الشعرية: بأنه كل ما يجعل من رسالة لفظيه أثرًا فنيًّا. هذه القراءة وخاصة عند تودروف تركّز على البنى الداخلية للنصوص وكيفية انتظامها، والتزامها بشروط الإبداع باعتبار أن الشعرية لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل معرفة القوانين التي تنظم ولادة كل عمل إبداعي.</p><p><br /></p><p>واقترح ريفايتر[5] قراءتين في سياق حديثه عن طبيعة العلاقة الجدلية بين النص والقارئ:</p><p><br /></p><p>قراءة استكشافية: وهي قراءة لا تتعدى حدود المسح البصري للنص، أو الكشف المعجمي لألفاظه.</p><p>قراءة استرجاعية: وهي قراءة تتجاوز مرحلة فهم جسم النص إلى الولوج في العملية التأويلية وفهم روح للنص.</p><p>وكشف لنا جاك لينهاردت[6] عن ثلاثة أنماط من القراءة:</p><p><br /></p><p>النمط الأول: القراءة الوقائعية Factual: وهي قراءة تتوقف عند سطح النص ولا تتخطاه، حيث يكتفي فيها القارئ بإعادة إنتاج الوقائع والأحداث كما هي في النص بدون تقييم نقدي فهي قراءة خطية للنص.</p><p><br /></p><p>النمط الثاني: القراءة العاطفية Emotional : وهي القراءة التي يحكمها الحكم القيمي العاطفي، فعند قراءة النص الأدبي يقوم القارئ بترك العنان لعواطفه وقيمه في الحكم على العمل الأدبي ذاته، فيؤيد أو يلوم أو ينقد الشخصيات الماثلة في العمل الأدبي، ويؤكد الكاتبان جاك لينهاردت Jacques Leenhardt وبيير يوجاPierre Jozsa أن هذه القراءة تتأسس على قيم اجتماعية/ثقافية/أخلاقية لدى القارئ، هذه القيم تقوم بوظيفة المثل الأعلى فقد يدين القارىء سلوكًا معينًا للشخصيات ويتهمهم بأنهم أكثر عنفًا أو قسوة، أو يتهمهم بالضعف أو بالليونة أو بالتردد، ويوضح غياب القوة والإصرار لديهم، فهذه الشخصيات تدان طبقًا للإطار القيمي للمتلقي.</p><p><br /></p><p>النمط الثالث: القراءة التحليلية/التركيبية Analytico – Synthetique وهي القراءة التي تعمل على شرح وتفسير سلوك الشخصيات في النص دون تأييدها أو إدانتها، ويسعى القارئ من خلالها إلى تفكيك وحدات النص ثم كشف علاقاته المتشعبة والوقوف على أسبابه وعلله.</p><p><br /></p><p>وفي كتاب البنيوية وما بعدها يميز جون ستروك[7] بين نوعيين من القراءة:</p><p><br /></p><p>النوع الأول: القراءة الكامنة: وهي التي يمكن استخلاصها من مجموع العلاقات القائمة في النص نفسه، أي إنها كامنة فيه.</p><p><br /></p><p>النوع الثاني: القراءة المتعالية: هي القراءة التي تعتمد على معلومات في خارج النص كالسيرة والمعطيات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تكون حاضرة أثناء قراءة النص.</p><p><br /></p><p>ويميز محمد عابد الجابري[8] بين ثلاثة أنواع من القراءة طبقًا لمعيار القارئ مع النص:</p><p><br /></p><p>النوع الأول: القراءة الاستنساخية، أو ما يطلق عليها ذات البعد الواحد: هي قراءة تكون خاضعة للنص ترى وترصد ما يراه ولا شيء خارجه، فهي لا تكشف إلا ما يكشفه النص، ولا تتكلم إلا بلسان النص، لتقدّم لنا تعبيرًا مطابقًا لوجهة النظر الصريحة المكشوفة التي يتبناها صاحب النص دون سبر أغوار النص وكشف ألغازه، وهي قراءة تأويلية طبقًا لرأي الجابري.</p><p><br /></p><p>النوع الثاني: القراءة الاستنطاقية: هي قراءة واعية لكونها تأويلًا تحاول بكل إخلاص أن تساهم في إنتاج معنى النص، وإعادة بناؤه في بنيان متماسك ومنسجم، ليكون معبّرًا عن رؤى وتصورات المؤلف والقارئ معًا، لأن هذه القراءة ذات بعدين: البعد الذي يتحدث منه مؤلف النص، والبعد الذي يتحدث منه القارئ، ومن هنا تكون القراءة ناجحة إذا استطعنا توظيف البعدين معًا في بناء جديد يبدو متناسقًا ومتماسكًا. وهذه القراءة لها مستويان: الأول: مستوى البناء الذي ينطق به النص، والثاني: مستوى استنطاق النص، وذلك للكشف عن بناء آخر ملازم للبناء المباشر المقدم. ورغم أهمية هذه القراءة إلا أنها كسابقاتها تعمل على إخفاء التناقضات والأيديولوجيات المتصارعة في النص بعد تبريرها وتذويبها عن طريق التأويل.</p><p><br /></p><p>النوع الثالث: القراءة التشخصية: وهذه القراءة تحاول أن تكشف المستور، والمسكوت عنه في النص، كما تحاول أن تبرز عمليات التهميش والإقصاء في النص، وهي تجاهد لكي تقوم بموالفة بين القراءتين السابقتين: القراءة الاستنساخية، والقراءة الاستنطاقية، من أجل كشف وتشخيص تناقضات النص سواء على مستوى السطح أو العمق أو البناء، وكشف تناقضات ونقائض المتكلم في النص. ويتحدد هدف هذه القراءة في تفكيك النص والكشف عن تهافت النص وتعريته من تناقضاته ونقائضه. فالهدف الأسمى لهذه القراءة هو تشخيص العلامات اللامعقولية في النص.</p><p><br /></p><p>لا جدال أنه يوجد عدد لا يمكن حصره من أنماط القراءة المختلفة طبقًا للمعايير السابقة الذكر مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المعايير ليست مطلقة وإنما هي نسبية، متغيرة، وليست ثابتة فيمكن أن يكون لها أو عليها، وبالرغم من ذلك فهي تشترك في هدف أساسي وهو الكشف عن المعنى والمقصد الذي يبغيه النص وصاحبه، فكل نمط قرائي يكشف لنا عن جانب معين في النص، ولذلك نرى أن هذه القراءات لا تصارع بعضها البعض، ولكنها تنسجم وتتكامل ويبنى عليها، ويمكن صهرها في بوتقة واحدة من أجل الكشف عن المعنى والمغزى من النص، بشرط أن تكون منسجمة مع العقل والواقع، ولا تحرّف الكلام عن مقصده وموضوعه، ولا تلوي عنق النص لإيهام المتلقي بوقائع وقضايا معينة، هي أساسًا ليست موجودة في النص.</p><p><br /></p><p> </p><p><br /></p><p> </p><p><br /></p><p> </p><p><br /></p><p> </p><p><br /></p><p>[1] حبيب مؤنسي، القراءة والحداثة: مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية، (دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، مكتبة الأسد، 2000)، الصفحة 216.</p><p><br /></p><p>[2] اعتدال عثمان، إضاءة النص، (بيروت: دار الحداثة للطباعة والنشر، 1988)، الصفحة 217.</p><p><br /></p><p>[3] حبيب مؤنسي، القراءة والحداثة، مرجع سبق ذكره، الصفحتان 211و 212.</p><p><br /></p><p>[4] لمزيد من التفاصيل؛</p><p><br /></p><p>عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2006)، الصفحتان77و78. – يوسف وغليسي، تحولات الشعرية في الثقافة النقدية العربية الحديثة: بحث في حفريات المصطلح (مقال) عالم الفكر(مجلة)، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، المجلد37، العدد الثالث2009،الصفحة8. – عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص (مقال)، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة(مجلة)، عدد 298 نوفمبر2003، الصفحة 282. – حسين الأنصاري، شعرية الجسد في بنية الفضاء المسرحي: بلاغية النص ومركز الجذب، (مقال)في مجلة الرافد، الشارقة، دائرة الثقافة والأعلام، العدد161،يناير2011، الصفحتان 83و84.</p><p>[5] عزيز محمد عدمان، حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي(مقال) منشور بمجلة عالم الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مجلد37، العدد الثالث، يناير 2009، الصفحة 83.</p><p><br /></p><p>[6] بيير زيما، النقد الاجتماعي، نحو علم اجتماع للنص الأدبي، ترجمة عايدة لطفي، (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع،1991)، الصفحتان 319-320.</p><p><br /></p><p>[7] جون ستروك، البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، عدد206 فبراير1996، الصفحة 17.</p><p><br /></p><p>[8] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر: دراسة نقدية تحليلية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 5، 1994)، الصفحات 11-13.</p>أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-13464264998261103182024-03-18T12:46:00.000-07:002024-03-18T12:46:23.046-07:00<p> النقد المنهجي عند العرب: ومنهج البحث في الأدب واللغة - محمد مندور</p><p>الفصل الرابع</p><p>الآمدي والموازنة بين الطائيَّينِ</p><p>(١) منهجه في النقد وذَوقه الأدبي</p><p>يقول الآمديُّ عندما يصل في كتابه إلى باب الموازَنة التفصيلية بين الشاعرَين: «أنا أذكر — بإذن الله الآن في هذا الجزء — المعانيَ التي يتفقُ فيها الطائيَّان، فأُوازِن بين معنًى ومعنًى، وأقول أيُّهما أشعرُ في ذلك المعنى بعَينه، فلا تطلبني أن أتعدَّى هذا إلى أن أُفصِحَ لك بأيِّهما أشعَرُ عندي على الإطلاق؛ فإني غيرُ فاعلٍ ذلك.»١ وهذه بلا ريبٍ نَغْماتٌ جديدة في تاريخ النقد العربي؛ فالذي أَلِفْناه هو ألَّا يقف ذَوو البصر بالشعر عند تفضيلِ طبقاتٍ من الشعراء على طبقاتٍ أخرى، على نحوِ ما رأيناهم يجعلون من امرِئ القيس والنابغة وزُهير والأعشى الطبقةَ الأولى من الجاهليِّين، ومن جَريرٍ والفرزدَقِ والأخطَلِ الطبقةَ الأولى من الأُمويِّين وهكذا، بل يَعْدُون ذلك إلى المُفاضلة بين أفرادِ كلِّ طبقة. وفي مقدمة «جَمْهرة أشعار العرب»، لأبي زيدٍ محمد بن أبي الخطَّاب القُرشي، وغيرِها من كتب الأدب، كثيرٌ من تلك المفاضَلات التي أقاموها على تعميماتٍ لا استقصاءَ فيها ولا تحديد. وأما الآمدي فوِجهتُه وجهةٌ أخرى؛ فهو يبدأ الموازنةَ بين البُحتُريِّ وأبي تمامٍ بأن يُورِدَ حُجج أنصارِ كلِّ شاعر وأسبابَ تفضيلِهم له، ثم يأخذ في دراسةِ سَرِقات أبي تمام وأخطائه وعُيوبه البلاغية. ويفعل مِثلَ ذلك مع البُحتُري مُورِدًا سرقاته، خصوصًا سرقاته من أبي تمام، ثم أخطاءَه وعيوبَه. وأخيرًا ينتهي إلى الموازَنة التفصيليةِ بين ما قاله كلٌّ منهما في كلِّ معنًى من معاني الشعر؛ يقول: «وأنا أبتدئُ بما سمعتُه من احتجاج كلِّ فرقة من أصحاب هذين الشاعرَين على الفرقة الأخرى، عند تَخاصُمِهم في تفضيلِ أحدهما على الآخر، وما يَنْعاه بعضٌ على بعض؛ لتتأمَّلَ ذلك وتزدادَ بصيرةً وقوة في حُكمك، إن شئتَ أن تحكم، واعتقادِك فيما لعلك تعتقدُ احتجاجَ الخَصمَين به.» (ص٣)، ويورِدُ فعلًا حُججَ كلِّ فريق، وردَّ الفريقِ الآخَر عليه. وسوف نرى في الباب الذي سنَعقدُه لتلك الموازنة كيف أن الآمديَّ قد أورد تلك الحُجج كما انتهت إليه، وأنها لم تكن مِن وضعِه هو، وأن كلَّ فضله فيها هو فضلُ الجمع والعرض والربط. وعندما انتهى من هذا الفصل قال: «تم احتجاجُ الخَصمَين بحمد الله، وأنا أبتدئُ بذِكر مَساوئ هذين الشاعرَين لأختمَ بذكرِ مَحاسنِهما، وأذكر طرَفًا من سرقات أبي تمام وإحالتِه وغلَطِه وساقطِ شِعره، ومساوئ البحتريِّ في أخذِ ما أخَذه من معاني أبي تمام، وغير ذلك مِن غلطٍ في بعض معانيه، ثم أُوازن من شِعرَيهما بين قصيدتين إذا اتفَقَتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، ثم بين معنًى ومعنًى؛ فإنَّ مَحاسنهما تظهر في تضاعيفِ ذلك وتنكشف، ثم أذكر ما انفرد به كلُّ واحدٍ منهما فجوَّد مِن معنًى سلَكَه ولم يسلُكْه صاحبُه. وأُفردُ بابًا لما وقع في شِعرَيهما من التشبيه وبابًا للأمثال أختمُ بهما الرسالة، وأضعُ ذلك بالاختيار المجرَّد من شِعرَيهما، وأجعله مؤلَّفًا على حروف المعجم لِيَقرب مُتناوَلُه، ويَسهلَ حِفظُه، وتقعَ الإحاطةُ به.» (ص٢٢).</p><p>ونحن وإن كنَّا نحتفظ بالنظر في تنفيذ الآمديِّ لهذا المنهج أو عدم تنفيذه كاملًا، إلا أننا نستطيع أن نستخلصَ من أقواله هذه روحَه في الدراسة، فهي روحٌ ناضجة، روحٌ منهجية حَذِرة يَقِظة. وهو يتناول الخصومةَ كرجلٍ بعيد عنها يريد أن يجمعَ عناصرها ويَعرِضَها ويدرُسَها، فإنْ قصَرَ حُكمَه على الجزئيات التي ينظر فيها، فقد يكون البحتريُّ أشعرَ في بابٍ من أبواب الشعر أو معنًى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعرَ في ناحيةٍ أخرى، كما سنرى. وأما إطلاق الحكم وتفضيلُ أحدِهما على الآخَر، فهذا ما يرفضُه الآمدي؛ «ولستُ أُحب أن أُطلِقَ القول بأيِّهما أشعرُ عندي؛ لِتَبايُن الناس في العلم، واختلافِ مذاهبهم في الشعر، ولا أرى لأحدٍ أن يفعل ذلك فيستهدفَ لذمِّ أحد الفريقين؛ لأن الناس لم يتَّفقوا على أيُّ الأربعة أشعَر: امرِئ القيس والنابغةِ وزُهيرٍ والأعشى، ولا في جريرٍ والفرزدَق والأخطل، ولا بشَّارٍ ومَرْوان، ولا في أبي نُواسٍ وأبي العَتاهِيَة ومُسلِم؛ لاختلاطِ آراء الناس في الشعر، وتبايُنِ مَذاهبهم فيه. فإن كنتَ — أدام اللهُ سلامتَك — ممَّن يُفضل سهلَ الكلام وقريبَه، ويُؤثِر صحةَ السَّبْك، وحُسن العبارة، وحُلو اللفظ، وكثرةَ الماء والرَّونق؛ فالبحتريُّ أشعرُ عندك ضرورةً، وإن كنتَ تميل إلى الصَّنعة والمعاني الغامضة التي تُستخرَج بالغَوص والفكرةِ ولا تَلْوي على غيرِ ذلك، فأبو تمام عندك أشعرُ لا محالة. فأمَّا أنا فلستُ أُفصِحُ بتفضيل أحدهما على الآخَر، ولكني أُقارِن بين قصيدتَين من شعرهما إذا اتفَقَتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، وبين معنًى ومعنًى، فأقول أيُّهما أشعَرُ في تلك القصيدةِ وفي تلك، ثم احكُمْ أنت حينَئذٍ على جملةِ ما لكلِّ واحد منهما إذا أحَطتَ علمًا بالجيِّد والرديء.» (ص٣). وإذن فالآمديُّ لا يريد أن يتحيَّز لأيِّهما على غيرِ بيِّنةٍ أو عن هوًى، وإنما يُلاحظ أن مَن ينتصر لهذا الشاعر أو ذاك إنما يفعل ذلك لِمَيله إلى اتجاهٍ خاصٍّ في الشعر، وأمَّا هو فلا يريد أن يُفصِح بتفضيلِ أحدِهما على الآخَر تفضيلًا مطلقًا، ولكنه يُقارن بينهما مقارناتٍ مَوضعيةً ويترك الحكمَ الكُليَّ للقارئ. وهذا بلا ريبٍ منهجٌ عِلمي سليم؛ منهجُ رجلٍ يرى المذاهب المختلفة ويَقبلها ويُسجِّلها، ثم منهجُ ناقدٍ يرفض كلَّ تعميم مُخِلٍّ، ويَقصُر أحكامَه على ما يَعرِض له من تفاصيل.</p><p><br /></p><p>وإذن فنستطيع أن نُقرر أن الآمديَّ لم يقصد إلى التحيُّز لأحدِ الشاعرَين ضدَّ الآخَر، وذلك إذا أخذنا بأقواله السابقة، ولكننا لا نستطيع أن نكتفيَ بتلك الأقوال؛ فقد تكونُ روحُ الناقد الفعلية مخالفةً للخُطَّة التي يُعلنها، وقد يكون في نقدِه ما يتعارض مع تلك الخُطة. وفي دراستنا للآمديِّ بنوع خاص يجب أن نفترضَ فرضًا كهذا؛ وذلك لأن كلَّ تلك الأقوالِ لم تمنع النقَّادَ اللاحقين من أن يتَّهموا الآمديَّ بالتعصُّب على أبي تمام، حتى بلغ الأمرُ أنْ رأى فيه الباحثون المُحْدَثون مقابلًا للصوليِّ في تعصبه لذلك الشاعر (راجع مقدمة أخبار أبي تمام، للصولي، بقلم الأستاذ أحمد بك أمين)، فمن أين أتَت هذه التهمة؟ وهل في كتاب الآمديِّ ما يُؤيدها؟</p><p><br /></p><p>(٢) الذَّوق والتعصب</p><p>للفصلِ في هذه المشكلة الهامة يجب أن نُقرر أولًا أن التعصبَ معناه النفسيُّ هو الانحيازُ كُليةً إلى ما نتعصبُ له، فلا ترى فيه إلا الخير، ونقلبُ سيئاته حسَناتٍ مَسُوقين بالهوى، مُتمَحِّلين الأسبابَ لتجميل القبيح والمبالغةِ في قيمة الحسَن، وهذه حالةٌ نفسية لا وجودَ لها في كتاب الآمدي، لا صَراحةً ولا من وراءِ حجاب؛ فهو رجلٌ يتبع في النقد منهجًا مُحكَمًا، فيدرس ما أمامه مُورِدًا حُججَه، مُعللًا أحكامَه، قاصرًا لها على التفاصيل التي ينظر فيها، رافضًا إطلاقَ التفضيل. وكلُّ هذا ضد التعصب. وأما أن يُفضِّل — تمشيًا مع ذَوقه الخاص — الشعرَ الطبيعيَّ السهلَ على الشعر المتكلَّف المقتسَر، فهذا ليس تعصبًا، وهو من حقِّ كل ناقد. والذَّوق هو المرجعُ النهائي في كل نقد. وإنما يأتي خطرُ تحكيم الذَّوق عندما نتَّخذه سِتارًا لعمل الأهواء التحكُّمية التي لا تَصدُر في أحكامها عن نظرٍ في العناصر الفنِّية، وإحساسٍ صادق بما فيها من جمالٍ أو قُبح، أو عندما يكون ذوقًا غُفْلًا لم تجتمع فيه «الدُّرْبة إلى الطبع»، كما يقول الآمديُّ نفسُه. فالذوق الذي يُعتَدُّ به هو ذوقُ ذَوي البصَر بالشعر، وهؤلاء يستطيعون عادةً أن يُعلِّلوا الكثيرَ من أحكامهم، وفي التعليل ما يجعل الذوقَ وسيلةً مشروعة من وسائل المعرفة، وإن كنا لا نُنكر «أنَّ من الأشياء أشياءَ تُحيط بها المعرفةُ ولا تؤدِّيها الصفة.» على حدِّ قول إسحاقَ الموصلي، كما نؤمن «بأنه ليس في وُسْع كلِّ أحدٍ أن يَجعلك، أيها السائلُ المتعنِّت والمسترشِدُ المتعلِّم، في العلم بصناعته كنفسِه، ولا يجدُ إلى قذفِ ذلك في نفسك ولا في نفسِ ولَدِه ومَن هو أخصُّ الناس به سبيلًا، ولا أن يأتيَك بعِلةٍ قاطعة ولا حُجةٍ باهرة، وإن كان ما اعترضتَ فيه اعتراضًا صحيحًا، وما سألتَ عنه سؤالًا مستقيمًا؛ لأن ما لا يُدرَك إلا على طول الزمان ومرور الأيام لا يجوز أن يُحيط به في ساعةِ نهار.» وأخيرًا نؤمن بأنه «لن ينتفعَ بالنظر إلَّا مَن يُحسِن أن يتأمَّل، ومن إذا تأمَّل عَلِم، ومن إذا علمَ أنصَف.»٢</p><p>إلى كل تلك الحقائق فَطِن الآمديُّ على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب، وهو في هذا يعود بنا إلى التقاليد الأدبية الجميلة الصادقةِ النظر؛ تقاليدِ ابنِ سَلَّام الذي تحدَّث عن الذوقِ المثقَّف أصدقَ الحديث.</p><p><br /></p><p>وبالرجوع إلى كتاب الموازنة نفسِه، نجد أن المؤلفَ لم يتعصَّب للبُحتري كما لم يتعصب ضدَّ أبي تمام، وإنما هذه تُهمةٌ اتهمَه بها النقادُ اللاحقون عندما فسَد الذوقُ وغلَبَت الصنعةُ والتكلفُ على الأدب العربي، ونظر هؤلاء الأدباءُ المتأخرون في بعض انتقادات الآمدي لسخافاتِ أبي تمام «ووَساوسه»، ولم يُوافقوا على تلك الانتقادات لمرضِ أذواقهم، فقالوا: إن الرجل متعصبٌ ضد أبي تمام. وهذا ظلمٌ يجب أن نُصلِحَه، والتهمة لا تقوم بعدُ على استقصاءٍ لأقواله، ولا تَصدُر عن نظرٍ شامل في كل ما قاله، وإلا لَرأَوا أنه قد أُعجب بأبي تمام في غيرِ موضع، ودافعَ عنه أكثرَ من مرة، كما أنه لم يُحجِم عن أن يَنقُدَ البحتريَّ نقدًا مُرًّا كلما وجَد فيه مَغمَزًا، وأن يُفضِّل عليه أبا تمام. وهذه وقائعُ يجب أن نُظهِرَها؛ لأنه لا يكفي لكي نتَّهم الآمديَّ بالتعصُّب أن نوردَ مَثلًا أو مثَلَين نُخالفه فيهما، ثم نستنتجَ أنه ضدُّ أبي تمام أو تعصَّبَ للبحتري.</p><p><br /></p><p>والذي لم يزل فيه أن الآمديَّ لم يكتب كتابه أيامَ عنفِ الخصومة بين أنصار أبي تمام والبحتري؛ وذلك لأن أبا تمَّام تُوفِّي سنة ٢٣١ﻫ، والبحتريَّ سنة ٢٨٤ﻫ، والمعركة قد احتدَمَت — فيما يَظهر — بعد موتِهما مباشرة، حتى بلَغَت أقصاها في أواخرِ القرن الثالث وأوائلِ القرن الرابع. ونحن وإن كنَّا لا نملك من الكتب التي أُلِّفَت في تلك الفترة غيرَ «أخبار أبي تمام» للصولي (تُوفي سنة ٣٣٥ﻫ)، إلا أننا نجد في هذا الكتاب ما يكفي للدَّلالة على مبلَغِ الإسرافِ والعنف، اللذَين صَحِبا تلك المنازعاتِ حول الشاعرَين؛ فالصولي كما رأينا هو الذي يجب أن يُتَّهم بالتعصُّب لأبي تمام، وهو الذي يجب أن نرفض الكثيرَ من أحكامه، بل ومن أخباره؛ لوضوح هَواه، وفسادِ ذَوقه، وكثرةِ ادِّعائه. وأما الآمديُّ (تُوفي سنة ٣٧١ﻫ) فقد جاء بعد أنْ كان الزمن قد هدَّأ مِن حِدة الخصومة، وكان الأدباء قد أخَذوا في الاقتتال حول رجلٍ آخَر، هو المتنبِّي.</p><p><br /></p><p>جاء الآمديُّ إذن بعد تراخي الزمن، فوجد عدةَ رسائل في التعصُّب لهذا الشاعر أو ذاك، كما وجد ديوانَيْهما قد جُمِعا، وتعدَّدَت منهما النسخُ قديمةً وحديثة، ونظر في كلِّ تلك الكتب فوجَد فيها إسرافًا في الأحكام، وعدمَ دراسةٍ تحقيقيَّة، وضعفًا في التعليل أو قُصورًا، فتناوَل الخصومةَ بمنهج عِلمي أشبهَ ما يكونُ بمناهجنا اليوم، بحيث نعتقد أن هذا الكتابَ خيرُ ما نستطيع أن نضَعَه بين أيدي الدارسين كمَثلٍ يُحتذَى للمنهج الصحيح.</p><p><br /></p><p>(٣) تحقيق النصوص ونسبتها</p><p>فالمؤلفُ يرجع إلى النُّسخ القديمة ويُحقق الأبيات. وإلى هذا يُشير غيرَ مرةٍ في كتابه فيقول (ص٨٩): «حتى رجَعتُ إلى النسخة العتيقة التي لم تقَع في يد الصولي وأضرابِه.» وذلك عند نظره في قول أبي تمَّام:</p><p><br /></p><p>دارٌ أُجِلُّ الهوَى عن أن ألمَّ بها في الرَّكْب إلا وعيني مِن مَنائحِها</p><p>وفي صفحة ١٦٥ يقول: «وما رأيتُ شيئًا ممَّا عيبَ به أبو تمام إلا وجدتُ في شعر البحتريِّ مثلَه، إلا أنه في شعر أبي تمام كثير، وفي شِعر البُحتري قليل. ومن ذلك اضطرابُ الأوزان في شعر أبي تمام، وقد جاء في شعر البحتري بيتٌ هو عندي أقبحُ من كل ما عِيبَ به أبو تمام في هذا الباب، وهو قوله:</p><p><br /></p><p>ولماذا تتَّبعُ النفسُ شيئًا جعَل الله الفردوسَ منه بَواء؟»</p><p>ثم يُضيف: «وكذلك وجدتُه في أكثر النسخ، وهذا خارجٌ عن الوزن … وقد رأيتُ في بعض النسخ «جعَل اللهُ الخُلدَ منه بَواء.» فإن يكن هذا فقد تخلَّص من العيب.»</p><p><br /></p><p>وهكذا نراه يرجع إلى النسخ الأخرى لتحقيق النصِّ قبل الحُكم عليه؛ وذلك سواءٌ أكان الشعرُ من أبي تمامٍ كما رأينا في البيت الأول، أم من البحتريِّ كما رأينا في البيت الثاني. وهذه أُولى مراحل النقد المنهجيِّ المستقيم.</p><p><br /></p><p>والآمديُّ يملك كذلك روحَ النقد العلميِّ الذي ينظر في صحة نسبة الشعر، وهو في ذلك تلميذٌ لابن سلَّام؛ ومِن ثمَّ نراه لا يَقبل ما يُنسَب إلى الأعراب انتحالًا. ولدينا في الجزء الذي لا يزال مخطوطًا من الموازنة (اللوحة ١٣١) مثَل دالٌّ في هذا؛ يتحدث المؤلفُ بمناسبةِ أبياتٍ يَدرُسها عن التقسيم فيقول: كان بعض شيوخ الأدب تُعجبه التقسيماتُ في الشعر، وكان مما يُعجبه قولُ عبَّاس بن الأحنف:</p><p><br /></p><p>وِصالُكمُ هَجْرٌ وحُبُّكمُ قِلًى وعَطفُكمُ صدٌّ وسِلمُكمُ حربُ</p><p>ويقول: هذا أحسنُ من تقسيمات إقليدس. وقال أبو العباس ثعلب: سمعتُ سيدَ العلماء يستحسنُه؛ يعني ابنَ الأعرابي. ونحو هذا ما أنشده المبرِّد لأعرابي، وليس هو عندي من كلام الأعراب، وهو بكلام المولَّدين أشبه:</p><p><br /></p><p>وأَدْنو فتُقصيني وأبعَدُ طالبًا رِضاها فتعتدُّ التباعُدَ من ذنبي</p><p>وشَكْواي تُؤذيها وصبري يَسوءُها وتجزعُ مِن بُعدي وتَنْفرُ من قُربي</p><p>(٤) مراجعة السابقين</p><p>وهو لا يكتفي بمَلَكاته الخاصةِ في دراسة هذين الشاعرين والموازنةِ بينهما، كما لا يكتفي بنسخِ آراء السابقين على نحوِ ما فعل غيرُه ممَّن يَرْوون أحكامَ الغير، أو ينقلون عن السابقين مع إغفال ذِكر أسمائهم. لم يفعل الآمديُّ شيئًا من هذا، وإنما فعل كما نفعل نحن اليوم عندما نريد دَرْسَ مسألةٍ من المسائل؛ فنجمع الكتبَ التي وُضِعَت في تلك المسألة، وننظر فيها فنُقرُّ ما نقبله منها، ونعتمد ما نعتبره كَسبًا نهائيًّا، ثم نراجع ما يراه خطأً، ونكشف عمَّا ترك من الظلال.</p><p><br /></p><p>ولقد جاء الآمديُّ — كما قلنا — بعد أن كانت الخصومة حول البُحتري كممثِّل لعمود الشعر، وبين أبي تمام كرأسٍ لمذهب البديع، قد أسالت مدادًا كبيرًا، وكانت الكتب العديدة قد أُلِّفَت في كل ناحيةٍ من نواحيها، فكان من مقتضَيات المنهج الصحيح أن يجمع كلَّ تلك الكتبِ ويدرُسَها قبل أن يأخذ هو في الموازنة بينهما. وهذا ما فعله.</p><p><br /></p><p>نظر فوجدَ «أكثر مَن شاهَده ورآه مِن رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أبي تمام حبيبِ بن أوسٍ الطائي لا يتعلق بجيدِه جيدٌ مثله، ورديئُه مطروحٌ ومرذول؛ فلهذا كان مختلفًا لا يتشابه، وأن شِعر الوليد بن عُبَيد الله البُحتريِّ صحيحُ السَّبْك، حسَنُ الديباجة، ليس فيه سَفاسفُ ولا رديء ولا مطروح؛ ولهذا صار مستويًا يُشبه بعضه بعضًا.» ووجدهم «فاضَلوا بينهما لغزارةِ شِعرَيهما، وكثرة جيِّدهما وبدائعهما، ولم يتَّفقوا على أيُّهما أشعَرُ، كما لم يتفقوا على أحدٍ ممَّن وقع التفضيلُ بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمَن فضَّل البحتريَّ ونسَبَه إلى حلاوة النفس، وحُسن التخلص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقُرب المأتى، وانكشافِ المعنى، وهم الكُتَّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهلُ البلاغة، ومثل مَن فضَّل أبا تمام ونسَبه إلى غُموض المعاني ودقَّتها، وكثرة ما يورد ممَّا يحتاج إلى استنباطٍ وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراءُ أصحاب الصَّنعة ومَن يميل إلى التدقيق وفلسفيِّ الكلام، وإن كان كثيرٌ من الناس قد جعلهما طبقة. وذهب قومٌ إلى المساواة بينهما، فإنهما لَمختلفان؛ لأن البحتري أعرابيُّ الشعر مطبوعٌ على مذهب الأوائل، وما فارق عمودَ الشعر المعروف، وكان يتجنَّب التعقيدَ ومستكرَه الألفاظ ووحشيَّ الكلام، فهو بأن يُقاس بأشجعَ السُّلَمي ومنصورٍ وأبي يعقوبَ المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أَولى، ولأن أبا تمام شديدُ التكلف صاحبُ صَنعة، مُستكرِهُ الألفاظ والمعاني، وشِعره لا يُشبه أشعارَ الأوائل، ولا هو على حدِّ طريقهم؛ لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولَّدة؛ فهو بأن يكون في حيِّز مسلمِ بن الوليد ومَن حذا حَذْوه أحقُّ وأشبَه. وعلى أني لا أجد مَن أقرنه به؛ لأنه ينحطُّ عن درجة مُسلم؛ لسلامة شعر مسلمٍ وحُسن سَبكه وصحةِ معانيه، ويرتفع عن سائر مَن ذهب هذا المذهبَ، وسلك هذا الأسلوب؛ لكثرة مَحاسنه وبدائعه واختراعاته، ولستُ أحب أن أطْلِقَ الحكم بأيِّهما أشعر …» (ص٣).</p><p><br /></p><p>وهذا كلامُ ناقدٍ مؤرِّخ يرى الخصائص، ويُفسر الظواهر، ويُحاول أن يُقيم التسلسلَ بين المذاهب المختلفة؛ فهو يُخبرنا عمَّن يُفضِّلون البحتريَّ «الكتَّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة»، وعمَّن يُفضلون أبا تمام «أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة ومَن يميل إلى التدقيق وفلسفيِّ الكلام»، أو هو يُحدثنا عن مذهب كلٍّ منهما: «عمود الشعر عند البحتري، والبديع عند أبي تمام»، وهو يربط بين الشعراء المعاصرين؛ «فالبحتريُّ من مذهب أشجعَ السُّلمي ومنصورٍ وأبي يعقوبَ المكفوف»، وأبو تمام «بأن يكون في حيِّز مسلم بن الوليد ومَن حذا حذْوَه أحقُّ وأشبه.» وهذا «ليس تعصبًا، وهو وإن فضَّل شعر مسلم على شعر أبي تمام، فإنه لم يُنكر على هذا الأخيرِ أكثرَ مَحاسنه وبدائعِه واختراعاته»، كما يرفض «أن يُطلِق الحكم بأيهما أفضل».</p><p><br /></p><p>(٥) كيف عالج القضايا العامة؟</p><p>(٥-١) المحاجَّة بين الفريقين</p><p>وإذن فقد كان لكلِّ شاعر أنصارُه، وقد أورد كلُّ فريق حُججَه، وجاء الآمديُّ — كرجل محقِّق — في «موازنته» بأقوال كلِّ فريق؛ قولِ أصحاب أبي تمام بأن البحتريَّ تلميذٌ لأبي تمام، وردِّ الفريق الآخر بأن التلمذة لا تُفيد التخلفَ عن الأستاذ. وقولهم: إن أبا تمام انفرد بمذهبٍ اخترعه وصار فيه أولًا وإمامًا متبوعًا، وشُهر به حتى قيل: هذا مذهب أبي تمام وطريقة أبي تمام، وسلك الناسُ نهجَه واقتفَوْا أثرَه. ورد أصحاب البحتري بأن أبا تمام لم يخترع هذا المذهب، ولا هو أولٌ فيه ولا سابقٌ إليه، بل سلك في ذلك سبيل مسلم، واحتذى حَذْوه، وأفرط وأسرف وزال عن المنهج المعروف، والسَّنَن المألوف، بل إن مُسلمًا نفسه غيرُ مبتدع لهذا المذهب ولا هو أولٌ فيه، ولكنه رأى هذه الأنواعَ التي وقع عليها اسمُ البديع، وهي: الاستعارة والطِّباق والتجنيس؛ منثورةً متفرقة في أشعار المتقدمين، فقصَدها وأكثرَ في شعره منها، وهي في كتاب الله عز وجل موجودة. وهنا يورد الآمديُّ الأمثلةَ التي أوردها ابنُ المعتز في كتابه البديع، وينتقل من القرآن إلى أحاديثِ النبي ﷺ وإلى الشعر القديم فالشعرِ الأموي، ثم يقول: «فتبع مسلمُ بن الوليد هذه الأنواعَ واعتدَّها، ووشَّح شعره بها، ووضَعها في موضعها، ثم لم يَسْلم مع ذلك من الطَّعن حتى قيل: إنه أولُ مَن أفسد الشعر، ثم اتبعَه أبو تمام واستحسَن مذهبه، وأحبَّ أن يجعل كلَّ بيت من شعره غيرَ خالٍ من بعضِ هذه الأصناف، فسلَك طريقًا وَعْرًا، واستكرهَ الألفاظَ والمعاني، ففسَد شعرُه، وذهبَت طَلاوته، ونشف ماؤه. وقد حكى عبد الله بن المعتزِّ هذا الكتابَ الذي لقبه «البديع» أن بشارًا وأبا نُواس ومُسلمَ بن الوليد ومَن تقبَّلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كَثُر في أشعارهم فعُرف في زمانهم، ثم إن الطائيَّ تفرَّع فيه وأكثَر منه، وأحسَن في بعضِ ذلك وأساء في بعض. وتلك عُقبى الإفراطِ وثمرةُ الإسراف، قال: وإنما كان الشاعر يقول في هذا الفنِّ البيتَ والبيتين في القصيدة، وربما قُرئ في شعر أحدهم قصائدُ من غيرِ أن يوجد فيها بيتٌ واحد بديع. وكان يُستحسَن ذلك منهم إن أتى قدرًا، ويزداد حظوةً من الكلام المرسَل. وقد كان بعضُهم يُشبِّه الطائيَّ في البديع بصالح بن عبد القدُّوس في الأمثال، ويقول: لو كان صالحٌ نثر أمثاله في تضاعيفِ شعره وجعل منها فصولًا في أبياته؛ لسبق أهلَ زمانِه، وغلَب على مدِّ مَيدانِه. قال ابنُ المعتز: وهذا أعدلُ كلام سمعتُه.» (الموازنة، ص٦–٨).</p><p><br /></p><p>وهنا يظهر لنا منهجُ الآمدي بوضوح؛ فهو يعتمد على ما أُلف قبلَه ويحسن استخدامه، ناسبًا كلامَ ابنِ المعتز إلى صاحبه. وأما سكوته عن ذِكر أسماء أنصارِ أبي تمام، فليس في ذلك دليلٌ على تعصب؛ لأنه يسكت أيضًا عن ذِكر أسماء المتعصبين للبحتري، وإنما يورِدُ أسماء المؤلفين الذين يأخذ عنهم. ونحن وإن كنَّا نعلم اليوم أن كثيرًا من أقوال أنصار أبي تمام ما هي إلا تلخيصٌ لأقوال الصولي في أخبار أبي تمام، فإننا لا نَعجَب من عدم إفصاح الآمديِّ عن اسمه؛ فالصولي في الحق رجلُ ادِّعاء، وأوضحُ ما يكون ذلك فيما أورَدْناه، في الفصل السابق، من زعمِه أن الأدباء قد اختصَموا أبا تمام لجهلِهم وعجزِهم عن فهمه، أو لرغبتهم في المخالفة ليُعرَفوا. وها هو الآمدي يشير إلى هذه الادعاءات فيقول: «وقال صاحبُ أبي تمام: إنما أَعرَض عن شعرِ أبي تمام مَن لم يفهمه؛ لدقةِ معانيه وقُصور فَهمه عنه، وفَهِمه العلماءُ والنقادُ في علم الشعر، وإذا عرَفَت هذه الطبقةُ فضيلتَه لم يَضِرْه طعْنُ مَن طعَن بعدها عليه.» ويردُّ الآمديُّ على هذا الادِّعاء بقوله: «قال صاحبُ البحتري: إن ابنَ الأعرابي وأحمد بن يحيى الشيباني، وقبلهما دِعْبل الخزاعي، قد كانوا علماءَ بالشعر وكلامِ العرب، وقد علمتم مذاهبَهم في أبي تمام وازدراءهم بشعره، وطعن دعبل عليه، وقولهم: إن ثُلث شعره مُحال، وثلثه مسروق، وثلثه صالح. وروى أبو عبد الله محمد بن داود الجرَّاح في كتاب الشعراء عن محمد بن القاسم بن مهرويه، عن الهيثم بن داود، عن دعبل أنه قال: ما جعله الله من الشعراء، بل شعره بالخُطباء والكلام المنثور أشبهُ منه بالشعر. ولم يُدخِلْه في كتابه المؤلَّف في الشعراء. وقال ابنُ الأعرابي في شعر أبي تمام: إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل؛ روى ذلك أبو عبد الله محمدُ بن داود عن البحتري عن ابن الأعرابي. وحكى محمد بن داود أيضًا، عن محمد بن القاسم بن مهروَيه، عن حُذيفة بن محمد — وكان عالمًا بالشعر — أنه قال: أبو تمام يريد البديعَ فيخرج إلى المحال. ورُوي عنه أنه قال: دخل إسحاقُ بن إبراهيم الموصليُّ على الحسَن بن وهبٍ وأبو تمام يُنشده، فقال إسحاق: يا هذا، لقد شدَّدتَ على نفسك. وذكر أيضًا أبو العباس عبدُ الله بن المعتزِّ في كتاب البديع غيرَ هؤلاء العلماء ممَّن أفسدوا شعره … وهذا أبو العباس محمدُ بن يزيد المبرد ما علمناه دوَّن له كبيرَ شيءٍ، وهذه كتبه وأماليه وإنشاداته تدلُّ على ذلك، وكان يُفضِّل البحتريَّ ويستجيد شعرَه، ويُكثر إنشادَه ولا يستمليه؛ لأن البحتريَّ كان باقيًا في زمانه. وأخبرنا أبو الحسن الأخفشُ قال: سمعتُ أبا العباس محمدَ بن يزيد المبرِّد يقول: ما رأيت أشعرَ من هذا الرجل، يعني البحتري، لولا أنه يُنشدني كما أنشدكم لملأتُ كتبي من أمالي شعرِه.»</p><p><br /></p><p>وفي هذا الردِّ ما يدلُّ على مَبلغ معرفة الآمدي لما قيل قبله، ورجوعه إلى الكتب المؤلَّفة؛ ككتبِ ابن المعتز ودعبل وابن الجرَّاح والمبرد، كما يشهد بوقوفه على التيارات المختلفة، وتَفهُّمِه لها، وعدلِه بينها.</p><p><br /></p><p>(٥-٢) السرقات</p><p>ونحن لا نترك هذا البابَ إلى بابِ السرقات حتى نجدَ هذا المنهجَ الدقيق والمعرفةَ التامة؛ فهو يُمهد لدراسةِ سرقاتِ أبي تمام بتفسيرِ الظاهرة التي يَرجِعُها إلى كثرة ما حفظه أبو تمام من شعر القُدماء والمحْدَثين، وكثرةِ ما دوَّنه منه في مُختاراته العديدة، ثم يأخذ في استعراض الموضوع معتمدًا على ما أُلِّف في ذلك؛ ينظر فيه ويُناقشه، فيَقبل ما يراه صحيحًا، ويرفض ما يراه باطلًا، ويُكمل ما يجدُه ناقصًا.</p><p><br /></p><p>يقول (ص٣٢) عند بدءِ حديثِه عن سَرِقات أبي تمام: «وأنا أذكرُ ما وقَع إليَّ في كتب الناس من سرقاته، وما استنبطتُه أنا منها واستخرجتُه، فإن ظهَرتُ بعد ذلك منها على شيءٍ ألحقتُه بها، إن شاء الله.» ويأخذ في إيراد تلك السرقات ورَدِّها إلى أصولها التي يراها، حتى إذا انتهى من ذلك عاد في صفحة ٤٧ يقول: «وجدتُ ابنَ أبي طاهرٍ خرَّج سرقاتِ أبي تمام، فأصاب في بعضها وأخطأ في البعض؛ لأنه خلَط الخاصَّ من المعاني بالمشترَك ممَّا لا يكون مِثلُه مسروقًا.» وهنا يُراجع ما أورده أحمدُ بن أبي طاهر. وفي هذا ما يدلُّ على منهج الآمديِّ ونزوعه إلى التحقيق وبراءته من التعصُّب، ولَكَم من مرةٍ يردُّ اتهاماتِ ابن أبي طاهر عن أبي تمام؛ لأن المعنى الذي قصد إليه أبو تمام غيرُ المعنى الموصوفِ بالسرقة، أو لأنه معنًى شائعٌ تتواردُه الخواطر، أو لأنه قد قصد منه إلى غرضٍ مُباين. وهذا ليس مَنْحى التعصُّب، وإنما هو المنهجُ الصحيح، والنظر العادل المدقق.</p><p><br /></p><p>وهل أدَلَّ على إنصافه من أن يقول (ص٥٥): «وقد سمعتُ أبا عليٍّ محمدَ بن العلاء السِّجِستانيَّ يقول: إنه ليس لأبي تمام معنًى انفرد به فاخترَعه إلا ثلاثةُ معانٍ، وهي:</p><p><br /></p><p>تأبى على التَّصريد إلا نائلًا إلَّا يَكُن ماءً قُراحًا يُمذَقِ</p><p>نَزْرٌ كما استَكرَهتَ عابِر نَفحةٍ مِن فأرةِ المِسْك التي لم تُفْتَقِ</p><p>وقولُه:</p><p><br /></p><p>بَني مالكٍ قد نبَّهَت خامِلَ الثَّرى قبورٌ لكم مُستشرِفاتُ المَعالمِ</p><p>رواكدُ قيسِ الكفِّ٣ من متناوِلٍ وفيها عُلًى لا تُرتقى بالسَّلالمِ</p><p>وقولُه:</p><p><br /></p><p>وإذا أراد اللهُ نشْرَ فضيلةٍ طُوِيَت أتاح لها لِسانَ حَسودِ</p><p>لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَت ما كان يُعرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ</p><p>ولستُ أرى الأمر على ما ذكَره أبو علي، بل أرى أن له — على كثرة ما أخَذه من أشعار الناس ومعانيهم — مُخترَعاتٍ كثيرةً، وبدائعَ مشهورة، أذكرها عند ذِكر مَحاسنه، إن شاء الله تعالى.»</p><p><br /></p><p>وكما فعل في سرقات أبي تمام، فعَل في دراسته لسرقات البحتري، فيقول (ص١٢٤): «وحكى أبو عبد الله بنُ الجرَّاح في كتابه، أن ابن أبي طاهرٍ أعلَمَه أنه أخرَج للبحتريِّ سِتَّمائةِ بيتٍ مسروق، منها ما أخَذه من أبي تمام، خاصةً مائة بيت، فكان ينبغي ألَّا أذكر السرقات فيما أُخرِجُه من مَساوئ هذَين الشاعرَين؛ لأنني قدَّمتُ القولَ في أن مَن أدركتُه من أهل العلم بالشعر لم يكونوا يرَون سرقاتِ المعاني من كبيرِ مَساوئ الشعراء، وخاصةً المتأخرين؛ إذ كان هذا بابًا ما تعرَّى منه متقدمٌ ولا متأخِّر، ولكن أصحاب أبي تمام ادَّعَوا أنه أولُ سابق، وأنه أصلُ الابتداع والاختراع، فوجَب إخراجُ ما استعاره من معاني الناس، ووجَب من أجل ذلك إخراجُ ما أخذه البحتريُّ أيضًا من معاني الشعراء. ولم أستقصِ البحتريَّ ولا قصَدتُ الاهتمامَ إلى تتبُّعه؛ لأن أصحاب البحتري ما ادَّعَوا ما ادَّعاه أصحابُ أبي تمام، بل استقصيتُ ما أخذه من أبي تمام خاصة؛ إذ كان من أقبح المساوئ أن يتَعمَّد الشاعرُ ديوانَ رجلٍ واحد من الشعراء، فيأخذَ من معانيه ما أخذه البحتريُّ من أبي تمام، ولو كان عشَرةَ أبيات. فكيف والذي أخذه منه يَزيد على مائة بيت؟» وهنا ينمُّ كلام الآمدي عن منهجٍ صحيح، وروحٍ عادلة؛ فهو يُنزل السرقات منزلَها الحقيقي في النَّيل من الشاعر، وبخاصةٍ في عصرٍ متأخر من عصور الشعر العربي الذي غلَب عليه التقليد، وأخذ اللاحقُ عن السابق. وهو يُعلل اهتمامَ النقاد بهذه المسألة تعليلًا تاريخيًّا صحيحًا، ويرجعُه إلى تلك الخصومة التي دفعَت أنصارَ الحديث إلى التعصب لأبي تمام كرأسِ مذهبٍ جديد؛ ممَّا دفع أنصار الشعر التقليدي إلى البحث عن مصادر هذا المجدِّد، وإرجاعِ الكثير من مَعانيه وصُوَره واستعاراته ومُحسِّناته إلى القُدماء الذين درَسَهم وجمَع لهم مختارات. وكان هذا بدْءَ إسرافٍ في الاتهام بالسرقة، ومُحاولةِ إثباتها، واستقصاء أوجُهِها الصريحة والملتوية، كما سنرى.</p><p><br /></p><p>وهو إذ درَس سرقاتِ أبي تمام لم يكن له بدٌّ من دراسةِ سَرِقات البُحتري، وإن لم يكن لهذه المسألة في صددِ البُحتريِّ ما لها من أهميةٍ في صددِ أبي تمام؛ لأن أصحاب البُحتري لم يدَّعوا أن شاعرَهم مبدعٌ ولا رأسُ مذهب. وهذا حقٌّ لا نستطيع إلا أن نُقِرَّ الآمديَّ عليه، وهو على عكس ذلك يُعلق أهميةً كبيرة على ما اتُّهِم به البحتري من سرقةِ معاني أبي تمام، وهو يقول على لسان أنصارِ البحتري في باب حُجج الفريقَين (ص٣٢): «وأما ادِّعاؤكم كثرةَ الأخذ منه فقد قُلنا: إنه غير مُنكَر أن يكون أخَذ منه كثرةَ ما كان يَرِد على سمعِ البحتري من شعر أبي تمام، فيَعْتلقُ معناه قاصدًا الأخذَ أو غيرَ قاصد، لكن ليس كما ادَّعيتم وادَّعاه أبو الضياءِ بِشرُ بن تميم في كتابه؛ لأنَّا وجَدْناه قد ذكَر ما يشترك الناسُ فيه، وتجري طبائعُ الشعراء عليه، فجعَله مسروقًا، وإنما السرق يكون في البديع الذي ليس للناس فيه اشتراك. فما كان من هذا الباب فهو الذي أخَذه البحتريُّ من أبي تمام، لا ما ذكَره أبو الضياء وحشَا به كتابَه.» ويضيف الآمديُّ: «وأنا أذكر هذين الشيئَين في موضعِهما من الكتاب، وأُبيِّن ما أخذه البحتريُّ من أبي تمامٍ على الصحة دون ما اشترَكا فيه؛ إذ كان غيرَ مُنكَرٍ لشاعرَين متناسبَين من أهل بلدَين متقاربين أن يتَّفقا في كثيرٍ من المعاني؛ لا سيما ما تقدم الناسُ فيه وتردَّد في الأشعار ذِكرُه، وجرى في الطِّباع والاعتياد من الشاعر وغير الشاعر استعمالُه.» وهذا ما فعَله الآمديُّ في باب سرقات البحتري؛ فقد أورَد في عدة صفحات (ص١٢٠–١٣٩) ما رآه مسروقًا من الشعراء السابقين، ثم أفرَد لسرقاتِه من أبي تمام حديثًا خاصًّا ابتدَأه بقولِه (ص١٣٩): «ولعل قائلًا يقول: قد تجاوزتَ في هذا الباب وقصَّرْت، ولم تستقصِ جميعَ ما خرَّجه أبو الضياء بشرُ بن تميم من المسروقات. وليس الأمرُ كذلك، بل قد استوفيتُ جميعَه، فأوضحتُ، وسامحتُ بأن ذكَرت ما لعلَّه لا يكون مسروقًا، وإن اتفق المعنَيان أو تَقاربا، غيرَ أني اطَّرحتُ سائرَ ما ذكَره أبو الضياء بعد ذلك؛ لأنه لم يَقْنع بالمسروق الذي يَشهد التأمُّلُ الصحيح بصحتِه، حتى تعدَّى ذلك إلى الكثير، وإلى أن أدخَل في الباب ما ليس منه، بعد أن قدَّم مقدمةً افتتح بها كلامَه، وقال: ينبغي لمن نظَر في هذا الكتاب ألا يَعْجل بأن يقول: ما هذا مأخوذٌ من هذا، حتى يتأمَّل المعنى دون اللفظ، ويُعمِل الفِكر فيما خفي. وإنما السرقُ في الشعر ما نُقِل معناه دون لفظه وأُبعِد آخِذُه. قال: ومن الناس مَن بَعُد ذهنُه إلا عن مِثل بيتِ امرئ القيس وطَرْفة حين لم يختلفا إلا في القافية، فقال أحدُهما: «وتجمَّل»، وقال الآخَر: «وتجلَّد». قال: وفي الناس طبقةٌ أخرى يحتاجون إلى دليلٍ في اللفظ مع المعنى، وطبقةٌ يكون الغامضُ عندهم بمنزلة الظاهر، وهم قليل. فجعَل هذه المقدمةَ توطئةً لما اعتمده من الإطالة والحشد، وأن يقبل منه كل ما يُورده، ولم يستعمل مما وصَّى به من التأمل وإعمال الفكر شيئًا. ولو فعَل لرَجَوتُ أن يُوفَّق لطريق الصواب، فيعلم أن السرق إنما هو في البديع المخترَع الذي يختصُّ به الشاعر، لا في المعاني المشترَكة بين الناس التي هي جاريةٌ في عاداتهم، ومستعمَلةٌ في أمثالهم ومُحاوَراتهم؛ مما ترتفع الظِّنَّة فيه عن الذي يورده أن يُقال أخَذه من غيره، غير أن أبا الضياء استكثر في هذا الباب، وخلَط به ما ليس من السرق في شيء، ولا بين المعنيَين تناسُب ولا تقارُب، وأتى بضربٍ آخَر ادَّعى فيه أيضًا السرقَ والمعاني مختلفةٌ، وليس فيه إلا اتفاقُ ألفاظٍ ليس مِثلُها ما يحتاج واحدٌ أن يأخذه من آخر؛ إذ كانت الألفاظ مباحةً غيرَ محظورة، فبلغ غرَضَه في توفير الورق، وتعظيمِ حجم الكتاب. وأنا أذكر في هذه الأبواب أمثلةً تدلُّ على صحةِ ما ذكرناه، وتجعلها قياسًا على ما لم نذكره، فإن في البعض غِنًى عن الإطالة بذِكر الكل.» وهنا يورد الآمديُّ الأمثلةَ ويناقشها ويُحللها، كما فعَل في مناقشته لأحمدَ بنِ أبي طاهرٍ طيفور، الذي أسرف فرأى عند أبي تمام سرقاتٍ يمكن أن تكون مجردَ توارُدِ أفكار، أو اشتراكًا في المعاني الشائعة … إلخ.</p><p><br /></p><p>وهكذا تتَّضح لنا روحُ الآمديِّ العلميةُ الدقيقة العادلة في دراسة هذَين الشاعرَين.</p><p><br /></p><p>فهو يرجع إلى النسخ، كما يملك ملَكةً ناقدة لا تقبل الشعرَ إلا عن نظر، فما لاح له حضَريًّا يرفض نسبته إلى البدو. وهو قبل أن يدرس مسألةً يجمع المؤلفاتِ التي كُتبَت قبله في الموضوع ويدرسها ويناقشها. والنظرُ المنصِف لا يستطيع إلا أن يشهَد له بالاعتدال والدقَّة واستقامةِ الرأي؛ فهو لا يتعصب لأحدٍ ضد أحد، وإنما يتأمَّل ويدرس ويُناقش، وإذا كان هناك مَن تعصب فهم في الحقيقة سابِقوه الذين يُناقش آراءهم؛ كالصولي والسِّجِستاني وابن تميم وابن أبي طاهر ودِعْبل الخزاعيِّ وغيرِهم، ممن كانوا لا يزالون قَريبي عهدٍ بتلك الخصومة متأثِّرين بحرارتها.</p><p><br /></p><p>(٦) دراسات النقد الموضعي</p><p>بعد أن فرَغ الآمديُّ من عرض الحُجج التي كان يحتجُّ بها أنصارُ الشاعرَين، ومن السرقاتِ التي نُسِبَت إلى كلٍّ منهما؛ أخذ في دراسات النقد الموضعي، فتحدَّث عن:</p><p>(١)أخطاء أبي تمامٍ وعيوبه، وأخطاءِ البحتريِّ وعيوبه.</p><p>(٢)مَحاسن أبي تمام ومَحاسن البحتري.</p><p>(٣)الموازَنة التفصيلية بين الشاعرَين بتتبُّع مَعانيهما معنًى معنًى.</p><p>وهذه الأبواب ليست متساويةً في القيمة ولا في الكمية؛ فباب الأخطاء والعيوب يَشغَل جانبًا كبيرًا من الكتاب (أخطاء أبي تمام وعيوبه من ص٥٤ إلى ١٢٤، وأخطاء البحتريِّ وعيوبه من ص١٥٠ إلى ١٦٦)، وأما باب مَحاسنهما فلا يَعْدو عدةَ صفحات (من ص١٦٥ إلى ١٧٤). وعلى العكس من ذلك باب الموازَنة التفصيلية واستقصاء المعاني؛ فهذا هو الجزء الأساسيُّ من الكتاب، ولقد نُشِر منه بعضه (من ص١٧٤ إلى ١٩٧ من الكتاب المطبوع)، وأما الباقي فلا يزال مخطوطًا. وقد استخدَمْنا صورةً فوتوغرافية لهذا الجزءِ موجودةً بدار الكتب المصرية ضِمن صورةٍ كاملة للكتاب من أربعةِ مجلدات: المجدان الأوَّلان يشتملان على الجزء المنشور من ص١ إلى ١٧٤، والمجلدان الأخيران يبدآن من ص١٧٤ من الجزء المنشور ثم يستمرَّان إلى أن ينتهيا عند باب المديح.</p><p><br /></p><p>ومن الواضح أن الكتاب رغم هذا الجزءِ المخطوط ناقص؛ إذ إننا لا نجد فيه غيرَ الابتداءات والمعاني المختلفة التي تطرقها، ثم بابُ المديح، وحتى هذا البابُ الأخير ناقص؛ إذ يقف عند مدح الخلفاء، الذي أراد المؤلفُ فيما يقول أن يبتدئَ به ليَمُرَّ إلى غيره، فيقول في اللوحة ٢٠٢: «أول ما أبدأ به من مدائحِهما ذكرُ السُّؤْدد والمجد وعلُو القدر، ثم ما يخصُّ الخلفاءَ من ذلك دون غيرِهم. منه ذِكْر الخلافة وما يتصرَّف عليه القولُ من مَعانيها، ذكر الملك والدولة، ذكر ما يختصُّ أهلُ بيت النبوَّة من المدح دون سِواهم. من ذلك ذِكر طاعتهم، والمحبَّةِ لهم، والمعرفة لحقِّهم، ذكر الآلة التي كانت للنبيِّ عليه السلام فصارت إليهم، ذكر الآثار بالحرم، ذكر علوِّ القدر وعِظَم الفضل، ذكر تأييد الدين وتقوية أمرِه، ذكر الرأفة والرحمة، ذكر إضافة العدل وإقامة الحق، ذكر سَداد الرأي وحُسن السياسة والتدبير والهِبَة، ذكر كرم الأخلاق ولينها، ذكر ما ينبغي أن يُمدَح به الخلفاءُ من الجود والاضطلاع بالأمور والحِلم والعقل، ذِكر الجلال والجمال وما إليها، والجهارة والكرم، ذِكر ما ينبغي أن يُمدَح به من الشجاعة والبأس.»</p><p><br /></p><p>وبالفعل يستعرض الآمديُّ كلَّ هذه المعاني بشأن الخلفاء إلى أن ينتهيَ المخطوطُ عند «الجلال والجمال وما إليها، والجهارة والهيبة. ذكر كرَم الأخلاق ولينها، وذكر ما ينبغي أن يُمدَح به الخلفاء من الجود والكرم، وذكر ما ينبغي أن يُمدح به من الشجاعة والبأس.» وهذه هي المعاني التي أكثَر فيها الشاعران، بل كلُّ شعراء العرب، كما لا نجد مدْحَ مَن هم دون الخلفاءِ من وُلاةٍ وأمراء ووزراء وغيرِهم ممَّن مدَح الشاعران، كما نرى في ديوانَيهما.</p><p><br /></p><p>وإنها حقًّا لَخسارة كبيرة ألَّا نستطيع أن نعثرَ على بقية الكتاب، خصوصًا وأن الباقيَ منه يلوح جزءًا كبيرًا جدًّا. وفي الجزء الذي لدينا أدلةٌ وإشارةٌ واضحة للجزء المفقود؛ منها قولُ المؤلف في اللوحة ٢٤: وقال أبو تمامٍ في خالدِ بن يزيدَ بن مَزْيد (الشَّيباني):</p><p><br /></p><p>وقد كان ممَّا يُضيء السريـ ـرَ والبَهْو يملؤُه بالبهاءِ</p><p>مضى خالدُ بنُ يزيدَ بنِ مَزْ يدٍ قمَرُ الليلِ شمسُ الضَّحاءِ</p><p>ويُضيف: «وهذا يمرُّ في المراثي.» وإذن فهناك بابٌ في المراثي التي قالاها والموازنةِ بينها لم يَصِلنا. وهنا ما هو أكثرُ من ذلك؛ فالمؤلف يقول (ص٢٣): «وأُفرِدُ بابًا لِما وقَع في شِعرَيهما من التشبيه وبابًا للأمثال أختم بهما الرسالة، وأضع ذلك بالاختيار المجرَّد من شِعرَيهما، وأجعله مؤلفًا على حروف المعجم؛ ليقربَ مُتناوَلُه، ويسهل حفظه، وتقعَ الإحاطةُ به إن شاء الله …» وليس لدينا لا في الجزء المنشور ولا في المخطوط هذان البابان عن التشبيهِ والأمثال؛ فهما لا ريبَ ضمن الجزءِ المفقود. وهذه كلُّها مسائلُ شائكةٌ نُرجئها إلى الحديث عن تأليف الكتاب وأجزائه التي قال عنها ياقوت الحموي: إنها عشَرة. وإنما أشَرنا إليها هنا لتدلَّ على أن الكتاب — مطبوعَه ومخطوطه — ناقص، وذلك إذا كانت هذه الحقيقةُ، التي يؤسَفُ لها، تحتاج إلى أدلةٍ من النصوص الموجودة.</p><p><br /></p><p>(٧) دراسة الأخطاء</p><p>والناظر في دراسته للأخطاء والعيوب، وبخاصةٍ عند أبي تمَّام، يجد أن منهج الناقد هو رغبةٌ في الإنصاف، وحرصٌ على التحقيق، وإحاطةٌ بما كتب في الموضوع، ومناقشةٌ لآراء السابقين؛ فهو يقول (ص٥٥): «الذي وجَدتُهم ينعَوْنه عليه هو كثرة غلَطِه وإحالته وأغاليطه في المعاني والألفاظ. وتأمَّلتُ الأسبابَ التي أدَّته إلى ذلك، فإذا هي ما رواه أبو عُبيد الله بنُ داود بن الجرَّاح في كتابه «الورقة» عن محمد بن القاسم بن مهْرَوَيه عن حُذيفةَ بنِ أحمد: «إن أبا تمَّام يريد البديعَ فيخرج إلى المحال.» وهذا نحوُ ما قاله أبو العباس عبدُ الله بن المعتزِّ بالله في كتابه الذي ذكَر فيه البديع، وكذلك ما رواه محمدُ بن القاسم بن مهرويه عن أبيه: «إن أول مَن أفسَد الشعر مسلمُ بن الوليد، وإن أبا تمام تبعه فسَلَك في البديع مذهبَه فتحيَّر فيه.» كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطِّباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافَه في التماسِ هذه الأبواب وتوشيحِ شعره بها، حتى صار كثيرٌ ممَّا أتى من المعاني لا يُعرف ولا يُعلم غرَضُه فيها إلا مع الكدِّ والفكر وطول التأمُّل، ومنه ما لا يُعرَف معناه إلا بالظنِّ والحَدْس. ولو كان أخَذَ عفْوَ هذه الأشياء ولم يتوغَّل فيها، ولم يُجاذب الألفاظَ والمعانيَ مجاذَبةً، ويَقسُرْها مُكارهة، وتناولَ ما يسمح به خاطره وهو بِجَهامِه غيرَ متعصبٍ ولا مكدود، وأورَد من الاستعارات ما قَرُب في حُسن ولم يفحش، واقتصَر من القول على ما كان مَحذوًّا حذْوَ الشعراء المحسِنين؛ لِيَسلَم من هذه الأشياء التي تهجن الشعر وتُذهب ماءه ورونقَه — ولعل ذلك أن يكون ثُلثَ شعرِه أو أكبرَ منه — لَظننتُه كان يتقدَّم عند أهل العلم بالشعر أكثرَ الشعراءِ المتأخرين، وكان قليلُه حينئذٍ يقوم مقام كثيرِ غيرِه؛ لما فيه من لطيفِ المعاني ومستغرَبِ الألفاظ، لكنْ شَرِهَ إلى إيراد كلِّ ما جاش به خاطرُه، ولجلَجَه فِكرُه، فخلَط الجيدَ بالرديء، والعيِّنَ النادرَ بالرَّذْل الساقط، والصوابَ بالخطأ، وأفرط المتعصبون في تفضيله، وقدَّموه على مَن هو فوقه من أجلِ جيِّده، وسامَحوه في رديئه، وتجاوَزوا له عن خطئه، وتأوَّلوا له التأويلَ البعيد فيه، وقابَل المنحرفون عنه إفراطًا بإفراط، فبخَسوه حقَّه، واطَّرَحوا إحسانه، ونفَوْا سيئاته، وقدَّموا عليه مَن هو دونه.</p><p><br /></p><p>وتجاوَز ذلك بعضُهم إلى القدح في الجيدِ من شعره، وطعن فيما لا يُطعَن عليه، واحتجَّ بما لا تقوم الحُجة به، ولم يَقنع بذلك مُذاكرةً ولا قولًا، حتى ألَّف في ذلك كتابًا، وهو أبو العباسِ أحمدُ بن عُبيد الله بنِ محمد بن عمارٍ القُطْربُّلي المعروفُ بالفريد. ثم ما علمتُه وضَعَ يدَه من غلطه وخطئه إلا على أبياتٍ يسيرة، ولم يُقِم على ذلك الحُجةَ، ولم يَهتدِ لشرحِ العلة، ولم يتجاوز فيما نعاه بعدها عليه الأبياتَ التي تتضمَّن بعضَ الاستعارة وهجين اللفظ. وقد بيَّنتُ خطأه فيما أنكَر من الصواب في جزءٍ مفرد — إن أحبَّ القارئ أن يجعله في جملةِ هذا الكتاب ويَصِله بأجزائه فعَل ذلك، إن شاء الله تعالى — فالذي تضمَّن يدخل محاسنَ أبي تمام التي ذكرتُ أني أختم كتابي هذا بها وبمحاسنِ البحتري.</p><p><br /></p><p>وأنا الآن أذكر ما غلط فيه أبو تمام من المعاني والألفاظ ممَّا أخذتُه من أفواه الرجال وأهلِ العلم بالشعر عند المفاوَضة والمذاكَرة، وما استخرجتُه أنا من ذلك واستنبطتُه بعد أن أسقطتُ منه كلَّ ما احتمَل التأويل، ودخَل تحت المجاز، ولاحت له أدنى علَّة. وأنا أبتدئُ بالأبيات التي ذكرتُ أن أبا العباس أنكرَها ولم يُقِم الحُجة على تبيين عيبِها وإظهار الخطأ فيها، ثم أستقصي الاحتجاجَ في جميعِ ذلك؛ لعِلمي بكثرةِ مَن لا يُجوِّزه على الشاعر، ويوقع له التأويل، ويُورِد الشُّبَه والتمويه.»</p><p><br /></p><p>وهذه أقوالٌ تُؤيد ما قرَّرناه — فيما سبَق — من أنه ناقدٌ نزيه، يتناول دراسةَ الشاعر ونقْدَ شعرِه بروحٍ عِلمية صادقة؛ فهو يُحدثنا عن كتاب محمد بن عمار القُطربُّلي، ويرى أن هذا المؤلفَ قد تجاوز إلى القدحِ في الجيِّد من شِعر أبي تمام، وطعَن فيما لا يُطعَن عليه، واحتجَّ بما لا تقوم الحُجة به. وهو في نظر الآمديِّ لم يضَع يده من غلطه وخطئه إلا على أبياتٍ يسيرة، ولم يُقم على ذلك الحُجة، ولم يهتدِ إلى شرح العلة. وقد بيَّن الآمديُّ نفسُه خطأه فيما أنكَر من الصواب في جزءٍ مفرَد، يدعونا إلى أن نعتبره في جُملة كتاب الموازنة، وأن نصِلَه بأجزائه؛ لأن الذي تضمَّنه يدخل في محاسن أبي تمام.</p><p><br /></p><p>وكلُّ هذا لا يمنع الناقدَ من أن يذكر في الموازنة ما غلط فيه أبو تمَّام من المعاني والألفاظ، سواءٌ في ذلك ما استخرَجه غيرُه من العلماء أو ما استخرجه هو. وهو يفعل ذلك بروحٍ منصِفة؛ إذ يُخبرنا أنه قد أسقط ممَّا عِيبَ على الشاعر كلَّ ما احتمَل التأويلَ، ودخل تحت المجاز، ولاحت له أدنى علَّة، وهو يستقصي الاحتجاجَ؛ لعِلمه بكثرةِ مَن لا يُجوِّز الخطأَ أو العيبَ على الشاعر، ويوقِعُ له التأويلَ البعيد، ويورِدُ الشُّبَهَ والتمويه. فهو إذن لا يريد أن يترك لأحدٍ سبيلًا إلى اتهامه بأنه يعيبُ بغير دليل، ويحرص على أن يقطع على المتعصِّبين لأبي تمام سبيلَ التأويل البعيدِ والتمويه، والتماسِ الأشباه الباطلة. وهو في ذلك مُحِق؛ فما يجوز أن يدفعنا التعصبُ إلى تبرير المعيب، وتَمحُّل الأوجُه للقبيح، وإلا فسَدَ النقد.</p><p><br /></p><p>وهكذا يتَّضح لنا هنا أيضًا نفسُ المنهج؛ فهو يردُّ ما أملاه التعصُّب، ولا يقبل من ابن عمار إلا ما يراه مُصيبًا فيه غيرَ مُكتفٍ بقَبوله، بل يورد الحُجج، ويُمعِن النظر، ويستقصي المناقشة، ولكنه في مناقشاته قد صدَر طبعًا عن مبادئَ وآراء. وهنا يقع الخلافُ بينه وبين النقَّاد الآخَرين الذين اتهَموه بالتعصُّب للبُحتري على أبي تمام.</p><p><br /></p><p>ولكي نجْلُوَ تلك التهمة، لا بدَّ من أن ننظر في ثقافة الآمدي، وفي ذَوقه الأدبي؛ فهُما مصدرُ أحكامه؛ وذلك لما هو واضحٌ من أن كل نقدٍ يقوم على أمرَين:</p><p>(١)معلومات.</p><p>(٢)ذَوق أدبي.</p><p>فأما المعلومات فنستطيع أن نعرف نوعَها، وأما الذَّوق فهذه مسألةٌ شاقَّة، وما دام الناقد يُحاول أن يعلِّل ذوقَه، ويُمكِّن الغير من مراجعته؛ فقد أدَّى واجبَه. وهذا ما فعله الآمديُّ على نحوٍ يستحقُّ كلَّ إعجاب.</p><p><br /></p><p>ولمعرفة ثقافة الآمدي، نستطيع أن نرجع إلى كتب التَّراجم، فنرى ياقوت يُحدثنا عنه فيقول: «أبو القاسم صاحبُ كتاب الموازنة بين الطائيَّينِ كان حسَنَ الفَهم، جيِّدَ الدراية والرواية، سريعَ الإدراك … وله شِعرٌ حسَن، واتساعٌ تام في الأدب، ودرايةٌ وحفظ وكتب مصنَّفة .. منها كتابُ «المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء»، كتاب «نَثْر المنظوم»، كتاب «الموازَنة بين أبي تمَّام والبحتري»، كتاب «في أن الشاعرَين لا تتفق خواطرهما»، كتاب «ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطأ»، كتاب «تفضيل امرِئ القيس على الجاهليِّين»، كتاب «في شدة حاجةِ الإنسان إلى أن يعرف نفسَه»، كتاب «تبيين غلَط قدامةَ بنِ جعفرٍ في كتاب نقد الشعر»، كتاب «معاني شِعر البُحتري»، كتاب «الرد على ابن عمَّار فيما خطَّأ فيه أبا تمَّام»، كتاب «فعلت وأفعلت»، وهو غايةٌ لم يُصنَّف مثلُه، كتاب «الحروف من الأصول في الأضداد»، وقد رأيتُه بخطِّه في نحوِ مائة ورقة، كتاب ديوان شعره في نحوِ مائة ورقة …</p><p><br /></p><p>وكان مولدُه بالبصرة، ولكنه قَدِم على بغداد يَحملُ عن الأخفش والحامض والزجَّاج وابن دُرَيد وابن سرَّاج وغيرِهم؛ اللغةَ والنحو، وروى الأخبارَ في آخِر عمره … وكان يكتب بمدينة السلام لأبي جعفرٍ هارونَ بن محمد الضبِّي؛ خليفةِ أحمد بنِ هلالٍ صاحب عمَّان، بحضرة المقتدِر بالله ووزارته، ولغيره مِن بعده، وكتَب بالبصرة لأبي الحسن أحمد وأبي أحمد طلحةَ بنِ الحسن بن المثنَّى، وبعدهما لقاضي البلد أبي جعفرِ بن عبد الواحد الهاشمي على الوقوفِ التي تليها القُضاة، ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد لما وَلِي قضاءَ البصرة، ثم لزم بيتَه إلى أن مات. وكان كثيرَ الشعر، حسَنَ الطبع، جيِّد الصَّنعة … وكان عالمًا فاضلًا، ولكنه كان تمتامًا … مات ٣٧١ﻫ» (ج٣، ص٥٤ إلى ٦١).</p><p><br /></p><p>ومن هذه المعلومات القليلة، نستطيع أن نستخلصَ أن الآمديَّ كان شاعرًا، وإن تكن الأمثلةُ التي أوردَها ياقوت من شِعره لا جودةَ فيها غيرَ اليسير، وهي بالنثر أشبَهُ، وكان كاتبًا من كُتاب الدواوين وكُتاب القُضاة — وهو في الحق ناثرٌ دقيق، قويُّ العبارة، متينُ الأسلوب، ناثرٌ من كِبار الكتَّاب الذين عرَفَهم العربُ — ثم عالمًا ناقدًا. وهذا ما يجبُ أن ننظرَ فيه عن قُرب.</p><p><br /></p><p>وعِلْم الآمديِّ أوسعُ مما تنطق به أقوالُ ياقوت أو مَن تلاه من أصحاب الطبقات؛ كالسيوطي في «البُغية»، فهو لم يكن نَحْويًّا لُغويًّا حمَل على الأخفش والحامض والزجَّاج ومَن إليهم فحسب، بل كان أديبًا يُحيط بالأدب العربيِّ إحاطةً تكاد تكون تامة. والذي لم يزل فيه أنه قد أطال النظر في شعر الشعراء حتى تَكوَّن ذوقُه، وصَقَل طبعَه السليم. وفي قائمةِ كتبه التي فُقد معظمُها، والتي لا نملك منها اليوم غيرَ جزء من «الموازنة»، ثم «المؤتلف والمختلف»، ما يدلُّ على أنه شغَل نفسه بالنقد حتى لَكأنه تخصَّص فيه.</p><p><br /></p><p>ولو أننا دقَّقنا في كتاب الموازنة لاستطعنا أن نستخلصَ — على نحوٍ دقيق — آراءه في الشعر ومقاييسه. ونحن وإن كنا سنعود بالتفصيل، في الجزء الثاني من هذا البحث، إلى مبادئ النقدِ عنده، إلا أننا نحرص في هذا الفصل على أن ندلَّ على منهجِه العام.</p><p><br /></p><p>(٨) وسائل نقده</p><p>كلُّ منهجٍ روحٌ ووسائل، وروح الآمديِّ أظنُّها قد اتضحَت لنا ممَّا سبق؛ فهو رجلٌ منصف دارسٌ محقِّق لا يقبل شيئًا بغير بيِّنة، ولا يُقدم حكمًا بغير دليل. وأما وسائله فهي المعرفة ثم الذَّوق.</p><p><br /></p><p>وهو فيما يبدو لم يكن يجهل شيئًا لا من علوم اللغة العربية وآدابِها التقليدية فحَسْب، بل ولا من العلوم الفلسفية المستحدَثة، وإن تكن العلومُ لم تُبهره ولا ضلَّلَت أحكامَه عن الأدب والشعر. وعنده — كما رأينا — أن أساس كلِّ نقدٍ صحيح هو الذوق، فمن حُرِمَه لا يمكن أن يَستعيض عنه بأيِّ شيء آخر: «لعلك — أكرمك الله — اغتررتَ بأنْ شارفتَ شيئًا من تقسيمات المنطق من الكلام والجدال، أو علمتَ أبوابًا من الحلال، أو حفظتَ صورًا من اللغة، أو اطلعتَ على بعض مقاييس العربية، وأنك لما أخذت بطرَفِ نوعٍ من هذه الأنواع بمعاناةٍ ومزاولة، ومتصلِ عنايةٍ فتوحَّدتَ فيه وميَّزت؛ ظننت أن كل ما لم تُلابسه من العلوم ولم تُزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرَّضتَ له وأمررتَ قَريحتَك عليه نفذتَ فيه وكشفتَ عن معانيه.</p><p><br /></p><p>هيهات! لقد ظننتَ باطلًا ورُمتَ عسيرًا؛ لأن العلم — أيَّ نوع كان — لا يُدركه طالبُه إلا بالانقطاع إليه، والإكباب عليه، والجِدِّ فيه، والحرص على معرفة أسراره وغوامضه، ثم قد يتأتَّى جنسٌ من العلوم لطالبه ويسهل، ويمتنع عليه جنسٌ آخَرُ ويتعذَّر؛ لأن كل امرِئ إنما يتيسَّر له ما في طبعه قَبوله، وما في طاقته تعلُّمه؛ فينبغي — أصلحك الله — أن تقف حيث وُقِف بك، وتَقْنع بما قُسم لك، ولا تتعدَّى إلى ما ليس من شأنك ولا من صِناعتك» (ص١٧٠). ومن الواضح أنه في هذه الفقرة يريد أن يُقرر الحقيقةَ الثابتة من أن النقد ملَكةٌ مستقلَّة لا بدَّ من أن تُدرَّبَ على تلك الصناعة، وأنه لا يكفي أن يحفَظ المرءُ القصائد أو يعي أصول اللغة ليكونَ ناقدًا، كما وَهِم الصُّولي، أو أن يُردِّد أقوالَ أرسطو ليكتب كتابًا في «نقد الشعر»، كما فعَل قدامة. النقد ملَكةٌ تُدرَّب، بل هو أشقُّ من ذلك؛ لأن في الأدب أشياءَ «لا تَحْويها الصفةُ وإن أحاطت بها المعرفة»، أو على الأوضح وإن نفَذَ إليها الإحساس.</p><p><br /></p><p>والشعر عند الآمديِّ غيرُ العلم، وقد ورَدَت في محاجَّة أنصارِ أبي تمام وأنصار البُحتري فقرةٌ توضح ذلك نورِدُها فيما يلي: «قال صاحبُ أبي تمام: فقد أقرَرتم لأبي تمام بالعلم والشعر والرواية، ولا مَحالة أن العلم في شِعره أظهرُ منه في شعر البحتري، والشاعر العالم أفضلُ من الشاعر غيرِ العالم، قال صاحبُ البحتري: فقد كان الخليلُ بن أحمد عالمًا شاعرًا، وكان الأصمعيُّ شاعرًا عالمًا، وكان الكسائيُّ كذلك، وكان خلَفُ بن حيان الأحمرُ أشعرَ العلماء، وما بلغ بهم العلمُ طبقةَ مَن كان في زمانهم من الشعراء غيرِ العلماء؛ فقد كان التجويدُ في الشعر ليست عِلَّتُه العلم. ولو كانت علتُه العلمَ لكان مَن يتعاطاه من العلماء أشعرَ ممَّن ليس بعالم؛ فقد سقَط فضلُ أبي تمام في هذا الوجه على البحتري، وصار أفضلَ وأولى بالسبق؛ إذ كان معلومًا شائعًا أن شعر العلماء دون شعر الشعراء، ومع ذلك فإن أبا تمام يعمل أن يدلَّ في شعره على علمه باللغة وكلامِ العرب، فيعمد لإدخال ألفاظٍ غريبة في مواضعَ كثيرةٍ من شعره، وذلك نحوُ قوله: «هنَّ البجاريُّ يا بُجَير» و«أهدى لها الأبْؤُس الغُوَير»، وقوله: «قدْكَ اتَّئِدْ أرْبَيتَ في الغُلَواء» وقوله: «أقدر بدر تُباري أيها الخَفَض» وهذا في شعره كثيرٌ موجود.</p><p><br /></p><p>والبحتري لم يقصد هذا ولا اعتمَده، ولا كان له عنده فضيلة، ولا رأى أنه علم؛ لأنه نشأ بباديةِ مَنْبِج، وكان يتعمَّد حذف الغريب والحوشيِّ من شعره؛ ليُقربه من فَهم مَن يمتدحه، إلا أن يأتيَه طبعُه باللفظة بعد اللفظة في موضعِها من غير طلبٍ لها، ويرى أن ذلك أنفَقُ له، فنفقَ وبلغ المرادَ والغرَض، ويدلُّك على ذلك أنه كان يُكْنى «أبا عُبَادة». ولما دخَل العراق تَكنَّى «أبا الحسَن»؛ ليُزيل العُنْجهيَّة والأعرابية، ويساويَ في مذاهبه أهلَ الحاضرة، ويُقرِّب الكنيةَ إلى أهل النَّباهة والكتَّاب من الشيعة. وقد ذكر بعضُهم أنه كان يُكْنى «أبا الحسن»، وأنه لما اتصل بالمتوكِّل وعرَف مذاهبه عدَل إلى «أبي عُبادة»، والأولُ أثبت. وقد حكى أبو عبد الله بن داود بن الجرَّاح أن «أبا عُبادة» كُنية البحتريِّ القديمة، فشتَّان ما بينهما من حضريٍّ تَشبَّه بأهل البدو، فلم يَنْفَق بالبادية ولا عند أكثرِ الحاضرة، وبدويٍّ تحضَّر فنفق في البدوِ والحضَر» (ص١١ و١٢).</p><p><br /></p><p>هذا عن العلم باللغة، وهو بَعدُ أمرٌ يقبل المناقشة، فإنه وإن يَكُن التكلفُ بغيضًا إلى النفس، إلا أن المقياس لا يصحُّ أن يكون بدويةَ الأسلوب أو حضَريته، وإنما دقَّته. وإذا لم يكن بُدٌّ من استعمال الألفاظ البدوية، فمن الواجب استعمالُها، وإن قَبُحَت أمثال تلك الألفاظ عندما يعدل إليها قصدًا ورغبة في الإغراب، كما كان يفعل أبو تمام أحيانًا؛ فالمعرفة باللغة — أكبر معرفة — مصدرُ يسرٍ وقوةٍ للشاعر، وإن كان من الصحيح أيضًا أن تلك المعرفة لا تجعل من غيرِ الشاعر شاعرًا، وأن العبرة في أغلبِ الأحيان ليست بكَثرة المفرَدات، بل بحُسن التصرُّف فيها، والقدرةِ على إدخالها في يسرٍ في الجمل، وإخضاعها للعبارة التامة الدقيقة عمَّا نُحِس به أو نُفكر فيه.</p><p><br /></p><p>ونحن إذا كنا قد ناقَشْنا مبدأَ العلم باللُّغة، ولم نُوافق الآمديَّ على حذف الغريب لأنه غريب — وبخاصةٍ إذا كان أدلَّ من المألوف — إلا أننا لا نستطيع إلا أن نُوافقه معجَبين بما قاله عن علاقة الشعر بالفلسفة (ص١٧٣): «ووجدتُ أكثرَ أصحاب أبي تمام لا يدفعون البحتريَّ عن حُلو اللفظ، وجودةِ الوصف، وحُسن الدِّيباجة، وكثرة الماء؛ فإنه أقربُ مأخذًا وأسلمُ طريقةً من أبي تمام، ويحكمون — مع هذا — بأن أبا تمام أشعرُ منه. وقد شاهدتُ وخاطبتُ منهم على ذلك عددًا كثيرًا. وهذا مذهبُ جلِّ مَن يُراعي ممَّا يُراعيه من أمر الشعر دقيق المعاني، ودقيق المعاني موجودٌ في كلامه، وليس الشعرُ عند أهل العلم به إلا حُسنَ التأتِّي، وقُربَ المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورِدَ المعنى باللفظ المعتادِ فيه، المستعمَل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقةً بما استُعيرَت له، وغير منافرةٍ لمعناه؛ فإن الكلام لا يكتسي البهاءَ والرونَق إلا إذا كان بهذا الوصف. وتلك طريقةُ البحتري.</p><p><br /></p><p>قالوا: وهذا أصلٌ يحتاج إليه الشاعرُ والخطيب صاحبُ النثر؛ لأن الشعر أجوَدُه أبلغُه. والبلاغة إنما هي إصابةُ المعنى، وإدراك الغرض بألفاظٍ سهلة عَذْبة مستعمَلة سليمةٍ من التكلُّف، لا تبلغ الهذر الزائدَ على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصًا يقفُ دون الغاية. وذلك كما قال البحتري:</p><p><br /></p><p>والشعر لمحٌ تكفي إشارتُهُ وليس بالهَذْر طُوِّلَت خُطبُهْ</p><p>فإن اتفَق — مع هذا — معنًى لطيف، أو حكمةٍ غريبة، أو أدبٍ حسَن؛ فذلك زائدٌ في بهاء الكلام، وإن لم يتَّفق فقد قام الكلامُ بنفسه واستغنى عمَّا سواه. قالوا: وإذا كانت طريقةُ الشاعر غيرَ هذه الطريقة، وكانت عبارتُه مقصِّرةً عنها، ولسانُه غيرَ مدرِك لما يعتمد دقيقَ المعاني من فلسفةِ يونان، وحكمة الهند أو أدب الفُرس، ويكون أكثرُ ما يورده منها بألفاظ متعسَّفة ونسجٍ مضطرب، وإن اتفق في تضاعيفِ ذلك شيءٌ من صحيح الوصف وسليمه؛ قلنا له: قد جئتَ بحكمةٍ وفلسفة ومعانٍ لطيفة حسَنة، فإن شئتَ دعوناك حكيمًا، أو سمَّيناك فيلسوفًا، ولكن لا نُسميك شاعرًا، ولا ندعوك بليغًا؛ لأن طريقتك ليست على طريقة العرب ولا على مذاهبهم، فإن سمَّيناك بذلك لم نُلحِقْك بدرجةِ البُلَغاء، ولا المحسِنين الفصحاء، وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف ورديءَ اللفظ يَذهب بطَلاوة المعنى الدقيقِ ويُفسده ويُعميه، حتى يحتاجَ مستمِعُه إلى تأمُّل، وهذا مذهبُ أبي تمام في معظم شعره. وحُسن التأليف وبراعة اللفظ يَزيد المعنى المكشوفَ بهاءً وحُسنًا ورونقًا، حتى كأنه قد أحدَث فيه غرابةً لم تكن، وزيادةً لم تُعهَد. وذلك مذهبُ البحتري؛ ولذلك قال الناسُ لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك في شِعر أبي تمام. وإذا جاء لطيفَ المعاني في غير غرابة، ولا سَبْكٍ جيد، ولا لفظٍ حسَن، كان مِثلَ الطِّراز الجيِّد على الثوبِ الخَلَق، ونفثِ العَبير على خدِّ الجارية القبيحة.»</p><p><br /></p><p>والناظر في هذه الصفحة يجدُ عدة حقائق بالغةِ الأهمية؛ فالآمديُّ قد فطن إلى أن الشِّعر غيرُ الفلسفة، وإنما يرفع الفلسفةَ إلى مستوى الشعر جمالُ الصياغة، وإلا فقائلها لا يعتبر شاعرًا، بل إن شئتَ حكيمًا أو فيلسوفًا، والمعنى اللطيف الذي لا تحسن صياغته يكون «مثل الطراز الجيد على الثوب الخلَق، أو نفثِ العبير على خدِّ الجارية القبيحة الوجه»، كما فَطِن إلى مبدأٍ آخَر في النقد الحديث؛ وذلك حيث قال: «إن حُسن التأليف وبراعةَ اللفظ يَزيد المعنى المكشوفَ بهاءً وحُسنًا ورونقًا، حتى كأنه قد أحدث فيه غرابةً لم تكن، وزيادةً لم تُعهَد»؛ فهذا هو رأيُ معظم نقاد أوروبا اليوم، الذين يرَون أن أمر المعاني في الشعر ثانويٌّ بالنسبة إلى الصياغة. ونستطيع أن نضربَ لذلك عدة أمثلةٍ لا من شعر البحتريِّ فحسب، بل من شعر أبي تمام نفسِه؛ فهو عندما يقول:</p><p><br /></p><p>رعَتْه الفيافي بعدَما كان حقبةً رعاها وماءُ الرَّوض ينهلُّ ساكبُهْ</p><p>قد رفَع من هذا المعنى المكشوف القريب الدارج، وخلَق منه قيمةً فنية شِعرية جميلة باستعماله للفعل «رعَتْه» بمعنى حطَّمَت قُواه، بعد أن رعى كلَأَها، وماءُ الرَّوض ينهلُّ ساكبُه؛ أي: أيامَ الخِصْب.</p><p><br /></p><p>ومرَدُّ كلِّ هذه الحقائق التي تجعل من الآمديِّ ناقدًا منقطعَ النظير بين العرب هو فِطنته إلى الأهمية الكبرى التي نُعلقها على الصياغة في الأدب.</p><p><br /></p><p>فاللغة في الأدب ليست وسيلةً خادمة للفِكر والإحساس فحَسْب، بل هي إلى جانب هذه الوظيفة الأساسية غايةٌ في ذاتها، والكاتب أو الشاعر الماهر هو مَن فَطِن إلى هذه الحقيقة، ويكون من حُسن الذوق وسلامةِ الحس بحيث يُقيم النِّسَب الدقيقة بين اللغة كوسيلةٍ واللغة كغايةٍ في الأدب، فلا يُسرِف في اعتبارها وسيلة؛ لأنه يَحرم نفسَه من عناصرَ هامةٍ في التأثير؛ عناصر التصوير وعناصر الموسيقى، وكذلك يَحْذر من أن ينظر إليها كغاية؛ فيأتي أدبُه أو شعره وقد غلَبَت عليه اللفظية، وخلا من كلِّ مادة إنسانية فكرًا أو إحساسًا. والناقد لا يستطيع أن يدلَّ في مسألةٍ كهذه على حدود. وليس في قدرة أحدٍ أن يُعلِّم الآخرَ متى ينتهي عملُ الوسيلة في اللغة ومتى يبدأ عملُ الغاية. ومشكلةٌ كهذه لا يمكن أن تُحَلَّ نظريًّا، وإنما يكتسب الإنسانُ إحساسًا صادقًا بحدودها بكثرةِ المِران على النقد، والنظرِ في مؤلَّفات كِبار الكتَّاب والشعراء الذين نجَحوا في هذا السبيل. ولعل الدَّور الذي يلعبُه الذَّوق فيما «تُحيط به المعرفة ولا تؤدِّيه الصفة» أن يكون مستقرًّا في الإحساس بمسألةٍ فنيَّة كهذه. ولنضرب لذلك مثلًا بقول أبي تمام:</p><p><br /></p><p>بيضاء تَسري في الظلام فيَكْتسي نورًا وتبدو في الضياءِ فيُظلِمُ</p><p>ملطومة بالورد أطلقَ طَرْفها في الخلق فَهْو مع المَنون مُحكَّمُ</p><p>فالآمديُّ يُعلق على البيت الأخير بقوله: «وقوله: ملطومة بالورد؛ يُريد حُمرة خدِّها، فلِمَ لَمْ يَقُل مصفوعة بالقار، يُريد سوادَ شعرها، ومخبوطة بالشحم، يريد امتلاءَ جِسمها، ومضروبة بالقُطن، يريد بياضَها؟! إن هذا لَأحمقُ ما يكون من اللفظ وأسخَفُه وأوسخه! وقد جاء مثلُ هذا في كلام العرب، ولكن على وجهٍ حسَن؛ قال النابغة: «مقذوفة بدخيس اللحم» يريد أنها قُذِفَت بالشحم؛ أي كأنه رُمِي على جسمها رميًا، وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أبي نُواس «وتلطم الورد بعُنَّاب»، وهذه كانت تلطم في الحقيقة في مأتمٍ على ميت بأناملَ مخضوبةِ الأطراف، فجعَلها عُنابًا تلطم به وردًا، فأتى بالظُّرف كلِّه، والحُسن أجمَعِه، والتشبيهُ على حقيقته، وجاء أبو تمام بالجهل على وجهِه، والحُمق بأسره، والخطأ بعينِه» (المخطوط، اللوحة ٧٤). وهنا يَظهر الذَّوق في استعمال اللغة وصياغةِ ما نريد العبارةَ عنه من معنًى، وهذا شيءٌ لا يمكن أن يُعلَّل، وإنما نستطيع أن نُحِسَّ به؛ فقول أبي تمام «ملطومة بالورد»، أي حمراء الخد، قولٌ يَمجُّه كلُّ ذوقٍ سليم.</p><p><br /></p><p>وإذن فالآمديُّ قد فطن إلى مُعظم الحقائق الهامَّة عن الشعر، فقرَّر أنه غيرُ العلم، وأنه غيرُ الفلسفة، كما حدَّد العلاقة بين كلٍّ منهما، ولكن هل معنى هذا أنه لم يكن يُقيم وزنًا لعُلوم اللغة أو حكمة اليونان وغيرهم، أو كان يجهلُها أو يرفض الاستعانةَ بها في نقده؟</p><p><br /></p><p>الواقع أن الذي يُراجع كتابَه يجد أنه قد استخدم المعارفَ المختلِفة التي انتهى إليها عصرُه خيرَ استخدام؛ كل نوع منها في بابه. ولْنأخذ لذلك مثلًا دراستَه لأخطاءِ أبي تمام وعيوبه، فنرى أنه يقسمها إلى ثلاثة أقسام:</p><p>(١)أخطاؤه في الألفاظ والمعاني.</p><p>(٢)ما في بديعه من إسرافٍ وقُبح.</p><p>(٣)ما كثر في شعره من الزحاف واضطرابِ الوزن.</p><p>(٩) دراسة الأخطاء في الألفاظ والمعاني</p><p>(٩-١) الرِّواية</p><p>وهو في دراسته للأخطاء يعتمد على تقاليدِ اللغة والأدب، فما خرَج عنها يراه خطأً. ومِن الواضح أنَّ نقدًا كهذا يقوم على المعرفة والرواية، فيقول مثلًا: ومِن خطئه في وصف الرَّبْع وساكنِه قولُه:</p><p><br /></p><p>قد كنت معهودًا بأحسنِ ساكنٍ ثاوٍ وأحسَنِ دِمْنةٍ ورُسومِ</p><p>ويشرح هذا الخطأَ فيقول: «والرَّبْع لا يكون رسمًا إلا إذا فارقَه ساكِنوه؛ لأن الرسم يكون دارسًا وغيرَ دارس» (ص٨٩). فهذا إذن خطأٌ في استعمال اللفظ.</p><p><br /></p><p>يا مَغاني الأحبابِ صِرتَ رُسومَا وغدَا الدَّهرُ فيك عِندي مَلومَا</p><p>وقال امرُؤ القيس: «وهل عند رسمٍ دارس مِن مُعوَّلِ؟» فقال: «ذلك لأن الرسم يكون دارسًا وغيرَ دارس» (ص٨٩). فهذا إذن خطأٌ في استعمال اللفظ «رسم» يوضِّحُه الناقدُ ويستشهد بما يَرويه من أشعار السابقين.</p><p><br /></p><p>(٩-٢) الفطنة النفسيَّة</p><p>ولقد يرى الناقدُ خطأَ الشاعر في المعاني، وهنا لا يعتمد على ما يرويه فحَسْب، بل يعود إلى نفسه يستجلي حقائقها، فيتَّخذها سبيلًا للحُكم على إصابة الشاعر أو عدمِ إصابته فيما يذكر من حقائقَ نفسية. وهنا يُظهر الآمديُّ فِطنةً صادقة، ومعرفةً بالنفوس تستحقُّ الإعجاب. خُذ لذلك مثلًا قولَه: «ومِن خطئه في باب الفراق:</p><p><br /></p><p>دعا شوقُه يا ناصرَ الشوق دعوةً فلبَّاه طَلُّ الدمعِ يَجري ووابِلُهْ»</p><p>ويشرح الخطأَ فيقول: «أراد أن الشوق دَعا ناصرًا ينصرُه فلبَّاه الدمع؛ بمعنى أنه يُخفف لاعِجَ الشوق ويُطْفي حرارتَه. وهذا إنما هو نُصرة للمشتاق على الشوق، والدمع إنما هو حربٌ للشوق؛ لأنه يَثْلمه ويتخوَّنه ويكسر من حدِّه؛ كما قال البحتري:</p><p><br /></p><p>وبكاءُ الدِّيار مما يردُّ الشـ ـوقَ ذِكرًا والحُبَّ نضْوًا ضئيلَا</p><p>قوله: «يردُّ الشوق ذكرًا»، أي يُخفِّفه ويَثلمه حتى يصيرَ ذكرًا لا يُقلق ولا يُزعج كإقلاق الشوق، وقوله: «والحب نضوًا»، أي يُصغِّره ويَمحَقُه؛ فلو كان الدمعُ ناصرًا للشوق لَكان يُقويه ويَزيد فيه. ألا ترى أنك تقول: قد ذبحَني الشوقُ إليك؟ فالشوق عدوُّ المشتاق وحربُه، والدمع سلمٌ لتخفيفه عنه، وهو حربٌ للشوق. وليس بهذا الخطأ خَفاء، وقد تَبِعه في هذا الخطأ البُحتريُّ، فقال يَنْعَى الديارَ التي وقف عليها:</p><p>نصَرتُ لها الشوقَ اللَّجوجَ بأدمُعٍ تَلاحَقْنَ في أعقابِ وصلٍ تَصرَّما»</p><p>(ص٩١)</p><p>وفي الحق، إن الكثير من نقد الآمديِّ يقوم على مَعانٍ إنسانية، وذوقٍ دقيق، وإدراكٍ لنزعات النفوس، وهذه هي التي تقودُه أولَ الأمر إلى النقد، ثم تأتي الشواهدُ التي يرويها فتُعزز إحساسه. انظر مثلًا إلى نقده لقولِ أبي تمام:</p><p><br /></p><p>لمَّا استَحرَّ الوداعُ المَحضُ وانصرمَت أواخِر السَّير إلا كاظمًا وَجِمَا</p><p>رأيت أحسنَ مرئيٍّ وأقبحَه مُستجمِعين لي التوديعَ والعنَمَا</p><p>إذ يقول: «كأنه استحسَن إصبَعَها واستقبَح إشارتها إليه بالوداع. وهذا خطأٌ في المعنى. أتُراه ما سمع قولَ جَرير:</p><p><br /></p><p>أتنسى إذ تُودِّعنا سُلَيمى بفرعِ بشامةٍ سُقِيَ البشامُ؟</p><p>فدعا للبشام بالسُّقْيا؛ لأنها ودَّعَته به، فسُرَّ بتوديعها، وأبو تمام استحسَن إصبعَها واستقبَح إشارتَها. ولَعَمري، إن منظر الفراق منظرٌ قبيح (لو أنصَف الآمديُّ بدَوره لقال مُؤلم)، ولكن إشارة المحبوبة بالوداع لا يستقبحُها إلا أجهلُ الناس بالحب، وأقلُّهم معرفةً بالغزَل، وأغلظُهم طبعًا، وأبعدُهم فهمًا» (ص٩٤ و٩٥). وهذا نقدٌ إنساني سليم لا نرى فيه إلا الصدق. والآمدي رجلٌ يَعيب العيب حيث يجدُه. ولقد رأيناه ينتقدُ البحتريَّ أيضًا في المثَل السابق؛ إذ جارَى أبا تمامٍ في نظرته إلى الدمع كناصرٍ للشوق، وهو هنا ينتقد أبا تمام لِما في قوله من سخافةٍ وصَنعة كاذبة.</p><p><br /></p><p>(٩-٣) الخبرة بالأشياء</p><p>وخبرة الآمديِّ لا تقف عند نفوس البشر، بل تعْدُوها إلى خصائص الحيوانات ذاتِها. وها هو مثلٌ واضح دقيق يشهد بذلك، فينقد قولَ أبي تمام:</p><p><br /></p><p>واكْتَست ضُمَّرُ الجِيادِ المذاكي من لِباس الهَيْجا دَمًا وحَميمَا</p><p>في مَكَرٍّ تَلوكُها الحربُ فيهِ وَهْي مُقْوَرَّةٌ تَلوكُ الشَّكيمَا</p><p>فيقول: فهذا معنًى قبيحٌ جدًّا؛ إذ جعل الحربَ تلوك الخيلَ من أجل قولِه: «تلوك الشكيما»، وتلوك الشكيما أيضًا هنا خطأ؛ لأن الخيل لا تَلوك الشكيمَ في المكرِّ وحَومةِ الحرب، وإنما تفعل ذلك واقفةً لا مكرَّ لها. فإن قيل: إنما أراد أن الحرب تلوكُها كما تلوك هي الشكيمَ، قيل: هذا تشبيهٌ وليس في لفظِ البيت عليه دليلٌ، وألفاظ التشبيه معروفة. وإنما طرَح أبا تمامٍ في هذا قلةُ خبرةٍ بأمر الخيل. ألا ترى إلى قول النابغة:</p><p><br /></p><p>خيلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ تحتَ العَجَاجِ وخيلٌ تَعلُكُ اللُّجُمَا</p><p>والصيام هنا النِّيام؛ أي: خيلٌ واقفة مُستغنًى عنها لكثرةِ خيلهم، فهي واقفة، وخيلٌ تحت العَجَاجِ في الحرب، وخيلٌ تَعلكُ اللُّجُما قد أُسرِجَت وأُلجِمَت وأُعِدَّت للحرب. والشاعر الحصيني كان أحذقَ من أبي تمام وأعلمَ بالخيل؛ قال:</p><p><br /></p><p>وإذا احتبى قَرَبوسَه بعنايةٍ علَكَ الشَّكيمَ إلى انصرافِ الزائرِ</p><p>وإلا فمتى رأى فرسًا يجري وهو يلوكُ شَكيمة، فأما قولُ أنَس بن الريَّان:</p><p><br /></p><p>أقودُ الجيادَ إلى عامرٍ عَوالك لجمٍ تَمُج الدِّماء</p><p>فإن القَود قد يكون في خلالِه تلبُّثٌ وتوقُّف تلوك فيه الخيلُ لُجمَها، والمكرُّ لا يستقيم ذلك فيه.</p><p><br /></p><p>(٩-٤) معرفته النحوية</p><p>والآمديُّ ليس فقط لُغويًّا راويةً خبيرًا بالنفوس وبالأشياء، بل هو أيضًا نَحْوي منطقي دقيقُ التفكير والمُحاجَّة. ولْنستمعْ إليه يُناقش استعمالاتِ «هل» بمناسبة البيت:</p><p><br /></p><p>رضيتُ وهل أرضى إذا كان مُسخِطي من الأمر ما فيهِ رِضَا مَن له الأمرُ؟</p><p>فيقول: «فمعنى هذا البيتِ التقرير، والتقرير على ضربين:</p><p>(١)تقريرٌ للمخاطَب على فعلٍ قد مضى ووقَع، أو على فعلٍ هو في الحال ليوجب المقررَ بذلك ويُحققه، ويقتضي مِن المخاطب في الجواب الاعترافَ به؛ نحوُ قوله: هل أكرمتُك؟ هل أحسنتُ إليك؟ هل أوَدُّك وأوثرك وأقضي حاجتك؟</p><p>(٢)وتقريرٌ على فعلٍ يدفعه المقرِّر، وينبغي أن يكون قد وقع؛ نحو قوله: هل كان قطُّ إليك شيءٌ كرهتَه؟ هل عرَفتَ مني غير الجميل؟ فقولُه في البيت: «وهل أرضى» تقريرٌ لفعلٍ يَنفيه عن نفسه، وهو الرِّضى، كما يقول القائل: وهل يُمكنني المقامُ على هذه الحال؟ أي لا يُمكنني، وهل يصبر الحرُّ على الذل؟ وهل يروى زيدٌ ويشبع عمر؟ وهذه أفعالٌ معناها النفي، فقوله: «وهل أرضى» إنما هو نفيٌ للرِّضا، فصار المعنى: ولستُ أرضى إذا كان الذي يُسخطني ما فيه رِضَا مَن له الأمر، أي: رِضا اللهِ تعالى. وهذا خطأٌ منه فاحش، فإنْ قال قائل: فلِمَ لا يكون قولُه: «وهل أرضى» تقريرًا على فعلٍ هو في الحال ليؤكِّدَه من نفسه؛ نحو قوله: هل أوَدُّك؟ ونحو قولِ الشاعر:</p><p>هَلُ اكْرِمُ مَثْوى الضيفِ إنْ جاء طارقًا وأبْذُلُ معروفي له دون مُنكَري؟</p><p>قيل له: ليس قولُ القائل لمن يُخاطبه: هل أودُّك؟ هل أوثرُك؟ وقوله: سَلْ عني هل أصلُحُ للخير، أو هل أكتم السر، أو هل أقنعُ بالميسور؟ مثلَ قولِ أبي تمام: «رضيتُ وهل أرضى»؛ فإنَّ صيغة هذا الكلام دالةٌ على أنه قد نفى الرِّضا عن نفسه بإدخاله الواوَ على هل، وإنما يُشبه قولَ القائل: وهل أوَدُّك إذا كانت أفعالُك كذا؟ أو هل أصلح للخير عندك إذا كنتَ تعتقد غيرَ ذلك؟ وهل ينفع في زيد العتاب؟ كقول الشاعر: «وهل يُصلِح العطَّارُ ما أفسَد الدهرُ؟» وقولِ ذي الرُّمَّة:</p><p><br /></p><p>وهل يَرجع التسليمَ أو يَكشفُ العَمى ثلاثُ الأثافي والرسومُ البلاقعُ؟</p><p>لأن الواو هنا كأنها عطفَت جوابًا على قولِ قائل: إن فلانًا سيَصلح ويرجع إلى الجميل، فقال آخَرُ: «وهل يُصلح العطَّارُ ما أفسَد الدهر؟» وقول ذي الرُّمة:</p><p><br /></p><p>أمُنْزِلتي ميٌّ سلامٌ عليكما هل الأزمُنُ اللائي مضَيْن رَواجِعُ؟</p><p>لما علم أن التسليم غيرُ نافع، عاد على نفسه فقال: «وهل يَرجع التسليمَ»، وكما قال امرُؤ القيس: «وإن شفائي عَبْرةٌ مُهَراقةٌ»، ثم قال: «وهل عند رسمٍ دارس من معوَّل»، وكذا قول أبي تمام: «رضيت»، ثم قال: «وهل أرضى إذا كان مُسخطي ما فيه رِضا اللهِ تعالى»، وكذا أراد فأخطأ في اللفظ، وأحال المعنى عن جهته إلى ضدِّه؛ فإن «هل» هنا بمعنى «قد»، وإنما أراد الطائيُّ «رضيت وقد أرضى» كما قال الله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ؛ أي: قد أتى. قيل: هذا إنما قاله قومٌ من أهل التفسير وتَبِعَهم قومٌ من النَّحْويين، وأهلُ اللغة جميعًا على خلافِ ذلك؛ إذ لم يأتِ في كلام العرب وأشعارهم «هل قام زيد» بمعنى «قد قام زيد». وإذا كان ذلك معدومًا في كلام العرب ولُغاتها، فكيف يجوز أن يؤخَذ به أو يعوَّلَ عليه؟! وقد قال أبو إسحاقَ الزجَّاجُ وجماعةٌ من أهل العربية في قوله عز وجل: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، معناه: «لم يأت» على سبيل التقرير. وهَبِ الأمرَ في هذا كما ذكَروا — والخلافُ ساقطٌ فيه — فإن بيت أبي تمام لا يَحتمل من التأويل ما احتمَلَته الآية؛ لأن هل شبَهُها بقد إذا وَلِيَت لفظ الماضي خاصَّة، وأبو تمام إنما أوقَعَها على الفعل المستقبل، فسقَط عنها أن تُضارعَ قد؛ لأن قد حينئذٍ قد تكون بمعنى ربما، وهل ليس فيها ذلك.</p><p><br /></p><p>وبعدُ، فإن كان الرجلُ إنما أراد بهل معنى قد، فلِمَ لَم يَقُل: «رضيتُ وقد أرضى»؟ فيأتي بلفظةِ قد نفسِها؛ إذ إنما يريد الخبر، ولا يأتي بهل فيلتبس الخبرُ الذي إيَّاه قصَد بالاستفهام؛ فإن البيت كان يستقيم بها ويُغنينا عن الاحتجاج الطويل. وقد استقصيتُ القولَ في هذا البيت، وما ذكَره النحْويُّون وسيبويه وغيرُه في معنى قد وهل، ولخَّصتُه في جزءٍ مفرَد، وإنما فعلتُ ذلك لكثرة مَن عارضَني فيه، وادَّعى الدعاوى الباطلةَ في الاحتجاج لصحته» (ص٨٧ و٨٨).</p><p><br /></p><p>وهذا مثلٌ يدل على فَهمٍ عميق دقيق لوسائل الأداء في اللغة، بل وأوجُه المعاني المختلفة. وأمر الاستفهام وخروجه إلى غير مقصوده مِن أرهف المشاكل في كلِّ اللغات، وباستطاعة القارئ أن يتَمعَّن في وظيفة «الواو» التي تسبق الاستفهامَ فتُخرجه من التقرير إلى النفي؛ فهذه ملاحظةٌ بالغةُ الدقة.</p><p><br /></p><p>ثم انظر إلى تفريقه بين دلالة «هل» عند أبي تمام، ودلالتها في الآية: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، فهو يقول: إنه لو جاز أن تكون «هل» في الآية بمعنى «قد»، فإنها لا يمكن أن تُفيد ذلك المعنى في بيتِ أبي تمَّام؛ لأنها في الآية مستعمَلةٌ مع فعل ماضٍ «أتى»، والفعل الماضي بدلالةِ صيغته ذاتِها يوجِّه الاستفهامَ نحو التقرير؛ إذ ينصبُّ على حدثٍ مضى، و«هل أرضى» في البيت تُفيد الاستقبال، ونقلُ الاستفهام عن أمرٍ مستقبل إلى التقرير ليس كنقل الاستفهام عن أمرٍ ماضٍ، فالقياس لا ينعقد لمخالفته لخصائصِ اللغة.</p><p><br /></p><p>هذه هي الوسائل التي يعتمد عليها الناقدُ في إظهار أخطاء أبي تمَّام في الألفاظ والمعاني: مزيجٌ موفَّق من الذَّوق والمعرفة؛ المعرفة بكافة أنواعها: إنسانية مباشرة وتقليدية مقررة، معرفة لُغوية ومعرفة أدبية، إحساسٌ ومنطق، بَداهةٌ ومُحاجَّة. وهذه هي الصفات التي تجعل من الآمديِّ أكبرَ نقَّاد العرب؛ نقده جامعٌ دقيق، ليست فيه سَفْسطةُ المناطقة، ولا تَفَيهُقُ اللُّغويِّين، ولا حشوُ الرواة، ولا فساد ذوق العلماء والفلاسفة؛ نقدٌ كخيرِ ما نعرف اليوم مِن نقد.</p><p><br /></p><p>(٩-٥) اللغة لا يُقاس عليها</p><p>وإن يكن ثمة مَغْمزٌ في نقده — وهو لم يَخلُ من مَغامز — فإننا نراه في الباب الذي نُعالجه الآن — باب نقد الأخطاء — في نظرته إلى اللغة كشيء لا يُقاس عليه، ولا ينبغي التجديدُ فيه. وهذا فيما نرى وجهُ ضعف، كما سبق أن أشرنا. ويزداد الضعفُ وضوحًا عندما نذكر أن هذا الناقد المحافظ الذي يَعيب على الشاعر قولَه: «لا أنتَ أنت ولا الزمانُ زمان»، ويرى في قوله: «لا أنت أنت» تعبيرًا شَعبيًّا، وينكر عليه أن يَقيسه على «ولا العقيق عقيق»؛ لم يخلُ من التأثُّر بشقشقة أصحاب البديع، فجرَفَه التيَّارُ حتى أخذ يتمحَّلُ لاستعارة الشاعر في قوله: «ماء الملام» أوجهًا لا تصحُّ أمام عقلٍ ولا ذوق، كما سبق أن قرَّرنا.</p><p><br /></p><p>وفي نقدِه لأخطاءِ أبي تمام أمثلةٌ أخرى تدلُّ على ما تورَّط فيه من تعنُّتٍ عندما تمسَّك بمذهبِه الضيق «اللغة لا يُقاس عليها». ولننظر في أحد تلك الأمثلة كنقدِه لقول هذا الشاعر:</p><p><br /></p><p>هل فُرقةٌ مِن صاحبٍ لك ماجدِ فغدًا إذابةُ كلِّ دمعٍ جامدِ؟</p><p>فافْزَع إلى ذخر الشئون وغربِهِ فالدمع يُذهب بعضَ جهدِ الجاهدِ</p><p>وإذا فقدتَ أخًا فلم تفقد لهُ دمعًا ولا صبرًا فلستَ بفاقدِ</p><p>إذ يقول: «قوله: يذهب بعضَ جهد الجاهد؛ أي بعضَ جهد الحزن الجاهد، أي الحزن الذي جَهِدَك فهو الجاهدُ بك، ولو كان استقام له بعضُ جهد المجهود لكان أحسنَ وأليق. وهذا أغربُ وأظرف. وقد جاء أيضًا فاعل بمعنى مفعول؛ قالوا: عيشة راضية بمعنى مَرضيَّة، ولمح باصر، وإنما هو مُبصَرٌ فيه، وأشباهُ ذلك كثيرةٌ معروفة، ولكن ليس في كل حالٍ يُقال، وإنما ينبغي أن يُنتَهى في اللغة إلى حيث انتهَوا، ولا يُتَعدَّى إلى غيره؛ فإن اللغة لا يُقاس عليها» (ص٩٣). وهذا تعنُّتٌ من الآمدي؛ فهو ليس بحاجةٍ إلى أن يفترض «الحزن الجاهد»، وإنما الجاهد هنا هو الشاعرُ نفسُه؛ فهو الذي يُجاهد الألمَ لفراق صديقه المزمع السفر (الديوان، طبعة محمد جمال، ص٨٦). وأما أن الجاهد تُفيد المجهود أيضًا، فهو أمر لا يُسِيغه القياسُ فحَسْب، على نحوِ ما تفيد راضية مرضيَّة، بل يُجيزه العقل أيضًا، الذي هو أصلُ كلِّ قياس؛ فالشخص الجاهد لا بدَّ أن يكون مجهودًا أيضًا، أو على الأقل احتمال أن يكون «مجهودًا» أمرٌ طبيعي. فلماذا يُنكر الناقدُ على الشاعر استعمالًا كهذا؟ لم يزلَّ أن نظرته الضيقة في تقيُّدِه بما ورد عن القُدماء أو لم يَرِد، ورفْضَه الأخذَ بالقياس هو الذي أفسَد حُكمه هنا.</p><p><br /></p><p>ومن غريب الأمر أنه يلوح أن الناقد قد تخبَّط في فَهم معنى البيت:</p><p><br /></p><p>وإذا فقدتَ أخًا فلم تفقِدْ لهُ دمعًا ولا صبرًا فلستَ بفاقدِ</p><p>أساسُ هذا التخبُّطِ هو فَهمُه لدلالة اللام في «له»؛ فقد ظنَّ أنها تُفيد التعلُّق، ففَهِم البيت على أن معناه: وإذا فقدتَ أخًا فلم تفقد دمعًا له؛ أي دمعَه الذي يُريقه من أجلك، ولم تفقد صبرًا له؛ أي صبره الذي يأخذ نفسَه به عند فِراقك، فإنك في الواقع لم تفقده. وإذ فهم الفهم الخاطئ راح يفترض الفروضَ ويُفصل النقدَ فيقول: «لم تفقد له دمعًا ولا صبرًا» من أفحش الخطأ؛ لأن الصابر لا يكون باكيًا، والباكيَ لا يكون صابرًا، فقد نسَقَ بلفظةٍ على لفظة، وهما نعتان متضادَّان، ولا يجوز أن يكونا مجتمِعَين، ومعناه أنك إذا فقدتَ أخًا فأدام البكاءَ عليك فلستَ بفاقدٍ وُدَّه ولا أُخوَّته، وهو مُحصَّلٌ لك غيرُ مفقود وإن كان غائبًا عنك. وإلى هذا ذهب، إلَّا أنه أفسده بذِكرِه الصبرَ مع البكاء، وذلك خطأٌ ظاهر. ولو كان قال: فلم تفقد له دمعًا ولا جزعًا، أو دمعًا ولا شوقًا ولا قلقًا؛ لكان المعنى مستقيمًا. وظننتُه قال غيرَ هذا، وأنَّ خلطًا وقَع في كتابة البيت عند النقل، حتى رجعتُ إلى أصل أبي سعيدٍ الكرديِّ وغيرِه من الأصول القديمة، فلم أرَ دمعًا ولا صبرًا، وذلك غفلةٌ منه عجيبة. وقد لاح لي معنًى أظنُّه — والله أعلم — إليه قَصَد، وهو أن يكون أراد إذا فقدتَ أخًا فلم تفقد له دمعًا، أي يُواصل البكاءَ عليك؛ فلستَ بفاقدِه، على ما ذكَره، أي فقد حصَل لك وصار ذُخرًا من ذخائرك وإن غاب عنك وغِبتَ عنه. وإن لم تفقد له صبرًا؛ أي وإنْ صبر عنك فلستَ بفاقده؛ لأنه إن صبر وسلَاك فليس ذلك بأخٍ يُعوَّل عليه، فلستَ أيضًا بفاقده؛ لأنك لا تعتدُّ به موجودًا ولا مفقودًا. ولكن ذهب على أبي تمام أن هذا غيرُ جائز؛ لأنه وصَف رجلًا واحدًا بالوصفَين جميعًا، وهما متضادان. ولو كان جعَلهما وصفَين لرجلين فقال:</p><p><br /></p><p>وإذا فقدتَ أخًا لفقدِك باكيًا أو صابرًا جادًا فلستَ بفاقدِ</p><p>أي لستَ بفاقدٍ ذاك لأنه مُحصَّلٌ لك، أو لستَ بفاقد هذا لأنه ناسٍ مودَّتَك؛ لكان المعنى سائغًا واضحًا. أو لو جعله شخصًا واحدًا وجعل له أحدَ الوصفين فقال:</p><p><br /></p><p>وإذا فقدتَ أخًا فأسبَلَ دمْعَهُ أو ظلَّ مصطبِرًا فلستَ بفاقدِ</p><p>لكان أيضًا سائغًا على هذا المذهب، أو كان استوى له في ذلك اللفظِ بعينه أن يقول: «فلم تفقد له دمعًا ولا صبرًا»؛ حتى لا يجعلَ له إلا أحدَهما لساغ ذلك، لكنه نسق بالصبر على الدمع فجعَلهما جميعًا له؛ ففَسَد المعنى. فهذا وأشباهُه الذي قال الشيوخُ فيه: «إنه يريد البديعَ فيخرج إلى المحال» (ص٩٤). والذي أخطأ وخرَج إلى المحال هنا هو الآمدي؛ فقد راح يُجهد نفسَه ويفترض الفروض؛ لأنه لم يَفطِن إلى المعنى القريب، وكان فَهمُه لمعنى اللام هو سببَ كلِّ هذا الكلام الطويل الذي لا داعيَ له؛ فاللام من الواضح هنا أنها للسببية، وأن الدمع الذي سيُفقَد والصبر الذي سيُفقَد هما دمع المخاطَب وصبرُه، لا دمع الشاعر وصبره؛ فالمعنى هو فيما نرى: «وإذا لم يفقد الإنسان دمعه وصبره على صديقٍ له، فكأنه لم يفقد صديقًا؛ لأن الصديق هو من ينفَدُ صبرك لفراقه فتبكي». وعلى هذا النحو لا يكون هناك تعارضٌ بين نَفاد الصبر وفقدان الدموع؛ أي انهمارها.</p><p><br /></p><p>وإذن فنحن لا نستطيع أن نبرِّئ الآمديَّ من الخطأ أو ضيقِ النظرة إلى اللغة، ولكن الذي نُنكره هو أن يُتَّهم بالتعصُّب والهوى.</p><p><br /></p><p>(١٠) نقده للبديع عند أبي تمام</p><p>الآن وقد فرَغنا من دراسة الآمدي لأخطاء أبي تمام، فلننتقل إلى مناقشة نقدِه لما أتى به الشاعرُ من استعارةٍ وجِناس وطِباق ومُعاظَلة. وهذه هي المرحلة الثانية في نقدِه للشاعر، كما وضَّحنا فيما سبق.</p><p><br /></p><p>(١٠-١) معرفته للنقد القائم على فلسفة أرسطو</p><p>وأول ما نُلاحظه هو أن الآمديَّ لم يكن يجهلُ ذلك النوعَ مِن النقد الذي أراد أمثالُ قُدامة أن يأخذوا به الشعر، أعني النقد العلميَّ الذي حاول أن يقوم على فلسفةِ أرسطو. لم يجهل هذا النقد، ولكنه كان أدقَّ ذوقًا وأفطنَ لحقيقة الشعر من أن يصدر عنه. وهل أدلَّ على معرفته لسفسطة هؤلاء النقاد الفلاسفة من قوله عند الكلام عن العلاقة بين المعاني والصياغة، وفي صدد الحديث عن فضل البُحتري (ص١٧٣): «وأنا أجمع لك معانيَ هذا الباب في كلماتٍ سمعتُها من شيوخ أهل العلم بالشعر؛ زعَموا أن صناعة الشعر وغيرَها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعةِ أشياء: جَودة الآلة، وإصابة الغرَض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة من غير نقصٍ فيها ولا زيادةٍ عليها. وهذه الخِلال الأربع ليست في الصناعات وحدها، بل هي موجودةٌ في جميع الحيوان والنبات. ذكرَت الأوائلُ أن كل مُحدَث مصنوع مُحتاجٌ إلى أربعة أشياء: علة هَيُولانية، وهي الأصل، وعلةٌ صورية، وعلة فاعلة، وعلة تمامية. وأما الهيُولَى فإنهم يَعْنون الطِّينة متى يبتدعها الباري تبارك وتعالى ويخترعها؛ ليُصوِّر ما يشاء تصويرَه من رجلٍ أو فرَس أو جَمَل أو غيرِها من الحيوان، أو بُرَّة أو كَرْمة أو نخلة أو سِدْرة أو غيرِها من سائر أنواع النبات. والعلة الفاعلة هي تأليفُ الباري جلَّ جلاله لتلك الصورة. والعلة التمامية هي أن يُتِمَّها تعالى ذِكرُه، ويَفرُغَ من تصويرها من غيرِ انتقاصٍ منها. وكذلك الصانع المخلوق في مصنوعاته التي علَّمه الله عزَّ وجلَّ إياها، لا تستقيم له وتجود إلا بهذه الأربعة؛ وهي آلةٌ يستجيدها ويتخيَّرها مثل خشب النجَّار، وفِضَّةِ الصائغ، وآجُرِّ البنَّاء، وألفاظ الشاعر الخطيب. وهذه هي العلة الهيولانية التي قدَّموا ذِكرها وجعلوها الأصل. ثم إصابة الغرض فيما يقصد الصانعُ صنعتَه، وهي العلة الصوريَّة التي ذكَرتُها. ثم صحة التأليف حتى لا يقعَ فيه خللٌ ولا اضطراب، وهي العلة الفاعلة، ثم أن ينتهيَ الصانع إلى تمام صنعته من غيرِ نقصٍ منها ولا زيادةٍ عليها، وهي العلة التمامية. فهذا قولٌ جامع لكل الصناعات والمخلوقات، فإن اتفَق الآن لكلِّ صانع بعدَ هذه الدعائم الأربع أن يُحدِثَ في صنعته معنًى لطيفًا مستغرَبًا، كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض، فذلك زائدٌ في حُسن صنعتِه وجودتِها، وإلا فالصَّنعة قائمةٌ بنفسها مستغنيةٌ عمَّا سِواها.» وهذا نصٌّ بالغُ الأهمية؛ لأنه يدلُّنا على طريقة فَهْم ناقدٍ عربي أصيل لفلسفة أرسطو في الخلق، وعلى النحوِ الذي حاوَل به أن يستخدمها في نقد الشعر؛ فالعللُ الأربع التي يذكرها هي عِللُ أرسطو الشهيرة: المادة والصورة والعلة الفاعلة ثم العلة الغائية. وهذه الأخيرة لم يفهَمْها الآمديُّ على وجهها، أو حوَّرها عامدًا ليستخدمَها في فَهم الشعر؛ ولذلك سمَّاها بالعلة التمامية، وحوَّل معناها إلى معنًى مُغاير، فلم تَعُد تُفيد الغايةَ التي يُصنع الشيء من أجل تحقيقها، بل كمال الصنعة وتمام الإجادة في صياغة المادةِ صورة.</p><p><br /></p><p>(١٠-٢) معرفته لحِكمة الفُرس</p><p>والآمدي يحرص أيضًا على أن يدلَّنا على أنه عالمٌ بحِكمة الفُرس عِلمَه بحِكمة اليونان، فيُضيف في نفس الموضع من كتابه (ص١٧٣ و١٧٤): «وقد ذكَر بُزُرْجمهْر فضائلَ الكلام ورذائلَه، وبعض ذلك دليلٌ في الشعر، فقال: «إن فضائل الكلام خمس، إنْ نقَص منها فضيلةٌ واحدة سقط فضلُ سائرها؛ وهي: أن يكون الكلام صدقًا، وأن يوقع موقعَ الانتفاع به، وأن يتكلَّم به في حينه، وأن يَحسُن تأليفه، وأن يستعمل منه مقدار الحاجة. وقال: ورذائله بالضد، فإنه إن كان صادقًا ولم يُوقَع موقعَ الانتفاع به بطَل فصلُ الصدق منه، وإن كان صادقًا وأوقِعَ موقعَ الانتفاع به وتُكلِّم به في حينه ولم يحسن تأليفه؛ لم يستقرَّ في قلبِ مستمِعه، وبطل فضلُ الخِلال الثلاث منه. وإن كان صادقًا ووقع موقعَ الانتفاع به، وتكلم به في حينه، وأحسن تأليفه، ثم استعمل منه فوق الحاجة خرَج إلى الهذر، أو نقَص عن التمام؛ صار مبتورًا وسقط منه فضل الخلال كلها.»</p><p><br /></p><p>وهذا إنما أراد به بزرجمهر الكلامَ المنثور الذي يُخاطَب به الملوك، ويقدِّمه المتكلم أمام حاجته. والشاعر لا يُطالَب بأن يكون قولُه صادقًا، ولا أن يوقِعَه موقعَ الانتفاع به؛ لأنه قد يقصد إلى أن يوقِعَه موقعَ الضرر، ولا أن يجعل له وقتًا دون وقت. وبقيَت الخَلَّتان الأُخرَيان، وهُما واجبتان في كل شاعر؛ أن يُحسن تأليفه، ولا يَزيد فيه شيئًا على قدرِ حاجته؛ فقيمة التأليف في الشعر وكلِّ صناعة هي أقوى دعائمِه بعد صحة المعنى، وكلما كان أصحَّ تأليفًا كان أقْومَ بتلك الصناعة ممَّا اضطرب تأليفُه.»</p><p><br /></p><p>وهنا نرى الآمديَّ لا يستبقي من هذه الفضائل الخمسِ إلا اثنتَين؛ هما: صحة المعنى وصحة التأليف، وإن كنَّا لم نعرف ماذا يقصد بقوله: «والشاعر لا يُطالَب بأن يكون قولُه صدقًا»، ثم تمسُّكه بعد ذلك بصحةِ المعنى. والذي يبدو لنا هو أنه يقصد بالصدق صدورَه عمَّا وقع فعلًا؛ فالشعر كما هو معلومٌ ليس من الضروريِّ أن يكون صادرًا عن الواقع لكي لا يُتَّهَم بالكذب، وإنما يكفي أن يكون صادرًا عن واقعٍ نفسي. ولعل هذا هو المقصود بصحةِ المعنى؛ فالمعنى يصحُّ إذا استجابَت له النفس، أو أمكَنَها الاستجابةُ له عندما تتهيَّأ لذلك، وهو يصحُّ حتى ولو كان مجردَ احتمال أو إمكان.</p><p><br /></p><p>(١٠-٣) عدمُ تأثُّره بفلسفة اليونان أو الفُرس</p><p>ومع هذا، فكلُّ هذه النظريات لم تكَد تُؤثر في الآمديِّ شيئًا. وقد كان هذا من حُسن حظِّ الأدب العربي؛ إذ لو أنه صدَر عن هذه التقاسيم الشكليَّة لَذهبَت قيمةُ كتابه كما ذهبَت قيمةُ كتاب قدامة. ومصدر الخطر كما دلَّت القرون اللاحقة لم يكن من فلسفةِ الفُرس، بل من فلسفة اليونان؛ فهي التي انتهَت بأنْ جفَّفَت ماء النقد وجعلَته علمًا — علم البلاغة — الذي لم يلبث أن تَحجَّر وأفسَد العقولَ والأذواق.</p><p><br /></p><p>(١٠-٤) ردودُه على قُدامة بن جعفر</p><p>لقد كان الآمديُّ سليمَ النظرة، صادقَ الذوق، واسعَ الخبرة بالأدب والشعر؛ ولهذا لم يَصدُر في نقدِه إلا عن الذَّوق المستنير بالمعرفة الموضعية الدقيقة، ولا أدَلَّ على ذلك من أنه قد أخذ نفسَه بعناء الردِّ على قدامة في كتابٍ سمَّاه «تبيين غلَط قُدامة بن جعفر في كتاب نقد الشعر»، وإنه وإن يكن هذا الكتابُ مفقودًا لسوء الحظ، إلا أننا نستطيع أن نُدرك روحَه العامَّة بفضلِ ما نجدُه من إشاراتٍ إليه في كتاب الموازَنة.</p><p><br /></p><p>فممَّا يأخذه على قدامة مخالفتُه مَن تقدَّمه كابن المعتزِّ في وضع الاصطلاحات، فيقول في الكلام على المطابق (ص١١٦ و١١٨): «وهو مقابلة الحرف بضدِّه أو ما يُقارب الضدَّ، وإنما قيل مُطابق لمساواة أحدِ القسمَين صاحبَه وإن تضادَّا أو اختلَفا في المعنى. وما علمتُ أن أحدًا فعل غيرَ أبي الفرَج؛ فإنه وإن كان هذا اللقبُ يصحُّ لِمُوافقته معنى الملقَّبات، وكانت الألفاظُ غيرَ محظورة، فإني لم أكن أحبُّ له أن يخالف مَن تقدَّمه مثلَ أبي العباس عبدِ الله بن المعتزِّ وغيرِه ممَّن تكلَّم في هذه الأنواع وألَّف فيها؛ إذ سبَقوه إلى اللقَب وكفَوْه المئونة. وهذا بابٌ — أعني غير المطابق — لقَّبه أبو الفرَج قدامةُ بن جعفر في كتابه المؤلَّف في نقدِ الشعر «المتكافئ»، وسمَّى ضربًا من المجانس «المطابق»، وهو أن تأتيَ الكلمةُ مثلَ الكلمة سواءً في تأليفها واتفاقِ حروفها، ويكون معناها مُخالفًا؛ نحو قول الأفْوَه:</p><p><br /></p><p>وأقطَعُ الهَوْجلَ مستأنسًا بهَوْجلٍ عَيْرانةٍ عَنْتريس</p><p>والهوجل الأولى الأرضُ البعيدة، والهوجل الثانية الناقةُ العظيمة الخلقِ الموثَقة.»٤</p><p>فإشارةُ الآمدي هذه لها دلالتها من حيث إنه قد درَس ما كتبه قدامةُ وما كتبه ابنُ المعتز، وأمعَن في كلِّ ذلك حتى أقام المقابَلاتِ بين اصطلاحات الرجلَين، وانتقد عدمَ أخذِ قدامة بما سُبِق إليه مِن تعاريف.</p><p><br /></p><p>والآمديُّ في تبيينِه أخطاءَ قدامة لم يقف طبعًا عند مناقشة الاصطلاحات، بل عرَض لغير ذلك من أقوال المؤلف. وفي الجزء المخطوط من الموازنة (ص١٧)، نراه يردُّ على ما زعَمه قدامةُ من أن المدح لا يكون إلا بالفضائل النفسية، وأن المدح بالحُسن والجمال عيبٌ في الشعر، فيقول: «فأما الجلال والبهاء والهيبة وسائرُ ما مضى من ذلك في هذا الباب، فإنه واجبٌ في مدح الخلفاء والملوك والعظماء؛ لأنه من الأوصاف التي تخصُّهم، ويَحسُن موقعُ ذِكرها عندهم، وكذلك جمال الوجهِ وحُسنه ممَّا يجب المدحُ فيه؛ فإن الوجه الجميل يَزيد في الهيبة، ويَتيمَّنُ به العرب؛ فإنه يدلُّ على الخِصال المحمودة، كما أن قُبح الوجه والدمامة يُسقِط الهيبة، ويدلُّ على الخصال المذمومة. وذلك ما تكرهه العرب وتتشاءم، بل أول ما نلقاه من الإنسان ونُعاينه وجهُه.</p><p><br /></p><p>وقد غلط بعضُ المتأخرين في هذا الباب ممَّن ألَّف في نقد الشعر كتابًا غلطًا فاحشًا، فذكَر أن المدح بالحُسن والجمال، والذمَّ بالقُبح والدمامة ليس بمدحٍ على الحقيقة، ولا ذمٍّ على الصحة، وخطَّأ كلَّ مَن يمدح بهذا أو يذمُّ بذلك، فعَدَل بهذا المعنى عن مذاهب الأمم عرَبِها وعجَمِها، وأسقط أكثرَ مدْحِ العرب وهجائها. وقد بيَّنتُ قُبح غلَطِه في هذا تبيينًا شافيًا مُستقصًى في كتابٍ مفرَد.»</p><p><br /></p><p>ومن الواضح أن الإشارة هنا إلى قدامة الذي يقول في عيب المدح: «لما كنا قدَّمنا من حال المديح الجاري على الصواب ما أنبأنا أنه الذي يُقصَد فيه المدحُ للشيء بفضائله الخاصة به، لا بما هو عرَضيٌّ فيه، وجعَلْنا مديحَ الرجال مثالًا في ذلك، وذكَرنا أن مَن قصد لمدحهم بالفضائل النفسيَّة كان مُصيبًا، وجَب أن يكون ما يأتي به من المدح على خِلاف الجهة التي ذكَرْناها في النُّعوت مَعيبًا. ومن الأمثلة في هذا الموضوع ما قاله عبد الملك بن مروان لعُبيد بن قَيس الرُّقيَّات؛ حيث عتَب عليه في مدحِه إيَّاه فقال له: إنك قلتَ في مُصعبِ بن الزبير:</p><p><br /></p><p>إنما مُصعبٌ شِهابٌ من اللهِ تجلَّتْ عن وجهِه الظَّلْماءُ</p><p>وقلتَ فيَّ:</p><p><br /></p><p>يأتلقُ التاجُ فوقَ مَفْرقِهِ على جَبينٍ كأنَّه الذهَبُ</p><p>فوَجْهُ عتب عبد الملك إنما هو من أجل أن هذا المادح عدَل به عن بعض الفضائل النفسية، التي هي العقل والعفة والعدل والشجاعة إلى ما يليقُ بأوصاف الجسم في البهاء والزينة، وقد كنا قدَّمنا أن ذلك غلطٌ وعيب.»٥ وهذا مثلٌ واضح لغباءِ قُدامة، وفسادِ ذَوقه، وفَهاهة نقدِه؛ فهو لم يفهم شيئًا من نقدِ عبد الملك بن مروان، ولا فَهِم شيئًا من بيتَي عُبيد الله، وإنما هي رغبةٌ باطلة في أن يُقيم نفسَه ناقدًا للشعر، مع أنه لا يفهم في الشعر شيئًا، وقد وَهِم أن ترديدَه لتقاسيم أرسطو كافيةٌ لتجعلَ منه ناقدًا. ونحن لا نستطيع إلا أن نغتبط باحتقارِ الآمدي لناقدٍ كهذا، وتبيينِه لأخطائه وإن كانت من الحُمق والسخف بحيث لا تحتاج إلى تبيين. ومَن مِنَّا لا يُحِس بالفرق القويِّ في نغمات عُبيد الله عندما مدَح مصعبَ بنَ الزبير، الذي جاهد الشاعرُ إلى جواره عن إيمانٍ ومَحبة، ومدحِه لعبد الملك الذي ساقته إلى جواره مِحنُ الأيام، وأين «الشهاب من الله الذي تتجلَّى عن وجهه الظَّلْماء» من «الجَبين الذي كأنه الذهب والتاج يتألَّق فوقه»؟ أين تلك الحاسةُ الدينية التي تجري في الصورة الرائعة؛ صورةِ الشهاب المقدَّس تتبدَّد عنه الظلمات؟ أين هذا من «الجبين الذي كأنه الذهَب»، وما في التشبيه من ابتذالٍ ورَكاكة وكذب؟ وهل يظنُّ الأحمق قدامةُ أن عبد الملك قد عتب على عبد الله؛ لأنه مدَحه بالجمال ولم يمدحه بالعقلِ والعدل والعفَّة وما إلى ذلك من تقاسيمِه المضحِكة التي يريد أن يَقصُر عليها المدح؟</p><p>(١٠-٥) تحديده لبعضِ الاصطلاحات البلاغية</p><p>ولكن نقد الآمديِّ لأقوال قُدامة لم يمنَعْه من أن ينظر في علم البلاغة نفسِه، وأن يُحاول تحديد بعضٍ من اصطلاحاته التي لم يكن له بدٌّ من استعمالها في دراسته لمذهبِ رجلٍ كأبي تمام يُعتبر رأسًا للبديع. ولعله حدَّد الكثيرَ من هذه المبادئ في كتابه الذي وضعه ردًّا على قدامة. ولو أننا استطعنا أن نعثر عليه لاهتدَينا إلى كثيرٍ من الآراء المصيبة التي يَصدُر عنها هذا الناقدُ الكبير. وفي «الموازنة» ما يُشير إلى ذلك؛ فهو يقول (ص١١٨): إن من المعاظلة التي لخَّصتُ معناها في الكتاب الذي ردَدتُ فيه على قدامة؛ شِدةَ تعليقِ الشاعر ألفاظَ البيت بعضَها ببعض، وأن يُداخل لفظةً من أجل لفظةٍ تُشبهها أو تُجانسها، وإن اختلَّ المعنى بعضَ الاختلال؛ وذلك كقولِ أبي تمام:</p><p><br /></p><p>خان الصفا أخٌ خان الزمان أخًا عنهُ فلم يتَخوَّنْ جِسمَه الكمَدُ</p><p>فانظر إلى أكثرِ ألفاظ هذا البيت، وهي سبعُ كلمات … ما أشدَّ تشبُّثَ بعضِها ببعض! وما أقبحَ ما اعتمده من إدخال ألفاظٍ في البيت من أجل ما يُشبهها! وهو خان، خان، ويتخوَّن، وقوله أخٌ وأخًا. فإذا تأمَّلتَ المعنى مع ما أفسده من اللفظ لم تجد له حلاوة، ولا فيه كبيرَ فائدة؛ لأنه يُريد خان الصفا أخٌ خان الزمان أخًا من أجله؛ إذ لم يتخون جسمَه الكمَد … إلخ. وبالرجوع إلى كتاب قُدامة، نجد أنه قد تحدَّث عن المُعاظَلة، ولكنه لم يفهم معناها ولا حدَّد مدلولها؛ ولعلَّ ذلك لأن أرسطو لم يتحدث عنها، فيقول:٦ «ومن عيوب اللفظِ المعاظلة، وهي التي وصَف عمرُ بن الخطاب زهيرًا بمُجانبتِه لها أيضًا؛ حيث قال: وكان لا يتَعاظلُ بين الكلام. وسألتُ أحمد بن يحيى عن المعاظلة فقال: مُداخَلة الشيءِ في الشيء، يقال: تعاظَلَت الجرادتان، وعاظَل الرجلُ المرأة؛ إذ رَكِب أحدُهما الآخَر. وإذا كان الأمر كذلك؛ فمن المحال أن نُنكر مداخلةَ بعض الكلام فيما يُشبهه من وجه، أو ما كان من جنسه. وبقي «النكير»، وإنما هو في أن يدخل بعضه فيما ليس من جنسه وما هو غيرُ لائق به. وما أعرف ذلك إلا فاحشَ الاستعارة؛ مثل قولِ أوس:</p><p>وذاتِ هدمٍ عارٍ نَواشِرُها تُصْمِتُ بالماءِ تَوْلبًا جَدِعَا</p><p>فسمَّى الصَّبي تَوْلبًا؛ وهو ولَدُ الحِمار، مثل قولِ الآخر:</p><p><br /></p><p>وما رقَد الوِلْدانُ حتى رأيتُه على البَكْر يُمْريهِ بساقٍ وحافرِ</p><p>فسمَّى رِجْل الإنسان حافرًا. فإن ما جرى هذا المجرى من الاستعارة قبيحٌ لا عذرَ فيه.» وهذه التعريفات تُظهِرُنا على مَبلغ خَلْط قُدامة وعدمِ قدرتِه على فَهْم شيء بنفسِه، أو تحديد معنى لفظ؛ فهو يخلط بين «المعاظَلة والنَّكير» الذي سمع أنهما من «عيوب اللفظ»، وبين «الاستعارة القبيحة» التي تخصُّ المعانيَ وما يُداخلها من مجاز.</p><p><br /></p><p>ومن الواضح أن اللاحِقين لم يأخذوا بخَلطِ قُدامة، بل أخذوا بأقوالِ الناقد العالم ذي الذَّوق العربي السليم ابن المعتز، ثم بأقوالِ مَن خلَفَه مِن نقَّاد العرب أمثالِ الآمديِّ والجُرجاني، كما سنرى في آخِر بحثنا عند نظرنا في تحوُّل النقد إلى بلاغة.</p><p><br /></p><p>وبالرغم من أن الآمديَّ كان رجلًا يأخذ بما يجدُّ من حقٍّ عند كل كاتب، كما فعل في مناقشته لكتبِ سابقيه الذين ألَّفوا في أخطاءِ أبي تمام وسَرِقاته أو سرقات البُحتري، بل يأخذ ببعض حُجج الصوليِّ نفسِه، كما فعَل في مناقشته لقول أبي تمام «ماء المَلام»؛ نقول: إننا بالرغم من ذلك لا نجدُ في كتابه أثرًا لتأثُّرِه بقدامة.</p><p><br /></p><p>(١٠-٦) تأثره بابن المعتز</p><p>وأما الذي لم يزلَّ فيه، فهو تأثرُه بأقوال ابن المعتز، وهو لا يذكر اسمَه في كتابه إلا ويُردِفُه بصفاتٍ تدلُّ على عظيمِ ثقته بأقواله؛ ومن ذلك قوله (ص١٤) على لسان صاحب البُحتري:</p><p>«فأما ما عِبْتم به البحتريَّ في قوله:</p><p><br /></p><p>يُخْفي الزجاجةَ لونُها فكأنها في الكفِّ قائمةٌ بغيرِ إناءِ</p><p>فما زالت الرواة والشيوخ من أهل الأدب والعلم يستحسنون هذا البيتَ ويستجيدونه.»</p><p><br /></p><p>ثم يضيف: «وذكَره عبدُ الله بن المعتز — وقد علمتم فضلَه وعِلمه بالشعر — في بابِ ما اختاره من التشبيه من كتابه الذي نسَبَه إلى البديع.» ومن الواضح أنه قد أخذ في كل هذا الجزء من كتابه الذي يتحدَّث فيه عن البديع بأقوال ابنِ المعتز؛ فهو يتكلَّم عن الاستعارة والتجنيس والمطابق. وهذه هي أهمُّ الخصائص التي ميَّز بها ابنُ المعتز مذهبَ البديع، كما رأينا في الفصول السابقة، بل إنه لم يأخذ عنه مجردَ الاصطلاحات أو حَصْر المميِّزات فحسب، وإنما أخذ أيضًا أساسَ نقده ذاته في هذا الباب. والأدلة على ذلك كثيرة؛ كقوله: «وأنا أذكر في هذا الجزء الرَّذْل من ألفاظه، والساقطَ من معانيه، والقبيحَ من استعاراته، والمستنكَر المتعقِّد من نَسْجه ونظمِه، على ما رأيتُ في أشعار المتأخرين يتذاكرونه وينعَوْنه عليه ويَعيبونه. وعلى أني وجدتُ لبعض ذلك نظائرَ في أشعار المتقدِّمين، فعلمتُ أنه بذلك اغترَّ، وعليه في العذر اعتمد؛ طلبًا منه للإغراقِ والإبداع، ومَيلًا إلى وحشيِّ المعاني والألفاظ، وإنما كان يبدو مِن هذه الأنواع المستكرَهة على لسانِ الشاعر المحسِن البيتُ والبيتان، لا يتَجاوز عن ذلك؛ لأن العربيَّ لا يقول إلا على قريحتِه، ولا يعتصمُ إلا بخاطره، ولا يستقي إلا من قلبِه … فإن الشاعر قد يُعاب أشدَّ العيب إذا قصَد بالصَّنْعة سائرَ شعرِه، وبالإبداع جميعَ فنونه .. كما عِيبَ صالحُ بن عبد القدوس وغيرُه ممَّن سلك هذه الطريقة حتى سقط شعره» (ص١٠٥). وهذه الآراء قد أورَدها كلَّها أو مُعظمَها ابنُ المعتزِّ في الصفحة الأولى من كتابه «البديع»؛ إذ نبَّه إلى أن أبا تمام قد اتخَذ مما ورَد في بعض أشعار السابقين من استعارةٍ ومطابق وتجنيس مذهبًا غلا فيه وتصنَّعَه تصنُّعًا، بل هو يَقيسه بصالحِ بن عبد القُدُّوس. وكل هذا لا يترك مجالًا للشكِّ في عِظَم تأثير ابن المعتز في الآمديِّ فيما يختصُّ بالبديع. ولقد سبق أن أوضَحنا أهميةَ ابن المعتز في تاريخ النقد، وإنما أردنا هنا أن نُدلِّل على دخوله كعنصرٍ هام في نقد الآمدي.</p><p><br /></p><p>ولو أننا نظَرْنا فيما عابه ناقدُنا على بديع أبي تمَّام، لَوجدناه معتدلًا كلَّ الاعتدال؛ بحيث لا نستطيع إلا أن نُقِرَّه على معظمِ ما عابه، بل قد نكون أقسى منه حُكمًا، كما رأينا في تبريره ﻟ «ماء الملام». والذي يلوح لنا — كما أشرنا فيما سبق — أنه هو نفسُه قد تأثَّر بالبديع إلى حدٍّ ما، فأخذ يَستسيغ منه ما قد لا نستسيغُه اليوم.</p><p><br /></p><p>بل إن الآمديَّ أكثرُ تسامحًا من ابن المعتزِّ نفسِه؛ ففي كتاب البديع نجدُ المؤلِّف يذكر من بينِ أمثلة الاستعارة المعيبة قولَ أبي تمام (ص٢٤):</p><p><br /></p><p>فضَرْبتُ الشتاءَ في أخْدَعَيهِ ضربةً غادَرَتْه عودًا ركوبَا</p><p>ويأتي الآمديُّ فيقول في الموازَنة (ص١١٠): «فأما قولُه: فضربت الشتاء في أخدعَيه، فإنَّ ذِكر الأخدعين على قُبحِهما أسوغ؛ لأنه قال: ضربةً غادَرَته. وذلك أن العود المسنَّ من الإبل يُضرَب على صفحَتَي عُنقه فيَذِل، فقرَّبَت الاستعارةُ هنا من الصواب قليلًا.» وهكذا يلتمس الآمديُّ لأبي تمام كلَّ وجهٍ ممكن.</p><p><br /></p><p>والواقع أن الحدَّ بين الاستعارة الجميلة والاستعارة القبيحة دقيق، وابن المعتز لم يُعِد في كتابه تعريفَها بقوله: «هي استعارة الكلمة لشيءٍ لم يُعرَف بها من شيء قد عُرِف بها.» ثم أورَد أمثلةً للاستعارات الحسَنة وأمثلةً للقبيحة دون أن يُحلِّلها، أو يُظهِر قبحَها أو جمالها، ثم جاء الآمديُّ من بعدِه فأشار (ص١١٢) إلى أن: «للاستعارة حدٌّ تصلح فيه، فإذا جاوَزَته فسَدَت وقَبُحَت.» وبعد ذلك بأسطرٍ يقول: «فإنَّ حدود الاستعارة معلومة.» ولكنَّا لا ندري مَن عَلِم بتلك الحدود. كلُّ ما نجده في كتابه لا يعدو الإشاراتِ العامةَ؛ كقوله (ص١١٧): «وإنما استعارت العربُ المعنى لما ليس له إذا كان يُقاربه أو يُشبهه في بعض أحواله، أو كان سببًا من أسبابه، فتكون اللفظةُ المستعارَة حينئذٍ لائقةً بالشيء الذي استُعيرت له وملائمةً لمعناه.» في الحق، إن مُشكلةً كهذه لا يمكن أن توضَع لها قواعد، ولا أدلَّ على ذلك من أنه برغم محاولات علماء البيان لا يزال المرجعُ النهائيُّ حتى اليوم هو الذَّوقَ الذي طال مِرانُه بالنظر في أقوال الشعراء المجيدين، وفي نقد النقاد الصادقي الذوقِ لهؤلاء الشعراء نقدًا موضوعيًّا. ونحن إذا استطعنا أن نُعلل ما نراه من جمالٍ وعيب في هذا البيت أو ذاك، فإننا لن نستطيعَ أن نضعَ قواعدَ عامة؛ لأن العبرة بموضع اللفظ من المعنى المعبَّر عنه وقصدِ الشاعر. ولهذا كان نقدُ رجلٍ كالآمدي أجْدى في تعريفنا بالجمال والقُبح في الاستعارة من كثيرٍ من مجلَّدات البيانيِّين؛ فهو تدريبٌ للذوق، وتبصيرٌ بمواضعه.</p><p><br /></p><p>والملاحَظ على أقوال الآمدي في هذا الباب (باب ما عِيبَ من الاستعارة عند أبي تمام) أنه متأثرٌ إلى حدٍّ كبير بابن المعتز؛ فهو يقول: «وعلى هذا جاءت الاستعاراتُ في كتاب الله تعالى اسمُه؛ نحوُ قولِه عز وجل: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، لما كان يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئًا فشيئًا حتى يُحيلَه إلى غيرِ حالته، كالنار الأولى التي تشتعل في الجسم من الأجسام فتُحيله إلى النقصان والاحتراق، وكذلك قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار، لما كان انسلاخُ الشيء من الشيء، وهو أن يتبرَّأ منه ويتذيَّل منه حالًا فحالًا؛ كالجِلد من اللحم وما شاكَلَهما، جعل انفصال النهار عن الليل شيئًا فشيئًا حتى يتكاملَ الظلامُ انسلاخًا، وكذلك قولُه عز وجل: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، لما كان العذاب بالسَّوط من العذاب استُعير للعذاب سَوْط؛ فهذا مَجْرى الاستعارات في كلام العرب.» فنحن نجد في كتاب البديع (ص٣) الأمثلةَ الآتية: وقال وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا. قال: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ، وقال: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار. وإذن فالآمديُّ قد أخذ من ابنِ المعتز مثالَين، واستبدلَ بالثالث مثالًا في نفس المعنى، وإن تكن الاستعارةُ فيه أوضح؛ استبدل فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﺑ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. ثم شرَحها مُوضِّحًا وجْهَها. وكذلك أخذ عن نفس المؤلف الكثيرَ من أمثلته في الشعر؛ أخذ قولَ زُهير: «وعُرِّيَ أفراسُ الصِّبا ورَواحلُه» (ص١٠٨ من الموازنة، وص٨ من البديع)، وقول طُفيل:</p><p><br /></p><p>وجَعَلتُ كُوري فوقَ ناجيةٍ يَقْتاتُ شَحْمَ سَنامِها الرَّحْلُ</p><p>(ص١٠٨ من الموازنة، و١٠ من البديع)، وأضاف إليهما أمثلةً أخرى، وشرَح الجميعَ شرحًا واضحًا دقيقًا.</p><p><br /></p><p>وكذلك تأثَّر بكتابٍ آخَر لابن المعتزِّ عن «سرقات الشعراء»، وإليه يُشير (ص١١٠) في صدَدِ نقدِه لقول أبي تمَّام:</p><p><br /></p><p>يا دهرُ قَوِّمْ أخدَعَيك فقد أضجَجْتَ هذا الأنامَ من خَرْقِكْ</p><p>فيتساءل: أيُّ ضرورةٍ دعَته إلى الأخدعَين، وكان يُمكنه أن يقول: مِن اعوِجاجك أو قوِّم مِن تعوُّجِ صنعتِك؛ أي يا دهرُ أحسِنْ بنا الصنيع؛ لأن الأخرَق هو الذي لا يُحسن العمل، وضدُّه الصَّنَع؟! وكذلك قوله:</p><p><br /></p><p>تحمَّلتُ ما لو حُمِّل الدهرُ شَطْرَه لَفكَّر دهرًا أيُّ عِبْأَيه أثقَلُ</p><p>فجعل للدهرِ عقلًا وجعله مُفكرًا في أيُّ العِبأَيْن أثقَل. وما معنًى أبعد من الصواب من هذه الاستعارة، وكان الأشبهُ والألْيقُ بهذا المعنى لما قال: «تحمَّلتُ ما لو حُمِّل الدهر شطره» أن يقول: لتَضعضَع أو لانْهَدَّ، أو لَأَمِن الناسُ صُروفَه ونوازلَه، ونحو هذا ممَّا يعتمده أهلُ المعاني في البلاغة. وإنما رأى أبو تمام أشياءَ يسيرةً من بعيد الاستعارات، متفرِّقةً في أشعار القدماء، كما عرَّفتُك، لا تنتهي في البُعد إلى هذه المنزلة، فاحتذاها وأحبَّ الإبداعَ والإغراقَ في إيرادِ أمثالها، واحتطَب واستكثَر منها؛ فمِن ذلك قولُ ذي الرُّمة:</p><p><br /></p><p>تيمَّمنَ يافُوخَ الدُّجى فصَدَعْنَهُ وجَوْزُ الفَلا صَدْع السيوفِ القواطعِ</p><p>فجعل للدُّجى يافوخًا. وقولُ تأبَّطَ شرًّا:</p><p><br /></p><p>نحزُّ رقابَهمْ حتى نزَعْنا وأنفُ الموتِ مِنخَرُه رَئيمُ</p><p>فجعل للموتِ أنفًا. وقولُ ذي الرُّمة:</p><p><br /></p><p>يعزُّ ضِعاف القوم عزةَ نفسِه ويقطع أنفَ الكِبرياء عن الكِبْرِ</p><p>فجعل للكبرياء أنفًا. وقال مَعقِل بن خُوَيلد الهُذَليُّ أو غيرُه:</p><p><br /></p><p>تُخاصِم قومًا لا تَلَقَّى جوابهم وقد أخذَتْ من أنفِ لِحْيتِك اليدُ</p><p>فجعل لِلِّحية أنفًا؛ أي قبَضتَ يدَك على طرَفِ لحيتك كما يفعل النادمُ أو المهموم. وما أظنُّ ذا الرُّمة أراد بالأنف إلا أولَ الشيء والمتقدِّمَ منه، كما قال يصفُ الحمار:</p><p><br /></p><p>إذا شمَّ أنفَ الصيف ألحقَ بطنَه مِراسَ الأواسي وامتحانَ الكرائمِ</p><p>قال أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتاب سرقات الشعراء: «هذا البيتُ غرَّ الطائيَّ حتى أتى بما أتى به، وإنما أراد ذو الرُّمة بقوله أنف الصيف كقولهم: أنف النهار؛ أي أوله … ومثل هذا قليلٌ جدًّا مما يعتمد ويُجعل أصلًا يُحتذى عليه ويُستكثَر منه.»</p><p><br /></p><p>(١٠-٧) الذَّوق والتعليل في نقد الآمدي</p><p>فهو إذن يستندُ إلى آراء ابن المعتز، ولكن بإمعان النظر في هذا المثَل نستطيع أن نَنفُذَ إلى حقيقةِ منهج الآمدي؛ ومِن ثَم وجب أن نتمهَّل عنده؛ لنرى أمُتعصِّبٌ هو على أبي تمام في نقدِه لمِثل قوله: «يا دهر قوِّمْ أخدَعَيك» وأنه قد أخذ يتخبَّط ليُبرر تعصبه، أم أن هناك حقيقةً أخرى تُفسر هذا التخبُّط والتماسَ الحجج؟</p><p><br /></p><p>ولو أننا سمَوْنا إلى أعلى الصفحة التي نُناقشها (ص١١٠)، لوجدناه يبتدئُ بقوله: ولو أنه أتى به (أي بهذا القول أو التشبيه) في غيرِ هذا الموضع، أو أتى به حقيقةً ووضَعه في موضعِه ما قَبُح؛ نحو قول البُحتري: وأعتَقتُ من ذُلِّ المطامع أخْدَعي، ونحو قولِه: ولا مالت بأخدَعِك الضِّباعُ.</p><p><br /></p><p>وممَّا يَزيد على كل جيدٍ قولُ الفرزدق:</p><p><br /></p><p>وكُنَّا إذا الجَبَّارُ صَعَّر خدَّهُ ضرَبْناه حتى تستقيمَ الأخادعُ</p><p>وهذه هي أولُ محاولة لتفسير نقدِه لاستعارة أبي تمامٍ هذه؛ فهو يرى أنه لو استعمل الأخدعَين على الحقيقة لاستُسيغ قولُه. وهذا فرضٌ لا محلَّ لإيراده. وفرضٌ آخَرُ هو أن يأتيَ بالاستعارة في موضعها، ولكنه لا يُبين سبب قَبولها هنا، بل يُورد أمثلةً من البحتريِّ ومن الفرزدق دون أن يوضِّح الفروق بين هذه الاستعارات المختلفة، مع أن الأمر واضح؛ فالأخادع عند هذين الشاعرَين تفيد معنى الكبرياء، والاستعارة قائمة على هذا المعنى؛ فالفرزدق «يفتخر بأن قومه يضربون الجبَّار إذا صعَّر خدَّه حتى تستقيمَ أخادعه»، والبحتريُّ يزهو «بأنه قد نجا بكِبريائه من ذلِّ المطامع»، والأخدع عنده هو رمزُ هذه الكبرياء، وكذلك في دعائه للممدوح «بأن لا تَميل الضِّباع بأخادعه»، أي لا تَذلَّ كبرياؤه على الحقيقة أو المجاز. واستعارةُ أبي تمام لا تحملُ شيئًا من هذا المعنى؛ فهو يدعو الدهرَ إلى أن يقوم من أخدعَيه؛ لأن الأنام قد ضجُّوا من خرقِه، «ولم يقُل من كبريائه»؛ فالأخدعان هنا رمزٌ لسوء التصرف وتَعوُّج الصُّنع. وهذه إحالةٌ وخروج بالألفاظ عمَّا توحي من معنًى تخصَّصَت به. هذا تكلفٌ من أبي تمام وصنعةٌ فاسدة.</p><p><br /></p><p>ولكن هل معنى هذا أن الآمديَّ ما دام قد عجز عن إعطائنا التفسيرَ الصحيح لما في الاستعارة من عيب، هل معناه أنه متعصبٌ ضد أبي تمام، وأنه يتمَحَّل له العيوب؟ ذلك ما لا نراه. والذي يبدو لنا هو أن الرجل كان صادقَ الذوق، وأن أساس نقده هو هذا الذوق الصادق، وأن تخبُّطه في التعليل إنما كان لمحاولتِه تبريرَ ذوقه. وهو أحيانًا يُصيب في تبريره، وأحيانًا لا يصل إلى ما يريد.</p><p><br /></p><p>ويعود ناقدُنا فيلتمس وجهًا آخَر لنُفوره من «يا دهرُ قوِّمْ أخدَعَيك»، فيُحاول أن يجدَ ذلك في تشخيص الشاعر للدهر، ويَقيس ذلك ببيته الآخَر:</p><p><br /></p><p>تحمَّلتُ ما لو حُمِّل الدهرُ شطْرَهُ لَفكَّر دهرًا أيُّ عِبأَيْه أثقلُ</p><p>وقد جعل للدهر عقلًا، وجعله مُفكرًا في أيُّ العِبأَين أثقل. ونحن وإن كنَّا لا ننكر ما في أمثالِ هذه الاستعارات من تكلُّفٍ وإسراف، إلا أننا لا نرى العيب في تشخيص المعنويَّات؛ بدليل أن قول ذي الرُّمة: «تيمَّمْن يافوخَ الدُّجى فصدَعْنه» استعارةٌ جميلة دالَّة؛ استعارةٌ من صميم الشعر. وإنما نرى الفارقَ في قوةِ دلالةِ استعارة ذي الرمَّة، ولا كذلك تفكيرُ الدهر، أو «تقويمه خرقه بتقويمه أخدَعَيه». وتفكير الدهر فلسفةٌ باطلة، وتقويمُه خرْقَه بتقويمه أخدعَيه استعارةٌ لا تؤدِّي المعنى، ولا ينسجمُ جُزآها، ومع ذلك فالآمديُّ لم يُخطئ هنا إلا في التعليل، وأما ذَوقه فسليم.</p><p><br /></p><p>ومحاولته الثالثة هي قياسه الأخادعَ بغيرها من أعضاء الجسم كالأنف. وهذا خطأٌ صريح؛ فللأنفِ دلالته، وهو وإن اتفق مع الأخادع في الدلالة على الكبرياء، فإن له معانيَ أخرى؛ فهو يُعبر عن الموت في قولنا: «حَتْف أنفه» وهو في قول الشاعر: «وقد أخَذَت من أنفِ لحيتِك اليدُ» يدلُّ في وضوحٍ على طرَف اللحية، وفي قول ذي الرُّمة: «أنف الصيف» يرمزُ لأوله، وأما في الشطر: «ويقطع أنفَ الكبرياءِ عن الكِبْر»، فمِن البيِّن أن الآمديَّ قد أخطأ إذ فسَّره بأنه «أول الشيء ومقدمته»، وهنا الأنف بمعناه، والشاعر يقصد ﺑ «قطعِ أنف الكبرياء»: «قطعَ أنف المتكبِّر»، وهذا استعمالٌ شائع في اللغة العربية، فلا محلَّ إذن لقياسه بغيره «كأنف اللِّحية» أو «أنف الصيف»، وهنا أيضًا نرى تعليلَ الآمديِّ ومحاجَّتَه لا يُصيبان الهدف، ولكن حُكمه الذَّوقي يبقى دائمًا.</p><p><br /></p><p>وينتقل الآمديُّ إلى دراسةِ ما في شعر أبي تمام من تجنيسٍ قبيح، ومُطابق مَعيب، ومُعاظلة يَدرُسها في صفحاتٍ قليلة (من ص١١٤–١٢٢).</p><p><br /></p><p>(١١) دراسته للزحاف والأوزان</p><p>ثم يتحدَّث في ثلاث صفحات عمَّا كَثُر في شعره من الزحاف واضطرابِ الوزن، فيُورِد أمثلةً تؤيد قولَ دعبل وغيرِه من المطبوعين من «أن شعر أبي تمام بالخُطَب وبالكلام المنثورِ أشبهُ منه بالكلام المنظوم»؛ كقوله:</p><p><br /></p><p>وأنت بمِصْر غايَتي وقَرابتي بها وبَنو أبيك فيها بَنو أبي</p><p>ويُفسر الآمديُّ نثريَّة هذا البيت من الناحية الموسيقية بقوله (ص١٢٤٢): «وهذا من أبيات النوع الثاني من الطويل، ووزنه: فَعُولُن مَفاعيلُن، وعَروضُه وضَرْبه مَفاعِل، فحذَفَ نون فَعولُن من الأجزاء الثلاثة الأُوَل، وحذَف الياء من مفاعيلن التي هي المِصْراع الثاني. وذلك كلُّه يُسمى مقبورًا؛ لأنه حذَف خامِسَه.»</p><p><br /></p><p>ونحن وإن كنَّا نقبل ملاحظةَ الآمدي على ضَعْف الموسيقى في هذا البيت، إلا أننا نظنُّ أن العيب أوضحُ في هَلْهلة النَّسج وسوءِ الصياغة.</p><p><br /></p><p>(١٢) هل تعصَّب للبحتريِّ ضد أبي تمام؟</p><p>والآن وقد رأينا في شيءٍ من التفصيل أوجُهَ نقدِه لأبي تمام، نستطيع أن نعود فننظر فيما اتُّهم به من تعصُّبٍ للبحتري ضد أبي تمام. وهذا رأيٌ سبَق لنا أن قُلنا بشُيوعه عند معظم النقَّاد والعلماء والمؤرِّخين اللاحقين. وها هو ياقوت يقول في معجمه (ج٣، ص٩٥): «ولأبي القاسم تصانيفُ كثيرةٌ جيدة مرغوب فيها، منها كتاب الموازنة بين البحتريِّ وأبي تمام في عشَرة أجزاء. وهو كتابٌ حسن، وإن كان قد عِيبَ عليه في مواضعَ منه، ونُسِب إلى الميل مع البحتري فيما أوردَه، والتعصبِ على أبي تمام فيما ذكَره. والناسُ بعدُ فيه على فريقَين: فرقة قالت برأيه حسَب رأيهم في البحتري وغلَبةِ حبِّهم لشعره، وطائفةٌ أسرفَت في التقبيح لتعصُّبِه؛ فإنه جَدَّ واجتهد في طمسِ مَحاسن أبي تمام وتزيينِ مرذول البحتري. ولَعَمْري إن الأمر كذلك، وحسبُك أنه بلَغ في كتابه إلى قول أبي تمام: «أصمَّ بك الناعي وإن كان أسمَعا» وشرَع في إقامة البراهين على تزييفِ هذا الجوهر الثمين، فتارةً يقول: هو مسروق، وتارةً يقول: هو مَرْذول. ولا يحتاج المنصِفُ إلى أكثرَ من ذلك، إلى غير ذلك من تعصُّباته. ولو أنصفَ وقال في كلِّ واحد بقدرِ فضائله لكان في مَحاسن البحتري كفايةٌ عن التعصب بالوضع من أبي تمام.» وإذن فياقوت يتَّهمُه بالتعصُّب، ودليله على ذلك هو ما يقول من اتهامه لأبي تمامٍ بسرقة «أصمَّ بك الناعي» وإرذالِه. وبالرجوع إلى كتاب الآمدي، نجدُه يقول فعلًا (ص٤٣): إن أبا تمام أخذ بيته:</p><p><br /></p><p>أصمَّ بك الناعي وإنْ كان أسْمَعا وأصبح مَغْنَى الجُودِ بعدَك بَلْقَعَا</p><p>مِن قول سفيانَ بنِ عبد يَغوث النَّصري:</p><p><br /></p><p>صمَّت له أُذنايَ حين نعَيتُه ووجدتُ حزنًا دائمًا لم يذهَبِ</p><p>ومن الواضح اتحادُ المعنيَين (أن نعي الممدوح قد صعق الشاعرَ أو الناسَ فأصابه أو أصابهم الصمَم)، فأيُّ تعصب في أنْ دلَّ على ذلك، وقد رأيناه في السرقات يحتاط ويردُّ عن أبي تمام وعن البحتري سواءً بسواء ادِّعاءاتِ خُصومهما؟ وإذا كان هذا المعنى بالذات قد يقعُ لأي شاعرٍ بغير حاجةٍ إلى تأثُّره بسِواه، فإن هذه الطريقة، طريقةَ اعتبارِ المعنى مسروقًا لمجرد التوارُد، كانت شائعةً في النقد العربي، سواءٌ عند الآمديِّ أو سِواه، بل لعل الآمديَّ كان أقلَّ إسرافًا من غيره. وأما إرذالُه للبيت فذلك ما لا وجودَ له في الموازنة؛ لا في الجزء المطبوع ولا في الجزء الذي لا زال مخطوطًا، ولكنه قد يكون في الجزء المفقود. وقد سبَق أن ذكَرْنا أن الجزء الخاصَّ بالمراثي لم يصل إلينا حتى اليوم رغم أن المؤلِّف أنبأَنا بوجوده.</p><p><br /></p><p>والواقع أن ياقوتًا هو الذي يدَّعي مع غيره على الآمديِّ هذه الدعوى الباطلة؛ دعوى التعصُّب. ولقد سبَق أن فسَّرنا ذلك بفساد ذَوق اللاحقين وإعجابِهم بالصَّنعة والمبالغات والإحالات. وفي ياقوت نصٌّ آخر يفيد ذلك؛ هو قولُه (ج٢، ص٥٧): «قال لي أبو الفرَج: كان الآمديُّ صاحبُ كتاب الموازنة يدَّعي المبالغات على أبي تمام ويُحيلها استطرادًا لِعَيبه؛ إذ ضاق عليه المجالُ في ذمِّه، وأورد في كتابه قولَه من قصيدته التي أولها «من سجايا الطُّلول ألا تُجيبا»:</p><p><br /></p><p>خضَبَت خدَّها إلى لُؤلؤِ العِقْـ ـدِ دمًا أنْ رأتْ شَوَاتي خَضيبَا</p><p>كلُّ داءٍ يُرجى الدواءُ له إ لَّا الفظيعَين مِيتةً ومَشيبَا</p><p>ثم قال: هذه من المبالَغات المسرفة. ثم قال أبو الفرَج: هذه واللهِ المبالغةُ التي يبلغ بها السماء.»</p><p><br /></p><p>وما ذكره أبو الفرج هذا صحيحٌ من حيث ما رآه الآمديُّ في أبيات أبي تمام من إسراف، ولكننا نستطيع أن نرجع إلى المخطوط (لوحَتَي ١٤٩ و١٩٥٠)، فنجد إلى جانب ملاحظةِ الناقد عن الإسراف دفاعًا عن الشاعر ضدَّ اتهاماتٍ أخرى. وإليك السياق: وقال أبو تمام:</p><p><br /></p><p>لعب الشَّيب بالمفارق بل جدَّ فأبكى تُمَاضرًا ولَعوبَا</p><p>خضبَت خدَّها إلى لؤلؤ العِقـ ـدِ دمًا أنْ رأت شَواتي خَضيبَا</p><p>كل داءٍ يُرجى الدواءُ له إلَّا الفظيعَين مِيتةً ومَشيبَا</p><p>يا نسيبَ الثَّغام ذنبُك أبقى حسَناتي عند الغَواني ذُنوبَا</p><p>ولئن عِبْن ما رأينَ لقد أنـ ـكرنَ مستنكَرًا وعِبْن مَعيبَا</p><p>أو تصدَّعنَ عن قِلًى لَكفى بالشَّـ ـيْبِ بيني وبينَهن حَسيبَا</p><p>لو رأى الله أنَّ في الشيب خيرًا جاورَتْه الأبرارُ في الخُلد شِيبَا</p><p>ويُعلِّق الآمديُّ على هذه الأبيات بقوله: «وهذا البيتُ الأخير من شعره الجيد المشهور، ومَن تعصَّب عليه يقول: إنه ناقَضَ في هذه الأبياتِ قولَه: «فأبكى تُماضرًا ولَعوبَا»، وقولَه: «خضبَتْ خدَّها إلى لؤلؤ العِقْد دمًا»، ثم قال: «يا نَسيب الثَّغام ذنبُك أبقى حسناتي عند الحِسان ذنوبًا»، وقولَه: «ولئن عِبْن ما رأينَ»، وقالوا كيف يَبْكين دمًا على مَشيبِه ثم يَعِبْنه! وليس هنا تناقض؛ لأن الشيب إنما يبكي تُماضرَ ولَعوبًا أسفًا على شبابه، والحِسان اللواتي عِبْنه غيرُ هاتين المرأتَين.</p><p><br /></p><p>لما رأتْ بدَلَ الشبابِ بكَت له إنَّ المشيب لَأرذلُ الأبدالِ</p><p>ومَن لم تكن هذه حاله عابه وهو مستقيمٌ صحيح، وقول الأخطل: بكت له؛ أي الشيب، ولكن أبا تمام لم يرضَ أن يقول: بكت، فيكون أمرًا قريبًا مشبهًا، حتى قال: «بكت الدم» على مذهبه في الخروج عن الحدِّ في كل شيء.»</p><p><br /></p><p>وهذا نقدٌ أشبهُ بالصدق، بل بالمحاباة، منه بالتعصب؛ فالناقد قد يُقرر ما يراه ويراه الجميعُ من أن البيت: «لو رأى الله أنَّ في الشَّيب خيرًا جاوَرَته الأبرارُ في الخُلد شِيبَا» فيه معنًى مبتكَر، له جماله، وإن كان بعيدًا عن حياتنا الراهنة وإحساسِنا المباشر، بحيث يُعجبنا، ولكنه لا يهزُّنا. والآمدي بعدُ يَلفت النظرَ إلى أنه من «شعره الجيِّد المشهور»، لا يكتفي بذلك، بل يأخذ في الدفاع عن الشاعر محاولًا التوفيقَ بين ما في شعره هذا من تناقض وتنافر وانتقالات وتخبُّط لا يمكن اليوم أن نستسيغَها. والذي لم يزل فيه أن مَن عابه كان مُحقًّا. ودَعْك من أشخاص النساء، ثم انظر في تفاوُت النَّغمات والنسب؛ أين بكاء الدم من العيب الفاتر؟! ثم أيُّ مبالغة سخيفة في هذا الدم، وفي الجمع بين الموت والمشيب؟!</p><p><br /></p><p>وبالرغم من دفاع الآمدي، يأتي ياقوت فيتَّهمه بالتعصُّب! ونحن بعدُ نتَّهم الآمديَّ بالتهاوُن والتماسِ الأعذار لِما هو واضح! ولكن ألم نَقُل: إن فَساد الأذواق التي ترى في بكاء الدم على المشيب «المبالغة التي يرتفع بها الشاعرُ إلى السماء» هو سببَ هذه التهمة الباطلة؟!</p><p><br /></p><p>وبعدُ، فالذي لم يزل فيه هو أن الآمديَّ كان له ذَوقه الخاصُّ في الشعر، وهذه مسألةٌ غيرُ التعصب، وإنه لَمن العبث أن ندعوَ النُّقاد إلى أن يكونوا علماء فيتجرَّدوا عن كل ذَوقٍ شخصي؛ وذلك لأنه ليس في الأدب قواعدُ عامةٌ نستطيع أن نُطبقها آليًّا، كما وضَّحنا في الفصل الأول من بحثنا، وإنما هناك ذَوق هو أساسُ كلِّ نقدٍ أدبي، وهناك خِبرة بالشعر ومعرفةٌ بالأدب وباللغة نُحاول أن نُعزِّز بها أذواقنا ونُعللها، كلما وجَدْنا إلى ذلك سبيلًا. ولقد حدَّثَنا الآمديُّ عن ذَوقه في كل موضع؛ سواءٌ بطريقة غير مباشرة — أعني بنقده ذاتِه ومَنْحاهُ في ذلك النقد — أو بصريح العبارة؛ كقوله (ص٢٢): «المطبوع الذي هو المستوي قليلُ السَّقط لا يتبيَّن جيده من سائر شعره بينونةً شديدة. ومن أجل ذلك، صار جيدُ أبي تمام معلومًا، وعددُه محصورًا. وهذا عندي هو الصحيح؛ لأني نظرتُ في شعر أبي تمامٍ والبحتريِّ وتلَقَّطتُ مَحاسِنَهما، ثم تصفَّحتُ شِعرَيهما بعد ذلك على مَرِّ الأوقات، فما من مرةٍ إلَّا وأنا أُلحِقُ في اختيار شعر البحتري ما لم أكن اخترتُه من قبل، وما أعلم أني زدتُ في اختيار شِعر أبي تمام ثلاثين بيتًا على ما كنتُ اخترتُه قديمًا.»</p><p><br /></p><p>فهو إذن يُفضِّل الشعر المطبوع، ولكنَّ ذلك لم يمنعه من أن يُقِرَّ بما وُفِّق إليه أبو تمام من إصابة معنًى أو عبارة، بل لم يَدْعُه إلى الجهر بأي الشاعرَين أفضل إطلاقًا. وقد رفَض صراحةً أن يقول بشيءٍ كهذا. وهو إذا كان قد درَس سرقات أبي تمام وسرقات البحتري، فإنه قد عمد في كلِّ دراسة إلى موضع القَصيد؛ فأنصارُ أبي تمام قد ادَّعَوا أنه رأسُ مذهب؛ ولذلك اتجه النقادُ إلى النظر في هذه الدعوى، فوجدوا أنهم قد سُبِقوا إلى ذلك، وكان ابنُ المعتز هو البادئَ في هذا الاتجاه، وتتبَّعه مَن ذكَرنا، حتى إذا جاء الآمديُّ تناول كلَّ الدعاوى بالتمحيص، فردَّ من إسراف المسرفين في التهمة، ولم يَصدُر إلا عن بينة. وقد وضَع للسرقات أحكامًا عامة منصِفة، سنراها في الجزء الثاني من بحثنا. وأما سرقاتُ البحتري فلم يتمهَّل عندها؛ لأن الجميع كانوا يعرفون أنه قد سار على عَمود الشعر، وأنه لم يدَّعِ التجديد. وهو على العكس من ذلك قد أمعَن النظر فيما اتُّهِم بأخذه عن أبي تمام؛ لأن هذا يَعيبه. والآمدي منصفٌ في كل ذلك، وهو إذ تناول أخطاءَ أبي تمام وعيوبَه فقد شفعَها بأخطاء البحتري وعيوبِه، كما سنرى في باب الموازنة في الجزء الثاني من بحثنا، وإذا كان أبو تمام قد شغَله أكثرَ ممَّا شغله البحتري؛ فذلك لكثرة سقطِ أبي تمام كما يُسلِّم جميعُ النقاد.</p><p><br /></p><p>وأخيرًا انتهى إلى محاسن كلٍّ منهما، فكتب عن كل شاعرٍ صفحتَين أو ثلاثًا يُلخص فيها حُججَ أنصار كلِّ شاعر.</p><p><br /></p><p>وإلى هنا ينتهي جزءٌ من الكتاب، ثم يبدأ الجزء الهام؛ جزءُ الموازَنة التفصيليَّة بين الشاعرَين معنًى معنًى.</p><p><br /></p><p>(١٣) الموازنة التفصيلية بين الشاعرَين</p><p>ومعظم هذا الجانب لم يُنشَر حتى اليوم، كما قلنا، ولكننا لا نستطيع — مهما قُلنا — أن نُوفِيَ هذا الجزء حقَّه؛ ففيه خيرُ نقدٍ نجده في كتب العرب، كما أنه مُرتَّب وَفْق منهجٍ دقيق محكَم.</p><p><br /></p><p>(١٣-١) خُطَّته في الموازنة</p><p>لقد رأينا الناقدَ يُحدثنا في أوائل كتابه (ص٢٣) في صدد رسم خُطته عن تلك الموازنة فيقول: «ثم أُوازِن من شِعرَيهما بين قصيدتَين إذا اتفَقتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، ثم بين معنًى ومعنًى؛ فإن مَحاسنهما تَظهر في تضاعيفِ ذلك وتنكشف.» وإذن فقد كانت فكرتُه الأولى أن يعقد نوعَين من الموازنة: (١) نوعًا من القصيدتَين إذا اتفَقتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، وذلك طبعًا بصرف النظر عن موضوع القصيدتين ومعانيهما. (٢) الموازنة بين المعاني معنًى معنًى.» ونحن ندرك طبعًا أن الموازنة الثانية هي المعقولة، وأما الموازنة الأولى فلا يمكن أن تنعقدَ وأن تأتيَ بفائدة، أو تُبصِّرنا بشيء عن الشاعرَين؛ لأن الوزن والقافية وإعرابَ القافية ليست إلا ثوبًا خارجيًّا لما في الشعر من فكرٍ أو إحساس أو تصوير. ولقد فَطِن الآمديُّ نفسُه إلى هذه الحقيقة، فلم يكَد ينتهي إلى تنفيذ خُطته حتى أحسَّ بخطئه فقال (ص١٤٧): «وقد انتهيتُ الآن إلى الموازنة، وكان الأحسن أن أُوازن بين البيتين أو القطعتين إذا اتفَقتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، ولكن هذا لا يتَّفق مع اتفاق المعاني التي إليها المقصد، وهي المرمى والغرَض. وبالله أستعينُ على مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى، وترك التحامُل، فإنه جلَّ اسمُه حسبي ونعم الوكيل. وأنا أبتدئ بإذن الله من ذلك بما افتتَحا به القولَ من ذِكر الوقوف على الديار والآثار، ووصفِ الدِّمَن والأطلال والسلام عليها، وتَعْفيةِ الدهور والأزمان والرياح والأمطار إياها، والدُّعاء بالسُّقيا لها والبكاء فيها، وذِكر استعجامها عن جواب سائلها، وما يخلف قَطِينها الذين كانوا حَلُّوا بها من الوحش، وفي تعنيف الصِّحاب ولومهم على الوقوف بها، ونحو هذا مما يتَّصل به من أوصافها ونُعوتها، وأُقدِّم في ذلك ابتداءاتِ قصائدهم في هذه المعاني.» ويأخذ المؤلفُ في استعراض المعاني المختلفة: ما قيل في الابتداءات أولًا، ثم ما قيل في وسط الكلام، ثم ينتقل إلى طرُق خروجهما من مقدمة القصيدة إلى المدح. وأخيرًا يتناول المدحَ أو جزءًا منه. وهنا ينتهي المخطوط؛ لأنه كما قلنا غيرُ كامل.</p><p><br /></p><p>(١٣-٢) نزاهته</p><p>وإنه لمن الواضح منذ الصفحات الأولى المطبوعةِ من هذه الموازنة التفصيليةِ أن الناقدَ غيرُ متعصب لأحدٍ من الشاعرين ضدَّ الآخر؛ فهو يُورد أبياتَ كلٍّ منهما، بل أبيات غيرهما من الشعراء القدماء أو المحْدَثين، ويُقارن بين الكل مُظهرًا إصابةَ هذا وضعفَ أو خطأَ ذلك، والمقياس عنده هو الذَّوق، وتقاليدُ العرب، والحقائق النفسيَّة، وأصول اللغة، ووسائلُ الأداء.</p><p><br /></p><p>خذ لذلك مثلًا المعنى الأولَ وهو «الابتداءات بذِكر الوقوف على الديار»، فتراه أورد لأبي تمام الأبياتَ الآتية (ص١٧١ وما بعدها):</p><p><br /></p><p>ما في وقوفِك ساعةً من باسِ نَقْضي حقوقَ الأربُعِ الأدْراسِ</p><p>قِفوا جدِّدوا مِن عَهدِكم بالمعاهدِ وإن هي لم تَسمع لِنِشْدان ناشدِ</p><p>قِفْ بالطُّلول الدَّارِسات عُلاثَا أضحت حِبالُ قَطينِهنَّ رِثَاثَا</p><p>قفْ نُؤبِّن كِناسَ هذا الغزالِ إن فيها لَمسرحًا لِمقالِ</p><p>ليس الوقوف يكفُّ شوقَك فانزلِ وابلُلْ غليلك بالمدامعِ يَبلُلِ</p><p>ويرى الناقد أن كل هذه المطالع إما جيدةٌ أو صالحة أو ظريفة، وهو لا ينقد منها شيئًا.</p><p><br /></p><p>ويُورِد للبحتري:</p><p><br /></p><p>ما على الرَّكْب من وُقوفِ الرِّكابِ في مَغاني الصِّبا ورَسْم التَّصابي</p><p>ذاك وادي الأراكِ فاحبِسْ قَليلَا مُقْصِرًا من مَلامتي أو مُطيلَا</p><p>ويرى أن هذين الابتداءين في غايةِ الجودة.</p><p><br /></p><p>ثم يورد للبحتريِّ أيضًا قوله:</p><p><br /></p><p>قِفِ العِيسَ قد أدنى خُطاها كَلالُها وسَلْ دارَ سُعدى إنْ شَفاك سُؤالُها</p><p>ولا يمنعه كونُه للبحتريِّ من أن ينتقدَه، وأن يستقصيَ في ذلك الحِجَاج على ضوءِ ما قاله الشعراءُ في ذلك، وما جرَت عليه تقاليدُهم، فيقول: «وهذا لفظٌ حسن، ومعنًى ليس بالجيِّد؛ لأنه قال: أدنى خُطاها كَلالُها؛ أي قارَب مِن خَطوِها الكَلالُ، وهذا كأنه لم يقف لسؤال الدِّيار التي تَعرِض لأن الوقوف يشفيه؛ وإنما وقَف لإعياء المَطِي.</p><p><br /></p><p>والجيدُ قولُ عنترة:</p><p><br /></p><p>فوقَفتُ فيها ناقتي وكأنَّها فَدَنٌ لِأقضِيَ حاجةَ المتلوِّمِ</p><p>فإنه لما أراد ذِكرَ الوقوف احتال بأنْ شبَّه ناقته بالفدَن، وهو القصر؛ ليُعلِم أنه لم يَقِفْها ليُريحَها.» وهذا نقدٌ دقيق يدلُّ على فطنةٍ وذوق. ولا يقف الناقدُ عند هذا الحد، بل يستعرض كلَّ الردود الممكِنة فيقول: «فإن قيل: إنما قال: أدنى خُطاها كَلالُها؛ ليُعلم أنه قصَد الدارَ من شُقةٍ بعيدة، قيل: العرب لا تقصد الديارَ للوقوف عليها، وإنما تجتاز بها، فإن كانت على سَنن الطريق قال الذي له أربٌ في الوقوف لصاحبه أو أصحابه: قِفْ، وقِفَا، وقِفُوا، وإن لم تكن على سَنن الطريق قال: عُوجَا، وعرِّجَا؛ وعُوجوا، كما قال امرُؤ القيس:</p><p><br /></p><p>عُوجا على الطلَل المحيلِ لعلَّنا نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِزامِ</p><p>وإذا عرَّجوا كان التعريج أشقَّ على الرَّكْب والركاب؛ لأن لهما في الوقوف حيث انتهت راحة، والتعريج فيه زيادة في تعبها وكَلالها وإن قلَّت المسافة.» ونحن وإن كنَّا لا نوافق الآمديَّ دائمًا على أخذه الشعراءَ المحْدَثين؛ كأبي تمام والبحتري، بتقاليد القدماء في تفاصيل المعاني، إلا أننا لا نستطيع إلا أن نُقِرَّه على نقده هنا؛ فالعرب لم تَقُل بالسير إلى الديار عمدًا، بل قالت بالوقوف أو التعريج؛ لأن هذا هو المعقول الجميل، وأما السَّير إليها فمُبالغةٌ كاذبة سَما عنها ذوقُهم. ويأبى الآمديُّ — الناقد القوي الدقيق — إلَّا أن يَسُد على المعترض كلَّ وجه، فيقول بعد ذلك (١٧٨): «فمن زعم أن البحتريَّ بهذا القول كان قاصدًا للدار وغيرَ مجتاز، احتاج إلى دليلٍ من لفظ البيت يدلُّ عليه.» ويأبى ذَوق الناقد الذي يُحس بكل ما في هذا البيت من جمال إلا أن يُحاول التماس وجهٍ له، فيقول في النهاية (ص١٧٩): «ولم أقل: إنه خطأ، وإنما قلت: إن المعنى غيرُ جيد، فإن التمست العذر للبحتري قلنا: إنه وصف حقيقةَ أمر العيس عند الوصول إلى الدار، وهذا مذهبٌ من مذاهب العرب عامة في أن يصفوا الشيءَ على ما هو، وعلى ما شوهد، من غير اعتمادٍ لإغرابٍ ولا إبداع، وإنما وقع فيه مثلُ هذا الخلل لقلة التجوُّز.»</p><p><br /></p><p>ويورد أبياتًا للبُحتري، وينتقد من بينها قولَه:</p><p><br /></p><p>قِفا في مَغاني الدار نسأَلْ طُلولَها عن النفَر اللائين كانوا حُلولَها</p><p>قائلًا (ص١٧٩): «وهذا الابتداء ليس بالجيِّد من أجل قوله اللائين؛ لأنها لفظةٌ ليست بالحُلوة، وليست مشهورة.» ويختتم الفصل بقوله: «واجعلهما فيه مُتكافئَين من أجل براعة بيتَي البحتري الأوَّلين، وأنهما أجودُ من سائر أبيات أبي تمام.» هو يقول ذلك عن إيمان؛ لأنه لو كان يعتقد أن أبا تمام أشعرُ لقال ذلك، كما فعل في غيرِ موضع؛ ومن ذلك ما حكم به في باب «التسليم على الديار»؛ إذ أورد بيتَ أبي تمام:</p><p><br /></p><p>دِمَنٌ ألمَّ بها فقال سَلامُ كم حلَّ عُقدةَ صبرِه الآلامُ!</p><p>وأورَد أبياتًا للبحتري أغلبُها جميلٌ جيد، ومع ذلك يختتم الباب بقوله: «وأبو تمام عندي في قوله: «دِمَنٌ ألمَّ بها فقال سلامُ» أشعرُ من البحتريِّ في سائر أبياته.» وهكذا يستمرُّ الناقد مُفضِّلًا هذا الشاعرَ في معنًى، ومفضلًا الثانيَ في معنًى آخَر، أو مُقررًا تكافؤهما بعد إظهارِ حسَنات كلٍّ وعيوبِه. وهذا ليس من التعصُّب في شيء، وإنما هو النقد الصحيح، والمنهج المستقيم، والذَّوق المرهَف.</p><p><br /></p><p>(١٣-٣) دراسة مقارنة</p><p>ونحن وإن كنا لا نريد أن نستقصيَ هنا القول في منهج الموازنة عند الآمدي؛ لأن ذلك سيأتي في مكانه، إنما نودُّ أن نُشير إلى أن هذا الناقد العظيم لم ينظر إلى الموازنة نظرةَ مُفاضلةٍ وحُكمٍ لهذا وذاك فحسب، بل جعل منها قبل كل شيء دراسةً مقارنةً للشاعرَين. وكثيرًا ما تتَّسع المناقشةُ فتشمل كلَّ ما قاله العرب في معنًى من المعاني؛ يوضِّح مناهجَه وتفاصيله، بحيث نخرج من كتابه بمحصولٍ أدبي لا حدَّ لغِناه.</p><p><br /></p><p>(١٣-٤) اقتصاده في الحكم</p><p>ولقد سبق أن رأيناه يرفض الحكم بأفضلية أيِّ الشاعرَين على الآخر أفضليةً مُطلقة. أين هذا مما نراه عند النُّقاد الأوائل، شعراء كانوا أم علماء، عندما كانوا يُفضلون هذا الشاعرَ أو ذلك لبيتٍ قاله. بل لقد بلغ من دقةِ هذا الرجل أن يتجنب نفسَ الألفاظ التي تُفيد الإطلاق؛ فنراه مثلًا (لوحة ٨٩) يعرض لما كانوا يُسمُّونه أحسنَ بيت لهذا الشاعر أو ذاك، فلا يُورِدُها على هذا النحو، بل على أن قائلها كان يعتزُّ بها، فيقول:</p><p><br /></p><p>كان أبو تمام يقول: أنا آتٍ قولي:</p><p><br /></p><p>نقِّلْ فؤادك حيث شئتَ من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ</p><p>كم مَنزلٍ في الأرض يألفُه الفتى وحنينُه أبدًا لأولِ منزلِ</p><p>كما كان أبو نُواس يقول: أنا آتٍ:</p><p><br /></p><p>إذا امتَحَن الدنيا لبيبٌ تكشَّفَت لهُ عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ</p><p>وكان مُسلم بن الوليد يقول: أنا آتٍ:</p><p><br /></p><p>يجود بالنفس إذْ ضنَّ الجَوادُ بها والجُود بالنفس أقصى غايةِ الجُودِ</p><p>وكما كان دِعبل يقول: أنا آتٍ:</p><p><br /></p><p>لا تَعجَبي يا سَلْم من رجلٍ ضَحِك المشيبُ برأسِه فبكى</p><p>وهذا يدلُّ على روحٍ جديدة؛ روح عِلمية لم يعرفها النقدُ من قبل.</p><p><br /></p><p>(١٣-٥) الموازنة سبيلٌ لتحديد الخصائص</p><p>وأوضحُ من ذلك في الدلالة أن نرى الناقد يتخذ من تلك الموازنة سبيلًا إلى تحديد خصائص كلٍّ من الشاعرَين، وتوضيح مَنْحاه، فنراه مثلًا يستقصي موقفَ الصاحب من الشاعر عند بكاء الديار، وينتهي إلى ملاحظة أن مذهبَ أبي تمامٍ في الغالب هو أن يجعل الصاحبَ لائمًا، بينما البحتري يجعل صاحبَه مُسعِدًا؛ أي: شريكًا في البكاء، وذلك مع استثناءاتٍ قليلة. وكذلك يُلاحظ انفراد البحتري بكثرة ذِكر الطيف، سواءٌ في أوائل قصائده، أو في أثناء الكلام، ويُعدِّد له أربعًا وعشرين قصيدةً يبتدئها بذِكر الطيف ابتداءً جميلًا، بينما أبو تمام ليس له في ذلك إلا القليل، وهكذا ممَّا سنراه بالتفصيل فيما بعدُ.</p><p><br /></p><p>وكلُّ هذا ينتهي بنا إلى نتيجةٍ هامة، هي أن الآمدي ناقدٌ لا يَصدُر إلا عن ذوقه ومعرفته، وأن التعصب لا أثرَ له في أقواله، روحه روحٌ علمية؛ بمعنى أنه لا يحكم إلا على ما أمامه، وقد خلَت نفسُه من كل مَيلٍ أو هوًى، وهو يقصر أحكامه على التفاصيل التي يعرض لها، ويحاول دائمًا أن يُعلِّل ما يُدركه أولًا بذوقه. وأما أن في مقاييسه أو تعليلاته ما يُناقَش، فهذا أمرٌ آخر، وهو غير التعصب.</p><p><br /></p><p>ولو أردنا أن ندلَّ على النزعة التي يجب أن تظلَّ بعيدةً عن كل نشاط روحي، سواءٌ في علم أو في أدب، لوجدناها عند رجلٍ كالصولي.</p><p><br /></p><p>(١٣-٦) مقارنة بالصولي</p><p>في كتاب «الموشَّح في مآخذ العلماء على الشعراء»، لأبي عبد الله محمد بن عمران المرزباني، المتوفَّى سنة ٣٨٤ﻫ (طبع جمعية نشر الكتب العربية سنة ١٣٤٣ﻫ)، فصلان هامَّان بالنسبة لموضوعنا: أحدُهما عن أبي تمام (٣٠٣–٣٢٩ﻫ)، والآخرُ عن البحتري (٣٣٠–٣٤٣ﻫ)، والذي نقصد إليه منهما هو أقوالُ الصولي التي تدلُّ على ضعف الروح العلمية، بل وعلى التعصب ضدَّ البحتري، كما رأينا تعصُّبَه لأبي تمام، فنرى عندئذٍ الفارقَ الواضح بين منهج الإطلاق والتعصب، وبين منهج النقد الصحيح الذي أخذ الآمديُّ به نفسَه.</p><p><br /></p><p>ففي ص٣٣٥ و٣٣٦ من الموشح نجد ما يأتي:</p><p><br /></p><p>قال الصولي: وله (أي: للبحتري) يهجو المستعينَ من قصيدة:</p><p><br /></p><p>أعاذِلَتي على أسماءَ ظلمًا وإجراءِ الدموع لها الغِزارِ؟</p><p>ثم تعليق الصولي: «وهذه الأبيات من أقبح الهجاء وأضعفِه لفظًا، وأسمَجِه معنًى، وهي أيضًا خارجةٌ عن طريقة هجاء الخلفاء والملوك المألوفة، وهي بهِجاء سِفْلة الناس ورَعاعِهم أشبه، بما جمعَت من سخافة اللفظ، وهلهلة النَّسج، والبُعد من الصواب. وكثير من أهل الأدب مَن ينكر خبثَ لسان عليِّ بن عباس الرومي، ويطعن عليه بكثرة هجائه، حتى جعلوه في ذلك أوحدَ لا نظير له، ويُضرِبون عن إضافة البحتري إليه وإلحاقِه به، مع إحسان ابنِ الرومي في إساءته وقصورِ البحتري عن مَداه فيه، وأنه لم يبلغه في دقَّة معانيه، وجودةِ ألفاظه، وبدائع اختراعاته، أعني في الهجاء خاصة؛ لأن البحتري قد هجا نحوًا من أربعين رئيسًا ممَّن مدحَهم، منهم خليفتان؛ وهما المنتصر والمستعين، وساق بعدهما الوزراءَ والرؤساء والقوَّاد ومَن جرى مَجراهم من جِلَّة الكُتاب والعمَّال ووجوهِ القضاة والكبراء، بعد أن مدَحهم وأخذ جوائزَهم. وحاله في ذلك تُنبئ عن سوء العهد، وخُبث الطريقة. وممَّا قَبح فيه أيضًا، وعدَل عن طريق الشعراء الممدوحة أني وجدتُه قد نقل نحوًا من عشرين قصيدةً من مدائحه لجماعةٍ توفَّر حظُّه منهم عليها إلى مدحِ غيرهم، وأماتَ أسماءَ مَن مدَحَهم أولًا، مع سَعة ذَرعِه بقول الشعر واقتدارِه على التوسُّع فيه. ولم أذكر حالَه في ذلك عن طريق التحامل، مع اعتقادي فضلَه وتقديمه، ولكنني أحببتُ أن أُبيِّن أمره لمن لعلَّه استتَر عنه. وحسبُنا الله ونعم الوكيل.»</p><p><br /></p><p>ونحن لا نُنكر أن القصيدة المنقودة من أقبح الهجاء وأشدِّه إسفافًا، وأنها سوقيةٌ مرذولة، ويكفي للحكم عليها أن تراه يدعوَ فيها «المستعين» «بالمستعار»، ويُسمِّيَه «بالحمار»، وأنه يبول في ثياب المُلك! وما شاكلَ ذلك مما يَمجُّه كلُّ ذوق، ومتى كانت المعاني في هذه السماجة بدَت الألفاظ قبيحةً ضعيفة لتفاهتها. وإذن فنحن نُسلم للصولي بنقده لهذه القصيدة، ولكن الروح التي نلومها هي تلك التي أمْلَتْ أحكامَه الأخرى؛ كتفضيله ابن الرومي إطلاقًا في الهجاء على البحتري؛ فهذا إنْ صحَّ في جملته، فهو لا يمكن أن يكون استقصاءً، ولربما كانت للبحتري في ذلك أبياتٌ تَفضُل أبياتًا لابن الرومي في جزئيةٍ من الجزئيات، وعن إطلاقٍ كهذا يتورَّع الآمدي. ثم إنه يعيب البحتريَّ بأخلاقه وهجائه لمن سبَق أنْ مدَحَهم، ونقل قصائده من شخصٍ إلى شخص بعد تغيير أسماء الممدوحين. وهذه التُّهَم إن صحَّت — وبعضها صحيح — لا تدخل في النقد الفني؛ بدليل قول الصولي نفسِه في «أخبار أبي تمام» (ص١٧٢): «وقد ادَّعى قومٌ عليه الكفر (يعني على أبي تمام)، بل حقَّقوه وجعَلوا ذلك سببًا للطعن على شعره، وتقبيحِ حسَنِه. وما ظننتُ أنَّ كفرًا ينقص من شعر، ولا أن إيمانًا يَزيد فيه.» فكيف لا ينقص الكفرُ من شعر أبي تمام بينما ينقص انحطاطُ الخُلق شِعرَ البحتري؟! أمَا كان أجدرَ بالصولي أن يوحِّد حُكمه في الحالتَين، فينظرَ إلى الشعر في ذاته، أو يُضيف إلى الشعر قائلَه ويحكم عليهما معًا؟! وأمَّا أن يُفرق بين الحالتَين ويتناقضَ في أقواله، فهذا هو التعصُّب البغيض.</p><p><br /></p><p>ومن البيِّن أن هذا غيرُ منهج الآمدي العلمي الحذِر الدقيق المنصِف.</p><p><br /></p><p>وأوضحُ ما تكون روح الآمدي العلميةُ في طريقة تأليفه لكتابه، وتبويبه لأقسامه؛ فهي فريدةٌ بين الكتب العربية التي أُلِّفَت في الأدب. الآمديُّ رجلٌ يعرف كيف يدرس المسائلَ ويجمع المؤلفاتِ التي كُتِبَت في الموضوع، ثم هو فوق ذلك يعرف كيف يبني كتابه، لا بناءً منطقيًّا مقتسَرًا كما فعل رجلٌ كقُدامة، بل وَفْقًا لموضوعات دَرسِه. ولننظر في هذا؛ فهو يستحقُّ النظر، كما أنه سيُعِيننا على إدراك خُطتِه العامة ومنهجِه التفصيلي.</p><p><br /></p><p>(١٤) منهج تأليف الكتاب وأجزاؤه</p><p>يبتدئ المؤلِّف باحتجاج الخَصمَين فيما يُشبه مُناظرةً بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتريِّ (١–٢١)، ويختتمُها بقوله: «تم احتجاج الخَصمين بحمد الله.» ثم يقول: «وأنا أبتدئ بذكرِ مساوئ الشاعرَين لأختتمَ بذِكر مَحاسنهما، وأذكر طرَفًا من سرقات أبي تمَّام، وإحالاته، وغلطِه، وساقطِ شعره، ومساوئِ البحتري فيما أخذه من معاني أبي تمام، وغير ذلك من غلطٍ في بعض معانيه، ثم أُوازن بين شِعرَيهما … وأُفرِد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه، وبابًا للأمثال.»</p><p><br /></p><p>وإذن فمُحاجَّة الخَصمَين بمثابةِ مقدمةٍ نعرف منها أنَّ لأبي تمام أنصارًا، وأن للبحتريِّ أنصارًا، وأن كلًّا من الفريقين يُفضل صاحبَه على الآخَر، ويورِدُ في ذلك حُججَه كما يوردُ حُجج خَصمِه. أما الآمديُّ فمنهجه منهجٌ آخَر. وما له يقف عند تلك اللَّجاجة! إنه يريد أن يدرس الشاعرَين، وأن يتَّخذ من هذا الدرس سبيلًا للموازنة بينهما. وهو يتناول كلًّا منهما ليرى ما في شعره من مَغامز؛ وَفْقًا لما كان النقاد قد استقرُّوا عليه في ذلك الحين. ومن البيِّن أن المسائل التي كان الشعراء يُهاجَمون من أجلها هي: السرقات والأخطاء والعيوب. وهذا ما فعَله الآمديُّ مع الشاعرَين مبتدئًا بأبي تمام، ومُعقبًا بالبحتري. حتى إذا انتهى من مَساوئهما ذكَر محاسنهما مُجمَلة؛ وبذلك يَفرُغ من هذه الموازنة التي اعتمد فيها على المساوئ والمحاسن. وهذا المنهج — بلا ريب — خيرٌ من منهج المحاجَّة القائمِ على التعصب، ولكنه مع ذلك لا يُجْدي في المقارنة بين الشاعرَين؛ لأن المقارنة إنما تنعقد فيما يتفقانِ فيه؛ ومن ثَم كتَب المؤلف ذلك الجزء الهام الذي يبتدئ من ص١٧٤ إلى آخر الكتاب المطبوع، ثم يستمرُّ في المخطوط الذي ينتهي دون أن تنتهيَ المقارنة؛ لأن الكتاب ناقصٌ — كما قلنا سابقًا — والمقارنة التي بين أيدينا لا تشمل إلا على المطالع والخروج وجزءٍ من المدح. وأما بقية أغراض الشعر فغيرُ موجودة، مع أن المؤلف قد أشار إلى بعضِها — كما قلنا — مثل المراثي. والظاهر أن المؤلف قد رأى أن التشبيهات والأمثال لا تختصُّ بمعنًى من المعاني التي قارن بينها، ولا تدخل في غرضٍ بذاته من أغراض الشعر، بل تأتي — كما جرَت عادةُ الشعراء — في سياق المعاني والأغراض الأخرى؛ ولذلك خصَّهما ببابَين مُنفردَين. وهما أيضًا مفقودان.</p><p><br /></p><p>ودراسة المؤلف في هذا الجزء أشبهُ بالمقارنة وتوضيح الخصائص منها بالموازنة وإصدارِ الأحكام، أو قُل: إنها من الأمرَين.</p><p><br /></p><p>هذه هي خُطة الكتاب العامَّة، وهي خطةٌ كما نرى سليمةٌ واضحة؛ إذ يتناول المؤلفُ موضوعَ درسِه في مراحلَ ثلاث، لكلِّ مرحلة منهجُها: مُحاجَّة فمُوازنة فمُقارنة.</p><p><br /></p><p>خطة الكتاب واضحة، ولكن توزيعه في أجزاء مضطرب؛ فياقوت قد نصَّ في معجم الأدباء (جزء ٣، ص٥٩) على أن الكتاب في عشَرة أجزاء، ولكننا لا نتبيَّن أساس التقسيم: أهو عدد الأوراق أم وحدة الموضوع؟ وآثارُ ذلك واضحة في الكتاب؛ فالمؤلف نفسُه قد وقف بالأجزاء عند مواضع لا ندري سرَّ اختياره لها. وننظر في تلك الأجزاء فنرى أن المؤلف قد جعل الجزءَ الأول مكوَّنًا من مُحاجَّة الخصمَين ثم سرقات أبي تمام. وهذا الجزء ينتهي عند ص٥٤ من الكتاب المطبوع؛ بدليل أن المؤلف في تلك الصفحة يستأنفُ الحديث بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبِه وسلم. قال أبو القاسم الحسنُ بن بِشرٍ الآمدي عفا الله عنه: قد ذكرتُ في الجزء الأول احتجاجَ كلِّ فرقة من أصحاب أبي تمام حبيبِ بن أوسٍ الطائيِّ وأبي عُبَادة الوليدِ بن عبد الله البُحتري على الأخرى في تفضيلِ أحدِهما على الآخَر، وقلتُ إني أبتدئ هذا البابَ بذكر معايبهما لأختم الكتاب بوصف محاسنهما، فأتبعتُ ذلك بما خرَّجتُه من سرقات أبي تمام، وبيَّضت آخرَ الجزء لأُلحِق به ما وجدتُه منها في دواوين الشعراء، فعلَّمت عليه، وما أجده بعد ذلك.» وهذا نصٌّ يُستفاد منه أنه قد أضاف سرقات أبي تمام (ص٢٣–٥٤) إلى احتجاج الخصمَين، وجعل منهما الجزءَ الأول. وهذا لا يتمشَّى مع منطق التأليف؛ إذ إن سرقات أبي تمام كان من المنتظر أن تُضاف إلى أخطائه وعيوبه، لا أن تُفصَل لتُضاف إلى فصل احتجاج الخصمين.</p><p><br /></p><p>وفي ص١٠٥، يعود المؤلف فيستأنفُ من جديدٍ بقوله: «قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي: قد ذكرتُ في الجزء الثاني من الموازنة بين شعرِ حبيبٍ الطائي وشعر أبي عُبادة الوليد بن عبيد الله البحتري؛ خطأَ أبي تمام في الألفاظ والمعاني، وبيَّنتُ آخِرَ الجزء لأُلحِقَ به ما يمرُّ من ذلك في شعره، وأستدركَه من بعدُ في قصائده. وأنا أذكر في هذا الجزء الرَّذْلَ من ألفاظه، والساقطَ من معانيه، والقبيحَ من استعاراته، والمستكرَهَ المتعقد من نسجِه ونظمه.»</p><p><br /></p><p>وإذن فالجزء الثاني هو ما يشتمل على أخطاء أبي تمام (٥٥–١٠٥) في الكتاب المطبوع، والجزء الثالث هو ما يشتمل على عيوب أبي تمام (ص١٠٥–١٢٢) من المطبوع.</p><p><br /></p><p>وفي ص١٢٤، يستأنف المؤلف مرةً ثالثة فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبِه أجمعين. قال أبو القاسم الحسنُ بن بشر الآمدي: لما كنتُ خرجتُ مساوئَ أبي تمام وابتدأتُ بسرقاته، وجَب أن أبتدئ من مساوئ البحتريِّ بسرقاته. فأمَّا مساوئ البحتريِّ من غير السرقات، فقد دقَّقتُ أن أظفر له بشيءٍ يكون إزاء ما أخرَجتُه من مساوئ أبي تمام من سائر الأنواع، فلم أجد في شعره — لشدة تحرُّزه، وجودةِ طبعه، وتهذيبِه ألفاظَه — إلا أبياتًا يسيرةً أنا أذكرُها عند الفراغ من سرقاته، فإنْ مرَّ بي شيءٌ منها ألحقتُه بها إن شاء الله تعالى.»</p><p><br /></p><p>والظاهر من هذا النصِّ أن المؤلف قد جمَع دراسته للبحتري في جزءٍ واحد، يذهب من ص١٢٤ إلى ص١٦٦، وفيه يدرس سرقاته، وبخاصةٍ ما كان منها من أبي تمام، ثم أخطاءه في الألفاظ والمعاني، وما عِيبَ عليه من أوجُه البديع واضطرابِ الأوزان. ويكون هذا الجزء الرابع، يُضمِّنه كلَّ انتقاداته على البُحتري، بينما رأيناه يوزع انتقاداته لأبي تمام في الثلاثة الأجزاء السابقة. وليس لهذا وجهٌ سوى أن ما وجده من المآخذ على أبي تمام كثير، بينما مآخذُه على البحتري محصورةٌ كما قال هو نفسُه، وإن كنَّا نرى أنه كان من الأصحِّ أن يجمع ما يختصُّ بكل شاعر في جزءٍ بمفرده، رغم طول هذا وقِصَر ذاك.</p><p><br /></p><p>وفي ص١٦٦، يعود المؤلف فيستأنف: «قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي: «وأنا أذكرُ في هذا الجزء المعانيَ التي يتفق فيها الطائيَّان، فأُوازِنُ بين معنًى ومعنًى، وأقول أيُّهما أشعر».» ولكنه لا يفعل شيئًا من ذلك، بل يأخذ في الحديث عن النقد وأصوله في بضع صفحات، ثم يتحدث عن فضلِ أبي تمام وفضل البحتري، وكل هذا لا يَشغَل إلا ثمانيَ صفحات (من ص١٦٦–١٧٤)؛ حيث يستأنفُ من جديد: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وآلِه وسلَّم. وقد انتهيتُ الآن إلى الموازنة، وكان الأحسنُ أن أوازنَ بين البيتين …» وهنا يأخذ فعلًا في الموازنة التي تستمرُّ إلى آخر الجزء المطبوع والمخطوط معًا.</p><p><br /></p><p>وننظر في هذه النصوص، فنرى أن الأجزاء الأربعة الأولى معروفةٌ لدينا على وجهٍ نظنُّه ثابتًا؛ إذ دلَّنَا المؤلفُ نفسُه عليها، وهي:</p><p>(١)ص١–٥٤ في المطبوع، ويشمل الخُصومةَ وسرقات أبي تمام.</p><p>(٢)ص٥٤–١٠٥ في المطبوع، وبه أخطاءُ أبي تمام.</p><p>(٣)ص١٠٥–١٢٤ في المطبوع، وبه عيوبُ أبي تمام.</p><p>(٤)ص١٢٤–١٦٦ في المطبوع، وهو خاصٌّ بالبحتري: سرقاته وأخطائه وعيوبه. وأما بعدَ هذه الأجزاء فالأمرُ مضطرب، وليس لدينا أيُّ نصٍّ يوجِّهنا بعد ذلك إلا ما نجده على غلاف الجزء المخطوط الذي يبتدئ بالموازنة، التي نُشر جزءٌ منها في المطبوع ابتداءً من ص١٧٤؛ إذ نجد «الكتاب الثامن من الموازنة»، فإذا صحَّ أن الموازنة تبتدئ من الجزء الثامن، وجب علينا أن نتساءل عن الأجزاء الخامس والسادس والسابع. والذي نراه للجواب على هذا السؤال هو أن الجزء الخامس هو ذلك الذي يذهب من ص١٦٦ إلى ص١٧٤. وقد كانت خُطة المؤلف الأصلية، كما رأينا، أن يذكر في هذا الموضع محاسنَ الشاعرَين بعد أن فرَغ من ذِكر مساوئهما، ولكنه عندما وصل إلى التنفيذ لم يجد ما يقوله بعد أن استنفَد خصومُ الشاعرَين في المحاجَّة ذِكرَ ما لكلٍّ منهما من فضل؛ ولهذا أخذ المؤلف في مَلْء هذا الجزء بالحديث عن النقد عامَّة، كما يراه هو، وكما يراه اليونانيون والهنود، مُردِفًا ذلك ببعض عباراتٍ عامة مختصَرة عن فضل أبي تمام وفضل البحتري. ويُعزز هذا الفرضَ ما نراه في منهج الآمدي بوجهٍ عام من تفاوُتٍ بين الخطة الأولى والخطة التي نفَّذها فعلًا.</p><p>وهو نفسُه يُنبِّهنا إلى ذلك عندما يقول ص١٧٤ عند بَدْئه للموازنة التفصيلية: «وكان الأحسن أن أوازنَ بين البيتين أو القطعتين إذا اتفَقتا في الوزن أو القافية وإعراب القافية، ولكن هذا لا يكاد يتَّفق مع اتفاق المعاني التي إليها المَقْصَد، وهي المرمى والغرَض.» وإذا ذكرنا أن خطته الأولى كانت المقارنةَ بين القصائد والمقطوعات إذا اتفقت في الوزن والقافية وإعراب القافية؛ وضَح لنا أنه قد غيَّر عند التنفيذ منهجَه، وإذن فلا غرابةَ في أن يختصر الحديثَ عن مساوئ الشاعرَين عندما لم يرَ داعيًا للإطالة، وأن يجعل من ذلك الباب رغم إيجازه جزءًا مفردًا. وفي استئنافه ص١٦٦ وص١٧٤ ما يدلُّ على ذلك. وهذا إذن هو الجزءُ الخامس.</p><p><br /></p><p>وأما الجزءان السادس والسابع، فالذي نُرجحه هو أن أحدَهما عبارةٌ عن ردِّ الآمدي على القطربُّلي في كتابه عن أغلاط أبي تمام وخطئه. والآمديُّ نفسُه هو الذي يدعونا إلى اعتبار هذا الردِّ جزءًا من الموازنة يدخل في باب مَحاسن أبي تمام؛ إذ يقول: «وقد بيَّنتُ خطأه (خطأ القُطْربلي) فيما أنكره من الصواب في جزءٍ مفرد — إن أحب القارئ أن يجعله من جملةِ هذا الكتاب ويصِلَه بأجزائه فعَل ذلك إن شاء الله تعالى — فالذي تضمَّنَه يدخل في محاسن أبي تمام الذي ذكرتُ أني أختتم كتابي هذا بها وبمحاسن البحتري» (ص٥٦).</p><p><br /></p><p>وأما الجزء السابع فالأمر فيه أشق، وإن كنا نميل إلى الاعتقاد بأنه كان يشتمل على مناقشة المؤلف لمعاني «هل» و«قد» بمناسبة بيت أبي تمام:</p><p><br /></p><p>رضيتُ وهل أرضى إذا كان مُسخطي من الأمر ما فيه رِضَا مَن له الأمرُ؟</p><p>وإلى هذا الجزء يشير المؤلف نفسُه بقوله (ص٧٨ مطبوع): «وقد استقصيتُ القولَ في هذا البيت وما ذكَره النَّحْويون وسيبويه وغيرُه في معنى قد وهل، ولخَّصتُه في جزءٍ مفرد.» وتعبيره (بجزء مفرد) يدلُّ على أنه يعتبره جزءًا من الموازنة لا كتابًا منفصلًا، وهو لم يكتبه إلا تعليقًا على بيتٍ لأبي تمام؛ أحد أطراف الموازنة، كما أنَّ أحدًا من أصحاب التراجم أو الفهارس لم يذكر هذا (الجزء) ككتابٍ للمؤلف. وإذن فمن المعقول أن نعتبرَه جزءًا يُقابل السابع مثلًا، وإن كنا لا نستطيع أن نجزم بمكانه في التسلسل.</p><p><br /></p><p>على هذا النحو نستطيع أن نُسلِّم بأن عبارة «الكتاب الثامن» الموجودةَ على غلاف المخطوط الذي يبتدئ بالموازنة التفصيلية صحيحة.</p><p><br /></p><p>وأما الجزءان التاسع والعاشر، فنظن أنهما كانا يشملان بابَي التشبيه والأمثال اللذَين تحدث عنهما المؤلف، وبذلك تكون إشارة «ياقوت» إلى أن الكتاب في عشَرة أجزاء صحيحة.</p><p><br /></p><p>ونُلخص الأجزاء الستة الأخيرة:</p><p>(٥)من ص١٦٦ إلى ١٧٤ من الكتاب المطبوع، وهو باب محاسن الشاعرين.</p><p>(٦)دراسة الآمدي لمعاني «هل» و«قد».</p><p>(٧)رد الآمديِّ على القُطربلي.</p><p>(٨)الموازنة التفصيلية تبدأ من ص١٩٤ من الكتاب المطبوع، وتستمرُّ في المخطوط دون أن تنتهي. وهذه تقع فيما يقرب من ٢٠٠ صفحة من حجم الكتاب المطبوع.</p><p>(٩)باب التشبيه، وهو مفقود.</p><p>(١٠)باب الأمثال، وهو مفقود أيضًا.</p><p>والذي نريد أن نَلفِت إليه النظرَ هو أن الكتاب — كما وصل إلينا — مستقيمٌ لا نقص فيه غير البقية الضائعة من آخره؛ وذلك لأن ردَّ الآمدي على القطربلي ودراسته لمعاني «قد» و«هل» لا دخل لهما بصُلب الكتاب.</p><p><br /></p><p>وإنه وإن يكن التقسيم إلى أجزاء غيرَ محكَم ولا واضح؛ لأنه لا يستند إلى أساسٍ حتى ولا من عدد الورقات — بدليل أنها تتفاوتُ من مائتي صفحة أو يزيد (جزء الموازنة التفصيلية) إلى ثماني صفحات (الجزء الخاص بتفضيل الشاعرَين) — أقول: إنه برغم ذلك يتَّضح لنا منهج المؤلف في بناء كتابه بناءً محكمًا. وأما مسألة الأجزاء فمسألةٌ شكلية لا تؤثر على سياق الحديث في شيء. ونحن لم نقف عندها إلا لتوضيح إشارة ياقوت.</p><p><br /></p><p>•••</p><p><br /></p><p>هذا هو الآمديُّ الناقد، بحَثْنا في منهجه وروحه وثقافته، وعلاقته بالنقَّاد السابقين له، وحدَّدنا أهميتَه من الناحية التاريخية، وفصَّلنا القول في كتابه الهام. وأما موضوعات نقدِه والنظريات التي نستطيع أن نستخلِصَها من دراسته لهذين الشاعرين ومن مقارنته لهما بغيرهما من الشعراء القدماء والمعاصرين؛ فذلك ما سوف نراه في الجزء الثاني من بحثنا عندما نَعرِض للسرقات والموازنة والمقاييس التي انتهى إليها النقاد. وقد أصبح النقدُ منهجيًّا — كما رأينا عند الآمدي، وكما سنرى عند علي بن عبد العزيز الجُرجاني. فهذان الرجلان — على تفاوُتٍ في النسَب — هما ناقدا العرب اللذان لا نظير لهما.</p><p><br /></p><p>وقبل الكلام على الجُرجاني، لا بدَّ من استعراض الخصومة التي نشأَت حول المتنبي، والتمييزِ بين ما فيها من عناصرَ شخصية وعناصر فنِّية؛ لنستطيع أن نفهمَ موقفَ صاحب الوساطة منها. وكتابه الهامُّ لم يُكتب إلا بعدَ أن اتضح الموقف وهدَأَت حِدةُ النقاد بموت المتنبي. وهو في هذا كلِّه كالموازنة؛ ومن ثَم عَظُمَت قيمة هذين الكتابين. ولئن كان كتاب الجرجاني (تُوفِّي سنة ٣٦٦ﻫ) قد كُتب في زمنٍ قريب من الخصومة (تُوفي المتنبي سنة ٣٥٥ﻫ)، إلا أن هذا القاضيَ النبيلَ قد وجد في هدوء طبعه، وسلامة حكمه، وخبرته بالعدل، ما أمكنه من أن ينظر في شعر الشاعر وآراء النقاد فيه نظرةً نزيهة، نجَتْ بدفاعه عن المتنبي من كلِّ تعصُّب أو مُغالطة.</p><p><br /></p><p>١ الموازنة، ص١٧٦.</p><p>٢ راجِع كلَّ هذه الحقائق وتفاصيلها في الموازنة، من ص١٧٦–١٨٠.</p><p>٣ وفي رواية: «قيد الشِّبر.»</p><p>٤ قارن قدامة، ص٦٠.</p><p>٥ نقد الشعر، ص٧٢.</p><p>٦ ص٦٩ من كتابه.</p>أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-76021568349341346892023-04-22T14:58:00.001-07:002023-04-22T14:58:27.660-07:00البنيوية من النشأة حتى الانهيار<p>البنيوية: </p><p>من المعلوم أنّ التطوّر هو سُنّةُ الطبيعَةِ، لذلك فإنّ نظْرة الإنسان إلى الفنّ والجَمال تَتَغيَّر أيضًا وتتطوّر لأسباب مختلفة ومتعدّدة. ومن مظاهر هذا التغيُّر في المجال الأدبي تطوّر الإبداعات الأدبية وتعدّد أجناسها وأنواعها. وهو تطوّر صاحبَتْه ثورة في الأساليب والدراسات والتحليلات والقراءات... وهكذا ظهرت عدة مناهج تتبنى مبادئ معينة في مقاربة العمل الأدبي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: المنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي وغيرها. وفيما يلي عرض مقتضب يحتوي على التعريف بمنهج باتَ يُصطلح عليه بـ"المنهج البنيوي"، فما معنى البنيوية في النقد الأدبي؟ ومتى كانت نشأتها؟ وكيف نشأت وانتعشت؟ ومِن أين أفادت؟ وما هي مبادئها؟ ومَن هُم روادها في العالم الغربي أولًا والعربي ثانيًا؟ وهل يا ترى استمرت أم تقوضت؟ </p><p>لتوضيح مفهوم مصطلح البنيوية لا بد أولًا من الوقوف على الدلالة اللغوية له، فبالعودة إلى المعاجم اللغوية يتبيَّن أنها تحدّرت من بَنى يبْني بناءً، فهي إذن الصورة أو الهيئة التي شُيِّد عليها بناءٌ ما، وكيفية ذلك التركيب(1). ولا يعني ذلك عملية البناء نفسها أو المواد التي تتكون عملية البناء منها، وإنما تعني كيفية تجميع وتركيب وتأليف هذه المواد لكي نكوّن شيئًا ما ونخْلقه بهدف تأدية وظائف وأغراض معينة.</p><p>أما على صعيد المعنى الاصطلاحي الوضعي، فالبنيوية هي النظر في التصميم الداخلي للأعمال الأدبية بما يشمله من عناصر رئيسة تتضمن الكثير من الرموز والدلالات، بحيث يتبع كل عنصر عنصرًا آخَر.</p><p>متى وأين ظهرت البنيوية في النقد الأدبي؟</p><p>ظهرت البنيوية في نواحٍ عديدة من نواحي الحياة، والذي يهمّنا هنا هو الحديث عن ظهورها في النقد الأدبي.</p><p>إن المدرسة البنيوية، أو المنهج البنيوي لم يظهر في الساحة النقدية الأدبية اللغوية إلا في منتصف القرن العشرين(2)، وتحديدًا في فرنسا في عقد الستينات من القرن العشرين، وذلك عندما قام (تودوروف) بترجمة أعمال الشكلانيين الروس إلى اللغة الفرنسية(3) في كتاب بعنوان: "نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس".</p><p>مصادر البنيوية وروافدها:</p><p>أول وأهم مصادر البنيوية هي حركة الشكلانيين الروس، والتي ظهرت في روسيا بين عامي 1915 و1930، وقد دعت إلى العناية بقراءة النص الأدبي من الداخل، لأن الأدب من منظورهم يُعدّ نظامًا ألْسُنِيًا ذا وسائط إشارية (سيميولوجية) للواقع، وليس انعكاسًا للواقع. ولذلك استبعدوا علاقة الأدب بالأفكار والفلسفة والمجتمع والتاريخ.</p><p>أما المصدر الثاني فـ "هو (النقد الجديد) الذي ظهر في أربعينات وخمسينات القرن العشرين في أمريكا، فقد رأى أعلامُه أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنية [عزرا باوند]، وأنه لا حاجة فيه للمضمون وإنما المهم هو القالب الشعري [هيوم]-، وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاته [جون كرو رانسوم]"(4).</p><p>وأما المصدر الثالث فهو ذيوع صيت علم اللسانيات الحديث، والذي يتقاطع مع المدرسة الشكلانية الروسية، ولعل هذا المصدر هو أهم مصادر البنيوية، ولا سيما "ألسنية دي سوسير" الذي يُعد رائد الألسنية البنيوية، بسبب محاضراته (دروس في الألسنية العامة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بنية) إلا إن الاتجاهات البنيوية كلها قد خرجت من ألسنيّته، فيكون هو قد مهّد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظامًا لغويًا خاصًّا. وفرّق بين اللغة والكلام: فـ(اللغة) عنده هي نتاج المجتمع للملكة الكلامية، أما (الكلام) فهو حدَث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتية للمتكلم(5).</p><p>وأما المصدر الرابع فهو ما يسمى "حلقة براغ"، وهي حلقة دراسية مكوّنة من ثلة من علماء اللغة في براغ -عاصمة التشيك-، وهذه الحلقة وإن كان زعيمها "ماتياس" إلا أن المحرّك الرئيس لها هو نفسه مؤسس المدرسة الشكلية الروسية "ياكبسون" الذي تنقّل بين روسيا وبراغ والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، فكان أينما حلّ بشّر بآرائه، وكان له دَور فعّال في نشر الوعي بالنظرية الجديدة وترسيخها في أوساط المثقفين. ومن هنا التقط علماء حلقة براغ مشعل الدراسات اللغوية الحديثة الذي صب سوسير زيته ونسجتْ الشكلية خيوطه وأخذوا يتحدّثون بشكل صريح متماسك عن بنائية اللغة(6).</p><p>هل تختلف البنيوية عن الشكلانية؟</p><p>لا شكّ أنّ ثمة فرقًا بينهما، فبالإمكان رصد نقاط الاختلاف بينهما، والمتمثلة أساسًا في كون الشكلانية وضَعتْ "أسُس الاختلاف بين الشكل والمضمون داعيةً إلى الاعتناء أكثر بالشكل على حساب المضمون، أما البنيوية فقد حاولت دمج الشكل في المضمون والدالّ في المدلول (المعنى)، لأن الدال الواحد لا بد أن يُنتج مدلولات مختلفة بالنسبة لشخصين أو متلقّيَين اثنين مختلفَين حسب التجارب الفردية. وعليه يصير النص واحدًا والقراءات متعددة"(7).</p><p>لماذا نشأت البنيوية؟</p><p>تَقدّمَ في بداية المبحث أنّ التجديد والتطوير هو أمر طبيعي، وعليه فإنّ المنهج البنيوي إنما نشأ في مجال النقد الأدبي مواكبةً لمتطلبات العصر وثقافته وما توصّل إليه العلْمُ آنذاك.</p><p>ومِن عوامل النشوء توفُّر المقدّمات التي سلفَ ذكرُها والتي كانت من مصادر هذه المدرسة وروافدها.</p><p>كما اتفق العديد من الدارسين والنقاد على أن الشكلانية والبنيوية قد ظهرتا معًا كردِّ فعلٍ ضدَّ اللاعقلانية الرومانسية، وعلى التحليلات التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي، ويُقصد بذلك تلكم النزعة الماركسية بالدرجة الأولى(8).</p><p>يقول ديتش: "أدَّت الثورة ضد المجمل الأدبيِّ -مع استعماله للتاريخ والسيرة استعمالًا غير محدَّد- إلى ثورةٍ من نَحو ما على التاريخ والسيرة، أو قُل: أدَّت إلى القول بأنَّ هذين أَدَاتان لا حاجة للنَّاقِد بهما؛ فالمهمَّة الأولى للنَّاقد هي أن يصِف الآثار الأدبيَّة بدقَّة مستقصية، وأن يجد قِيمتها على أساسٍ مِن ذلك الوصف، فتركّز الاهتمام على تحليل الأثَر الأدبيِّ معزولًا عن أيَّة قرينة، بدلًا من الإجمال التاريخيِّ لعصرٍ من العصور"(9).</p><p>كما تُعد فلسفة كانْت، التي لا تؤمن إلا بالظواهر الحسية والتي تقوم على الوقائع التجريبية، هي الأساس الفكري والعقدي عند البنيوية(10). فالبنيوية إذَن تؤمن بالظاهرة كبنية منعزلة عن أسبابها وعللها، وعما يحيط بها، وتسعى إلى تحليلها وتفكيكها إلى عناصرها الأولية من أجل فهمها وإدراكها. إذن فإن شيوع هذه الفلسفة وتأصّلها في عقول وقلوب روّاد البنيوية، يُعد من أهم عوامل نشوء البنيوية في النقد الأدبي.</p><p>أعلام النقد البنيوي:</p><p>من أعلام النقد البنيوي في الغرب: رولان بارت، وتزفيتان تودوروف، وجيرار جينيت، وبليخانوف وغيرهم.</p><p>أما في العالم العربي فمِنهم على سبيل المثال لا الحصر: حميد الحميداني، وصلاح فضل، ومحمد مفتاح.</p><p> يُذكَر أنّ مِن أوائل الذين عُرّبت مؤلفاتهم، هو جان ماري أوزياس، فقد تم تعريب كتابه "البنيوية" على يد ميخائيل مخول، ونشرته وزارة الثقافة السورية عام 1972. وهو أول دراسة شاملة عن البنيوية تُرجمت إلى اللغة العربية. والكتاب يقع في قسمين: قسم أوّل عرّف فيه بالبنيوية، وعلاقتها بالمجال الحيوي، وبعلم اللغة، وبعلم العلامات والإشارات والدلالات. كما عرّف بروّاد البنيوية في مجالات اختصاصهم: شتراوس الأنثربولوجي، وفوكو الابستيمولوجي، ولاكان النفساني، وألتوسير الماركسي. وأما القسم الثاني فقد جمع دراسات لبعض أعلام البنيوية: شتراوس (يرد على الأسئلة)، وجيرار جينييت (في النقد البنيوي)، وبول ريكور في (البنية والتفسير)، وجان بويون في (سارتر وشتراوس)، ولوقاد هوش في (الانثروبولوجيا البنيوية)(11).</p><p>ما هو هدف البنيوية(12)؟</p><p>لقد وضع البنيويون نصب أعينهم غاية كبرى تتمثل في دراسة أبنية العمل الأدبي وعلاقات بعضها بالبعض الآخر، وكيفية أدائها لوظائفها الجمالية، واختبار لغة الكتابة الأدبية عن طريق رصد مدى تماسكها، وتنظيمها المنطقي والرمزي، ومدى قوتها وضعفها بصرف النظر عن الحقيقة التي تعكسها.</p><p>وقد رفعوا شعارًا عريضًا وهو: "النص، ولا شيء غير النص" أي البحث في داخل النص فقط عما يُشكّل أدبيته -أي طابعه الأدبي-. وقد حاولوا من خلال ذلك علْمنةَ الأدب، أي إضفاء الطابع العلمي الموضوعي على عمَلِية الاشتغال عليه، بقصد تجاوز الأحكام المغرضة والإيديولوجية التي قد تشوّه هذه الممارسة النقدية -بزعمهم-. </p><p>أهم مبادئ البنيوية:</p><p>إن أبرز المبادئ التي قامت عليها البنيوية هو مبدأ أنّ "الأدب نصّ مادّيّ تام منغلق على نفسه"(13) أي أن دراسة الأعمال الأدبية عملية تتم في ذاتها، بغض النظر عن المحيط الذي أنتجت فيه؛ فالنص الأدبي منغلقٌ في وجه كل التأويلات غير البريئة التي تعطيه أبعادًا اجتماعية أو نفسية أو حتى تاريخية، ومادّيٌّ في كونه قائمًا على اللغة أي الكلمات والجُمَل. بالإضافة إلى ذلك هناك مبدأ مهم نادى به رولان بارت ألا وهو قوله: "اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف" وذلك حين ضمَّن هذا التصور في مقالته «موت المؤلف» من كتابه «نقد وحقيقة»(14)؛ وهذا يعني إلغاء شخصية الكاتب لكي يتولّد المعنى بعيدًا عن كل المؤثرات الخارجية. على أنّ بعض الدارسين يعدّ هذه المقالة من أوائل مراحل ما بعد البنيوية.</p><p>هذا، وتجدر الإشارة إلى أن البنيوية لا تُعنى بالمعنى بالدرجة الأولى بقدر ما تُعنى بآليات إنتاجهِ وخَلْقِهِ، فـ"البنيوية تنطلق من نقطة وجود المعنى كأمْر مسَلَّم به مفروغ منه، ومن ثم تتحول عن دراسة المعنى إلى آليات خلْق المعنى حسب قواعد علمية، وهذا ما أشرنا إليه باعتباره تجاهلًا تامًا للمعنى"(15).</p><p>هذا وإنّ البنيويين لا يعترفون بالبُعد التاريخي أو التطوري للأدب، إذ يَروْن بـأنه نظام من الرموز والدلالات التي تولَد في النص وتعيش فيه ولا صلة لها بخارجه، لهذا يعدّون أية دراسة ذات منظور تطوري أو تعاقبي معوِّقةً لجهود الناقد الراغب في اكتشاف الأبنية التي ينطوي عليها العمل الأدبي. فرولان بارت -مثلًا- يرى أنّ اللغة أساس العمل الأدبي وعنصر نجاح كل إبداع، ويرى أن مهمة الناقد هي تقديم معنى للعمل الأدبي(16).</p><p>نهاية البينوية!</p><p>يقول الناقد السوري محمد عزام: "إذا كانت (البنيوية) قد انطلقت في النصف الثاني من القرن العشرين فملأت الدنيا وشغلت الناس، فإنها بدأت بالتراجع منذ إضرابات الطلاب الراديكالية في فرنسا عام 1968، مما جعل البنيويين يعيدون النظر في مواقفهم ومنهجهم الذي خرجت من رحمه مناهج نقدية عديدة كالأسلوبية، والسيميائية، والتفكيكية، بالإضافة إلى الألسنية، التي هي عماد هذه المناهج النقدية جميعًا"(17).</p><p>وبهذا يمكن القول: إن البنيوية قد بدأت بالانهيار في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسا ما اصطلح على تسميته «ما بعد البنيوية». وكان رولان بارت وجاك ديريدا أهم فلاسفتها. وكان بارت قد تحول عن البنيوية إلى ما بعد البنيوية، وانتقل في دراسته من أهمية الكاتب في تركيب النص الأدبي باعتماد معايير وبُنًى جاهزة الصنع إلى دور قارئ النص في توليد معانٍ جديدة لا نهاية لها. يؤكد بارت في كتابه «متعة النص» (1975) أنه في غياب الكاتب تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص لإمكانات «اللعب» بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلّيًا فوضويًا عن كل القيود، وإنما تفكيكًا وهدمًا منظَّمين لإنتاج معانٍ أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتِجًا له وليس مستهلِكًا، وهذا أساس المذهب التفكيكي، الذي طوره ديريدا، وهو أساس «مابعد البنيوية»(18).</p><p>كما أنّ كثيرًا من المفكرين والفلاسفة لم يتقبلوا البنيوية -على الرغم من انتشارها السريع- بل وصفوها بالمنهج اللاإنسانيّ، ومن أبرز مَن واجهها ونقد روّادها وساهم في تقويضها: الفيلسوف الفرنسي لوك فيري.</p><p>ومما يدلل على عدم جدوى هذا المنهج وضرورة التخلص منه أن بعض أبرز روّاده قد تحوّلوا عنه وتطوّروا -كما سلَفَ ذِكره-.</p><p> ويرى الناقد البريطاني ليونارد جاكسون أنّ تغيّرًا في أسلوب المعرفة قد حصل في الواقع(19)، كما يصرّح بالسبب الذي أودى بالبنيوية وأَمَاتَها هو أنها منهج ينطوي على تناقضات، على الرغم من أنّ أصحابه أرادوه أن يكون متمتّعًا بخصائص الكمال والتماسك، "في حين أنّ أي نظرية ترمي إلى الكلّيّة هي مستحيلة من حيث المبدأ"(20).</p><p>بهذا العرض المقتضب للمنهج البنيوي، أو المدرسة البنيوية، يمكن للدارس الوقوف على أهم المفاصل المتعلقة بهذا المنهج، من حيث المفهوم، والنشأة -تاريخها وعواملها-، وأبرز رواد هذه المدرسة، كما تم بيان أهم الأهداف والأفكار التي حملتْها البنيوية، وأخيرًا أسباب انهيارها وتقوّضها.</p><p>______الحواشي و الإحالات ____</p><p>(1) يُنظر: ابن منظور: ﻟﺴﺎﻥ ﺍﻟﻌرب. ﻁ1، ﺩﺍﺭ صاﺩﺭ، بيرﻭﺕ، (14/89).</p><p>(2) يُنظر: الواد، حسين: قراءات في مناهج الدراسات الأدبية. سراش للنشر، تونس، 1985، (ص45).</p><p>(3) عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، (ص13).</p><p>(4) المرجع السابق.</p><p>(5) يُنظَر: المرجع نفسه.</p><p>(6) بلقاسم، محمد: النقــد البنيوي، الخلفيات اللسانية والأسس المعرفية والخصائص. جامعة قاصدي مرباح - ورقلة، الجزائر، 2009.</p><p>(7) الكيري، حسناء الإدريسي: البنيوية في النقد الأدبي، مدخل تعريفي. بحث منشور في صحيفة "قاب قوسين" الإلكترونية، بتاريخ: 11/23/2015.</p><p>(8) يُنظَر: المرجع السابق.</p><p>(9) ديتش، ديفيد: مناهج النقد الأدبيّ بين النظرية والتطبيق. ترجمة محمد يوسف نجم، ط1، دار صادر، بيروت، 1967، (ص500).</p><p>(10) مجموعة من الباحثين: البنيوية. بحث صادر عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي.</p><p>(11) أوزياس، جان ماري، وآخرون: البنيوية. ترجمة ميخائيل مخول، وزارة الثقافة، دمشق، 1972.</p><p>(12) يُنظَر: حسناء الإدريسي: البنيوية في النقد الأدبي. مرجع سابق.</p><p>(13) الواد، حسين: قراءات في مناهج الدراسات الأدبية. مرجع سابق، (ص45).</p><p>(14) بارت، رولان: نقد وحقيقة. ترجمة منذر عياشي، ط1، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1994، (ص15-25).</p><p>15) حمودة، عبدالعزيز: الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص. عالَم المعرفة، الكويت، 2003، (ص92).</p><p>(16) كيزويل، إيديت: عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو. ترجمة جابر عصفور، ط1، بغداد، 1985، (ص190).</p><p>(17) عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي. مرجع سابق، (ص9).</p><p>(18) يُراجَع: ستروك، جون: البنيوية وما بعدها، من ليفي شتراوس إلى ديريدا. ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت، 1996.</p><p>(19) جاكسون، ليونارد: بؤس البنيوية. ترجمة ثائر ديب، ط2، دار الفرقد، دمشق، 2008، (ص167).</p><p>(20) المرجع السابق، (ص172)</p><p>_______~~~~~______</p>أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-55194909757692832622022-05-07T03:03:00.001-07:002022-05-07T03:03:24.799-07:00<p>الأسلوبية النصية، تنظير وتطبيق لتحليل النصوص الأدبية، النص الشعري نموذجًا</p><p>24</p><p>كانون1</p><p>2015</p><p><br /></p><p>د. ياسر عبد الحسيب رضوان</p><p>yasser.rad66@yahoo.com</p><p><br /></p><p> التنظير</p><p><br /></p><p>مقدمة</p><p><br /></p><p>هل يستطيع النص الشعري البوح بكل إمكاناته ؟ سؤال إشكالي ، بيد أنه يمنح المتلقي فرصة لمراجعة الذات عند تلقي النص الشعري ومواجهته ، ليس تلك المواجهة التقليدية التي يقف فيها المتلقي أمام المفردات اللغوية ومرادفاتها المعجمية ، أو الأساليب بدلالاتها السطحية المباشرة ، أو الصور جزئية كانت أو كلية ، بدلالاتها المباشرة المتكئة على موروث غني لم نأخذ منه سوى خطوطه العريضة ، دون الغوص فيما أبدعه من نظريات وفيما طرحه علينا من قضايا كانت وما تزال من الثراء بحيث يكون من الغبن ألا نلقي لها البال 0</p><p><br /></p><p>ومن ثمة كان لزامًا علينا ونحن نعيش في عالَمٍ اختفت معه الحدود ، وصار أشبه ما يكون بقرية كونية صغرى ، كفلات التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال البرقية التطور ، والانترنت وغيرها ، أقول كان لزامًا علينا أن نفيد من كل ذلك حتى في تحليل النص الأدبي عامة والشعري منه خاصة ، فلا نقف تلك الوقفة التقليدية التي لم تبارح المعجم العربي أو القاموس اللغوي ، لنوسع من مساحة وقوفنا مع النص ، ولنمد الطرف أمام العلوم الأخرى التي بات النظر فيها آلية من آليات الوصول إلى ما في النص الأدبي من ثراء وقدرة على ربط المتلقي به وتفاعله معه 0</p><p><br /></p><p>وفي ضياء ذلك التقدم العلمي الذي شهده العالم المعاصر كان لابد من الإفادة من علوم : اللغة والنفس والأنثربوجيا والموسيقى والأصوات والمنطق والاتصال وغيرها من العلوم ، لكي نفض مغاليق النص ، ولنفتح بابًا جديدًا يكشف ما في النص من الثراء ، أو بابًا يطرح أسئلة جديدة حول النص ، وما فض مغاليق النص وطرح الأسئلة إلا شواهد وأدلة على أن المتلقي للنص لم يعد ذلك المتلقي السلبي الذي تعجبه هذه اللفظة ، وتأسره هذه الدلالة وتثيره هذه الصورة أو تلك ، وإنما تحول المتلقي في ظل هذا التطور الكوني إلى متلقٍّ فاعلٍ ، منتج للنص شأنه شأن صاحبه 0</p><p><br /></p><p>وفي ظل ذلك التقدم الكوني ، وتطور المناهج والمداخل التقدية التي تواجه النص الأدبي اخترنا منهج أو مدخل : الأسلوبية النصية لنقترب بها من تحليل النص الشعري ، ولتكون معوانًا لكل من يحاول تحليل النصوص الشعرية ، والكشف عن دلالاتها وفنياتها ، وقيمها ، وسوف نقف أمام هذا المنهج البحثي ، نكشفه تاريخيًّا وإجرائيًّا ، ونقف مع الآليات التي يعتمدها في تحليل النصوص الأدبية 0</p><p><br /></p><p>دكتور ياسر عبد الحسيب رضوان</p><p><br /></p><p>أولاً : الأسلوبية :</p><p><br /></p><p>مدخل : </p><p><br /></p><p> شهد القرن العشرون تطوراً هائلاً في مختلف العلوم البشرية التي لم تكن لتعرف الثبات والتجمد ، بل إن عجلة الحياة كانت ولما تزل متحركة ، يحمل كل يوم جديد شاهداً من شواهد هذا التطور ، وكانت العلوم اللغوية من هذه الشواهد فقد تطورت هي الأخرى في العصر الحديث ، وتمخضت عنها علوم ومناهج متعددة كانت الأسلوبية Stylistics واحداً منها إن لم تكن أحدثها ؛ ولأنها تدين في نشأتها وتطورها إلى علم اللغة فقد أفاد منها النقد الأدبي واعتبرها واحداً من مجالات نقد الأدب باعتباره بنية لغوية ينتجها الأديب عن وعي وقصد تامين ، ومن ثمة فقد عنيت الأسلوبية بدراسة النص الأدبي ووصف طريقة الصياغة والتعبير 0 </p><p><br /></p><p>لقد مثلت الأسلوبية ـ في بداية القرن العشرين ـ الملاذ الذي لجأت إليه الدراسات النقدية ، وذلك حين انتبهت إلى تغييب نقد القرن التاسع عشر الاعتناء بالجانب اللغوي للنص ، وقد ظهر ؛ نتيجة لذلك في بداية القرن العشرين اتجاه تزعمه كارل فوسلر الذي ذهب إلى أنه " لكي ندرس التاريخ الأدبي لعصر ما ، فإنه ينبغي على الأقل الاهتمام بالتحليل اللغوي بنفس القدر الذي نهتم فيه بتحليل الاتجاهات السياسية والاجتماعية والدينية لبيئة النص " ([2]) 0</p><p><br /></p><p>ومثل هذا التعريف يجده القارئ في النقد العربي الحديث ، فقد ربط الأستاذ أحمد الشايب بين المعنى اللغوي لمادة " سلب " كما وردت في لسان العرب لابن منظور ، وبين المعنى الاصطلاحي للأسلوب الأدبي بمعناه العام الذي يعرف الأسلوب على أنه :" طريقة الكتابة أو طريقة الإنشاء أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبيربها عن المعاني ؛ قصد الإيضاح والتأثير ؛ أو الضرب من النظم والطريقة فيه " ([4]) 0</p><p><br /></p><p>وهذا التعريف يلمح إلى بعض الحقائق ، وهي :</p><p><br /></p><p>1ـ إن كل أسلوب يعد صورة خاصة بصاحبه ، فالأسلوب هو الرجل في قولة بوفون الشهيرة ، فمن خلاله تتبين طريقة تفكيره ، وكيفية نظرته إلى الأشياء ، وتفسيره لها ، ومن ثمة فالذاتية هي أساس تكوين الأسلوب الذي لا يقتصر على مجرد إظهار إحساسات المنشئ وانفعالاته ، وكذلك لا يتوقف عند حدود بيان الخصائص اللغوية التي يتميز بها هذا الأسلوب أو ذاك ، وإنما يتخطى ذلك كله إلى حد التمازج الكامل بينه وبين صاحبه ، بحيث يصبح الأسلوب وكأنه مرآة عاكسة لشخصية المنشئ الفنية وطبيعته الإنسانية ([6]) 0 </p><p><br /></p><p>2ـ وينشأ عن ذاتية الأسلوب اختلافه ، وتنوعه من مبدع لآخر مع انتفاء عدم التأثير والتأثر بين المبدعين ، فمما لا شك فيه أن أسلوب المبدع هو جماع ثقافته التي اطلع عليها من السابقين عليه ، أو حتى المعاصرين له ، والتي لا تعني غيبوبة ذاتيته وراء كل تلك الثقافات ، وإنما تعني ما قاله بول فاليري " إن الثور ما هو إلا مجموعة خراف مهضومة " تجمعت في أحشائه ؛ لتكون صورته التي هو عليها 0</p><p><br /></p><p>3ـ قد يسبق التحليل الأسلوبي بمجموعة من التحليلات العقائدية والنفسية والفكرية والفلسفية للمبدع ؛ وذلك حتى يثبت ما توصل إليه من نتائج بدأت بتحليل أيدولوجي وسيكولوجي ثم سعت إلى تأكيد ذلك من خلال اللغة 0</p><p><br /></p><p>4ـ في بعض الأحيان قد لا يعبر الأسلوب عن شخصية صاحبه الذي قد يلجأ إلى إخفاء مشاعره وأفكاره المذهبية ؛ خوفاً أو هروباً من عقاب سلطة ، أوغيرها ، وإن كان ذلك من البعد بمكان ؛ لأنه مما لاشك فيه ـ وكما سبق ـ أن الأسلوب الأدبي لا يخرج إلى حيز الوجود ، إلا وقد أخذ من شخصية صاحبه من السمات ما يجعله وقفاً عليه هو وليس غيره ، ومع ذلك فالواقع لا ينفي وجود مثل هذه النوعية من المبدعين 0</p><p><br /></p><p>من زاوية النص :</p><p><br /></p><p>يفرق المنظرون لتحديد الأسلوب من زاوية النص بين وضع اللغة الكائنة في طيات معاجمها ، ووضعها حين تخرج إلى مجال الاستخدام ومن ثم يتعامل هذا التعريف مع اللغة على أنها ذات مستويين ، أولهما : ساكن ويتمثل في وجودها قبل خروجها إلى حقل الاستعمال الخارجي ، وثانيهما : متحرك ، ويقصد به اللغة حين تخرج من أطرها المعجمية بما تحوي من قواعد نحوية وصرفية إلى ميدان عملها ؛ كي تؤدي وظيفتها الإخبارية المنوطة بها ، ونعني بها نقل الأفكار وتوصيل المعلومات ([8]) 0</p><p><br /></p><p>2ـ إن الحركية التي وصف بها المستوى الثاني ترتكز على علاقات التبادل اللفظي ، والبث الكلامي بين مرسِل ومرسَل إليه ، وبينهما نص / خطاب يقوم بعملية التوصيل التي هي الوظيفة الأساسية للكلام 0</p><p><br /></p><p>3ـ إن سكون اللغة في المستوى الأول يخرج النص المدروس من مجال البحث الأسلوبي ؛ لأن هذا المستوى يمثل اللغة العادية ـ المستوى المثالي ـ التي تختلف عن اللغة الأدبية / المستوى الثاني ؛ لأن " اللغة العادية تلقائية لا تصدر عن وعي ، و لا عن اختيار ، وهي تشكل معظم النشاط اللغوي الإنساني " ([10]) وهؤلاء المنظرون ينطلقون في توجههم نحو البنية اللغوية للنص من التفرقة بين نمطي الخطاب ؛ بغية دراسة العمل الأدبي ، وبيان العلاقات بين وحداته المختلفة : الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية والدلالية ، التي تتشكل منها البنية العامة للنص الأدبي ؛ ولذلك فالدراسة الأسلوبية تنصب على النص بوصفه وحدة واحدة وغايتها وصفية باعتبارها منهجاً علمياً 0</p><p><br /></p><p>من زاوية المتلقي :</p><p><br /></p><p>للمتلقي دور هام في العملية الإبداعية ؛ فهو الحكم على جودة النص ، أو رداءته ومن ثم قبوله أو رفضه ، وذلك يحتم على المبدع أن يطوع لغته حتى تخدم فكرته ، بحيث تكون اللغة خاضعة لما هو سائد في عصره من طرائق تعبيرية درج عليها مجتمعه ، وهذه الحتمية إنما تراعي دور المتلقي الذي سوف يصل إليه النص ، فالنص الأدبي يكتب ليقرأ لا ليظل حبيس أدراج المكاتب ، ويترتب على دور المتلقي بعض الحقائق وهي :</p><p><br /></p><p>1ـ ليس ثمة إحساس بقيمة النص الأدبي إلا بمتلقيه ، وتكمن قدرة صاحب النص في نجاحه وقدرته على إيقاظ ذهن القارئ ، وذلك عن طريق المجيء بما لا ينتظر ، واللجوء إلى غير المتوقع مما عرف من قبل بالانحراف عن المألوف والتوجه إلى غير المألوف 0</p><p><br /></p><p>2ـ تنبني هذه النظرة إلى الأسلوب من زاوية المتلقي ، على أساس أن المبدع في نصه إنما يراعي حالة المتلقي وثقافته ، فلكل مقام مقال ـ كما ورد في البلاغة العربية القديمة ـ وخطاب الإنسان لابد أن يكون بما يلائمه ؛ حتى لا ينصرف عن قراءة النص الذي يُعد " وسيطاً لغوياً يقوم بنقل فكر المؤلف إلى قارئه ([12]) والتعريف ـ على بساطته ـ يثير كثيراً من التساؤلات وخاصة حول كلمتي : طريقة ، التعبير " فهما يتسمان باللبس والتعقيد ، ويتعين لتوضيحهما تحليل مراتب التعبير ، وكيفيات توظيفه " ([14]) وحتى يتم للمرء دراسة هذه الخصائص وتمييزها لابد من سلوك طريقتين مختلفتين ـ كما يقول شارل بالي ـ أولاهما : أن نقارن وسائل التعبير في اللغة بوسائل التعبير في لغة أخرى ، وثانيتهما : أن نقارن بين الأنماط التعبيرية الأساسية في اللغة نفسها مراعين الأوساط التي تختص بها ، والمناسبات التي تصلح لها ، والأغراض التي تدعو إلى اختيارها ، وانطلاقاً من ذلك فإن هناك نوعين من علم الأسلوب :ـ</p><p><br /></p><p> أـ علم الأسلوب المقارن الخارجي وهوالذي يدرس خصائص لغة ما فيرشد إلى تصور البنية العضوية لهذه اللغة أو هيكلها 0</p><p><br /></p><p> ب ـ علم الأسلوب الداخلي الذي يحاول أن يحدد العلاقات القائمة بين القول والفكر لدى القائل أو السامع ، ومن ثم فهو يدرس اللغة في علاقاتها بالحياة الواقعية " ([16]) ، ويرى الدكتور شكري عياد أن علم الأسلوب هو الذي " يدرس الإمكانيات التعبيرية للغة أي الوسائل التي يملكها الجهاز اللغوي نفسه لأداء معانٍ تتجاوز الأغراض الأولية للكلام " ([18]) 0</p><p><br /></p><p> إن كل هذه التعريفات لعلم الأسلوب تكاد تتفق على أمر محدد هو توجه علم الأسلوب إلى دراسة لغة النص الأدبي على أساس أن هذا النص إن هو إلا بنية لغوية مخصوصة ينشئها المبدع عن وعي وقصد شديدين مستغلاً كل ما في اللغة من إمكانات كفيلة بأن تضع تجربته أمام المتلقي دونما غموض أو إلغاز ، وهي لا تقنع بهذا فحسب وإنما تشرك معه المتلقي باعتباره منتجاً للرسالة التي ينتجها المبدع ، ومن ثم فهذا العلم " يدرس كيف يقال ما في اللغة " ([20]) 0 هذه الإطلالة على مفهوم الأسلوب والأسلوبية وعلم الأسلوب في الآداب الأوروبية تدفعنا إلى إطلالة مماثلة تقف على تاريخ الأسلوبية والأسلوب ؛ للتوصل إلى موقف التراث العربي منها ، ودور الدكتور شكري عياد في البحث الأسلوبي في الأدب العربي 0</p><p><br /></p><p>الأسلوب والأسلوبية : النشأة والتطور :</p><p><br /></p><p>في الآداب الأوربية : ـ</p><p><br /></p><p>يبدو أن قولة عنترة في صدر بيته الأول من معلقته" هل غادر الشعراء من متردم " صائبة إذا ما أطلقت على أرسطو الذي يبدو وكأنه الأب الشرعي لكل درس في الشعر ونقده ، وإذا كان الحديث عن نظرية الشعر بعامة يبدأ بأرسطو وكتابه فن الشعر ، فإن الحديث عن الأسلوب يبدأ به أيضاً ولكن بكتابه الثاني الخطابة ، فقد أفرد المقالة الثالثة والأخيرة من هذا الكتاب للأسلوب " وإن كان لذلك من دلالة فهي أن دراسة الأسلوب ارتبطت عنده أساساً بالخطابة أكثر من ارتباطها بالشعر " ([22]) 0</p><p><br /></p><p>وقد ميز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الخطابة طبقاً للدوافع إليها ، والموضوع المتكلم فيه ووظيفة الجمهور ، وهذه الأنواع الثلاثة هي : " الخطابة الاستشارية / الحملية ، والخطابة القضائية ، والخطابة الاستدلالية ، أي خطابة المدح والذم" ([24]) فإن كلمة الأسلوب قد اكتسبت شهرة التقسيم الثلاثي الذي استقر عليه بلاغيو العصور الوسطى ، حين ذهبوا إلى وجود ألوان ثلاثة من الأساليب مثلوا لها بنماذج من إنتاج الشاعر الروماني فرجيل الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد ، وذلك كما يلي :</p><p><br /></p><p>أ ـ أسلوب بسيط كما في : قصائد ريفية</p><p><br /></p><p>ب ـ أسلوب متوسط كما في : قصائد زراعية</p><p><br /></p><p>ج ـ أسلوب سامٍ كما في : الإنيادة ([26]) ، ثم يأتي جورج بوفون في القرن الثامن عشر ليهدم هذا التقسيم الطبقي للأسلوب ،مهاجماً فكرة إن الأسلوب هو الطبقة ، ويقول قولته الشهيرة إن الأسلوب هو الرجل تلك التي أدت إلى ربط قيم الأسلوب الجمالية بخلايا الفكر الحية ، والمتغيرة من شخص إلى آخر ، ومن ثم يكون هناك أسلوب خاص بمرحلة زمنية ، أو مدرسة أدبية معينة ، بيد أن تشبيه الأسلوب بالرجل ، وما ينتج عنه من كون الأسلوب ثوباً للفكر يجعل الشك في إمكانية البقاء في حدود هذا التشبيه وارداً ، إذ يثير مثل هذا السؤال : " هل يختلف أسلوب الشعراء الرومانتيكيين الإنجليز عن أسلوب الشعراء الكلاسيكيين الجدد ؛ لأنهم كانوا يعبرون عن أشياء واحدة ، أو لأنهم يقولون أشياء مختلفة ؟ " ([28]) ، وربما كان تركيز مثل هذا المفهوم على شخصية المؤلف ، وما تستدعيه من دراسة النواحي التاريخية والاجتماعية دون التركيز على النص ذاته سلبية وُجهت إليه وربما أدى انتشار هذه السلبية إلى شيء من القطيعة بين المتلقي والنص والمرسل ؛ ولذلك يمكن " بعث مفهوم الأسلوب المركز على المرسِل/ وذلك في إطار سوسيولوجي شريطة تعويض مفهوم الشخصية الشعرية المرسِل القائم على سيكولوجية تقليدية بنموذج مناسب من العناصر السوسيولوـ اقتصادية التي تحدد التكوين الأسلوبي للنصوص" ([30]) 0</p><p><br /></p><p>وخلاصة الأمر في تاريخ الأسلوبية أنه " قديم قدم الاهتمام بأشكال المقولات والنصوص اللغوية " ([32]) وهذه الكثرة من الدراسات تعد مخاضاً طبيعياً لأهمية الدراسة الأسلوبية ، وتعدد مدارسها أو اتجاهاتها التي سوف أشير إليها فيما بعد ، على أن هذا التعدد يدفع الآن إلى التفرقة بين مصطلحيْ : الأسلوب ، والأسلوبية فالأسلوب يعني القواعد العامة ، أو النظام العام ، كأن نتحدث عن أسلوب المعيشة لدى شعب ما ، أو أسلوب العمل في مكان ما ، وقد يعني الخصائص الفردية ، وذلك حينما نتحدث عن كاتب معين ، وهو بهذا المفهوم يكون قديماً قدم الدراسات الإنسانية التي رأينا أرسطو يمهد لها من خلال كتابه الثاني /الخطابة، كما استمر مواكباً مصطلح البلاغة لزمن طويل، حتى قيل : إنها / البلاغـة هي أقدم شاهد على هذه الدراسة بما تقدمه من آثار أثبتت منذ القرن الخامس الميلادي ، وما زالت تؤثر في الأسلوبية إلى يوم الناس هذا ، على حد قول أولريش بيوشل ([34]) ، على أن ظهور مصطلح الأسلوبية كنظرية نقدية تهتم بتحليل النص الأدبي من خلال طرائقه التعبيرية القائمة على اللغة لم يلغ مصطلح الأسلوب ، وإنما تحددت له دائرة ووظيفة في إطار المصطلح الجديد 0</p><p><br /></p><p>في الأدب العربي ونقده :ـ</p><p><br /></p><p>إن القول بأن الأسلوب والأسلوبية مصطلحان حديثان ، كونا نظرية أدبية ونقدية معاصرة تمت في نشأتها إلى التطور الكبير في العلوم اللغوية المعاصرة ، قد يقطع توهم الباحث أن مثل هذه النظرية الأدبية غريبة على التفكير النقدي والبلاغي في التراث العربي ، ومثل هذا الأمر فيه غبن شديد لهذا التراث ، صحيح أن الباحث قد لا يرى هذا المصطلح / الأسلوب بما هو نظرية أدبية في تراثنا العربي ، واختفاء المصطلح لا يعني اختفاء أدواته وإجراءاته ، فالذي يقرأ نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني يدرك أنها " هي نظرية الأسلوب بالمفهوم الحديث له ، وأنه/ عبد القاهر ، لم يستخدم كلمة الأسلوب بدلاً من النظم وذلك بسبب عدم شيوع مصطلح الأسلوب في عصره " ([36]) ، ومعلوم أن هذين العنصرين يمثلان طرفين من أطراف العملية الإبداعية ، وهما : المرسِل والمستقبِل / المتلقي 0</p><p><br /></p><p>وإذا كان ابن خلدون هو الأدق في الحديث عن الأسلوب ـ كما ذهب إلى ذلك الدكتور شكري عياد ، فإن حازم القرطاجني ـ وهو متأخر عن ابن خلدون ـ بقرن من الزمان قد عقد في كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء فصلاً خاصاً بالأسلوب ، مما يدعو إلى القول بأن حازمًا القرطاجني " هو أول مفكر عربي خصص للأسلوب قسماً مستقلاً من كتاب يبحث في أصول البلاغة " ([38]) ، وذلك يعني أن التراث العربي لم يكن غافلاً عن مثل هذه التوظيفات النقدية والمصطلحية ، ويؤكد أيضاً أن نظرية الأسلوب لها جذورها الموغلة في القدم في التراث العربي ، كما تقف في وجه من ذهبوا إلى سلب التراث من هذه النظرية ([40]) وهو يعد الكتاب الرائد ثم كتاب "التركيب اللغوي للأدب : بحث في فلسفة اللغة والاستطيقا " ([42]) وقد بادر اللغويون أنفسهم إلى هذه المواجهة عندما ناصبوا النقد الأدبي العداءَ ؛ لاختلاف منهجه وغايته وطبيعته عنهم ؛ فقد كانوا " يرون أن النقد الأدبي درستقييمي يقوم على الانطباعات الذاتية ، وعلى الحدس ، ومن ثم فهو يقدم ـ في رأيهم ـ مقاييس موضوعية للعمل الأدبي " ([44]) ومن ثمة كانت العلاقة بين علم الأسلوب وعلم اللغة علاقة تكاملية كل منهما يكمل الآخر وهذا ما نبه إليه هوجو كون " أنّ عالِم الأدب يحتاج في دراساته التحليلية على الأقل إلى قدر من علم اللغة يكفي للفهم اللغوي للنصوص ، كما يحتاج عالِم اللغة إلى قدر من المقولات الأدبية يكفي للإحاطة اللغوية بالنصوص الأدبية " ([46]) عبارة أطلقها جورج مولينيه الناقد الفرنسي رئيس جامعة السوربون الأسبق في كتابه الأسلوبية ، محاولاً من خلالها تتبع الأصول التاريخية التي وقفت وراء النشأة الأولى لعلم الأسلوب ، فكانت البداية ماثلة في البلاغة التي تدين في نشأتها إلى أرسطو وتحديده أنواعها بأنها ثلاثة : المحاجّة والإثبات والإقناع ، ومرورًا ببلاغة الصور المجازية وانتهاءً بالبلاغة المعيارية والتقنينية ، ليصل مولينيه من وراء ذلك كله إلى القول بأن البلاغة مثلت البداية الحقيقية التي انطلق منها علم الأسلوب ، ومن ثمة كانت العلاقة بين البلاغة والأسلوبية وطيدة ، بل إنه قد " تتقلص الأسلوبية أحيانًا حتى لا تغدو أن تكون جزءًا من نموذج التواصل البلاغي ، وتنفصل أحيانًا عن هذا النموذج وتتسع حتى لتكاد تمثل البلاغة كلها باعتبارها ـ الأسلوبية ـ بلاغة مختزلة " ([48]) 0</p><p><br /></p><p>ميدان علم الأسلوب :</p><p><br /></p><p>ينبسط عمل علم الأسلوب على رقعة اللغة كلها ، فجميع الظواهر اللغوية بدءًا من أصغر وحدة لغوية وهي الأصوات ثم الكلمات ، وحتى أبنية الجمل الأكثر تركيبًا يمكن أن تكشف عن خصيصة أساسية في النص المدروس ، ومن ثمة كانت المستويات اللغوية التي يدرسها علم الأسلوب هي :</p><p><br /></p><p>1ـ المستوى الصوتي :</p><p><br /></p><p>إن النص الأدبي بنية لغوية ومن هذا المنطلق تبدأ الأسلوبية بالإفادة من الإمكانات التعبيرية الكامنة في المادة الصوتية التي هي " كل ما يحدث إحساسات عضلية سمعية ، والأصوات وما يتألف منها ، وتعاقب الرنات المختلفة للحركات ، والإيقاع والشدة وطول الصوت والتكرار والتجانس ، وغيرها من الإمكانات التعبيرية الصوتية " ([50]) 0</p><p><br /></p><p>2ـ المستوى اللفظي :</p><p><br /></p><p>تنتقل عدسة المحلل الأسلوبي من الأصوات المفردة إلى الكلمة التي تتكون من مجموعة متضامة من الأصوات اللغوية منتجة دلالات خاصة أو متعددة يستدعيها السياق النصي الذي ينتج المبدع عن وعي وقصد يتجسدان في اختيار مجموعة معينة من المفردات اللغوية دون غيرها ومن ثمة فالمفردات اللغوية " تشكل رصيدًا ضخمًا من الوسائل الأسلوبية التي يتم انتقاء الكلمة المناسبة منها ، وما المترادفات والمترادفات الجزئية والمشتركات واعتباطية دلالة الألفاظ ، والتطور الدائم في ذخيرة المفردات والمرونة في اختيار الكلمة بله العبارات الجاهزة والأقوال المأثورة سوى الأساس الذي يعتمد عليه التنويع في البناء الأسلوبي " ([52]) 0</p><p><br /></p><p>4ـ المستوى التركيبي :</p><p><br /></p><p>يتكئ هذا المستوى أسلوبيًّا على العلاقة النحوية التي تربط التراكيب اللغوية المختلفة ، وخاصة تلك التي تجيء منحرفة عن القاعدة ؛ بسبب ما تتعرض له من تحريف وتغيير يفتح مساحات وآفاقًا نصية أمام البنية النصية ، ومن ثمة فإن المحلل الأسلوبي عند وقوفه أمام المستوى التركيبي فإنه يرصد مجموعة من الظواهر التركيبية مثل : طول الجملة ودرجة تعقيدها ـ بسيطة – مركبة – مختزلة ، وترتيب مكونات الجملة وتوزعها في التركيب ، وتوسيع عناصر الجملة ـ الإطناب بصوره المختلفة ـ وأنواع الجملة – خبرية – اسمية – فعلي - إنشائية – وأخيرًا يرصد ظواهر الحذف والزيادة في التراكيب اللغوية 0</p><p><br /></p><p>5ـ مسوى الصورة :</p><p><br /></p><p>يرصد المحلل الأسلوبي في هذا المستوى المظاهر التعبيرية التي يستخدمها المبدع في النص من خلال عملية التصوير الفني ، فالصورة الفني أو الأدبية إن هي إلا انحرافات دلالية لبعض المفردات اللغوية ، والانحراف أو الانزياح ـ في المصطلح الأسلوبي ـ ينتج عددًا من القيم الأسلوبية التي تُسهم في الثراء الدلالي للنص الأدبي ، وهذا ما يبرز جليًّا في المستوى الحقيقي والمجازي ، حيث الأول هو الأصل والثاني انحراف متعمد عنه ؛ لأنه ينتج قيمًا فنية ودلالية لا ينتجها المستوى الحقيقي ، فالملاحظ " أن جميع الأشكال المجازية تكمن خلفها بواعث تتصل بالعلاقات القائمة بين المعنى الحرفي والمجازي ـ انظر الكناية مثلا ـ ولهذه الحقيقة الدلالية البسيطة أثر بالغ في الأسلوب ؛ فهي تكمن خلف أي نوعٍ من أنواع الصورة ، وتجعل لها تلك الأهمية القصوى في الدراسات النقدية والأسلوبية منذ القِدَم " ([54]) وفي المرحلة الثالثة يعود أدراجه إلى المحيط / النص محاولاً العثور على مظاهر وسمات أسلوبية جديدة ، ومن المعلوم أن ليو سبتزر الألماني الأصل هو صاحب نظرية الدائرة الفيلولوجية ([56]) ويجعل الشعراء المفكرون من النوع الأول ، بينما يجعل الكُتّاب في النوع الثاني ، على أنه ليس ذلك التصنيف وحده في الدراسات الأسلوبية ؛ إذ ثمة تصنيفات أخرى يقوم عليها الأسلوب الأدبي منها العقل والشعور والخيال عند الناقد الإسباني داماسو ألونسو ([58]) فالذي لا شك فيه أن الأسلوبية تتعامل مع النص الأدبي كبنية لغوية ، ومن هذا المنطلق يتم تحليل النص من اللحظة الأولى التي تقع فيها عين الناقد الأسلوبي على النص ، ومن الكلمات التي تُتخذ مفتاحًا للتحليل الأسلوبي تلك العناوين التي يُعنوِن بها الأدباء لنصوصهم ؛ لأنّ " العنوان هو أول ما يلقاه القارئ من العمل الأدبي ، وهو الإشارة الأولى التي يرسلها إليه الشاعر أو الكاتب " ([60]) 0</p><p><br /></p><p>وربما كانت أهمية العنوان باعتباره عتبة من العتبات النصية عند السيميولوجيين مرتبطًا بالشعر الحديث الذي اهتم شعراؤه بوضع عناوين لقصائدهم ، ومع ذلك فإن المدخل الأسلوبي لدراسة النص الشعري عن طريق الكلمات المفاتيح لم يقف عند العنوان وحده ، وإنما امتدت نظرته إلى كل الظواهر الأسلوبية التي تمثل ملمحًا بارزًا من الملامح الأسلوبية في النص ، وتمثل حضورًا يلفت إلى قصدية استخدام المبدع لها ، ومن ثمة ترتبط به ارتباطًا وثيقًا 0</p><p><br /></p><p>ولعل منهج الكلمات المفاتيح بهذه الصورة قد كان أسبق في الوجود من الأسلوبية ؛ حيث ظهرت بوادره عند الفرنسييْن : سانت بيف و شارل بودلير ([62]) 0</p><p><br /></p><p>5ـ المنهج الإحصائي :</p><p><br /></p><p>حاول هذا المنهج أن ينأى عن الانطباعية التي تسم الأعمال النقدية ، وأن يقترب من الناحية الموضوعية في تناوله للنصوص الأدبية بحيث تختفي الأهواء والميول الذاتية عند التحليل وقد كان هذا المنهج هو المسيطر على الدرس الأسلوبي ، وهو يصدر عن اقتناع بأنه من المهم أن نقف على درجة حدوث ظاهرة لغوية معينة في أسلوب شخصي معين وقوفًا دقيقًا لا تكفي فيه الملاحظة السريعة ، ولا يُجزئُ عنه الإحساس الصادر عن الْتقاط الظواهر ؛ ولذلك يقتضي هذا الاتجاه أن يدرس الباحث الأسلوبي بجِدٍّ مباحث علم الإحصاء ، وما يرتبط بها من تحليلات تعين الباحث على تحليل الظواهر الأسلوبية 0 </p><p><br /></p><p>على أنه مما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أن المنهج الإحصائي يتطلب حذرًا من الباحث سواء قي عملية الإحصاء نفسها ، أو ما تتجه إليه ، كذلك لا يجب الإسراف في الناحية الإحصائية بحيث تتحول الدراسة الأدبية إلى عدد من الجداول التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع ، بل يجب أن تُوظّف الناحية الإحصائية في تسليط الضوء على جانب من جوانب التحليل التي تهتم بالدرجة الأولى بالكشف عن جوانب الإبداع الفني ، وتجلية النص الأدبي أمام المتلقي 0</p><p><br /></p><p>ثانيًا : النصية :</p><p><br /></p><p>النص وعلم اللغة النصي :</p><p><br /></p><p>شهدت المناهج العلمية التي تتناول النص الأدبي بالدرس والتحليل تطورًا واسع ، تطورًا لا يقل في أهميته عن ذلك التطور الهائل في العلوم العملية والطبيعية وعلوم الحاسب والإنترنت ووسائل الاتصال التي أصبح العالم في ظلها أشبه ما يكون بقرية كونية صغيرة ، يستطيع المرء أن يحيط علمًا بما يحدث في كل ربوعها دون أن يغادر مجلسه 0</p><p><br /></p><p>وعلم اللغة واحد من تلك العلوم التي لحقها التطور الذي بدأ منذ بدايات القرن العشرين ، واستمر هذا التطور حتى تمخض عن مجموعة كبيرة من المناهج اللغوية التي تتعامل مع الظواهر اللغوية تعاملاً ينطلق من إجراءات ومبادئ كل منهج من هذه المناهج اللغوية التي كان أحدثها حضورًا على الساحة اللغوية والأدبية المعاصرة هو علم اللغة النصي ، أو علم لغة النص أو علم النص ، أو اللسانيات النصية ، وكلها تراكيب لغوية تشير إلى هذا المنهج الأحدث من بين المناهج اللغوية ، فهو " فرع علميٌّ بكر ، تشكَّل تدريجيًّا في النصف الثاني من الستينيات ، والنصف الأول من السبعينيات ـ من القرن العشرين ـ ومنذ ذلك الوقت بدأ يزدهر ازدهارًا عظيمًا ، وتشهد المراجع المتخصصة الوفيرة على القدر الكبير الذي شارك به هذا الوافد الجديد مشاركة فعالة مع العلوم اللغوية في استمرار تطور علم اللغة على وجه الإجمال " ([64]) 0</p><p><br /></p><p>ولقد وقف علماء النص أمام مصطلح النص Text وقفات مستأنية ، وبرزت في دراساتهم تعريفات مختلفة لهذا المصطلح ؛ ولعل مرد ذلك الاختلاف إلى تعدد الاتجاهات النصية وتنوعها إلى درجة أنه " لا يوجد تعريف معترف به من قِبَل عدد مقبول من الباحثين من اتجاهات علم لغة النص Text linguistics بشكل مطلق " ([66]) ونظرية التواصل تُنسب إلى كلود شانون ووارين ويفر اللذين قدما كتابًا شرحا فيه النظرية ، وقد استندا في رؤيتها إلى نموذج الإخبار عبر التلغراف، وحاولا توسيع مجال تطبيقها من خلال نظرية رياضية تمكنهما من تحقيق التواصل الذي عرفاه بأنه " كل نسق يستند إليه فكر معين ليؤثر في غيره" ([68]) 0</p><p><br /></p><p>بينما كان تعريف كل من روبرت دي بوجراند ودريسلر جامعًا فقد عرفاه من خلال نظرة إجرائية روعيت فيها كل المستويات اللغوية على أنه " حدث لغوي صريح تجتمع فيه المعايير السبعة للنصية ، وهي السبك أو الترابط النحوي Cohesion ، والتلاحم الدلالي أو الحبك Coherence، وهذان المعياران يمثلان الركيزة الأساسية للنصية ، والقصد أو الهدف من النص Intentionality ، والقبول Acceptability، والإخبارية Informativity ، والمقامية Situationality ، والتناص Intertextuality ([70]) 0</p><p><br /></p><p>وقد أفاد علم لغة النص من مبادئ هذه العلوم وإجراءاتها عند التعامل مع النص، وهو تعامل لا يقف فقط عند ما يُعرف بنحو الجملة ووصف بنياتها ، وإنما يتعداه إلى ما هو أكثر من ذلك ، حيث الاهتمام " بالعمليات التي بواسطتها يتحقق استعمال اللغة الإنسانية " ([72]) مما يعني أن هناك سياقًا يرد النص فيه ، ويسهم في فهمه وتفسيره، وقد ظهر المنهج السياقي Contextual Approachعلى يد فيرث الذي أكد على الوظيفة الاجتماعية للغة، وجعل للسياق دورًا حاسمًا في فهم النصوص وتحديد دلالات الألفاظ، وذلك ما اتفق عليه علماء اللسانيات المعاصرون؛ لأن علاقة الكلمة مع غيرها في النص هي التي تحدد معناها، كما" أن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة " ([74]) 0</p><p><br /></p><p>معايير النصية standards of textuality :</p><p><br /></p><p>يمكن تقسيم المعايير السبعة التي جعلها دي بو جراند ودريسلر لنصية النص على النحو التالي :</p><p><br /></p><p> 1ـ ما يتصل بالنص وهما معيارا : السبك Cohesion والتلاحم Coherence</p><p><br /></p><p> 2ـ ما يتصل بمستعملي النص ، سواء أكان منتِجًا للنص ، أم مستعملاً ، وهما معيارا : القصد Intentionality ، والقبول Acceptability 0</p><p><br /></p><p> 3ـ ما يتصل بالسياق المادي والثقافي المحيط بالنص موضوع الدرس ، وذلك معايير : الإعلامية أو الإخبارية Informativity والمقامية Situationality ، ثم التناص Intertextuality ([76]) أو " يتعلق بكيفية ربط مكونات سطح النص ،أي المفردات ؛إذ إنها تترابط بعضها ببعض من خلال علاقات وقواعد نحوية في المقام الأول ([78]) وإذا كانت المفردات أو العناصر السطحية تترابط فيما بينها من خلال القواعد النحوية ، فإنها " لا تشكل نصًّا إلا إذا تحقق لها من وسائل السبك ما يجعل النص محتفظًا بكينونته واستمراريته ، ويجمع هذه الوسائل مصطلح عام هو الاعتماد النحوي ، ويتحقق الاعتماد في شبكة هرمية ومتداخلة من الأنواع هي : الاعتماد داخل الجملة ، الاعتماد فيما بين الجمل ، الاعتماد في الفقرة أو المقطوعة ، الاعتماد فيما بين الفقرات أو المقطوعات ، الاعتماد في جملة النص " ([80]) ، ويتمخض هذا الترابط الدلالي بين الأبنية النصية المختلفة عن " بنية دلالية كبرى متلاحمة الأجزاء منسجمة العناصر ، يُطلق عليها : بنية مضمونية /معرفية ، ويقصد بالمفهوم هنا البنية المعرفية التي تحقق الوحدة والتركب " ([82]) ويرتبط القصد بمعياري: السبك والحبك السابقين ، وذاك ما يؤكده بوجراند من أن القصد " يتضمن موقف منشِئ النص من كون صورة ما من صور اللغة قُصِدَ بها أن تكون نصًّا يتمتع بالسبك والالتحام، وأن مثل هذا النص وسيلة من وسائل متابعة خطة معينة للوصول إلى غاية بعينها " ([84]) ، وهذا المعيار يضعنا أمام أطراف العملية الإبداعية الثلاثة: المبدِع والمتلقي ، ثم النصّ الذي يحدد نوعه وسياقه الاجتماعي والثقافي مدى قبول المتلقي لهذا النص أو ذاك ، وإذا كانت هذه السياقات غير لغوية فإن لها دورًا كبيرًا في خاصية التواصل التي يقوم بها النص 0</p><p><br /></p><p>5ـ الإخبارية / الإعلامية Informativity :</p><p><br /></p><p>إن النص يحمل دلالة ما ، أو مجموعة من الدلالات التي يريد المبدع أن يوقف المتلقي عليها ، ولذلك كان من الحتم أن يوجد هذا المعيار من بين معايير النصية ، وهو وإن كانت تتداخل في توصيفه عوامل لغوية وأخرى غير لغوية ، فإنه يختص بنوع المعلومة التي يقدمها النص ، أو يريد أن يخبر بها ، ومدى التأثير الذي تتركه هذه المعلومة على المتلقي ، ثم أمر آخر يشير إليه معيار الإعلامية ، وهو مدى توقع المتلقي لعناصر النص ، ومعرفتها ، أو عدم معرفتها كما أن الإخبارية " تتعلق بتشكيل تيمة النص أو موضوعه ، إذ تُعد تيمة النص تكثيفًا أو تجريدًا لمضمونه، ويمكن أن يُنظر إلى وصف النشاط أو الحركة التي ينتجها النص باختصار المقاصد المعبر عنها لغويًّا، وتجريدها أو تكثيفها بأنه عملية تشكيل لتيمة النص " ([86])0</p><p><br /></p><p>وللمقامية دورها في التواصل البشري ؛ لأن " المنطوقات اللغوية تهدف في العادة إلى الإسهام في الاتصال والتفاعل الاجتماعي " ([88]) 0</p><p><br /></p><p>7ـ التناص Intertextuality :</p><p><br /></p><p>التناص مصطلح نقدي ، يشير إلى دلالات منها : التفاعل النصّي تداخل النصوص ، المتعالقات النصّية ، أو التعالق النصي ، وقد ولد المصطلح على يد المفكرة البولندية الأصل جوليا كريستيفا في عام 1969م التي استنبطته من ميخائيل باختين في دراسته لدستويفسكي، حيث وضع تعددية الأصوات /البوليفونية ، والحوارية /الديالوج دون أن يستخدم مصطلح التناص ، وبعد ذلك احتضنته البنيوية الفرنسية، وما بعدها من اتجاهات سيميائية، وتفكيكية، من كتابات كريستيفا، و بارت، وتودوروف، وغيرهم ، على الرغم من أن بذوره كانت أقدم من ذلك، إذ ساد، في الماضي، إحساس عام بأن دراسة أعظم الأدباء لا يمكن أن تدور في فلكهم وحدهم ، لأن مثل هذه الدراسة لا تكفي لتحقيق المعرفة الكاملة ، ذلك أن معرفة الخلف ينبغي أن ترتبط بمعرفة السلف ، وأكثر المبدعين أصالة هو مَنْ كان في تكوينه رواسب من الأجيال السابقة 0</p><p><br /></p><p>أما على مستوى النصوص الأدبية ، فـإننه يمكن تعريف التناص بأنه " تعالق ـ الدخول في علاقة ـ نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة " ([90]) وارتباط النص بنصوص أخرى لا يعني أن النص اللاحق صورة حرفية لسابقه أو أنه يعالج الدلالة ذاتها وإنما يشير هذا الارتباط إلى علاقات التأثير والتأثر بين النصوص بعضها والبعض الآخر ، وذلك من خلال توظيف بعض الدلالات الجزئية التي يتضمنها النص السابق في سياق النص اللاحق 0</p><p><br /></p><p>وليس شرطًا في التناص أن يكون بين نصوص لمنتجين مختلفين إذ قد يتناص المنتج الواحد مع نفسه ، أو مع نصوص قام هو بإنتاجها سابقًا ، كما أن " التناص قد يقع دون وعيٍ ، حيث يقع تشاكل أو تداخل بين الأبنية والدلالات في عقل منتج وذاكرته ، وقد يحدث بوعيٍ كاملٍ حيث يقصد منتج إلى استخدام معارف سابقة اتخذت أشكالاً ومظاهر مختلفة في صياغات جديدة ، وأبنية مضمونية ومعرفية واسعة ، ومعارف وقدرات خاصة للتعرف على أنواع التناص ، أو وجوده وتحليلها وتقدير قيمتها " ([92]) فقد أخذ يتناول النص بكل ما فيه من البنى النصية المكونة له 0</p><p><br /></p><p> أما عن الشاعر فإنه أحد أبرز الشعراء المصريين في النصف الأول من القرن العشرين، كان رئيسًا لمدرسة أبولو الشعرية، وترأس رابطة الأدباء في الأربعينيات، وقد ترجم العديد من الكتب الإنجليزية والإيطالية إلى العربية، ومن أشهر قصائده «الأطلال» التي غنتها أم كلثوم.</p><p><br /></p><p>ولد إبراهيم ناجي عام ١٨٩٨م بحي شبرا في القاهرة، وتدرج في التعليم إلى أن التحق بمدرسة الطب السلطانية، التي تخرج منها عام ١٩٢٢م، وقد عمل ناجي في القسم الطبي لمصلحة السكة الحديد بمدينة سوهاج، وافتتح هناك عيادته الخاصة، التي اشتهرت بعلاج الفقراء من المرضى بالمجان، ثم نُقل إلى وزارة الصحة، ثم عُيِّن بعدها مراقبًا طبيًّا بوازارة الأوقاف.</p><p><br /></p><p>وقد عرف عن ناجي ثقافته الواسعة التي ساعدته على النجاح في عالم الأدب والشعر رغم ابتعاد تخصصه العلمي عن هذا المجال، حيث نهل من الثقافة العربية القديمة، ودرس العروض والقوافي ، وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من كبار الشعراء العرب ، كما طالع أيضًا كبار شعراء الحضارة الغربية ، خاصة الرومانسيين منهم أمثال ؛ «شيلي» و«بيرون». وقد التقى ناجي بالعديد من أقطاب الأدباء والشعراء في عصره أمثال؛ علي محمود طه، وعبد المعطي الهمشري ، وصالح جودت، حيث انضم إليهم في مدرسة أبولو الشعرية التي كان هو أحد رموزها البارزة.</p><p><br /></p><p>وقد توفي إبراهيم ناجي عام ١٩٥٣م، في عيادته بشبرا الخيمة وهو في الخامسة والخمسين من عمره.</p><p><br /></p><p>نص القصيدة (</p><p><br /></p><p>مَــــــتَى يَجْمَـــــعُ الــدَّهْـــرُ مَا فَرَّقَــــا أَفَــــــاءَا إِلَى حُسْنِهَـــــا الْمُنْتَـــــــقَى أَجَـــــــــدَّا عَـــــلَى ظَهْرِهَـــــــا الْمَوْثِقَا وَفَــــــضَّ الْهَــــــــــوَى سِرَّهَا الْمُغْلَقَا وَنَنْتَظِـــــــرُ الْبَــــــــدْرَ فِي الْمُرْتَــــقَى وَأَطْلَـــــــقَ فِي النَّفْسِ مَـــــــا أَطْلَقَـا وَخَـــــــلَّتْ بِـــــــهِ دَمَهَــــا الْمُهْرَقَـــا؟ لَـــــهُ طِلْبَـــــةٌ عَــــــــزَّ أَنْ تُلْحَقَــــــــــا رَأَيْنَـــــــا بِهَــــــــا هَمَّنَـــــــا الْمُغْرِقَـــــــا يَرَاهَـــــــــا الْفَتَى كُلَّمَــــــــــا أَطْرَقَـــــــــا دِ مَـــــــــــا زَالَ مُلْتَهِبًـــــــــا مُحْرِقَـا وَيَــــــأْبَى التَّذَكُّـــــرُ أَنْ يُشْفِقَــــــــــا وَقَـــــدْ مُــــــزِّقَ الشَّمْلُ مَــــا مُزِّقَــــــا ـدِ وَالشَّيْبُ مَــــــــا كَلَّـــلَ الْمَفْرِقَـــــا وَوَدَّ عَـــــــــلَى اللــــــــــهِ أَنْ يُعْتَقَــــــا ــرِ حَــــــنَّ إِلَى أَسْــــــــــرِهِ مُطْلَقَـــــــــا</p><p><br /></p><p>بين يديْ التحليل الأسلوبي النصي :</p><p><br /></p><p>يقفنا المدخل النظري أمام منهجين متكاملين ، يقوم تحليل النص الأدبي بتجسيد مبادئهما وإجراءاتهما ، فإذا كان المدخل الأسلوبي يقسم النص إلى مستوياته المعروفة بـ لسانيات الجملة مستعينًا في أكثر مراحل هذه المستويات بعلوم اللغة والنحو والصرف والدلالة إلى جانب العلوم الإنسانية الأخرى ، فإن لسانيات النص تستعين بالعلوم نفسها ، مع نظرة أكثر شمولية ، إذ تفيد من مستويات النص : الصوتية الإيقاعية والمعجمية والتركيبية والمجازية بصورة أكثر اتساعًا ، فتنتقل من نحو الجملة إلى لسانيات النص ، أو نحو النص ، فتدرس النص على أنه بنية كبرى تنقسم إلى مجموعة من البنى المتماسكة Coherent على مستوى البنية السطحية المتلاحمة coherence على مستوى بنية العمق ، والتماسك والتلاحم أوالسبك والحبك مصطلحان في اللسانيات النصية يستدعيان مصطلح الوحدة العضوية الذي شاع في النقد العربي الحديث في العقود الأولى من القرن العشرين ، عندما استخدمه العقاد تكأة ينفذ منها إلى الهجوم الشهير على أمير الشعراء أحمد شوقي وشعره عندما اتهم شعره بالتفكك وعدم الترابط ([95]) والوحدة بهذا المعنى وما تسشتدعيه من وحدة الموضوع ووحدة الأثر ، ليست موجودة في القصيدة الجاهلية ، بل إنها ليست بها " وحدة عضوية في شكل من الأشكال ؛ لأنه لا صلة فكرية بين أجزائها " ([97]) 0</p><p><br /></p><p>وربما كان الدكتور غنيمي هلال وأمثاله على حق محصور في زاوية النظر التي نظروا بها إلى القصيدة الجاهلية ، وإلى المنهج النقدي الذي استعانوا به على هذه النظرة النقدية ، أما المناهج الحديثة التي ارتبطت بعلم اللغة وغيره من العلوم الإنسانية ، قد ارتأت غير ذلك ، وذهبت إلى ما في النص من الترابط والتلاحم والسبك والحبك ([99]) وهذا التنظيم والنسق يشيران إلى أن الشعر بناء لبناته أصوات اللغة ، ولابد أن تكون اللبنات متماسكة لتشكل الكلمات ، والكلمات مترابطة لتشكل التراكيب ، وهذه بدورها لابد أن تكون متماسكة لتتشكل القصيدة ويعطيها المعنى الذي " يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر مما يثيره بناء الكلمات كمعانٍ " ([101]) 0</p><p><br /></p><p>وإلى جانب هذه القيم الصوتية للألف ، نراه يستخدم عادة لإطالة الصوت خاصة في مواقف الفقد والفجيعة ، وكل ذلك يعني أن هذه الغلبة الحضورية لصوت الألف في سياق الحزن المسيطر على الشاعر ، إنما توحي بأن الشاعر يبكي أو يتأوه ؛ فأعضاء الجسم بما فيها الوجه تتقلص في حالة الألم ، فتأخذ الشفتان الوضع المناسب لصوت اللِّين A أي الفتحة ومعها يبرز صوت التأوُّه ([103]) حيث نجد صوت اللام يمثل أكبر حضور من بين الأصوات الساكنة ؛ إذ يرد تسعًا وخمسين مرة نسبة لافتة ربما لما يرتبط بصوت هذا الحرف من دلالات إيحائية مثل " الليونة والمرونة والتماسك والالتصاق " ([105]) وهذا التكرار يستدعي دلالات من مثل الترجيع والإلحاح والاضطراب والقلق المصاحب لشاعر يمر بتجربة تذكر المحبوبة وأيام اللقاء ، وكأنما يلح على اللحظة الحاضرة ـ لحظة التذكر ـ بأن تدوم دوامًا يستدعي الرغبة في المكث بالمكان والإقامة فيه التي هي من إيحاءات صوت الراء التكراري " وذلك لأن الإقامة في المكان تتضمن التكرار والاستمرار بداهة ، ولولاه لكان دخول المكان تعريجًا أو زيارة أو مرورًا عابرًا " ([107]) الذي نستشعره في سياق الجو الحزين المسيطر على الشاعر وهو يتذكر تلك الذكريات المجانبة للفرح 0</p><p><br /></p><p>وعندما ننتقل إلى الأصوات المهموسة ، فإننا سوف نجدها مؤكدة لأمثال هذه الدلالات الحزينة المسيطرة على النص وصاحبه ، فهناك صوت التاء المهموس الانفجاري الذي يتكرر خمسًا وعشرين مرة مجسدًا بهذا العدد سعة المساحة الصوتية التي يشغلها مقارنة بغيره من الأصوات المهموسة ، أو المجهورة من غير ما ذكرنا من الأصوات المجهورة ، وربما دلت طريقة حدوثه الشبيهة بصوت قرع الكف بالأصبع بقوة ، على حالة من الاضطراب مع إيحاءت دلالية يستدعيها وجود هذا الصوت في ألفاظه من مثل إيحاءات : الرقة والضعف ([109]) وكل تلك الدلالات ـ لا شك ـ ترتبط أو تؤازر الحالة النفسية للشاعر الآنِّ بفعل الذكريات التي استدعاها مقامه على تلك الصخرة 0</p><p><br /></p><p>ونختم الحديث عن الأصوات المهموسة بصوت الهاء الذي تواتر حضوره سبعًا وعشرين مرة متخذا مثل هذه المساحة الكبيرة في النص ، وفي الواع لم تكن هذه المساحة اعتباطية ، أو عفو الخاطر لهذا الصوت الحنجري المهموس ([111]) خاصة وأنه من الأصوات المهموسة وهو المكون الأساسي لبعض الدوال الانفعالية مثل : آه ، ويه ، أوّاه ، هيا ، ها ، واه ، وأصوات هذه الدوال الانفعالية " قصيرة تعبر عن التوجع أو الدهشة أو الألم أو ما إليها من الوجدانات العابرة " ([113]) وكأن التكرار المنتظم للوحدات الصوتية المتساوية والمتناوبة في مواقعها المتناظرة ، وهذه الدلالة للإيقاع يمكن التماسها في أمرين وعتهما الذاكرة النقدية العربية فيما عُرِف عندها بعلم البديع ، وخاصة ما يشتمل عليه من الظواهر الإيقاعية المتكئة على التكرار المنتظم للوحدات الصوتية ـ الكلمات ، تكرارًا محضًا أو تامًّا ، وتكرارًا شبه محض ، أو تكرارًا جزئيًّا ، ووعته ـ أي الإيقاع ـ في الإطار الموسيقي للنص وهو ما يُعرف بعلم العروض ـ الوزن والقافية ـ وحول البديع والعروض ندارس ما في صخرة الملتقى من هذه الظواهر الإيقاعية ، وذلك على النحو التالي :</p><p><br /></p><p>2-1 ـ بنية البديع بين الحركية والسكون :</p><p><br /></p><p>عُرِف البديع عند أعلامه بأنه " علمٌ يُعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة " ([115]) الذي نجد فيه للدوال اللغوية حركية وسكونًا من شأنهما الإسهام في التحسين والتزيين الذي إذا انفلت من أسر الكُلْفة والتعمُّل أنتج نصًّا جديرًا بلفت الانتباه من خلال العلاقة الجدلية بينه ومتلقيه 0</p><p><br /></p><p>وحركية البديع وسكونه منطلقها الحرية المنوطة بالمبدع في تشكيل النص من خلال وضع الدوال اللغوية في مواضع قد تكون متوازية متناظرة ، وهو ما نعنيه بالسكون ، حيث السكون الموقعي ، وقد تكون متفارقة على مساحة الوحدة النصية الصغرى ، وهي في النص الشعري البيت الواحد 0</p><p><br /></p><p>فمن حيث السكون الموقعي نجد ماعرفته البلاغة العربية بالتصدير ، وهو " أن يُردّ أعجاز الكلام على صدوره ، فيدل بعضه على بعض ، ويسهل استخراج قوافي الشعر " ([117]) وجدنا منها في صخرة الملتقى موضعين ، أولهما جاء ت الكلمة الأولى في أول العجز ، والثانية في موضعها الأصيل ، وهو موضع القافية، على هذا الشكل :</p><p><br /></p><p>ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (0000)ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(0000) وقد جاء عليها قول الشاعر في البيت السادس :</p><p><br /></p><p>6ـ إِذَا نَشَـــــــــــرَ الْغَـــــــــرْبُ أَثْوَابَـــــــــهُ وَأَطْلَـــــــقَ فِي النَّفْسِ مَـــــــا أَطْلَقَـا</p><p><br /></p><p>وأما الموضع الثاني ، فقد جاءت فيه الكلمة الأولى في حشو العجز ، وثبتت الثانية في موضع القافية على هذا الشكل :</p><p><br /></p><p>ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ(0000)ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(0000) وذلك قوله في البيت الثالث عشر :</p><p><br /></p><p>ً 13ـ وَيَا صَخْرَةَ الْعَهْـــــدِ أُبْتُ إِلَيْكِ وَقَـــــدْ مُــــــزِّقَ الشَّمْلُ مَــــا مُزِّقَــــــا</p><p><br /></p><p>حيث ذكر في البيت السادس الفعل الماضي أطلق ، ورده على الصيغة نفسها ومرجعها عينه في أول العجز، في صورة من صور التكرار المحض الذي نراه كذلك في البيت الثالث عشر عندما ذكر الفعل المبني للمجهول مُزّق في موضع القافية ، ثم رده على الصيغة نفسها بالدلالة والمرجع عينه في حشو العجز، وهذا التكرار وإن أنتج دلالة التوكيد الدالة على الإلحاح ، وافتقاد الشاعر للحيلة أو القدرة على كبح المشاعر التي أطلقها غروب الشمس في نفسه ، وعدم قدرته ـ كذلك ـ على لم الشمل بالمحبوبة ذلك الشمل الذي مزقه الفراق ، أقول إذا كان التكرار قد أكد الدلالة في البيتين كليهما ، فإنه فيهما قد ساهم في سبك النص معجميًّا ؛ لأن " هذا التكرار يُعدُّ ضربًا من ضروب الإحالة إلى سابق Anaphora ، بمعنى أن الثاني منهما يُحيل إلى الأول ، ومن ثم يحدث السبك بينهما ، وبالتالي بين الجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الأول من طرفيْ التكرار ، والجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الثاني من طرفيْ التكرار " ([119]) والأبهة والرونق والطلاوة كلها اصطلاحات نقدية تستدعي فكرة الجمال الشكلي الذي يكون عليه بيت الشعر ، والديباجة تستدعي التناسب بين الألفاظ والمعاني كمناسبة الثوب للابسه ، أما مصطلح المائية ، فإنه " مجاز عن الإيقاع " ([121]) من ذلك قول ناجي :</p><p><br /></p><p>12ـ وَيَأْبَى الْوَفَاءُ عَلَيْهِ انْدِمَالا وَيَــــــأْبَى التَّذَكُّـــــرُ أَنْ يُشْفِقَــــــــــا</p><p><br /></p><p> فقد ذكر الفعل المضارع يأبى في صدر المصراع الأول وعلقه بالوفاء ، ثم ردده في صدر المصراع الثاني بالدلالة عينها ولكنه علقه بالتذكر ، ليعطينا القيمة الإيقاعية الناتجة عن التكثيف الصوتي في بداية الصدر وبداية العجز ، وليؤكد الدلالة المرتبطة بالحالة النفسية الحزينة التي تسيطر عليه ، إذ كل شيء يتآزر مع غيره ليزيد من حزنه فلا الوفاء يريد أن يندمل جرحه ، ولا التذكر يريد أن يشفق عليه ، وثَم قيمة ثالثة ينتجها مثل هذا الترديد وهي ربط المتلقي بالنص الشعري عن طريق التوقع وصدعه ، فالمتلقي عندما تقع عينه على الكلمة الأولى ، ثم تقع على الثانية ، يعتقد أن الدلالة فيهما واحدة ، بيد أن توقعه ينصدع عندما يجد الكلمة الثانية قد تعلقت بمعنًى آخر 0</p><p><br /></p><p>لقد ارتبط التصدير والترديد بتكرار الكلمة تكرارًا كليًّا أو محضًا بمعناها نفسه مع اختلاف التعلق والموقعية بينهما ، أما إذا ما اتفقت الكلمتان في الحروف جميعها أو بعضها ، واختلفتا في المعنى ، فذلك ما يُعرف في البلاغة العربية بالجناس ، وله أنواع يفوق الحصر ذكرها ، ومن ثمة سوف نعرّج على القيمة الدلالية أو الإيقاعية التي ينتجها ، فعندما يقول ناجي :</p><p><br /></p><p>14ـ أُرِيـــــكِ مَـــشِيبَ الْفُـــــؤَادِ الشَّهِيــ ــدِ وَالشَّيْبُ مَــــــــا كَلَّـــلَ الْمَفْرِقَـــــا</p><p><br /></p><p>فالمشيب يُراد به الكِبَر والهرم ، والشيب يُراد به البياض الذي يعلو شعر الرأس من الكِبَر وغيره ، وهو جناس اشتقاقي ؛ لتوحد الجذر اللغوي للكلمتين ، وزيادة الأولى على الثانية بحرف الميم ، ونلحظ اشتمالهما على صوت الشين ذي القيمة الإيقاعية الخاصة من بين أصوات العربية فهو صوت التفشي الذي يشير إلى انتشار خروج النفس بين اللسان والحنك ، وانبساطه في الخروج عند النطق بالحرف ، فهو يوصف بهذه الصفة ؛ لأنه ينبثّ وينتشر عند النطق به بسبب رخاوته ، ولعل هذه الصفات الصوتية مما يتناسب وسياق البيت من حيث الدلالة على انتشار الشيب في رأسه ، ويؤكد من ناحية أخرى أن الدالة اللغوية ما في نهاية البيت ، إنما هي ما الموصولية وليست النافية 0</p><p><br /></p><p>2-2 ـ بنية العروض والتأطير الإيقاعي :</p><p><br /></p><p>الشعر ذلك الكلام الموزون المقفى الدال على معنًى في قولة قدامة بن جعفر السائرة ([123]) وذلك ما يشير إلى أن العروض يضم الوزن والقافية اللذين يمثلان الإطار الخارجي الذي يؤطر الإيقاع الخارجي للنص الشعري ، والوزن هو مجموعة التفعيلات العروضية التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي متكئة في بنيتها الأساسية على فكرة الحركة والسكون ؛ لضبط النغمة الإيقاعية في البيت الشعري ومن ثمة القصيدة ككل ، وكانت مجموعة البحور أو الأوزان الشعرية التي نظم عليها الشعراء العرب أشعارهم قبل الخليل وبعده 0</p><p><br /></p><p>ينتمي نص صخرة الملتقى عروضيًّا إلى بحر المتقارب وهو من البحور الصافية أو وحيدة التفعيلة ، ووحدته الوزنية هي فَعُولُنْ ( //¡ / ¡) التي تتكرر ثماني مرات على مساحة البيت ، وموسيقاه تتميز السباطة والسهولة ([125]) ومن ثمة فإن له نغمات يسيرة ليست معقدة ، بل يمكن القول بناءً على بنية تفعيلته : " إنه بحر بسيط النغم مطرد التفاعيل ، مُنسابٌ ، طبليُّ الموسيقا ، ويصلح لكل ما فيه تعداد للصفات ، وتلذذ بجرس الألفاظ ، وسرد للأحداث في نسق مستمر " ([127]) وهذه الصورة هي : </p><p><br /></p><p>فعولن 0 فعولن 0 فعولن 0 فعو فعولن 0 فعولن 0 فعولن 0 فعو</p><p><br /></p><p>حيث جاءت العروض والضرب محذوفة بإسقاط السبب الخفيف / ¡من آخرهما وبقي الوتد المجموع فعو //¡ في البيت الأول ، التزامًا بالتصريع المنتج لبعض الدلالات منها ما يرتبط بالمبدع من حيث دلالته على امتلاك ناصية الشعر ؛ لأن " الفحول والمجيدين من الشعراء القدماء والمحدثين يتوخون ذلك ، ولا يكادون يعدلون عنه " ([129]) 0</p><p><br /></p><p>ومن الحق القول إن مثل هذا الحذف يسهم في سلاسة الإيقاع الوزني للقصيدة وسباطته وسهولته ، ومن ثمة ترقرق المعاني والدلالات وانثيالها مع انثيال الذكريات وتتابعها ، وربما لأجل ذلك وجدنا الشاعر يلجأ إلى بعض ما يلحق وزن المتقارب من جوازات العروض من مثل القبض بحذف الساكن الخامس من آخر التفعيلة في الحشو بحيث تصير فعولن إلى فعولُ ، وقد تم ذلك في اثنيْ عشر بيتًا من أبيات القصيدة أيْ بنسبة 75% سواء تم هذا الحذف في المصراع الأول وحده كما جاء في البيت الأول :</p><p><br /></p><p>سَـــأَلْتُــكِ يَـــا صَخْــــرَةَ الْمُـــــــلْتَقَى مَــــــتَى يَجْمَـــــعُ الــدَّهْـــرُ مَا فَرَّقَــــا //¡/ //¡/¡ //¡/¡ //¡ //¡/¡ //¡/¡//¡/¡//¡ فعــولُ فعـــــــولن فعــــولن فعو فعـــــولن فعـــولن فعــــولن فعو</p><p><br /></p><p>أو أن يكون القبض في حشو الصدر والعجز دون أن يكون ثمة تناظر بين موضعيْ الحذف وذلك قوله :</p><p><br /></p><p>نَرَى الشَّمْسَ ذَائِبَةً فِي الْعُبَابِ وَنَنْتَظِـــــــرُ الْبَــــــــدْرَ فِي الْمُرْتَــــقَى //¡/¡ //¡/ //¡/¡ //¡/¡ //¡/ //¡/¡ //¡/¡ //¡ فعــــــــولن فعول فعــــــولن فعولن فعـول فعــــــــولن فــــــــعولن فعو</p><p><br /></p><p>فقد قبض التفعيلة الثانية بحذف الخامس الساكن منها ، وقبض التفعيلة الأولى من المصراع الثاني ، أو يكون القبض في حشو المصراعين في موضعين متناظرين من ذلك قوله :</p><p><br /></p><p> وَيَأْبَى الْوَفَاءُ عَلَيْهِ انْدِمَالا وَيَــــــأْبَى التَّذَكُّـــــرُ أَنْ يُشْفِقَــــــــــا //¡/¡ //¡/ //¡/¡ //¡/¡ //¡/¡ //¡/ //¡/¡ //¡/¡ فعــــــــولن فعـول فعــــــولن فعــــولن فعــــــــولن فعـول فعــــــولن فعـــــولن</p><p><br /></p><p>حيث جاءت التفعيلة الثانية من المصراع الأول وكذا المصراع الثاني مقبوضة على النحو الموضح في التقطيع العروضي السابق ، وإن كان لنا من تعليق على مثل هذا الحذف ومحاولة ربطه اجتهادًا بالدلالة النصية أمكننا القول : إن القبض يكون بحذف الساكن ، والسكون يستدعي التوقف والتمهل ، والشاعر لا يريد أن يتوقف قليلاً أمام هذه الذكريات الأليمة ، فيختزل من اللغة أو البنية الإيقاعية ما يعوق رغبته في التوقف ، ففي البيت الأول من الأبيات الثلاثة السابقة نراه يقبض التفعيلة الأولى من صدره ؛ لأنه يسأل الصخرة ، فيركز الكلام على نص السؤال ، ومن ثمة لم يلجأ إلى الحذف إلا في العروض والضرب التزامًا بالتصريع ، بينما لا يلجأ إلى القبض ، ربما لائتناسه بالحديث أو الأمنية التي يستدعيها البيت الأول بالجمع بين المفارقين ، وفي البيتين الأخيرين لا يريد الوقوف قليلاً أمام تلك الذكريات الأليمة ، ومن ثم يقوم بعملية القبض العروضي بحذف الساكن الخامس من نهاية التفعيلة في المواضع المشار إليها 0</p><p><br /></p><p>وإذا كان الوزن الشعري قد مثل إطارًا خارجيًّا أطَّر التجربة الشعرية بإطار موسيقي اتسم بالسلاسة والسباطة والاسترسال ، فإن دور القافية في مثل هذا الإيقاع البسيط المسترسل ، لا يقل عن دور الوزن ؛ إذ القافية " بمثابة الفواصل الموسيقية يتوقع السامع ترددها ، ويستمتع بمثل هذا التردد الذي يطرق الآذان في فترات زمنية منتظمة ، وبعد عدد معين من مقاطع ذات نظام خاص يُسمّى بالوزن " ([131]) وإذا ما نظرنا إلى تعريف الخليل بن أحمد الفراهيدي للقافية بأنها " الساكنان الآخران من البيت مع حركة ما قبل الساكن الأول منهما " ([133]) أدركنا أن قافية البيت الأول هي : رْرَقَا ¡//¡ بعد حذف الفاء وفك تضعيف الراء ليصير الحرف الأول منها ساكنًا والثاني متحركًا ، وعلى كلا التعريفين ندرك مدى بساطة القافية في القصيدة وتوسطها في الكثافة مما يمنحها الخفة والسلاسة والاسترسال ، وكلها من خصائص بحر المتقارب الذي بُنيتْ عليه القصيدة ، ومن ثمة جاءت صفاته وصفات قافية القصيدة موائمة لانسياب الذكريات واسترسال الشاعر في ذكرها 0</p><p><br /></p><p>ومما نجح الشاعر فيه إلى جانب اختيار البحر الشعري والقافية والأصوات المفردة أو المركبة في الكلمات ، نجده قد نجح أيضًا في اتخاذ صوت القاف رويًّا للقصيدة ، وهو صوت لهوي انفجاريٌّ مهموس ([135]) وهو ما نلمحه في النص ؛ فقد تخير الشاعر مجموعة من الدوال الزمنية المعبرة دلاليًّا عن تجربته وحالته النفسية من ذلك كلمة الدهر التي ترتبط بالمصائب والمكاره ففي لسان العرب : يُقال : دَهَرَ فُلانًا أمرٌ إِذا أصابه مكروهٌ ، ودَهَرَهُمْ أمرٌ : نزل بهم مكروهٌ ([137]) وهي دلالة مطروحة في النص ؛ إذ ربما كان الغرب : البعد والفراق الذي يشكوه الشاعر هو نفسه جريح كقلبه 0</p><p><br /></p><p>ثم نجد من ألفاظ الزمن كلمة البدر التي تستدعي دلالتين زمانيتين أولاهما : الليل باعتبار أن القمر لا يظهر إلا أثناء الليل ، وظهوره فيه دلالة على أثره النوراني في الكون ؛ إذ يذهب بظلمة الليل ، ويضفي على العاشقين جوًّا من الشاعرية العاطفية التي تمنح الشاعر وأحبابه تشوقًا إليه وترقبًا لظهوره ، أما الدلالة الزمانية الثانية ، فهي دلالة البدر على منتصف الشهر العربي ، حيث يكتمل نور القمر اكتمالاً واضحًا ، ويظهر أثر هذا الاكتمال على الضياء الذي يغمر به الأرض ، وكلا الدلالتين : الجزئية والكلية واردة من خلال السياق النصي ، فالشاعر وأحبابه كانوا ينتظرون البدر كان انتظاره في الليل أو في منتصف الشهر ؛ لأنه لا يكون بدرًا إلا في هذا الوقت من الشهر القمري 0</p><p><br /></p><p>3-4 ـ العُمْر :</p><p><br /></p><p>لقد رأينا الغلبة الحضورية للزمن الماضي مقارنة بالمضارع والدوال الزمنية الأخرى ، وهذه الغلبة الحضورية تقف الشاعر أمام ثنائية الماضي الجميل حيث الفتوة والشباب وعايشة تجربة الحب التي تناسب الفتى دالة العمْر الأولى في النص ، وبرغم ما في الفتوة من القوة والحيوية والشباب والإقبال على الحياة إلا أن الفتى هنا ـ ويبدو أنه الشاعر ـ مأزوم برؤيته لصورة الجرح المطوية داخل قلبه ، وتزيده أزمة إذ لا تفارقه فهو يراها كلما الاستمرارية أطرق أو صمت ساكتًا يعاني آلامها وجرحه لما يزل ملتهبًا محرقًا 0</p><p><br /></p><p>ونأتي إلى الدالة المقابلة لمرحلة الفتوة وهي مرحلة الشيب والمشيب التي تستدعي بياض الشعر حقيقة زمنية كانت ، أو أثرًا من آثار التجربة الحزينة والفشل العاطفي ، وفي كلا الموضعين نجد دالة المشيب والشيب قد وردتا في سياق الحزن والألم ؛ فقد لحق المشيب وما يستدعيه من الضعف والهرم والإرهاق القلبَ بسبب فشل تجربته العاطفية ، رغم أنه الفتى ، هذا إذا ما عتبرنا ما في قوله : ما كلل المفرقَا نافية وليست موصولة ، فتكون دلالة النفي منصرفة إلى الدلالة على الشباب والفتوة في مقابل مشيب الفؤاد ، في حين كانت الموصولة دالة على الرغبة في أن يريها الأمرين جميعًا : مشيب الفؤاد والشيب الذي غطى مفرق الرأس 0</p><p><br /></p><p>3-5 ـ اللون :</p><p><br /></p><p>ليس في النص لفظ صريح دالٌّ على الألوان بيد أن الشاعر استخدم من الدوال اللغوية ما يشير إلى الألوان إشارة تؤكد الجو العام في النص ، فهناك الشمس بدلالتها على لون الصفرة المستدعي لدلالات مثل الضعف والذبول الذي ربما واءم الحالة العاطفية للشاعر الذي شاب قلبه وشعره قبل أوان المشيب ، وهذا المشيب والشيب يستدعي بياض شعر الرأس ، ففيه الدلالة العمرية كما أن فيه الدلالة اللونية باستدعائهما جميعًا معنى الضعف ، ثم نجد اللون الأحمر الذي يتم استدعاؤه مع الألفاظ : خضَّبته ، دمها ، دامي ، الجراح ، ملتهبًا ، مُحرقا ، فالتخضيب يستدعي الخضاب وهو تغيير اللون بحمرة أو صفرة أو غيرهما ، أو هو كل لونٍ غيّر لونَه حُمرَةٌ ([139]) الذي نجده في النص من خلال العباب وهو كثرة الماء أو معظمه وارتفاعه ، وكذلك لفظة السحاب بدلالتها على الزرقة ، وكلتهما وردتا في سياقات حزينة ، فالشمس تبدو مأزومة عندما يرونها ذائبة في العباب ، والسحاب يضم صورة الجرح الذي يعانيه الشاعر في نواحيه 0</p><p><br /></p><p>4ـ المستوى التركيبي :</p><p><br /></p><p>يتجاوز البحث في هذا المستوى حدود الكلمة ومناحي النظر إليها من صرفية لغوية ودلالية ، إلى حيث تركبها في جمل وتراكيب مخصوصة أو مقصودة من شأنها الانتقال " باللغة الشعرية من مستوى الصحة الذي تفرضه الأعراف اللغوية إلى مستوى الجمال الذي يفرضه الأسلوب الأدبي " ([141]) التزامًا وتطبيقًا يضمن الصحة اللغوية التي يصدعها المبدع أو الأديب عندما يعمد إلى إنتاج نص أدبي همه الأساس هو المتعة الجمالية التي يبحث عنها البلاغيون والمبدعون ، فإذا كان اللغويون والنحاة العرب قد " أقاموا مباحثهم على رعاية الأداء المثالي ، فإن البلاغيين ساروا في اتجاه آخر ، حيث أقاموا مباحثهم على أساس انتهاك هذه المثالية والعدول عنها في الأداء الفني " ([143]) 0</p><p><br /></p><p>ولأن اللغة الفنية في الأعمال الأدبية بعيدة من النمطية المثالية المعيارية ، ومتوسلة في الآن عينه بصدع كل ما هو ثابت أو مثالي والانحراف عنه ؛ بغية إنتاج الجمالية المقصودة ، فإننا يمكن أن نلمح في نص صخرة الملتقى مجموعة من البنى الفنية أو الأدبية التي تشكل هذه اللغة الفنية التي لا تغض الطرف عن الأطراف المشاركة في إنتاج النص الأدبي ، وهذه الأطراف هي : المُبدِع المُرْسِل ، والمرسَل إليه ، ثم الرسالة أو النص المرسَل ، والمرسل يقوم هو الآخر براعاية الطرفين الآخرين ، وهذه البنى هي : بنية التوكيد ، بنية العدول ، ثم بنية التحول التي يتغير معها مسار البنية الشكلية للنص إلى بنية دلالية تستدعيها التجربة الفنية للنص 0</p><p><br /></p><p>4-1 ـ بنية التوكيد :</p><p><br /></p><p>لا يقوم المرسِل المبدع بإرسال رسالته أو نصه كيفما اتفق ، وإنما يقوم برعاية حال المرسَل إليه أو المسقبِل الذي قد يكون متحيرًا شاكًّا متردِّدًا في قبول ما يُلقى إليه ، أو أنه غير منتبه إليه ، أو ربما كان المبدع نفسه هو مَنْ يريد لفت النظر إلى رسالته ، وكل ذلك يدفعه إلى زيادة النشاط الكلامي ؛ ليزيل هذه الحيرة والتردد والشكوك ، ويُسهم في إيصال رسالته على النحو الذي يريد ؛ ولذلك رأينا الشاعر في البيت السابع يريد التأكيد على على الصورة اللونية للغروب فيستخدم دالة التأكيد قد مع الفعل الماضي : قد خضبته ، وعندما يريد زيادة التأكيد ، فإنه يأتي بالدوال اللغوية المنتجة لمثل هذه الزيادة ، ذلك ما نلمحه في قوله : وقد مُزِّقَ الشمل مَا مُزِّقَ ، فلا يكتفي باستخدام دالة التوكيد قد ، وإنما يأتي بالمصدر المؤول مفعولاً مطلقًا مؤكد للفعل : ما مُزِّقَ 0</p><p><br /></p><p>4-1-1 ـ بنية العدول :</p><p><br /></p><p>تتكون الجملة في أية لغة من مجموعة من الدوال اللغوية التي تترابط فيما بينها من خلال بعض الروابط من مثل علاقة الإسناد " وهو أهم علاقة في الجملة العربية ؛ فهو نواة الجملة ومحور كل العلاقات الأخرى ؛ لأن في استطاعته وحدَه تكوين جملة تامة ذات معنًى دلاليٍّ متكامل هي الجملة البسيطة " (</p><p><br /></p><p>أَجَـــــــــدَّا عَـــــلَى ظَهْرِهَـــــــا الْمَوْثِقَا</p><p><br /></p><p>نراه يؤخر المفعول به ـ الموثق ـ على الجر والمجرور ـ على ظهرها ـ لأنه يريد المكان أولاً إذ كان شاهدًا على تجربته وعشقه ولقاءاته بالمحبوبة قبل تمزق الشمل بينهما ، وقصدية المكان هذه نجدها في البيت الرابع عندما أخّر المفعول به ـ كتاب الحياة ـ وقدّم الجر والمجرور ـ عليك ـ لأنه جعل الصخرة المكان محور الخطاب في هذه الأبيات ؛ إذ كانت شاهدة على كل ما كان بين الشاعر ومحبوبته التي لم يشأ أن يذكرها صراحة ، أو أن يشير إليها بإشارة المفردة المؤنثة ، أو ضميرها الغائب ، وإنما أدخلها في ضميره وجعل منهما مجموعًا ـ نا المتكلمين ـ لإيهام المتلقي وإثارة فكره حول الواءمة بين الجمع المذكور في النص والتثنية المستدعاة عقلا ومنطقًا 0 </p><p><br /></p><p>ولا تقف دلالة التقديم والتأخير عند المكان ، بل تتعداها إلى الهموم والأحزان والأفكار الحزينة التي سيطرت على الشاعر عند الغروب ؛ لذا نراه في البيت السادس يقدم الجر والمجرور في النفس على المفعول به الدال على الشمول ما ، وفي البيت السابع يقدم الجر والمجرور به على المفعول به دمها ، وفي البيت التاسع يقدم بها على همنا ، وفي الثاني عشر يقدم عليه على اندمالاً ، وفي البيت الخامس عشر يقدم على الله على المفعول المصدر المؤول : أن يُعتق ، وكل ذلك التقديم والتأخير يستدعي التركيز ربما على المتقدم إعمالاً لقاعدة السابق في الذهن سابق في الكلام ، أو للفت النظر إلى المتأخر عن طريق الاستثارة والتشويق للمتلقي 0 </p><p><br /></p><p>ولا تقف دلالة التقديم والتأخير في النص عند حد الدلالات البلاغية المنوطة به ، وإنما هو يقوم بوظيفة نصية بالغة الأهمية ، وهي وظيفة الربط بين المتقدم والمتأخر ، صحيح أن العلاقة النحوية ـ الإسناد – المفعولية – التعلق في حالة الجر والمجرور ـ تقوم بالربط بينهما على مستوى السطح ، إلا أن ثمة رابطة معنوية أو لنقل رابطة دلالية في عقل المتلقي تربط المتقدم بالمتأخر عندما يبحث المتلقي عن عامل التقديم والتأخير وموقعية المتقدم والمتأخر ، أعني أنه عندما ينظر إلى المتأخر ، فإنه يُعيد نظره إلى المتقدم باحثًا عن علاقة بينهما ، ومن ثمة يظل المتلقي مشدودًا إلى النص متفاعلاً معه في علاقة نصية تزيد النص ثراء في الدلالة 0 </p><p><br /></p><p>4-1-1-2 ـ الحذف :</p><p><br /></p><p>ذهب النحاة إلى أن الحذف في التركيب اللغوي لا يتم إلا بقرينة ، وله من الفصاحة والبلاغة ما جعل عبد القاهر الجرجاني يقول عنه : " هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، فإنك ترى به ترك الذكر ـ الحذف ـ أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمّ ما تكون إذا لم تُبِنْ " (</p><p><br /></p><p>أَجَـــــــــدَّا عَـــــلَى ظَهْرِهَـــــــا الْمَوْثِقَا</p><p><br /></p><p>نجده قد بدأ البيت بالدلة الشرطية إذا ، وهذه حقها كما يرى النحويون أن يليها الفعل ؛ لأن جملة الشرط في العربية ينبغي أن تكون فعلية ([147]) ومن ثمة ذهب إلى تقدير الفعل المحذوف بأنه يفسره الفعل المذكور ، وعندما نسلط الكلام النحوي على النص الشعري ، نقول إن الشاعر قد أدخل أداة الشرط على الاسم مباشرة وحذف الفعل الذي فسّره بالمذكور لجّ ، وتسليط أداة الشرط على الاسم هنا صورة من صور الانزياحات الأسلوبية أو العدول والانحراف عن المستوى المعياري المثالي للغة ، بيد أن الشاعر لم يرد مثل هذا التعليل النحوي للتركيب وما أحدثه فيه من حذف ، وإنما أراد أن يسلط الضوء على الاسم الدهر دون الفعل ؛ ليلفت المتلقي إلى إلى ما للدهر من دلالات فيها من السيطرة على المستوى اللغوي ما فيها من القهر والعنت والمصائب والمكاره التي أشرنا إليها من قبل عند حديثنا عن الزمن باعتباره حقلاً دلاليًّا قام الشاعر بتوظيفه في بنية القصيدة 0</p><p><br /></p><p>ومن الحذف في النص ما جاء مع الأفعال الواقعة في موقع القافية ـ بخلاف ما تحدثنا عنه ـ من مثل : فرّق – أطلقَ – يُشْفقَ ، والفعلان الأولان ربما كانت دلالة الحذف متوجهة نحو الإيجاز وتجنب التكرار إلى جانب الوقوع موقع القافية الدالة على انتهاء التركيب اللغوي ، خاصة وأنهما قد سُبِقَا باسم الموصول ما الدال على الشمول ، إلا أننا لا نستبعد دلالات مثل عموم المحذوف وعدم قصره على أمرٍ بعينه ، أو أن المحذوف ذو أثرٍ سلبي على نفسه ومن ثمة لا يريد ذكره ، ومثل ذلك نلمحه مع الفعل الأخير الذي يمكن تقدير المحذوف معه بالجر والمجرور عليه العائد على الشاعر 0</p><p><br /></p><p>وإذا كان التقديم والتأخير قد قام بدوره في الترابط النصي على مستوى البنية السطحية من حيث ربط اللاحق بالسابق ، وجذب المتلقي للموازنة بين المتقدم والمتأخر ومن ثم تظل للنص فاعليته وثراؤه ، فإن الحذف يقوم هو الآخر بدوره في الترابط النصي على مستوى بنية السطح ؛ حيث يُحيل المذكور على المحذوف ، ومن ثمة يظل هذا الأخير حاضرًا في ذهن المتلقي ، كما أنه يقوم بعملية الربط من خلال الوظائف النحوية التي تستدعي حضور المحذوف إلى بنية السطح بعدما كان قابِعًا في بنية العمق ، خصوصًا أن الحذف لا يتم إلا بقرينة سياقية أو حالية ، وهذه القرينة تسهم في الترابط النصي من حيث إشارتها إلى المحذوف 0</p><p><br /></p><p>4-1-2ـ بنية الربط :</p><p><br /></p><p>من الظواهر النصية التي انتبهت إليها اللسانيات النصية ظاهرة الربط والترابط بين البِنَى النصية ، بحيث يبدو النص من توافرها بنية كلية كبرى ، وقد رأينا من قبل التقديم والتأخير والحذف باعتبارهما وظائف نحوية يؤديان دورًا ما في الترابط النصي على مستوى البيت ، أما الربط باعتباره " قرينة لفظية على اتصال أحد المترابطين بالآخر ([149]) وهذه الوحدة المترابطة بجملها المتتابعة وما بينها من علاقات تبرز بصورة جليّة مع أدوات الربط أو علاقاته التي تتعدد وتتنوع في عرف النحويين العرب ، وقد تخيرنا من بينها الربط بأدوات العطف ، والربط بالضمير ، أو ما يُعرف بالإحالة 0</p><p><br /></p><p>4-1-2-1 ـ الربط بالعطف :</p><p><br /></p><p>الربط بأدوات العطف هو واحد من عوامل الربط في اللغة العربية ، فقد أشار ابن السراج النحوي [ ت 316ه ] في حديثه على مواقع الحروف أن الحرف يجيء في ثمانية مواضع منها أنه يُستخدم " ليربط اسمًا باسمٍ : جاءني زيدٌ وعمرو ، أو فعلاً بفعلٍ ، أو فعلاً باسمٍ ، أو على كلام تامٍّ أو ليربط جملة بجملة " ([151]) وهي تنفرد من بين حروف العطف " بكون مُتْبَعِها في الحكم محتملاً للمعية برُجحانٍ ، وللتأخُّر بكثرةٍ ، وللتقدُّم بقِلَّةٍ " (</p><p><br /></p><p>دِ مَـــــــــــا زَالَ مُلْتَهِبًـــــــــا مُحْرِقَـا</p><p><br /></p><p>12ـ وَيَأْبَى الْوَفَاءُ عَلَيْهِ انْدِمَالا</p><p><br /></p><p>وَيَــــــأْبَى التَّذَكُّـــــرُ أَنْ يُشْفِقَــــــــــا</p><p><br /></p><p>وإنما تأكد الربط بين البيتين من خلال الدلالة المطروحة في البيتين ، إذ ثمة جرح ملتهب محرق ومطويٌّ في القلب ، وثمة إصرار من الوفاء والتذكر على عدم اندمال الجرح والشفقة على الشاعر المحزن بالأمرين معًا ، وربما اتسعت الرقعة التي تعمل عليها الواو العاطفة ، أو لنقل تتسع المساحة البيْنية بين المعطوفين كالذي نراه من استخدام الواو العاطفة في صدر البيت الثالث عشر إذ نرى المعطوف عليه هو البيت الأول من النص ، وفيهما يخاطب الصخرة ، ومن ثمة تكون المساحة البينية الواسعة بين المعطوفين استدعاءاتٍ لأصداء دلالية مرتبطة بسؤال الخرة في البيت الأول المعطوف عليه ، وندائها في البيت الثالث عشر المعطوف 0</p><p><br /></p><p>ومن حروف العطف الفاء التي تفيد دلالات منها الترتيب والتتابع بين المعطوفات ، وهي تعطف جملة أو صفة وقد تستدعي دلالة السببية ، وقد يكون معها مهلة تستدعي فقدان التتابع بين المعطوفين ، كما ،ها ترتبط " بعطف مفصَّلٍ على مجملٍ متحدين معنًى ، وبتسويغ الاكتفاء بضمير واحدٍ فيما تضمن جملتين من صلة أو صفة أو خبر " (</p><p><br /></p><p>أَفَــــــاءَا إِلَى حُسْنِهَـــــا الْمُنْتَـــــــقَى</p><p><br /></p><p>وثانيهما قوله :</p><p><br /></p><p>9ـ فَيَا صُورَةً فِي نَوَاحِي السّحَابِ رَأَيْنَـــــــا بِهَــــــــا هَمَّنَـــــــا الْمُغْرِقَـــــــا</p><p><br /></p><p>وهذا يعني أن الشاعر قد وظف الفاء لعطف مجموعة من التراكيب اللغوية ، فقد عطف البيت الثاني على الأول والربط هو الصخرة مناط الخطاب في البيتين ، وعطف البيت التاسع على الأبيات الأربعة قبله ؛ لأنها جميعها تدور حول صورة الشمس عند الغروب وأثرها في نفس الشاعر ويلحظ على استخدام الفاء في الموضعين أنها دخلت على أداة النداء الموجه في البيت الثاني إلى الصخرة المسؤولة في البيت الأول مما يعني انصراف دلالة الفاء العاطفة على الترتيب والتعقيب وكأنه لا يريد أن يبتعد بخطابه عن الصخرة ، مثلما لم يرد الابتعاد عن الصورة في البيت التاسع وما قبله ، وإن كان لم يصرح بها في الأبيات السابقة عليه 0</p><p><br /></p><p>4-1-2-2ـ الربط بالضمير : </p><p><br /></p><p>إذا كانت أدوات العطف قد قامت بالربط بين البنى النصية على مساحات تتراوح بين الضيق والاتساع على النحو الذي سبق ، فإن " الضمائر البارزة ـ متصلة أو منفصلة تؤدي وظيفتها في الربط كما تؤديها أدوات المعاني الرابطة " ([155]) وذلك ما نلحظه في نص صخرة الملتقى الذي وظّف فيه الشاعر الضمائر الثلاثة : المتكلِّم والمخاطب والغائب ، وهي الثلاثة التي يمكن اختزالها نصيًّا إلى اثنين عندما يحدث التمازج بين المتكلم والغائب ، أو المتكلم والمخاطَب أو المخاطب والغائب في دورة فنية تُوحّد الضمائر في النص 0</p><p><br /></p><p>لقد بدأ الشاعر النص بضمير التكلم سَأَلْتُكِ الذي يعني الذات الفردية المتكلمة صاحبة النص والمشاركة في التجربة التي تُعبِّر عنها ، ثم ابتعد عن هذه الفردية ليذوب في الذات الجمعية المعايشة للتجربة عندما يقول في صدر البيت العاشر لَنَا اللهُ في إشارة جامعة تضمه هو والمحبوبة فإنهما صاحبا التجربة العاطفية المنتكَسَة ، ثم يرتد في البيتين الثالث عشر والرابع عشر إلى الذات الفردية في قوله : أُبْتُ ، أُرِيكِ الذي يوحي بأنه وحده العائد إلى الصخرة ، ومن ثمة فهو الذي يُريها ما أصابه من الشيب ، والردة إلى الذات الفردية تستدعي فكرة التوحُّد بين الفرد والمجموع حيث الكل قد أصابه الفراق بآلامه ، وكلٌّ من المتكلم سواء كانت الذات فردية أو جماعية يتحد بضمير الغائب المفرد في الأبيات : الحادي عشر يرى ، والخامس عشر شكا ، وَدَّ ، وفي البيت السادس عشر حَنّ إِلَى أَسْرِهِ ، ويمكن توضيح الترابط بين الضمائر الثلاثة في الخطاطة التالية :</p><p><br /></p><p>clip_image001.png</p><p><br /></p><p>أما ضمائر الخطاب ، فتبدو مرجعيتها واحدة ، وهي الصخرة التي يخاطبها بالنداء في البيت الأول: سألْتُكِ يا صخرة الملتقى ، وفي البيتين الثالث عشر إليكِ ، والرابع عشر أُرِيكِ ، وهذه الضمائر ترتبط فيما بينها ، ورابطة ما بينها من البنى النصية ، ثم نجد تداخل أو توحد الخطاب مع الغائب عندما يتحدث عن الصخرة في البيت الثاني بأنها جمعتْ ، وهذا التوحد يؤكد فكرة اختزال الضمائر الثلاثة إلى اثنين فقد وهما المتكلم والغائب الذي يشترك فيه الشاعر مبدع النص وصاحب التجربة فيه 0</p><p><br /></p><p>5ـ مستوى الصورة :</p><p><br /></p><p>رأينا دور العلاقات النحوية من تقديم وتأخير وحذف وأدوات الربط والضمائر في تحقيق الترابط النصي Cohesion على في البنية السطحية بحيث بدا النص متماسكًا مستعيضًا عن مصطلح الوحدة العضوية ، وإن كانت متحققة بالمعنى الذي أشرنا إليه في هذا البحث ([157]) ولأنها رسمٌ فهي لوحة فنية متوسلة بالعناصر البنائية الرسمية الثلاثة الصوت واللون والحركة ، ومن خلال تآزر هذه العناصر يشعر المتلقي بما يشعر به الشاعر من المشاعر والأحاسيس 0</p><p><br /></p><p>لقد رسم الشاعر من خلال القصيدة لوحة كونية اتخذت من المساء إطارًا زمنيًّا جمع فيه الشاعر المظاهر الكونية من الشمس والقمر والماء والأرض ـ الصخرة ـ والسماء ـ المرتقى ـ وهذه اللوحة الكونية جاءت محملة بظلال من الأحزان والقتامة النفسية التي تآزرت كل عناصر اللوحة في تجسيدها حية أمام المتلقي ، ومن ثمة قلنا من قبل إن الوحدة العضوية بمفهومها السابق ذكره قد تحققت من خلال الصورة الكلية التي رسمها الشاعر متكئًا في رسمها على خطوطها أو عناصرها الثلاثة من صوت ولون وحركة 0</p><p><br /></p><p>ويمكننا التماح عنصر الصوت في دلالة الكلمات عليه من مثل : سألتُكِ – قرأنا – أُبتُ – نقول - أساليب النداء والاستفهام وما تستدعيه من الصوت أو التكلم ، صوت الماء الذي يبدو مع العُباب ، وعنصر اللون يبدو من خلال دلالة الكلمات : الشمس – البدر – خضبته – دمها – السحاب ، أما العنصر الحركي فإنه يبدو مع الكلمات : يجمع – فرّق – أفاءَا – فضّ – نشر – أطلق – أُبْتُ – مزَّق – كلَّل – فكَّ – مطلقًا 0</p><p><br /></p><p>ولم تستغنِ هذه الصورة الكلية عن الصور الجزئية التي جاءت منتشرة في ثنايا النص كله مساهمة في بروز ملامح اللوحة أو الصورة الكلية ، ومن ثمة فقد أعطت النص روحه ورونقه وبهاءه ، وإذا كنا قد التمسنا الحركة والصوت واللون في الصورة الكلية ، فإننا في الصورة الجزئية عند الشاعر نجده يتوسل بتشخيص المجرد أو المعنوي ، وكأنه يعطي هذا المجرد أو ذاك المعنوي الحياة والحركة ، فذلك التشخيص كما يقول العقاد : هو " الملَكَة الخالِقة التي تستمد قدرتها من سِعة الشعور حينًا أو من دقة الشعور حينًا آخر ، فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسماوات من الأجسام والمعاني ، فإذا هي حية كلها ؛ لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة ، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثِّر ، ويهتز لكل هامسة ولامسة ، فيُستبعد كل الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير ، وتوقظه تلك اليقظة وهي جامدة صفر من العاطفة خلوٌّ من الإرادة " ([159]) كما ويوظف دلالة التجسيم كذلك في المركب الإضافي أثوابه من قوله : نشر الغرب أثوابه حيث شبه أشعة الغروب أو ظلاله بالأثواب وحذف المشبه وصرّح بالمشبه به في سياق الاستعارة التصريحية ؛ ليضفي على الصورة الاستعارية هنا مزيدًا من دلالات الحزن التي يبعثها منظر الغروب في نفسه 0</p><p><br /></p><p>ومن الصور الجزئية التي لجأ إليها الشاعر في النص المجاز المرسل المتكئ على العلاقات اللغوية بين الدوال الواردة في النص ، فعندما يذكر الشاعر في البيت الثاني كلمة مهجتين ، إنما لا يريدها هي من حيث دلالتها على القلب ، وإنما يريد صاحبيها ـ العاشقان ـ وإنما ذكرها ؛ لأن عاطفة الحب ارتبطت بها ، ومن ثمة كانت علاقتها بالعاشقين هي العلاقة الجزئية من حيث ذكر الجزء وأراد الكل وهي إحدى علاقات المجاز المرسَل في البلاغة العربية ، وفيها نلحظ قدرة الشاعر على اختيار الكلمات ورعاية ما بينها من علاقات ، وفيها لفت لانتباه المتلقي إلى ما بين الكلمات من علاقات ، وما يثيره في نفسه اختيار الشاعر لأيٍّ من الكلمات من تساؤلات عن عملية الاختيار ، وعلاقة الكلمة المختارة في النص بالكلمة التي لم يذكرها ، ودور ذلك كله في ربط المتلقي بالنص 0</p><p><br /></p><p>وثمة أمر أخير نلحظه في استخدام المجاز المرسل الوحيد في النص وهو كلمة مهجتين التي تعود على العاشقيْن والشاعر أحدهما ، مما يعني ارتباط الكلمة المجازية بالضمائر المبثوثة في النص والتي رأيناها تؤول إلى ضمير واحد هو ضمير الذات المتكلمة ، وكل ذلك يشير إلى دور المجاز المرسل في الترابط النصي على مستوى بنية السطح ، وكذلك على مستوى بنية العمق من حيث اشتراك الكلمة في الدلالة على موضوع التجربة الشعرية في النص 0</p><p><br /></p><p>الخاتمة :</p><p><br /></p><p>في ضياء ما قدمنا من دراسة أسلوبية نصية رأينا من خلالها كيف وظف الشاعر كل المستويات اللغوية للتعبير عن تجربة ذاتية خالصة ، هي تجربة الحب الذي انفصمت أواصره ، وما خلّفه ذلك الانفصام من عاطفة شعرية حزينة ، كما رأينا تضافر كل مستويات البنية الشعرية في تحقيق نصية النص ، رغم أننا لم نتحدث إلا عن مستويْي السبك والحبك ، ومع ذلك فإن المعايير النصية الأخرى متوفرة في النص ، فثمة قصدية Intentionality تشير إلى أن الشاعر قد كان له هدف ومقصد من النص ، وهو هدف من شأنه أن يربط المتلقي بالنص في علاقة تواصلية أشرك الشاعر فيها متلقيه في التجربة الشعرية والعاطفة الشعورية المرتبطة بها 0</p><p><br /></p><p>وثمة مقبولية Acceptability أعانت المتلقي على قبول نص فيه متماسك مترابط ومحبوك حبكة تقنع المتلقي بصدق الشاعر في نصه وعاطفته وتجربته ، وترتب على ذلك توفر معيار المقامية Situationality الذي يربط النص بالسياقات الثقافية والحضارية والتراثية التي أُبْدِع فيها النص ، ومن ثمة يستدعي هذا المعيار وغيره معيار الإخبارية Informativity أو الإعلامية التي تشير إلى اشتمال النص على مجموعة من الدلالات التي يرتبط بعضها ببعض من خلال وسائل الربط المختلفة التي سبق التعرض لها 0 </p><p><br /></p><p>أما معيار التناص Intertextuality وإن لم يرد صراحة اقتصاص الشاعر من تجارب أو نصوص الآخرين ما يُدخله في نصه ، إلا أنه قد تناصَّ في تجربته الشعرية مع كل ما سبقه من تجارب شعرية مماثلة ، ولعل أقربها زمنًا للشاعر تجربة شاعر القطرين مطران خليل مطران في قصيدته المعنونة بالمساء ، تلك التي تقترب إلى حد كبير من نص صخرة الملتقى في التجربة وفي الموضوع ، وفي أساليب التعبير عنه ، وكذلك في المعجم الشعري الذي وظفه إبراهيم ناجي في قصيدته موضوع هذا الدرس 0</p><p><br /></p><p> </p><p><br /></p><p>أولاً : المصادر :</p><p><br /></p><p>ناجي : إبراهيم :</p><p><br /></p><p>1ـ ديوانه - دار العودة – بيروت – 1980م 0</p><p><br /></p><p>ثانيًا : المراجع العربية القديمة :</p><p><br /></p><p>التبريزي : الخطيب :</p><p><br /></p><p>2ـ كتاب الكافي في العروض والقوافي – تحقيق الحساني حسن عبد الله – ط3/1994م – مكتبة الخانجي – القاهرة 0</p><p><br /></p><p>التنوخي : القاضي</p><p><br /></p><p>3ـ كتاب القوافي – تحقيق د/ محمد عوني عبد الرءوف – ط2/2003م – دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة 0</p><p><br /></p><p>الجرجاني : عبد القاهر</p><p><br /></p><p>4ـ دلائل الإعجاز – قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر – مكتبة الخانجي – القاهرة – 2000م</p><p><br /></p><p>ابن جعفر : أبو الفرج قدامة</p><p><br /></p><p>5ـ نقد الشعر : ضبط وشرح محمد عيسى منون – ط1/ 1934م- المطبعة المليجية – القاهرة</p><p><br /></p><p>ابن جني :</p><p><br /></p><p>6ـ الخصائص – تحقيق محمد علي النجار – دار الكتب المصرية 1952م 0 </p><p><br /></p><p>الزمخشري :</p><p><br /></p><p>7ـ الكشاف وفي حاشيته كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال لابن المنير الإسكندري – تحقيق عبد الرزاق المهدي – ط1/1997م – دار إحياء التراث العربي – بيروت </p><p><br /></p><p>ابن السراج :</p><p><br /></p><p>8ـ الأصول في النحو – تحقيق د/ عبد الحسين الفتلي – ط1/1985م- مؤسسة الرسالة- بيروت 0 </p><p><br /></p><p>العسكري : أبو هلال</p><p><br /></p><p>9ـ الصناعتين – تحقيق علي محمد البجاوي و محمد أبو الفضل إبراهيم ط1/ 1952م – دار إحياء الكتب العربية – مصر 0</p><p><br /></p><p>القرطاجني : حازم</p><p><br /></p><p>ـ منهاج البلغاء وسراج الأدباء – ط3/2008م – الدار العربية للكتاب – تونس 0</p><p><br /></p><p>القزويني : الخطيب:</p><p><br /></p><p>10ـ الإيضاح في علوم البلاغة – تحقيق وتعليق د/ عبد الحميد هنداوي – ط1/1990م – مؤسسة المختار – القاهرة 0 </p><p><br /></p><p>القيرواني : ابن رشيق:</p><p><br /></p><p>11ـ الععمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده – تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد – ط5/ 1981م – دار الجيل 0</p><p><br /></p><p>ابن مالك :</p><p><br /></p><p>12ـ تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد – حققه وقدم له محمد كامل بركات – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر- القاهرة 1967م</p><p><br /></p><p>ابن المعتز :</p><p><br /></p><p>13ـ البديع – بعناية وتعليق اغناطيوس كراتشقوفسكي – ط3/ 1982م – دار المسيرة – بيروت</p><p><br /></p><p>ابن منظور :</p><p><br /></p><p>14ـ لسان العرب – تصحيح أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي – ط3/ 1999م – دار إحياء التراث العربي – بيروت 0</p><p><br /></p><p>ثالثًا : المراجع العربية الحديثة :</p><p><br /></p><p>أحمد : د/ محمد فتوح:</p><p><br /></p><p>15ـ شعر المتنبي قراءة أخرى – ط2/ 1988م – دار المعارف – القاهرة 0</p><p><br /></p><p>أنيس : د/ إبراهيم :</p><p><br /></p><p>16ـ الأصوات اللغوية – مكتبة نهضة مصر – د0ت 0</p><p><br /></p><p>17ـ دلالة الألفاظ- ط5/ 1984م - الأنجلو المصرية 0</p><p><br /></p><p>بحيري : د/ سعيد حسن :</p><p><br /></p><p>18ـ علم لغة النص ـ ط1 ـ لونجمان 1997م 0</p><p><br /></p><p>بركة : فاطمة الطبال :</p><p><br /></p><p>19ـ النظرية الألسنية عند رومان جاكوبسون – ط1/1993- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 0</p><p><br /></p><p>بشر : د/ كمال محمد:</p><p><br /></p><p>20ـ علم الأصوات – دار غريب – القاهرة – 2000م 0</p><p><br /></p><p>بلمليح : إدريس :</p><p><br /></p><p>21ـ المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها - كلية الآداب 2005م - الرباط 0</p><p><br /></p><p>حسان : د/ تمام :</p><p><br /></p><p>22ـ اللغة العربية – معناها ومبناها – دار الثقافة – الدار البيضاء – المغرب 1994م 0</p><p><br /></p><p>حسين : د/ جميل عبد المجيد:</p><p><br /></p><p>23ـ البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م 0</p><p><br /></p><p>حميدة د/ مصطفى:</p><p><br /></p><p>24ـ نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية – ط1/ 1997م – لونجمان 0</p><p><br /></p><p>الزناد : الأزهر:</p><p><br /></p><p>25ـ نسيج النص – بحث فيما يكون به الملفوظ نصًّا – ط1/ 1993م- المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء 0</p><p><br /></p><p>سليمان : د/ فتح الله :</p><p><br /></p><p>26ـ الأسلوبية – مدخل نظري ودراسة تطبيقية ـ مكتبة الآداب – القاهرة 1997م</p><p><br /></p><p>السيد : د/ شفيع الدين :</p><p><br /></p><p>27ـ الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي - دار الفكر العربي ـ القاهرة 0</p><p><br /></p><p>28ـ نظرية الأدب – دراسة في المدارس النقدية الحديثة – دار النصر – القاهرة 1998م 0</p><p><br /></p><p>الشايب : أ/ أحمد:</p><p><br /></p><p>29ـ الأسلوب ـ ـط8/ 1991م – مكتبة النهضة المصرية 0</p><p><br /></p><p>ظاظا : د/ حسن:</p><p><br /></p><p>30ـ اللسان والإنسان – مدخل إلى معرفة اللغة – ط2/ 1990م – دار القلم – دمشق 0</p><p><br /></p><p>عباس : أ/حسن :</p><p><br /></p><p>31ـ خصائص الحروف العربية ومعانيها – منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1998م 0</p><p><br /></p><p>العبد : د/ محمد:</p><p><br /></p><p>32ـ اللغة والإبداع الأدبي – ط1/1989م – دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – القاهرة 0 </p><p><br /></p><p>عبد الجليل : د/ عبد القادر:</p><p><br /></p><p>33ـ الأسلوبية وثلاثية الدوائر البلاغية – ط1/ 2002م – دار صفاء للنشر والتوزيع – عَمَّان – الأردن 0 </p><p><br /></p><p>عبد العزيز : د/ محمد حسن:</p><p><br /></p><p>34ـ الربط بين الجمل في اللغة العربية المعاصرة – ط1/2003م – دار الفكر العربي – القاهرة</p><p><br /></p><p>عبد المطلب : د/ محمد :</p><p><br /></p><p>35ـ البلاغة والأسلوبية – ط1/1994م - لونجمان – القاهرة 0</p><p><br /></p><p>العقاد : عباس محمود : </p><p><br /></p><p>36ـ ابن الرومي : حياته من شعره – كتاب الهلال – العدد 214- دار الهلال – مصر – 1969م</p><p><br /></p><p>العقاد والمازني :</p><p><br /></p><p>37ـ الديوان في الأدب والنقد ط4/1997م- دار الشعب 0</p><p><br /></p><p>عمر : د/ أحمد مختار:</p><p><br /></p><p>38ـ علم الدلالة - عالم الكتب ـ ط4/ 1993م - القاهرة 0 </p><p><br /></p><p>39ـ اللغة واللون – ط2/ 1997م - عالم الكتب - القاهرة 0</p><p><br /></p><p>عناني : د/ محمد :</p><p><br /></p><p>40ـ المصطلحات الأدبية الحديثة ـ ط1/1996- لونجمان – مصر 0</p><p><br /></p><p>عياد : د/ شكري محمد :</p><p><br /></p><p>41ـ اتجاهات البحث الأسلوبي – جماعة أصدقاء الكتاب – الجيزة – مصر 1999م 0</p><p><br /></p><p>42ـ اللغة والإبداع – ط1/1998م – انتر ناشيونال – الجيزة – مصر 0</p><p><br /></p><p>43ـ مدخل إلى علم الأسلوب – جماعة أصدقاء الكتاب – 1998م 0</p><p><br /></p><p>فضل : د/ صلاح :</p><p><br /></p><p>44ـ علم الأسلوب ، مبادئه وإجراءاته - ط1/1998م – دار الشروق – القاهرة 0</p><p><br /></p><p>المجذوب : د/ عبد الله الطيب:</p><p><br /></p><p>45ـ المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها – ط2/1989م – مطابع حكومة الكويت 0</p><p><br /></p><p>المطلبي د/ غالب فاضل:</p><p><br /></p><p>46ـ في الأصوات اللغوية – دراسة في أصوات المد اللعربية – دائرة الشئون الثقافية – بغداد 1984م 0</p><p><br /></p><p>مفتاح : د/ محمد:</p><p><br /></p><p>47ـ تحليل الخطاب الشعري :استراتيجية التناص – ط3/ 1992م - المركز الثقافي العربي ـ الرباط</p><p><br /></p><p>48ـ دينامية النص – المركز الثقافي العربي 1990م 0 </p><p><br /></p><p>هلال : د/ محمد غنيمي:</p><p><br /></p><p>49ـ النقد الأدبي الحديث – ط6/2005م – دار نهضة مصر 0</p><p><br /></p><p>رابعًا : المراجع المترجمة :</p><p><br /></p><p>آن جفرسون و ديفيد روبي :</p><p><br /></p><p>50ـ النظرية الأدبية الحديثة – تقديم مقارن - ترجمة سمير مسعود – وزارة الثقافة – دمشق 1992م 0</p><p><br /></p><p>أرسطو :</p><p><br /></p><p>51ـ كتاب الخطابة ، ترجمة د/ إبراهيم سلامة – ط2/1953م - الأنجلو المصرية 0</p><p><br /></p><p>أرشيبالد ماكليش :</p><p><br /></p><p>52ـ الشعر والتجربة – ترجمة سلمى الخضراء – مراجعة توفيق صايغ – دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين 1963 0</p><p><br /></p><p>استيفان أولمان : </p><p><br /></p><p>53ـ دور الكلمة في اللغة ـ ترجمة د/ كمال بشر – مكتبة الشباب 1975م 0</p><p><br /></p><p>تون أ فان دايك :</p><p><br /></p><p>ـ النص والسياق ، ترجمة عبد القادر قنيني - أفريقيا الشرق- الرباط- 2000م </p><p><br /></p><p>جورج مولينيه :</p><p><br /></p><p>54ـ الأسلوبية ، ترجمة د/ بسام بركة ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت الطبعة الأولى 1999 0</p><p><br /></p><p>جي برجشتراسر :</p><p><br /></p><p>55ـ التطور النحوي للغة العربية – تصحيح وتعليق د/ رمضان عبد التواب ط2/1994م – مكتبة الخانجي- القاهرة 0 </p><p><br /></p><p>خوسيا ماريا إيفانكوس :</p><p><br /></p><p>56ـ نظرية اللغة الأدبية – ترجمة د/ حامد أبو أحمد – مكتبة غريب – القاهرة 1992م 0 </p><p><br /></p><p>روبرت دي بوجراند :</p><p><br /></p><p>57ـ النص والخطاب والإجراء - النص والخطاب والإجراء ـ ترجمة د/ تمام حسان عالم الكتب 1998ـ القاهرة 0 </p><p><br /></p><p>رينيه ويلك :</p><p><br /></p><p>58ـ مفاهيم نقدية ـ ترجمة د/ محمد عصفور ـ عالم المعرفة ـ الكويت جمادى الآخرة 1407هـ / فبراير 1987م 0</p><p><br /></p><p>رينيه ويلك وأوستين وارين :</p><p><br /></p><p>59ـ نظرية الأدب – ترجمة محي الدين صبحي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1987م 0</p><p><br /></p><p>سيسل دي لويس :</p><p><br /></p><p>60ـ الصورة الشعرية – ترجمة أحمد نصيف الجنابي ورفيقيه – ط1/ 1982م - دار الرشيد – بغداد 0</p><p><br /></p><p> فولفجانج هاينه مان و ديتر فيهفجر :</p><p><br /></p><p>61ـ مدخل إلى علم لغة النص - ترجمة وتعليق د/ سعيد حسن بحيري - ط1/ 2004م ـ زهراء الشرق ـ القاهرة 0</p><p><br /></p><p>فيلي سانديرس :</p><p><br /></p><p>62ـ نحو نظرية أسلوبية لسانية – ترجمة د/ خالد محمود جمعة – ط1/ 2003م – دار الفكر- دمشق 0</p><p><br /></p><p>ميلكا إيفتش :</p><p><br /></p><p>63ـ اتجاهات البحث اللساني - ترجمة : د/ سعـد مصلوح و د/ وفـاء كامـل ـ المجلس الأعلى للثقافة 1996م 0</p><p><br /></p><p>هانز مير هوف :</p><p><br /></p><p>64ـ الزمن في الأدب – ترجمة أسعد رزوق – مؤسسة سجل العرب – القاهرة 1972م 0</p><p><br /></p><p>هنريش بليث :</p><p><br /></p><p>65ـ البلاغة و الأسلوبية : نحو نموذج سيميائي لتحليل النص - ترجمة د/ محمد العمري ـ أفريقيا الشرق ـ المغرب 1999م 0</p><p><br /></p><p>خامسًا : المراجع الأجنبية :</p><p><br /></p><p>Kirsten Malmkjaer</p><p><br /></p><p>66-The Linguistics Encyclopedia- London And New York 1996 </p><p><br /></p><p>Sylvia Chalker , Edmund Weiner</p><p><br /></p><p>67-The Oxford Dictionary of English Grammar- Oxford university press 1994 0</p><p><br /></p><p>سادسًا : الدوريات :</p><p><br /></p><p>68- مجلة علامات في النقد – مج9 –ج33- النادي الأدبي جدة جمادى الأولى 1420 0 </p><p><br /></p><p>69- مجلة علامات في النقد - مج10 ج/38 ديسمبر2000م 0</p><p><br /></p><p>70- مجلة فصول ، مج/ ، ج1 ، العدد الثاني يناير 1981- الهيئة المصرية العامة للكتاب 0</p><p><br /></p><p>71- مجلة فصول ، مج5 – ع1- أكتوبر 1984 0</p><p><br /></p><p>72- فصول - مج 10ع 2001م 0</p><p><br /></p><p>73– كتاب النادي الثقافي الأدبي بجدة رقم 59– 1410هـ - 1990م</p><p><br /></p><p>74- مجلة نوافذ ، النادي الأدبي الثقافي ، جدة العدد التاسع ، جمادى الأولى 1420 0</p><p><br /></p><p>75- مجلة نوافذ ـ جدة - جمادى الآخرة 1421 - النادي الأدبي – جدة – السعودية 0</p><p><br /></p><p>76- مجلة نوافذ نادي جدة الثقافي الأدبي سبتمبر 2000 م 0</p><p><br /></p><p>77– موقع رابطة أدباء الشام الإلكتروني : الذات المأزومة – قراءة في نونية المثقب العبدي.</p><p><br /></p><p>[2] - د/ محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة ـ ط1/1996- لونجمان – مصر - ص 106 0</p><p><br /></p><p>[4] - أحمد الشايب : الأسلوب ـ السابق ـ ص 46 0</p><p><br /></p><p>[6] - أولريش بيوشل : الأسلوبية اللسانية - ترجمة خالد جمعة ـ مجلة نوافذ ـ جدة - جمادى الآخرة 1421 ص117 0</p><p><br /></p><p>[8] - استيفان أولمان- دور الكلمة في اللغة ـ ترجمة د/ كمال بشر – مكتبة الشباب 1975م ص 149 0</p><p><br /></p><p>[10]- جان ماري كليكنيكيبرغ : من الأسلوبية إلى الشعرية - تقديم وترجمة فريدة الكتاني ـ مجلة نوافذ ، النادي الأدبي الثقافي ، جدة العدد التاسع ، جمادى الأولى 1420 ه ص16</p><p><br /></p><p>[12] - د/ صلاح فضل :علم الأسلوب ، مبادئه وإجراءاته - ط1/1998م – دار الشروق – القاهرة - ص134 0</p><p><br /></p><p>[14] - د/ شكري عياد : اتجاهات البحث الأسلوبي – جماعة أصدقاء الكتاب – الجيزة – مصر 1999م - ص 21 0</p><p><br /></p><p>[16] - ميلكا إيفتش : اتجاهات البحث اللساني - ترجمة : د/ سعـد مصلوح و د/ وفـاء كامـل ـ المجلس الأعلى للثقافة 1996م - ص 137، 138 0</p><p><br /></p><p>[18] - السابق ص 6 0</p><p><br /></p><p>[20] - د/ شكري عياد :اتجاهات البحث الأسلوبي ـ سابق ـ ص 84</p><p><br /></p><p>[22] - جورج مولينيه : الأسلوبية ، ترجمة د/ بسام بركة ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت الطبعة الأولى 1999 ص38 ،39 0</p><p><br /></p><p>[24] - د/ أحمد درويش : الأسلوب والأسلوبية - مجلة فصول ، مج5 – ع1- أكتوبر 1984 ص 61 0</p><p><br /></p><p>[26] - السابق الصفحة نفسها 0</p><p><br /></p><p>[28] - هنريش بليث : البلاغة و الأسلوبية : نحو نموذج سيميائي لتحليل النص - ترجمة د/ محمد العمري ـ أفريقيا الشرق ـ المغرب 1999م - ص 52 0</p><p><br /></p><p>[30] - د/ أحمد درويش : الأسلوب والأسلوبية - مجلة فصول ، أكتوبر 1984 ص 64 0</p><p><br /></p><p>[32] - د/ أحمد درويش : الأسلوب والأسلوبية - مجلة فصول أكتوبر1984 ص63 0</p><p><br /></p><p>[34] - رينيه ويلك : مفاهيم نقدية ـ ترجمة د/ محمد عصفور ـ عالم المعرفة ـ الكويت جمادى الآخرة 1407هـ / فبراير 1987م - ص433 0</p><p><br /></p><p>[36] - د/ محمد عبد المطلب : البلاغة والأسلوبية ـ بتصرف ـ ص 34 ، 36 0</p><p><br /></p><p>[38] - السابق ـ الصفحة نفسها 0</p><p><br /></p><p>[40] - ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في سنة 1939م ، وقد قال الأستاذ الشايب في مقدمة هذه الطبعة " أما بعد فهذه فصول في الأسلوب مهدت لها ببيان ما ينبغي أن نسلكه في درس البلاغة العربية حتى يساير الدراسات الأدبية الأخرى في عصرنا الحديث " ص4 من الطبعة الرابعة للكتاب الصادرة سنة 1956م</p><p><br /></p><p>[42] - د/ شكري عياد : اللغة والإبداع ـ سابق ـ ص 39 0</p><p><br /></p><p>[44] - د/ أحمد درويش : الأسلوب والأسلوبية - مجلة فصول : أكتوبر 1984م – ص 69 0</p><p><br /></p><p>[46] - جورد جوملينيه : الأسلوبية – ترجمة د/ بسام بركة – ط1/1999م – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – ص37 0</p><p><br /></p><p>[48] - د/ محمد عبد المطلب : البلاغة والأسلوبية ـ سابق ت ص 259 0</p><p><br /></p><p>[50] - أولريش بيوشل : الأسلوبية اللسانية – مجلة نوافذ –ع13- سبتمبر 200م – النادي الأدبي – جدة – السعودية – ص 137 0</p><p><br /></p><p>[52] - السابق ص 139 0</p><p><br /></p><p>[54] - د/ شفيع السيد : نظرية الأدب – دراسة في المدارس النقدية الحديثة – دار النصر – القاهرة 1998م – ص 207 0</p><p><br /></p><p>[56] - د/ شفيع السيد : نظرية الأدب ص 209 0</p><p><br /></p><p>[58] - مانويل دي سيلفا : الأسلوبية : علم وتاريخ – ترجمة د/ سليمان العطار – فصول – مج1-ع2- يناير 1981م – الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 140 0</p><p><br /></p><p>[60] - د/ محمد مفتاح : دينامية النص – المركز الثقافي العربي 1990- ص 72 بتصرف يسير </p><p><br /></p><p>[62] - السابق ص 216 0</p><p><br /></p><p>[64] - السابق ص 6 0</p><p><br /></p><p>[66] - فاطمة الطبال بركة : النظرية الألسنية عند رومان جاكوبسون – ط1/1993- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - ص 49 0</p><p><br /></p><p>[68] - Sylvia Chalker , Edmund Weiner : The Oxford Dictionary of English Grammar- p396-397 Oxford university press 1994 0</p><p><br /></p><p>[70] - د/ سعيد حسن بحيري : اتجاهات لغوية معاصرة - مجلة علامات في النقد - مج10 ج/38 ديسمبر2000م – النادي الأدبي - جدة- ص 137</p><p><br /></p><p>[72] - فولفجانج هاينه مان و ديتر فيهفجر : مدخل إلى علم لغة النص ص 7 0</p><p><br /></p><p>[74] - السابق ص 69 0</p><p><br /></p><p>[76] - Kirsten Malmkjaer : The Linguistics Encyclopedia-p-463</p><p><br /></p><p>[78] - روبرت دي بو جراند : النص والخطاب والإجراء ص 103 0</p><p><br /></p><p>[80] - د/ سعد مصلوح : نحو أجرومية للنص الشعري ـ سابق ـ ص 154 0 </p><p><br /></p><p>[82] - السابق ص 176 0</p><p><br /></p><p>[84] - السابق ص 177 0</p><p><br /></p><p>[86] - تون أ فان دايك : النص والسياق ، ترجمة عبد القادر قنيني - أفريقيا الشرق- الرباط- 2000م - ص 18 0</p><p><br /></p><p>[88] - د/ سعيد بحيري : اتجاهات لغوية معاصرة ص 179 ، والبراجماتية : علم يهتم بتحليل الأفعال الكلامية ، ووظائف المنطوقات اللغوية وسماتها في عملية الاتصال والتداول 0</p><p><br /></p><p>[90] - روبرت دي بوجراند : النص والخطاب والإجراء ـ سابق ـ ص 104 0</p><p><br /></p><p>[92] - فيلي سانديرس : نحو نظرية أسلوبية لسانية – ترجمة د/ خالد محمود جمعة – ط1/ 2003م – دار الفكر- دمشق – ص 154 0</p><p><br /></p><p>[94] - العقاد والمازني : الديوان في الأدب والنقد ط4/1997م- دار الشعب ص 130 وما بعدها 0</p><p><br /></p><p>[96] - السابق ص 374 0</p><p><br /></p><p>[98] - انظر : دراستنا : الذات المأزومة – قراءة في نونية المثقب العبدي – موقع رابطة أدباء الشام الإلكتروني 0</p><p><br /></p><p>[100] - أرشيبالد ماكليش : الشعر والتجربة – ترجمة سلمى الخضراء – مراجعة توفيق صايغ – دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين 1963 – ص 23 0</p><p><br /></p><p>[102] - د/ إبراهيم أنيس : دلالة الألفاظ- ط5/ 1984م - الأنجلو المصرية– ص 24 0</p><p><br /></p><p>[104] - حسن عباس : خصائص الحروف العربية ومعانيها – منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1998م – ص 79 0</p><p><br /></p><p>[106] - حسن عباس : خصائص الحروف العربية ومعانيها ـ السابق ـ ص 87 0</p><p><br /></p><p>[108] - السابق ص 57 – 58 0</p><p><br /></p><p>[110] - د/ كمال محمد بشر : علم الأصوات – دار غريب – القاهرة – 2000م - ص 305 0</p><p><br /></p><p>[112] - د/ حسن ظاظا : اللسان والإنسان – مدخل إلى معرفة اللغة – ط2/ 1990م – دار القلم – دمشق – ص33 0</p><p><br /></p><p>[114] - الخطيب القزويني : الإيضاح في علوم البلاغة – تحقيق وتعليق د/ عبد الحميد هنداوي – ط1/1990م – مؤسسة المختار – القاهرة – ص 300 0</p><p><br /></p><p>[116] - ابن رشيق القيرواني : الععمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده – تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد – ط5/ 1981م – دار الجيل – بيروت – 2/ 3 0</p><p><br /></p><p>[118] - د/ جميل عبد المجيد حسين : البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م – ص 79 0</p><p><br /></p><p>[120] - د/ تمام حسان : موقف النقد العربي التراثي من دلالات ما وراء الصياغة اللغوية – كتاب النادي الثقافي الأدبي بجدة رقم 59- المملكة العربية السعودية – 1410هـ - 1990م – 2/ 795 0</p><p><br /></p><p>[122] - أبو الفرج قدامة بن جعفر – نقد الشعر : ضبط وشرح محمد عيسى منون – ط1/ 1934م- المطبعة المليجية – القاهرة – ص 13 0</p><p><br /></p><p>[124] - حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء – ط3/2008م – الدار العربية للكتاب – تونس – ص 241 0</p><p><br /></p><p>[126] - د/ عبد الله الطيب المجذوب : المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها – ط2/1989م – مطابع حكومة الكويت – 1/383 0</p><p><br /></p><p>[128] - قدامة بن جعفر – نقد الشعر – سابق – ص 30 0</p><p><br /></p><p>[130] - د/ إبراهيم أنيس : موسيقى الشعر ـ سابق ـ ص 244 0</p><p><br /></p><p>[132] - القاضي التنوخي : كتاب القوافي – تحقيق د/ محمد عوني عبد الرءوف – ط2/2003م – دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة - ص71 0</p><p><br /></p><p>[134] - د/ كمال بشر : علم الأصوات ـ سابق ـ ص 276 0</p><p><br /></p><p>[136] - ابن منظور : لسان العرب – تصحيح أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي – ط3/ 1999م – دار إحياء التراث العربي – بيروت – 4/ 426 0</p><p><br /></p><p>[138] - ابن منظور : لسان العرب ـ سابق ـ 4/117 0</p><p><br /></p><p>[140] - د/ محمد فتوح أحمد : شعر المتنبي قراءة أخرى – ط2/ 1988م – دار المعارف – القاهرة - ص 97 0</p><p><br /></p><p>[142] - د/ محمد عبد المطلب : البلاغة والأسلوبية ـ سابق ـ ص 269 0</p><p><br /></p><p>[144] - د/ مصطفى حميدة : نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية – ط1/ 1997م – لونجمان – ص 164 0</p><p><br /></p><p>[146] - جي برجشتراسر : التطور النحوي للغة العربية – تصحيح وتعليق د/ رمضان عبد التواب ط2/1994م – مكتبة الخانجي- القاهرة ص 199 0</p><p><br /></p><p>[148] - د/ تمام حسان : اللغة العربية – معناها ومبناها – دار الثقافة – الدار البيضاء – المغرب 1994م – ص 213 0</p><p><br /></p><p>[150] - ابن السراج : الأصول في النحو – تحقيق د/ عبد الحسين الفتلي – ط1/1985م- مؤسسة الرسالة- بيروت – 1/42 </p><p><br /></p><p>[152] - ابن مالك : تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد – حققه وقدم له محمد كامل بركات – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر- القاهرة 1967م – س 174 0</p><p><br /></p><p>[154] - د/ مصطفى حميدة : نظام الارتباط والربط في الجملة العربية ـ سابق ـ ص 152 0</p><p><br /></p><p>[156] - انظر ص 26 من هذا البحث 0</p><p><br /></p><p>[158] - العقاد : ابن الرومي : حياته من شعره – كتاب الهلال – العدد 214- دار الهلال – مصر – 1969م- ص 252 </p><p><br /></p><p>[159] - ابن جني : الخصائص – تحقيق محمد علي النجار – دار الكتب المصرية 1952م – 2/183 0 </p><p><br /></p><p>وسوم: العدد 647</p><p>.</p><p>http://www.odabasham.net/%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D9%8A/82229-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D9%82-%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A-%D9%86%D9%85%D9%88%D8%B0%D8%AC%D9%8B%D8%A7</p>أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-31705427622073954662020-02-10T23:30:00.001-08:002020-02-10T23:30:28.871-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<span style="color: #0c343d;">رسائل ماجستير ودكتوراه في الأدب والنقد :</span><br />
<a href="http://mohamedrabeea.net/list.aspx?bookId=11">http://mohamedrabeea.net/list.aspx?bookId=11</a></div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com1tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-92147671151856103952020-01-26T01:55:00.002-08:002020-01-26T01:55:38.878-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<div align="center" style="background-color: black; color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: 700;">
<u><span style="color: #ff9999;"> <span style="font-size: large;">عمود الشعر</span></span></u></div>
<div align="center" style="background-color: black; color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: 700;">
<span style="color: white; font-size: large;"> مصطلح نقدي يعني طريقة العرب القدماء في نظم الشعر. وقد نشأ هذا المصطلح نتيجة للحركة النقدية التي دارت حول مذهب الشاعر أبي تمام. ففي بداية عصر التدوين، أخذ الرواة يجمعون الأشعار والأخبار العربية القديمة ويضمنونها مؤلفاتهم، ولا يلقون بالاً للشعر المحدث وإن كان جيدًا. وقد غذَّى هذا الاتجاه جماعة من النقاد الأوائل أمثال أبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، وابن الأعرابي. وفي العصر العباسي الأول ظهرت حركة شعرية جديدة تزعمها بشار بن برد وأبونواس ومسلم بن الوليد، تدعو إلى مواكبة الشعر لمتطلبات العصر، وعدم إغفال المستجدات التي طرأت على الحياة العربية نتيجة لدخول كثير من الأمم المختلفة في الإسلام.<br />ومن بين ما حاوله هؤلاء الشعراء التجديد في أسلوب القصيدة وذلك بتضمينها كثيرًا من العناصر التي عُرفت بعد ذلك باسم البديع. وعندما جاء أبو تمام (ت231هـ) اهتم كثيرًا بالبديع وحرص على ألا يخلي شعره منه حتى آل به الأمر إلى أن أصبح زعيمًا للحركة الشعرية الجديدة. وكان يعاصر أبا تمام شاعر مشهور هو أبو عبادة البحتري (ت284هـ)، ولكنه كان يسير على نهج القدماء ويترسم خطاهم.<br />سُمع مصطلح <span style="color: #ff9999;">عمود الشعر </span>لأول مرة، على لسان البحتري عندما سُئل عن نفسه وعن أبي تمام فقال: "كان أغوص على المعاني مني، وأنا أَقْوَمُ بعمود الشعر منه". وعندما وضع الآمدي (ت 370هـ) كتاب الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري استخدم هذا المصطلح في مقدمة كتابه عندما قال: "البحتري أعرابي الشعر، مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف". وفي الفصل الذي عقده الآمدي للحديث عن فضل البحتري يورد صفات الشعر الذي يشتمل على عناصر عمود الشعر، يقول الآمدي: "وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضْع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له، وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذ كان بهذا الوصف، وتلك طريقة البحتري".<br />وقد تناول موضوع عمود الشعر القاضي الجرجاني (ت392هـ) في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه أثناء حديثه عن العناصر التي تستخدمها العرب في المفاضلة بين الشعراء، وهذه العناصر هي الأسس التي يتكون منها عمود الشعر. يقول القاضي الجرجاني: ¸وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن، بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب، وشَبَّه فقارب، وَبَدَه فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس، والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض•.<br />ثم يأخذ المصطلح صورته النهائية على يد أبي علي المرزوقي (ت421هـ) في مقدمته التي استهل بها شرحه لحماسة أبي تمام. ويتضح مما أورده تأثره الكبير بآراء القاضي الجرجاني. يقول المرزوقي: "فالواجب أن يُتَبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب، ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديمُ نظام القريض من الحديث". ثم عدَّد المرزوقي سبعة عناصر أو أبواب هي التي تشكل، في رأيه، عمود الشعر، وهذه <span style="color: #ff9999;"><u>العناصر هي:</u></span>1- شرف المعنى وصحته، 2- جزالة اللفظ واستقامته، 3-الإصابة في الوصف، 4- المقاربة في التشبيه، 5- التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، 6- مناسبة المستعار منه للمستعار له، 7- مشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما.<br />وتكمن أهمية المصطلح في أنه استُخدم أول أمره ليميز بين طريقتين في كتابة الشعر: طريقة القدماء من الشعراء وهم الذين التزموا بعمود الشعر، وطريقة المحدثين من الشعراء وهم الذين خرجوا على عمود الشعر. ثم تحول بعد ذلك إلى مصطلح نقدي محدد يتضمن عناصر كتابة الشعر الجيد على إطلاقه.</span></div>
</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-31346065641356870542018-01-31T22:37:00.000-08:002018-01-31T22:37:54.524-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<br />
<br />
التحولات بين الرؤية الشعرية والأفق النقدي<br />
<br />
أ.بوعلام بوعامر<br />
<br />
RÉSUMÉ:<br />
<br />
La littérature arabe et sa critique ont vécu – pendant l'époque Abbasside – des innovations importantes et fondamentales vis-à-vis aux périodes précédentes. C'est ce que cet essai vise comme sujet. <br />
<br />
لم يكن انتقال مقاليد الحكم من أيدي الأمويين إلى أيدي العباسيين، من البساطة والأحادية بحيث يمكن أن يكون حديث سياسة فحسب ، على ما يتضمنه معنى السياسة من خطر وفاعلية في سيرورة التاريخ ، ذّلك أن هذا الجانب إنما هو واحد من جوانب كثيرة ومتنوعة ، تماشجت وتراكمت لتشكل ذلك الموروث الحضاري الثقيل المتجسد في عصر تأبى الذاكرة الحضارية إلا أن تصفه بعصر الأمة الذهبي الذي تفتقت فيه أكمام ثقافتها ورسخت فيه شخصيتها الحضارية في تربة سقيت من منابع ثرة مختلفة، على رأسها الإسلام الحنيف بما جاء به من قيم حررت العقل وأطلقت الفكر وفجرت كوامن الإبداع في النفس الإنسانية.<br />
<br />
لذلك لم يكد يمر على بزوغ شمسه قرن ونصف من الزمن، حتى كان العرب والشعوب التي اهتدت إلى الإسلام أو استظلت بظله، تدخل عهدا جديدا من الحضارة في هذا العصر مرورا بأزمنة سابقة كانت روافد أساسية استمد منها مادته، من العصر الأموي وارتقاء إلى عصر الخلفاء الراشدين وانتهاء إلى عصر النبوة . فهذه كلها حلقات يشد بعضها بعضا، ومراحل يأخذ بعضها برقاب بعض في مسيرة قطع فيها هذا التحول الحضاري محطات ابتدأت من مكة المكرمة فالمدينة المنورة فدمشق فبغداد العاصمة السياسية والحضارية لتلك الفترة التي قدر لها أن تكون مصبا جامعا لتلك الروافد.<br />
<br />
ومن هنا فليس من النظر السديد والمنهج المستقيم، أخذ هذه الأزمنة الحضارية أبعاضا متفرقة مهما بلغت الحوادث السياسية التي وقفت فواصل بينها شدة وتأزما، ومهما كانت قساوة الظروف التي واكبت الانتقال من السابقة إلى اللاحقة منها، ذلك أن هذا التدافع والتغالب بينها إنما هو السطح الظاهر منها والذي هو دائما محل الاصطخاب والهدير، ووراء ذلك وتحته أعماق هادئة تتواصل فيها المسيرة الحضارية جيلا بعد جيل.<br />
<br />
ومن نافلة القول أن ثمة عوامل تضاف إلى عامل الدين الجديد أدت إلى ذلك التطور الحضاري الكبير ، منها عامل التثاقف مع الآخر الذي جعل العصر العباسي مصبا حقيقيا لثقافات متنوعة المنازع مختلفة المشارب، هي حصيلة اختلاف الأصول الإثنية المكونة للبنية المجتمعية فيه فقد:"كان من أثر اختلاف السكان في المملكة الإسلامية - من حيث أصولهم – إلى أمم مختلفة[...] أن انتشرت في المملكة الإسلامية ثقافات مختلفة لأمم مختلفة [...] كان هناك لقاح بين الثقافات ، و نشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة، تحمل صفات من هذه وتلك، وصفات جديدة لم تكن في هذه ولا تلك، وأصبح لها طابع خاص يميزها عما سواها . وكما كان في المملكة الإسلامية أمم مختلفة ، اشتهرت كل أمة بميزة ، كذلك امتازت الأمم المختلفة بميزات في العقلية ، تبعها ميزات في الثقافة "(1)<br />
<br />
والذي يعنينا هنا، الثقافة الأدبية التي كان تأثير الفرس فيها أظهر من تأثير غيرهم، بل استحالت الثقافة الفارسية أحيانا منفذا تعبر منه الثقافات الأخرى إلى الثقافة العربية، وحسبنا أن نذكر هنا حكايات (كليلة ودمنة) ذلك الأثر الخالد الذي عبر من الأدب الهندي إلى الأدب العربي متخذا من الفارسية وسيطا بينهما ، إضافة إلى كتب أخرى مترجمة ترجمة مباشرة أو متأثرة بما في الثقافة و الأدب الشرقيين لاسيما ما جاء من الفرس والهند والتي" فيها من أدب شرقي فارسي أو هندي أكثر مما فيها من أثر يوناني. ففيها الحِكََم عن أردشير وبزُرجُمِهر أكثر مما عن أفلاطون وأرسطو، وفيها نظام الحكم الفارسي لا نظام الحكم اليوناني، وفيها تصور للعدل وطبقات الناس، كما يتصوره الفرس، وفيها توقيعات الملوك وقصصهم مع رعيتهم على النحو الفارسي لا النحو اليوناني، وعلى الجملة فنفوذ الفرس في الأدب أكثر من نفوذ اليونان....."(2)<br />
<br />
كان من أثر هذه المثاقفة الأدبية أن ترسخت فكرة الشاعر الصانع في العصر العباسي، ونقول" ترسخت " لأننا لا نريد القفز على من عرف قبل هذا العهد من شعراء كانوا ينصرفون إلى شعرهم انصرافا كليا ، بهذبونه و يعيدون فيه النظر غير واثقين بالبديهة والارتجال وهم الشعراء الذين أطلقت عليهم تسمية عبيد الشعر، و لقد كان بعضهم يتحاشى عرض قصيدته على الناس قبل أن تمكث عنده حولا كاملا يقلب فيها وجوه الفكر ومن أشهر أولئك الشعراء زهير بن أبي سلمى الذي يقال له شاعر الحوليات إشارة إلى ذلك الجهد الكبير الذي يبذله في تنقيح شعره ، وتحكيكه مدة طويلة قبل إذاعته في الناس .<br />
<br />
هذا الأمر صحيح ، غير أن الصحيح أيضا أن الصناعة الأدبية عموما والشعرية خصوصا ، ازدادت رسوخا و شيوعا في العصر العباسي ، بفعل ما شهده من انقلاب حضاري شامل ، وتعقد في حياته المدنية ، و نسيجه الاجتماعي ، و تغير في الذوق العام ، فصار الشعر مظهرا من مظاهر الصناعة مثله في ذلك مثل القصر المنيف ، و الحديقة المنمقة ، و الثوب الموشى .<br />
<br />
ويتصل بغلبة الصناعة على شعر هذه المرحلة ، التفنن المذهبي وتفاوت الشاعر الواحد في فنون القول الشعري ، بما لا يكون من السهل معه الذهاب مذهب الذين يجازفون باخنزال مذاهب الفن الشعري في العصر العباسي في قطبية تقابلية طرفها الأول أهل الصنعة والثاني أهل الطبع ، جريا مع منطق الثنائيات الضدية التي غالبا ما تكون مظنة الاختزال المخل .<br />
<br />
والحق أن الدكتور محمد مصطفى أبا شوارب لم يُبعد حين بنى كتابه (شعرية التفاوت ) على نقد هذه الفكرة ، يقول :" وربما سمح لنا ذلك كله بنفي فكرة النقاء المذهبي والإخلاص المدرسي عند تناول شعر هذه المرحلة بالدرس والتنظير ، واعتقاد فكرة تعدد الاتجاه ، والتداخل الفني أساسا لولوج عالم الشعر العباسي [...] وإذا كان هذا الاعتقاد يبدو في نظر الكثيرين مخالفا لما درج عليه يقين أغلب الباحثين والدارسين من وجود مدارس فنية ذات ملامح ثابتة أبرزها ، على الأقل ، مدرستا المحافظين من أهل الطبع ، والمجددين من أهل الصنعة فإن ما يؤكد ذلك الاعتقاد ، إضافة إلى ما طرح في الفصلين السابقين ، يسطع مع استقراء نصوص هؤلاء الشعراء أنفسهم "(3)<br />
<br />
هذا إذا سلمنا جدلا بمقولة الطبع في الشعر ، وإلا فإن للدكتور شوقي ضيف رأيا مشهورا خالف به هذا التقسيم المتوارث بين الطبع والصنعة الذي صار في حكم القطعي حتى إنه لم يفكر أحد في إعادة النظر فيه ، و شوقي ضيف يقر بالصنعة و لكنه ينفي نفيا صارما الطبع في الفن عموما ، و هو ما عبر عنه بقوله :" ...و رأيت أن هذا التقسيم لا يقوم على أساس صحيح ، و ما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن ؟ إن كل شعر متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع . و هل هناك شعر لا يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه و موضوعاته و معانيه ؟ "(4)<br />
<br />
ويؤكد رأيه هذا داعيا إلى تصحيح تلك الفكرة بقوله :" أما الفكرة التي تذهب عندنا إلى تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة ، و التي نرى امتدادها في العصر الحديث فأكبر الظن أنها في حاجة إلى شيء من التصحيح..."(5)<br />
<br />
وهو رأي وجيه ، خصوصا إذا كان المقصود بالطبع الارتجال المطلق وعدم النظر الفكري في عمل القصيدة ، ويطرح فكرته البديلة في تقسيم ثلاثي تابع لمراحل تاريخية قطعها الشعر العربي من شعر صنعة إلى تصنع فتصنيع "، مستندا إلى أن هذا الشعر لم يشهد تطورا واسعا في الموضوعات و الخلفيات الإيديولوجية و كل ما طهر فيه أثر التطور إنما هو جانب " الصناعة نفسها، أي في الفن الخالص وما يرتبط به من مصطلحات وتقاليد "(6) .<br />
<br />
ولبشار بن برد مع نقاده أخبار تؤكد فكرة التفاوت في مستويات التعبير عند الشاعر الواحد ، فقد :" قال خلاد بن مهرويه لبشار : إنك تجيء بالشيء المتفاوت ، بينما تقول شعرا يثير النقع ويخلع القلوب ، مثل قولك :<br />
<br />
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو نُمطر الدَّما<br />
<br />
إذ بك تقول :<br />
<br />
ربابة ربة البـــيت تصب الخيل في الزيـت<br />
<br />
لها عشر دجاجــات و ديك حســن الصــوت<br />
<br />
فقال له بشار : لكل وجه وموضع ، فالقول الأول جد ، وهذا قلته في جاريتي ربابة ، وأنا لا آكل البيض من السوق ، وربابة تجمع لي البيض ، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض، فهذا عندها أحسن من " قفا نبك " ولو أنشدتها من النمط الأول ما فهمته ، ومثله ما أورده الحصري من تعقب بعض الناس لشعره بسبب هذا التفاوت، فكان أن أجابه بقوله:" إنما الشاعر المطبوع كالبحر: مرة يقذف صدفة، ومرة يقذف جيفة " (7)<br />
<br />
من الواضح إذن أن هذا التفاوت عند الشاعر الواحد كان حقيقة واقعة في العصر العباسي ، و أنه كان من الشيوع بحيث شكل ظاهرة استرعت الانتباه، إضافة إلى كونه منحى فنيا ، يعمد إليه الشاعر عن وعي ، حتى ليجادل عنه، ويبرره، وليس مرده ضعفا في السليقة و إجبالا في القريحة ، و لكنه جنوح الشاعر العباسي –عموما- إلى الواقعية في التعبير والتوجه إلى جمهور المستمعين بما يناسب مقاماتهم.<br />
<br />
كل أولئك كان إيذانا بحدوث تحول ملحوظ في الحساسية الشعرية لهذا العصر، كان من حملة لوائه بشار بن برد (ت.168هـ / 784م ) كما رأى ذلك - بحق – أودنيس، فقد سئل :" بم فقت أهل عمرك وسبقت أعل عصرك ، في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه ؟ فقال : لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ، و يناجيني به طبعي ، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن ، و معادن الحقائق ، و لطائف التشبيهات ، فسرت إليها بفهم جيد ، وغريزة قوية ، فأحكمت سبرها ، وانتقيت حُرها ، و كشفت عن حقائقها ، واحترزت من متكلَّفها ولا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به "(8)<br />
<br />
يستخلص أدونيس من هذه الإجابة بعض علامات التحوّل في سير الشعر العربي، منها أنّ الشعر صار فنًّا، فقد صار الشاعر العربي يومذاك مشغولا بهاجس كيفية التعبير، إضافة إلى هاجس التعبير نفسه بما أنّه لم يعُد يقبل بكلّ ما تلقيه إليه بديهته، ومنها أنّ الشعر صار نظرا في الحقائق أي صار موقفا، ومنها أنّ للشعر –باعتباره فنًّا- خاصيّة جوهرية هي التجاوز المستمرّ، والتطلّع إلى آفاق أكثر اتّساعًا وجدّة" (9)<br />
<br />
واللافت للنظر في إجابة بشار تصديره كل جملة تقريبا بلفظ دال على التحول "إلى الصناعة الشعرية " كما ذكر آنفا ، مثل (نظرت ، أحكمت ، انتقيت ، كشفت ، احترزت )، فالنظر والإحكام والانتقاء والاحتراز من عمل الصانع الماهر، وصاحب الحرفة المتخصص الذي يثق بالمعاودة والجهد ، ولا يُسْلم نفسه لتلقائية الهواة ، ولما تسمح به الخاطرة في أول الأمر، بل هو دائم النظر في ما يأتي متحفظ لا يسمح للإعجاب ببديهته أن يتقدم صناعته. كما يستوقف الناظر في هذه الإجابة - إضافة إلى ما سبق - لفظ " كشفت " التي لا شك أنها تقع موقعا حسنا من أسماع الرمزيين الذين طالما ألحوا على أن الشعر كشف لا وصف .<br />
<br />
وعمومًا قامت الرؤية الشعرية في العصر العبّاسي على التساؤل الذي اختاره أدونيس(10) عنوانًا لهذه المرحلة من سيرورة الشعر العربي، تساؤل ألحّ على هذا العصر حول صلاحية الموروث الشعري ومشروعيّة استمراره إلى ذلك العهد.<br />
<br />
ونظرة عاجلة في قصائد بعض الشعراء تنطق بمصداقية ذلك العنوان الذي وسم به أدونيس الرؤية الشعرية في تلك الفترة، فكثيرا ما أخذت أبياتهم المعبّرة عن هذه الوجهة طابع الاستفهام الممتزج بالإنكار على الرؤية التقليديّة والعجب ممّن حبسوا أنفسهم في مداها الذي ضاق عن استيعاب المُتغيّرات والتحوّلات المتلاحقة، وكانت المقدّمة الطلليّة الغزليّة أبرز ما أثار التساؤل من بين كلّ العناصر المُشكِّلة لبنية القصيدة العربية القديمة، فجاءت تساؤلاتهم تَتْرى بدءًا من أبي نواس مُطْلق الثورة على هذا الالتزام الشعري بأبيات استحالت مَعْلَمًا بارزًا في هذه السبيل مثل قوله:<br />
<br />
يَبْكِي عَلَى طَلَلِ المَاضِينَ مَنْ أَسَدٍ لاَ دَرَّ دَرُّكَ قُلْ لِي مَنْ بَنُو أَسَدِ؟<br />
<br />
وقوله:<br />
<br />
تصِفُ الطُّلُولَ عَلَى السَّـمَاعِ بِهَا أَفَذُو السَّـمَاعِ كَأَنْتَ فِي الفَـهْمِ؟<br />
<br />
إنّ الإنكار على السماع هنا واضح، وإذا علمنا مقدار ما كان للسماع من عناية عند القدماء –حتّى لقد أسّسوا عليه أخطر العلوم والفنون وأجلّها، كأصول الفقه وأصول النحو- علمنا خطورة هذه الدعوة ومدى الضجّة التي يمكن أن تثيرها في حينها، ولكنّها قطعًا لم تكن صيحة معزولة في فجّ عميق، فقد واكبت دعوات صارخة كلّها ثورة على القديم في عصر ارتجّت فيه الحياة العربية وهي تخوض مُنقلبًا نقلها من بداوة الحجاز إلى مدنية العراق، مرورًا بالشام الذي كان منزلة وسطى بينهما شكّلت تطلّعا إلى الحياة الجديدة في أكناف بغداد التي قامت على أنقاض المدائن حاضرة ملوك الفرس، فلم تزل روح أكاسرتهم تسري في جسد المَدَنيّة الجديدة، ونمط معيشتهم مثلا كثيرًا ما احتذاه خلفاء بني العبّاس.<br />
<br />
لذلك لم تشذَّ الثورة النواسية عن النسق العامّ الوليد في البيئة المستجدّة، فلئن كان أبو نواس هو الأسبق والأجرأ على إعلان ذلك في العصر الأوّل من دولة العباسيين لقد تابعه المتنبّي وهو في العصر الثالث بقوله:<br />
<br />
إِذَا كَانَ مَدْحٌ فَالنَّسِيبُ المُقَدَّمُ أَكُلُّ فَصِيحٍ قَالَ شِعْرًا مُتَيَّمُ؟<br />
<br />
فالاعتراض هو نفسه بصيغة التساؤل ذاتها، وإن كان أقلّ حدّةً ممّا هو عند الشاعر الأوّل، إذ هو عند أبي نواس مُشْبعٌ بشعوبيته المعهودة التي أضْفت على نبرة التساؤل حدّة البغضاء والاحتقار للروح العربيّة وما يتّصل بها من أنماط ثقافية وفنيّة، في حين كان اعتراض المتنبّي نابعًا من واقعية شعريّة، وهو الشاعر المُفعم عروبة الناقم على تسلّط العجم على العرب.<br />
<br />
ومع ذلك الاختلاف في الباعث والحدّة، وبصرف النظر عن اقتراح أبي نواس وصف الخمر موضوعًا للمقدّمة بقوله:<br />
<br />
صِفَةُ الطُّلُولِ بَلاَغَةُ الفَدْمِ فَاجْعَلْ صِفَاتِكَ لابْنَةِ الكَرْمِ<br />
<br />
واقتراح المتنبي مدح سيف الدولة بقوله:<br />
<br />
لَحُبُّ ابْنِ عَبْدِ اللهِ أَوْلَى فَإِنَّهُ بِهِ يُبْدَأُ الذِّكْرُ الجَمِيلُ وَيُخْتَمُ<br />
<br />
فقد اجتمع الشاعران كلاهما عند عدم القبول بالموجود والاشرئباب إلى المأمول، وهو ما يعطينا ملمحًا من ملامح الاتّجاه الشعري في ذلك العصر ألا وهو الواقعية والآنية، فهي دعوة إلى المعايشة المتضمِّنة للبعدين الزماني والمكاني.<br />
<br />
لقد صارت المقدّمة الطللية دار غربة عند الشاعر العبّاسي الذي وجد من الواقع الحضاري المثقل في بغداد والكوفة والبصرة وغيرها من الحواضر ، ما هو كفيل بشغل وجدانه وفكره، وصرفه عن العكوف أمام »عادة فنيّة« لم تَعُدْ تتّصل بنمط حياته بما تحمله من قيم مرتبطة بالجاهلية زمانًا والبادية مكانًا.<br />
<br />
وعلى قدر ما حملت تلك الأبيات من معنى الاستفهام والتشكيك في سلطة هذه المقدّمة ومشروعيّتها، كانت احتجاجًا على الموقف السابق الذي اصطبغ بالقبول(10)<br />
<br />
والطمأنينة إلى المقرّرات السابقة.<br />
<br />
وجاء أبو تمام بعد ذلك بقليل مؤسّسًا لمرحلة جديرة بتوقّف الناظر في منعطفات الرؤية الشعرية العربية، فهو مأخوذ بالبدعة أي " بالخروج على كلّ سنّة "(11)، وهو ما أوقفه وجها لوجه مع التساؤل المضادّ أو المحافظ هذه المرّة، فقد سأله بعض أهل زمانه<br />
<br />
: " لِمَاذا لا تقول ما يُفهم؟ "، فقال: »لِمَاذا لا تفهم ما يُقال؟" (12)<br />
<br />
وليست المكابرة هي ما حمل أبا تمّام على هذا الردّ كما رأى ذلك بطرس البستاني(13) بل كان دافعه إليه رؤيته الشعرية الناضجة المـتمثّلة في أنّ للشعر لغـته الخاصّة، وأنّ من حقّ الشاعر تكييف اللّغة وتطويعها لأداءات جديدة ، ومـن واجب المتلقّي أن يعدّل من ذائقته السّمعيّة لتستوعب ذلك التكييف.<br />
<br />
فأبو تمّام إذن لم يكن ممّن وصفتهم نازك الملائكة " بمجيدي التحنيط ، وصُنّاع التماثيل الذين ابتُليت بهم اللّغة العربية، فصنعوا من ألفاظها نُسخًا جاهزة وزّعوها على كُتّابهم وشعرائهم، ممّن لم يدركوا أنّ شاعرًا واحدًا قد يصنع للّغة ما لا يصنعه ألف نحويّ ولغوي مجتمعين، وذلك أنّ الشاعر بإحساسه المُرهف، وسمعه اللّغويّ الدقيق، يمدّ للألفاظ معاني جديدة لم تكن لها، وقد يخرق قاعدة مدفوعًا بحسّه الفنّيّ، فلا يسيء إلى اللّغة، وإنّما يشدّها إلى الأمام "(14) .<br />
<br />
وإذا كانت تلك هي حال الرؤية الشعرية في بواكير العصر العبّاسي، حال التململ والقلق ومحاولة التجاوز، فإنّ النظرية النقدية هي أيضًا كانت تتحرّك نحو الجديد وتحاول الخروج من الإنشائية والانطباعية إلى تأسيس المرجعيات وتقرير الأصول وترسيخ المصطلح، فقد صار النقد علمًا وفنًّا لا يستغني عن الدربة والثقافة، ووصل الأمر إلى ظهور كتب نقدية وقفها أصحابها على نقد الشعر وتصنيف الشعراء خاصّة دون النثر، ككتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلاّم الجمحي (ت.232هـ/846م) الذي كان " نواة لظهور أوّل مدرسة نقدية منهجية في تاريخ النقد عند العرب، وكان ابن سلاّم أوّل شيخ من شيوخها "(15) ، وكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة (ت. 276هـ/889م).<br />
<br />
وقد صدّر المؤلّفان كتابيهما بمقدّمة قيّمة في نقد الشعر تشهد بنضج الحسّ النقدي ومواكبته للرؤية الشعرية في ذلك العصر، خصوصا مقدّمة كتاب الشعر والشعراء التي كشف فيها ابن قتيبة بوضوح عن منهجه في الدراسة، ثمّ تناول أقسام الشعر من منظور اللّفظ والمعنى الذي غلب على المناحي النقدية قديمًا، ثمّ ذكر عيوب الشعر مركّزًا فيها على الجانب العروضي خاصّة عيوب القافية بناءً على تعريفهم الأوّلي للشعر نفسه بأنّه الكلام الموزون المقفّى.<br />
<br />
وكما قامت الرؤية الشعرية على ثنائية ضدّيّة بين الالتزام بالمقرّرات التقليدية من جهة، ومحاولة المروق منها من جهة أخرى، قامت النظرية النقدية كذلك على هذا التجاذب والصراع، وباستعراض أهمّ القيم التي دار حولها النقد في تلك الحقبةِ يظهر لنا أنّ غالبها اتّخذ طابع الثنائيات المتقابلة مثل القديم والمُحدَث، والطبع والصنعة، واللّفظ والمعنى، وغير ذلك ممّا يشير إلى معترك نقدي حقيقيّ كان صِنوًا للمعترك الشعري الذي رأينا بعض ملامحه مع أبي نواس.<br />
<br />
الإحالات<br />
<br />
1. أحمد أمين : ضحى الإسلام ، المكتبة العصرية ، صيدا- بيروت ، ط1 ، 2006م ، ج1 ، ص132.<br />
<br />
2.المرجع السابق ، ص 286.<br />
<br />
3.محمد مصطفى أبو شوارب : شعرية التفاوت مدخل لقراءة الشعر العباسي ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية ، ط1 ،2007م ، ص163.<br />
<br />
4. شوقي ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي ، دار المعارف ، القاهرة ، ط13 ، ص7-8<br />
<br />
5. السابق : ص20.<br />
<br />
6.السابق : ص7.<br />
<br />
7.ديوان بشار بن برد ، تح ، محمد الطاهر بن عاشور ، الشركة التونسية للتوزيع والشركة الوطنية للنشر والتوزيع- الجزائر، 1976م ، ج1 ، ص96-97.<br />
<br />
8. الحصري : زهر الآداب ، شرح د.صلاح الدين الهواري ، المكتبة العصرية ، صيدا-بيروت ، 1426هـ 2005م ، ج1 ، ص279 .<br />
<br />
9. أدونيس : ديوان الشعر العربي ، المكتبة العصرية ،صيدا- بيروت ، ط1 ،1964 ،ج2 ، ص 1-2.<br />
<br />
10.أدونيس : مقدمة للشعر العربي ، مقدمة للشعر العربي ، دار العودة ، بيروت، ط1، 1971، ص 42.<br />
<br />
11. السابق : ص 37.<br />
<br />
12.السابق : ص 13.<br />
<br />
13.السابق : ص 44.<br />
<br />
14.السابق : ص 43.<br />
<br />
15.بطرس البستاني : أدباء العرب، ج2، دار الجيل، بيروت، 1989، ص58.<br />
<br />
16.نازك الملائكة، ديوان شظايا ورماد ، دار العودة، بيروت، ط.2 ، 1979م، ص9 - 10.<br />
<br />
17. حسن عبد الله شرف، النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سلام، دار الحداثة، بيروت ، ط.1 1984م، ص8.</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-86046878427731505982018-01-29T22:45:00.004-08:002018-01-31T22:44:57.528-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
الشعر في العصر العباسي - أ.فالح الحجية<br />
<br />
الشعر من أوائل الأمور التي تتأثر بأمور الحياة اليومية وما يكتنفها من تفاعلات وأحداث وما يجري عليها ما يغير مسارها ومنهجيتها سلبا أو إيجابا تبعا للأحداث و ذلك لأن الشعراء هم أعلى طبقة في المجتمع البشري في أحاسيسهم وانفعالاتهم النفسية والقلبية والفكرية فهي عالية سامية رقيقة لديهم تبثق مما يشعرون به من خلال تعاملهم مع الحياة ومع الآخرين والطبيعة ومع كل ما يدور بخلدهم ولما كانت الحياة في هذا العصر قد تطورت كثيرا فلا غرو أن الشعر تطور بتطورها أيضا فقد تطور تطورا واسعا تبعا لتطور الحياة ومنافذها واتجاهاتها . والشعر يدخل من كل المنافذ ويخرج باتجاهات شتى ويسمو في كل الاتجاهات وكأنه شذى عطر عبق في مهب نسيم عليل . فقد اتسعت آفاق وأخيلة الشعراء - والشعراء أخصب الناس خيالا - أ لم يقل الله تعالى فيهم في محكم كتابه القرآن الكريم - ( وأنهم في كل واد يهيمون ) - فازداد الخصب الشعري وتفتقت الأخيلة واتسعت الفنون الشعرية والأغراض المختلفة فيه في كل مدارج الحياة فظهرت أغراض وفنون جديدة لم تكن موجود ة في العصر الأموي وما قبله فنشأت هذه تبعا للتطور الفكري والحضاري فكانت هذه الشاعرية متأتية من التداخل والتزاو ج بين الثقافات العربية وغير العربية و من أجناس أقوام المجتمع العباسي حيث اختلطت فيه العربية بالفارسية والرومية والتركية وغيرها فكانت رافدا واسعا للحضارة العربية في هذا العصر وما بعده .<br />
نعم لقد تطور الشعر بتطور الحياة وبهذا تطورت معانيه ثم تصرف الشعراء بمعاني وأساليب الشعراء قبلهم وحللوها ووسعوا دائرتها وزادوا عليها أو أنقصوا منها تبعا لكل ظروف مجتمعهم و حاجته في تماشي حياتهم الجديدة وأسلوبية المجتمع الإنساني فيها فتطور التصوير الشعري وكثر الإبداع فيه فوجد التشبيه وصوره المختلفة وكثرت المحسنات اللفظية ورقت المعاني ودقت واستعملت ألفاظ جديدة أرق وأسهل مما كانت عليه في العصور المختلفة قبله وقل تم استبدال الألفاظ البدوية والصحراوية بغيرها كما استعملت بعض الكلمات غير العربية ( الأعجمية ) في الشعر تبعا لهوى الشاعر وأصله إن كان عربيا قحا أو من الموالي وأحسنوا استعمالاتها وصياغتها وربط الجمل العربية بها وأصبحت تسمى - ألفاظا معربة .<br />
و استعمل الشعراء المحسنات البلاغية و البديعية من طباق وجناس وتشبيه واستعارات وكثرت هذه بشكل ملفت للنظر في هذا العصر وبالإجما ل فإن الشعر في هذا العصر تطورا تطورا واسعا وعظيما في جميع أموره وفي شتى المجالا ت الأدبية الشعرية واللغوية والفنية.<br />
________________<br />
إن الشعر العربي في هذا العصر نتيجة لتطوره الواسع وافاقه المتسعة تأثر بكل التيارات والاحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية و تعكسه كل ما تراءى لها من امور هذا بالاضافة الى تطور الثقافة الشعرية .<br />
كان من اسباب سقوط الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية والذي له ابلغ الاثر في الناحية الثقافية والادبية ان الامويين اتبعوا سياسة التعصب للعنصر العربي الذي اعتبروه هو النسغ الصاعد او الناقل الحياة الى جسم الدولة المترامية الاطراف مما أ ّلّب عليها الفئات غير العربية التي اصبحت ضمن حدود الدولة الاسلامية المحكومة من قبلهم اضافة الى ذلك ان العرب انفسهم من اعداء الامويين من العرب مثل العباسيين ومنهم العلويين خاصة وضعوا ايديهم بأيدي هذه الفئات غير العربية وتحالفوا معها على اضعاف الهيمنة العربية على مرافق الدولة والعمل على اضعافها ومن ثم اسقاطها ومن اكبر هذه التحالفات - الفارسية العربية - حيث اخذ الفرس يشعرون بقيمة رد اعتبار سلطة الدولة الفارسية فاتخذوا من الاسلام ذريعة لذلك واخذوا يعملون على ا ضعاف العنصر العربي واتخذوا من العلويين والعباسيين شمّاعات يختلفون اليها في تعليقهم عملهم السياسي وشموعا لتنير لهم طريقهم في ذلك . وبدأت تظهر لديهم حركات سياسية سرية في بداية امرها و تحولت بمرور الزمن الى قوة عسكرية تحالفت مع من اراد الاستحواذ على هيبـة الـدولة الامـوية واسقاطـها لامـور يعرفـها الســا سـة المنصفون . وقد عرجنا على ذكرها قليلا لارتباطها بالثقافة الادبية التي شملت كل مناحي الحياة ومنها السياسة.<br />
كما ان للمنازعات الحزبية والتعصب القبلي يد طولى في سقوط الحكم الاموي فتجمعت كل هذه الاسباب والاحوال على بغض العنصر العربي الاموي او ما سار عليه الاموييون اثناء حكمهم فتجمعت كلها بقيادة العباسيين وبمعاونة التيار الفارسي وقاموا بثورة انطلقت شرارتها من بلاد فارس لتقضي على الامويين وتسقط حكمهم ولتقوم الدولة العباسية الجديدة الفتية سنة \ 132 هجرية.<br />
قامت الدولة العباسية في العراق اثر سقوط الدولة الاموية في الشام وكان للفرس اثر عظيم وكبير في قيام الدولة الجديدة وفي سياستها وشؤونها وقد ادى ذلك الى تدخل الفرس بسياسة الدولة وقيادتها وقد ادى ذلك الى اقتباس الكثير من النظم والعادات والتقاليد الفارسية التي حلت محل العربية واخذ الناس في تقليد الفرس في اشياء كثيرة فادى ذلك الى هيمنتهم على بعض المناطق وخاصة في بلاد فارس والثغور الشرقية للدولة الاسلامية فضعف النفوذ العربي وقل تدخلهم في شؤون الحكم والدولة التي اصبح الكثير من رجالاتها وقادتها من الفرس واصبح العربي الذي كان يأنف ان يعمل في بعض الاعمال الحرة التي كان العربي يحتقرها ولا يزاولها الا مكرها طلبا للعيش والبحث عن لقمة تسد رمقه.<br />
و لقد ضعف النفوذ الفارسي في العراق ( دولة الخلافة العباسية ) بعد ان استتب الوضع الحكومي و نتيجة قوة الخلفاء العباسيين في الصدر الاول للخلافة العباسية كالمنصور بقتله ( ابو مسلم الخراساني ) والرشيد بنكبة ( البرامكة ) وضربهم الحركات المجوسية التي ظهرت في وقتهم والقضاء عليها - الا انها انتعشت من بعدهم بعد الرشيد وهؤلاء الخلفاء كانوا من اسباب ضعف العنصر العربي في الدولة العباسية بسب زواجهم ازواجا فارسيات وتركيات او روميات فكان اولادهم منهن يميلون كل الميل الى اخوالهم وهذا ما فعله الخليفة المأمون اذ ان امه فارسية حيث قرّب الفرس واعتمد عليهم في الحرب و القضاء على اخيه الامين ( ابن العربية ) وقتله وتسيير د فة الحكم وما فعله المعتصم من بعده و امه تركية اذ قرب الاتراك وتسيير دفة الدولة فيهم مما طمّع هؤلاء وهؤلاء في السيطرة على الحكم بحيث اصبح الخلفاء العباسيون ضعافا من بعدهم بتصرف السلاجقة والبويهيين وجعلوا هؤلاء الخلــفاء كأدوات شــطرنج يتلاعبون فيهم وفي مصائرهم كيفما يشاؤون وظهر التطرف التركي اوالنفوذ التركي بدلا عن الفارسي وظهرت سيطرة الاتراك على الوضع السياسي وربـما الاجتـماعي والثقافي ايضا وساءت حالة المواطن العربي في وطنه في هذا الدور حيث لم يبق للدولة هيبة غير الخلافة وبالاسم والرسم فقط. وكذلك الحال في العصر البويهي .<br />
هذه وغيرها ادت الى تغيير في وجه الشعر العربي حيث ارتفع صوت الشعر السياسي ضد الامويين ونعي حكمهم المنهار كما تمثلت العصبيات القبلية بين العرب انفسهم واستعر اوارها بين قيسية ويمانية وعدنانية وقحطانية كما ظهرت حركة ( الشعوبية ) قوية جدا. وادت هذه الاحوال الى ظهور خلافات واسعة بين الهاشميين انفسهم وخاصة بين العباسيين والعلويين وصلت الى حد المقاتلة والعصيان والكراهية كما ظهرت الخلافات العقائدية والدينية المذهبية بين الطوائف والنحل المختلفة أي ان الفرقة وصلت في كل شيء نتيجة التوسع الطامي في الدولة الاسلامية وكان لكل فرقة او مذهب او عنصر او قوم او قومية ادباء وشعراء ورجال يقودونها ويحركونها سواء كانت حركات سياسية او دينية او عنصرية او قبلية او ثقافية..<br />
ومن جاتب اخر عنى الخلفاء العباسيون في الثقافة عناية كبيرة وبذلوا المال بسخاء لتطويرها واغدقوه على الشعراء والادباء والمفكرين وذوي الالباب والعلوم والثقافة بحيث تطورت كثيرا وكانت المنافسة بين هؤلاء واسعة وشجعوا الترجمة من اللغات الاجنبية الى العربية فكانت رافدا جديدا يصب في بحر اللغة العربية فاتسعت الافاق وتبارى الرجال في السباق في ميادين العلم والثقافة والادب واللغة والدين فكان لذلك الاثر الكبير في قيام ثقافة عربية واسعة في هذا العصر ما زالت لحد الان تعد مفخرة من مفاخر الامة العربية وعصورها الذهبية .<br />
وكانت الثقافة العربية مستقاة من مصدرين الاول الثقافة العربية التي كان عليها العرب قبل هذا العصر من الاداب الجاهلية من شعر ونثر والاسلامية التي نبعت من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة او قل كان القران الكريم رافدا واسعا لها وحافظا ( وحارسا عليها ) وكذلك الحديث الشريف وكذلك اقوال الشعراء الامويين و الادباء والعلوم التي اخذت بالاتساع في زمنهم لتصل في نهاية الدولة الاموية الى الثقافة العربية المتميزة بعد ان نمت جذورها وعلت منابتها الا انها ازدهرت في هذا العصر وآتت ثمارها.<br />
اما المصدر الثاني فهي الثقافة الاجنبية التي ترجمت من الامم المجاورة للعربية كالفارسية والتركية واليونانية والهندية و كانت نتيجة حتمية لانصهار هذه الاقوام في يوتقة الامة العربية و بالاسلام فآتت اكلها حيث اثرت التاثير الكبير على ا خيلة الشعراء وثقافاتهم فتوسعت افكارهم وازدادت علومهم وتفتقت قرائحهم لتاتي بقصائد ذات معان شعرية جديدة كان الاقتباس واضحا وجليا فيها. فالمتذوق للشعر العربي في هذا العصر لا تخفى عليه تلك الميزة التي تطالعه من خلال النتاج الشعري الثر وطائفة صالحة تحمل ذلك الطابع المشوب بالرقة لتؤكد هذا الاتجاه في الأسلوب الشعري<br />
لاحظ قول بشار بن برد متغزلا :<br />
<br />
لم يطل ليلي ولكن لم أنم<br />
ونفى عني الكرى طيفٌ أ لم<br />
ختم الحب لها في عنقي<br />
موضع الخاتم من أهل الذمم<br />
رفِهي يا (عبد) عني واعلمي<br />
إنني يا (عبد ) من لحم ودم<br />
إن في بردي جسمًا ناحلا<br />
لو توكأت عليه لأ نهدم<br />
<br />
كان العرب امة واحدة في عاداتهم وتقاليدهم وما آلفوه عن ابائهم واجدادهم فلما اختلطوا بغيرهم من الاقوام نتيجة توسع رقعة الدولة العربية الاسلامية او نتيجة الفتح الاسلامي الواسع حيث امتدت الخلافة العربية الاسلامية من الصين شرقا الى المحيط الاطلسي غربا حتى قيل ان الخليفة هارون الرشيد كان يخاطب الغيوم في السماء فيقول ( اذهبي ايتها الغيوم في السماء فأينما تكوني يأ تيني رزقك وخيرك ) وامتزجوا بهم نتيجة التعامل او التقارب في العصرين الاموي والعباسي وكان لهذا التوسع اثر عظيم في تفرق العرب لاندساس الاقوام الاخرى وعملهم الجاد في ايجاد كيانات لهم ضمن الكيان العربي و ومحولة هيمنتهم على امور الدولة وتقريبهم للفئات التي جاؤوا منها ومحاولة ابعادهم العرب عن دفة الدولة ورجالها فأدى ذلك الى قيام حركات شعوبية معادية للعنصر العربي لامة او جامعة للعناصر غير العربية وخاصة من الفرس والاتراك.<br />
<br />
لقد تاثر العرب بالفرس كثيرا فظهر هذا التأثر بمشاركتهم اعيادهم واحتفالاتهم واقتناء العرب الجواري والغلمان الجميلات وشيوع العبث واللهو و الخلاعة والمجون والفساد واللامبالاة وكل ما لم يألفه العرب من ذي قبل وبث الافكار الالحادية المستقاة من المجوسية والوثنية فكثرت الزندقة وظهرت الشعوبية و كل امر شائن مما حدى ببعض الخلفاء العباسيين في صدر الدولة العباسية من مطاردة دعاة هذه الاعمال للحد منها كالخليفة المهدي والمنصور والرشيد وكذلك المذهبية وطغت هذه الامور على الحياة العامة حتى في دقائق امورها مثل المأكل والملبس والمسكن وفي امور الحياة الاجتماعية فوجد من تزيا بزي جديد - نصف عربي - وشيدت القصور وتوسع الناس في البناء و الانشاء وتفننوا فيها بحيث شملت كل مرافق الحياة العامة .<br />
<br />
فقد تنوعت اساليب الحياة وطرق الكسب والمعيشة وكان لكل ذلك اثره الكبير في تطور تيار الشعر العربي بحيث ظهرت فنون شعرية جديدة لم تكن موجودة او معروفة كالغزل بالمذكر . ووصفت الحياة ومظاهر الحضارة الجديدة على حالتها التي وصلت اليها من قصور ورياض ومواسم واعياد وقد ادى ذلك الى ارتقاء الشعر درجات على في سلم الثقافة العربية.<br />
<br />
لقد تطورت اساليب الشعر العربي في العصر العباسي كثيرا جراء اطلاع الشعراء على الثقافات الاجنبية ونمو مداركهم وزيادة معلوماتهم وتطور الحياة الحضارية في هذا العصر فقد مال الشعراء الى استخدام الاساليب السهلة المفهومة المنسوجة من واقع الحياة المعاشة وابتعدوا عن اللفظة الصعبة او البدوية التي قل استعمالها او هجرت في الاغلب واستعملوا المحسنات البديعية والالفاظ الجديدة تبعا لتطور الامور وحتى وصلت الحال في بعضهم من استخدام الفاظ اعجمية في شعره وقد نشير ان مفهوم الأسلوب يعني الطريقة او السلوكية التي يتبعها الشاعر في نظم شعره فيقال مثلا سلكت أسلوبه وتعني طريقته وكما يقال كلامه أسلوبه الافضل .<br />
<br />
و كلمة الأسلوب التي تجري على ألسنة الشعراء والادباء والنقاد في بعض الاحيان والمراد بها التراكيب اللغوية بمعنى انفصالها عما تدل عليه من معانٍ كانت مضمرة في نفس الشاعر الاخر وهو إيهام يجعل من الأسلوب كلمات مرصوفة ذات حروف ومقاطع ربما تدل على فهم شيء للأسلوب حيث يهب الحياة والجمال أو الجمود والقبح لذلك النص او هذا .<br />
وبالجملة هو طريقة التعبير بالألفاظ المترتبة على معرفة ترتيب المعاني في النفس في طريقة الأداء اللفظي لما ينسقه الفكر من معانٍ وينظمه العقل من أفكار ازاء الطريقة التعبيرية التي ترتبط بالمعاني اذ ان أول ما تحدث في هذا المعنى وأنه ربما يعتمد في نظريته على الاعتداد بمجموع ما يذكره في مواضيع مختلفة اذ إنه لا يتصور أن يعرف للفظ مواضع من غير أن يعرف معناه و أنما يتوخى الترتيب في الألفاظ - من حيث هي ألفاظ ترتيبًا وتنسيقا ونظمًا أي يتوخى الترتيب في المعاني ويعمل الفكر في انتقاء الالفاظ ويقتفي آثارها بحيث تترتب بخدمة المعاني وتبقى تابعة لها او لاحقة بها مع العلم بمواقع المعاني في النفس او بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق و يقوي النص في الأسلوب او بمعنى اخر هو الأداء اللفظي المطابق للصورة الذهنية لمفهوم الأسلوب الناجم عن قدرة الملكة في اللسان العربي بحيث يكون ثمرة الاعتماد على الطبع والالهام والتمرس على ايجاد الكلام البليغ الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ما يعتمل في قلبه ونفسيته من احاسيس وهنا تكمن وظيفة البلاغة والبيان .<br />
<br />
فالأسلوب هو الصورة الذهنية للتراكيب المنظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وشخوصها بحيث يصيرها في الخيال كالقلب ثم ينتقي التراكيب الصحيحة على اعتبار النحو والبيان فينسقها فيه تنسيقا متراصا كما يفعله البنّاء في قالبه الخاص أو النساج في المنوال حتى يتسع ذلك بحصول التراكيب الاسمى بمقصود الكلام للحصول على الصورة الامثل والافضل والاقرب لملكة اللسان للشاعر العربي لذا فلكل فن من الفنون من الكلام أساليب تختص به وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء وإنما هي حالة قد ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في الشعر العربي تجري كجريانها على اللسان كي تثبّت صوتها و صورتها المطلوبة في تقريبه إلى فهم المتلقي بشكل اسنى وافضل والتي تمثل منزلة الروح من الجسد فالخيال في الأسلوب بوسائله المستعارة وما يتصل بالمعنى اتصالا وثيقًا بطريقة مرنة من طرق التفكير حيث أنه الأداة الواضحة للتعبير فهو طريقة التعبير اللفظي الحادثة على تنسيق الفكرة والمعبرة عن أدق خفاياها ومدار جودتها أو انها طريقة التنسيق ومدى نهوضها بالمعاني المعبرة عما في دواخلها او ما تكتنفه من معان بليغة . لاحظ قول البحتري:<br />
<br />
كأ ن الرياض الحور يكسين حولها<br />
افانين من افواف وشي ملفق<br />
اذا الريح هزت نورهن تضوعت<br />
روائحه من فائر مسك مفتق<br />
كأن القباب البيض والشمس طلعة<br />
تضاحكها انصاف بيض مفلق<br />
<br />
لقد صاغ الشعراء العباسيون أساليبهم في ضوء حضارة الدولة وثقافتها وطريقة تذوقها للفنون لذا جاء الأسلوب الشعري اقرب إلى الرقة في النسج والدقة في التصوير والدماثة في التعبير وشاعت في حواشيه ألوان من الزخرفة اللفظية وضروب من الزينة والجمال واكتنفت أنغامه حالة من الفخامة المؤثرة والتي قد تهز العواطف وتحرك المشاعر وتثير الاحساس . فالشعراء الاكثر تحضرا يميلون بطبعهم إلى الكياسة والزينة والانس في كل شيء فالطبع الحضري تستهويه الأناقة في كل ما حوله ويجذبه التأنق وتقربه اليها وهو ما يدلل على تطور هذه الأذواق ورقيها وهذا سبب قوي في ايجاد أسلوب شعري تركن اليه النفس لتستريح عنده في حسن صياغة أ نيقة مثل مرآة صقيلة عاكسة على صفحتها كل فنون الجمال والتنسيق الاسنى والافضل لاحظ قول بشار في ذلك :<br />
<br />
ومخضب رخص البنا ن<br />
بكى عليَّ وما بكيته<br />
يا منظرًا حسنًا رأيـ ـت<br />
بوجه جارية فديته<br />
بعثت إليَّ تسموني<br />
ثوب الشباب وقد طويته<br />
<br />
ثم حالة جديدة ونقصد بها السهولة في الاسلوب ذلك الأسلوب اللين الذي يميل إلى العامية أو يؤثرها بعضهم وهذه السهولة ربما حاولها غيرهم في أساليبهم فيخفقون وينكصون عن الايتاء بمثلها وتستعصي عليهم وتمتمنع عنهم امتناعا ربما يكون عند بعضهم شديدا قد يسلمهم إلى اليأس وينتهي بهم إلى الحيرة المشوبة بكثير من الإعجاب.وهذا ما نسميه بالسهل الممتنع وقد نسج فيه كثير من الشعراء في هذا العصر منهم ابو العتاهية لاحظ قوله :<br />
<br />
كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ<br />
طُوِيتْ عنه الكشُوحُ<br />
صاحَ منه بِرَحِيلٍ<br />
صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ<br />
موتُ بعضِ الناسِ في<br />
الأرْضِ على قومٍ فُتُوحُ<br />
سيصير المرءُ يوماً<br />
جَسَداً .. ما فيه رُوحُ<br />
<br />
وقد ترك اغلب شعراء هذا العصر كثيرا مما كان يسير عليه الشعراء في الجاهلية كاستهلال القصيدة بالغزل . ووصلت الامور الى ان تهكم بعضهم من هذه الطريقة واعتبرها بالية و سخروا من الشعراء الذين حافظوا عليها.<br />
يقول ابو نؤاس :<br />
<br />
قل لمن يبكي على رسم درس<br />
واقفا ما ضر لو كان جلس<br />
<br />
وكذلك لاحظ دخول الشعر بعض الالفاظ والاصطلاحات العلمية واللغوية كقول الشاعر ابو تمام في الخمرة:<br />
<br />
خرقاء تلعب بالعقول حبابها<br />
كتلاعب الافعال بالاسماء<br />
<br />
وكذلك كثر استعمال المحسنات الكلامية البلاغية كالبديع والطباق والجناس والتشبيه الفردي و التصويري والاستعارات المختلفة وتفنن الشعراء فيها وتزيينهم لشعرهم بها كل قدر امكاناته اللغوية وقدراته البلاغية والشعرية وقوة شاعريته يقول البحتري:<br />
<br />
فلم ار مثلينا او مثل شاننا<br />
نعذب ايقاظا وننعم هجّدا<br />
<br />
وكذلك كثر استعمال الكلمات الاعجمية في الشعر فوجد فيه كلمات اعجمية مثل الديباج او الفاذولج وخاصة الفارسية فالشاعر كانه يتحدث إلى جمهور مزيج من العرب والعجم ويعيش في بيئة حضرية وهذه البيئة قد ا بتعدت بالشباب الجدد عن صلابة حياة البادية وصعوبة أنماطها في الصحراء العربية فلم تعد ملكاتهم العربية الأصيلة وقابلياتهم النفسية قادرة على التماسك ازاء هذه التغيرات فلانت انفسهم واحوالهم بالحضارة العباسية وتأثروا بالوا فد الجديد الذي حبب السهولة إلى نفوسهم وخلطها بأذواقهم.<br />
لاحظ احدهم يمدح الخليفة الرشيد فيقول:<br />
<br />
من يلقه من بطل مسرندي<br />
في زعفه محكمة بالسرد<br />
تجول بين رأسه والكرد<br />
لما هوى بين غياض الآسد<br />
وصار في كف الهِزَبْر الورد<br />
<br />
وثانيهما: أن الشعراء أنفسهم كانوا -غالبًا- من هذا المزيج ولكن مواهبهم الفنية كانت تعطفهم إلى النهج العربي الصميم وثقافتهم العربية وآدابها و كانت تشد من ملكاتهم فيما يتصل بالتعبير ولهذا كانت أساليبهم في يسرها من باب السهل الممتنع بما تضمنت من رقة آسرة وعذوبة خلابة. والشعراء الذين ا د خلوا هذه الالفاظ في الاغلب اما من اصل فارسي او يميلون الى الاصول الفارسية او لهم اطلاع واسع في اللغة الفارسية كابي نؤاس وابن الرومي وابن المعتز.<br />
يقول ابن المعتز :<br />
<br />
قم نصطبح فليالي الوصل مقمرة<br />
كانها باجتماع الشمل اسحار<br />
اما ترى اربعا للهو قد جمعت<br />
جنك وعود وقانون ومزمار<br />
<br />
ثم ا دخلت الى اساليب الشعر الفاظ فلسفية و علمية وكل ما احاط بالشعراء من امور ثقافية ومعالم وتطور وابتذال وقوة اسلوب وجد وهزل في شعر هذا العصر والشاعر من ابدع فيها واجاد .<br />
.لاحظ قول ابي العلاء المعري :<br />
<br />
اذا رجع الحصيف الى حجاه<br />
تهاون بالشرائع وازدراها<br />
فخذ منها بما اتاك لب<br />
ولا يغمسك جهل في صراها<br />
وهت اديانهم من كل وجه<br />
فهل عقل يشد به عراها<br />
<br />
وكان من اثار تطور الحياة العامة في العصرالعباسي ان تطورت الحضارة والثقافة والسياسة وتطورت تبعا لها معاني الشعر واخصبت اخيلة الشعراء وازدحمت بشتى معالم الحياة وتفنن الشعراء في معاني الشعر فقد تصرف الشعراء اولا بمعاني شعر الاقدمين قبلهم واضفوا عليها طابعا من الحسن والطرافة ورقة حواشي الصور الشعرية والبلاغية فاستخدم الشعراء اقيسة منطقية وتعبيرات لغوية تكاد تكون جديدة فيما البسوه لها من قشابة الالوان وتباين الانواع فاحسنوا التصوير والابداع واتسعت اخيلتهم الى افاق واسعة اضافية فجاؤوا بها وتظهر هذه الابداعات في التشبيه وسعة الخيال الشعري وما اكتنفه من اضافات في محسنات اللغة من طباق وجناس و بيان اضافة الى التراكيب اللفظية والصور الجميلة وتسلسل المعاني وتلاحمها<br />
فمن تصرف الشعراء بمعاني الاقدمين قول الشاعر سلم الخاسر:<br />
<br />
فانت كالدهر مبثوثا حبائله<br />
والدهر لا ملجأ منه ولا هرب<br />
ولو ملكت عنان الريح اصرفه<br />
في كل ناحية ما فاتك الطلب<br />
<br />
ومن تطور واستعمال الاقيسة المنطقية قول الشاعر البحتري:<br />
<br />
دنوت تواضعا وعلوت مجدا<br />
فشأناك انحدار وارتفاع<br />
كذاك الشمس تبعد ان تسامى<br />
ويدنو الضوء منها والشعاع<br />
<br />
ومن حسن الابداع والتصوير الشعري الحسن قول الشاعر المجدد بشار بن برد متغزلا:<br />
\<br />
يا قوم اذنى لبعض الحي عاشقة<br />
والأذن تعشق قبل العين أحيانا<br />
فقلت احسنت انت الشمس طالعة<br />
اضرمت في القلب والاحشاء نيرانا<br />
باتت تناولني فاهاً فألثمـــــهُ<br />
جنيّة زُوّجت في النوم إنســانا<br />
فاسمعيني صوتا مطربا هزجا<br />
يزيد صبا محبا فيك اشجانا<br />
يا ليتني كنت تفاحا مفلجة أو كن<br />
ت من قضب الريحان ريحانا<br />
<br />
اما علم العروض او علم اوزان الشعر وكيفية نظم الشعر والنطق به والفارق بين الشعر والنثر فنشأ بنشوء الشعر فهو روح الشعر وحركته اذا اتفق مع حسن المعاني وارتبط بافضل الاساليب او قل هو النغم او الموسيقي التي تسري في جسد الشعر العربي ومن خلال الاذن الموسيقية العربية لا نشاء الشعر او سماعه او تذوقه.<br />
فلم يكن العربي بحاجة الى تلقي موسيقى الشعر عن طريق الدراسة او تثبيتها باوزان معينة بل كانت الاذن الموسيقية لدى العربي مرهفة صاغية حساسة الى مدى بعيد خلال العصور الجاهلي وصدر الاسلام والاموي فانشد العربي الشعر على انغام و اصوات حركة الابل وسيرها في ليل او نها ر او من خلال تهادي المرء العربي وهو راكب عليها تتهادى به قليلا قليلا او امراة تهتز فوق ظهره في هودجها او من حركة الهواء الضارب في تلك الخيام التي يسكنها وعبثه فيها ا و من شدة حركة الخيل الزاحفة للقتال , فمن كل هذه ومن غيرها وجدت الموسيقى الشعرية وتطورت فبقيت الاذن العربية عارفة انغامها في الشعر و ترابطها او بعض معايبها كطيها وخبنها وزحفاتها او اوتادها واعمدتها ورويها والقول في هذا الموضوع طويل- لاحظ مقالتي بعنوان ( النغم الايقاع )المنشورة في كتابي( في الادب والفن) وفي مدونتي على النت او موقعي فيه ( اسلام سيفلايزيشن ) .<br />
ازدحمت الحياة وكثر اللغط وتشابكت الاصوات كلما كثرت البشرية واختلطت ببعضها فكثرت على الاذن العربية كل هذه الاصوات واختلفت نغماتها بعد تطور الحياة وازدهارها وتمازج العرب بالاعاجم وبالحياة العامة والحضارة الاممية وتشابكها والاسواق وما فيها من لغظ وضجيج فاصبح من الضروري ايجاد امر مكتوب لتفهمه وتتذوقه ويعينها او تعين الاذن في نشاته او عند سماعه فنشأ علم العروض في العصر العباسي الاول على يد الخليل بن احمد الفراهيدي البصري .<br />
درس هذا العالم العربي الجليل كل ما قاله الشعراء ودرس الاصوات ونغماتها ومخارج الحروف من الحلق والتباين بين نغمة واخرى وقيد كل ذلك . فأوجد ان الشعر العربي قديما وحديثا لا تتعدى انغامه الخمسة عشر نغما اسماها بحورا هي بحور الشعر العربي الذي انشد فيها الشعراء العرب - ولا يزالون - قصائدهم واشعارهم .<br />
ثم جاء من بعده تلميذه الاخفش و اجهد نفسه في الدراسة ليجد بحرا اخر ابتكره ابتكارا من خلال معرفته الواسعة في الموسيقى الشعرية اسماه (المتدارك) تدارك به اخر النغمات من حيث الوزن الشعري فاصبحت بحور الشعرالعربي ستة عشرا بحرا هي التي ينظم بها الشعراء قصائدهم واشعارهم .<br />
الا ان هذه البحور لم تبق على حالها فقد اجتزئت ونهكت ولحقها التغيير او انشطرت فنظمت القصائد بمجزوء البحر اومشطوره ودخلت اليها بعض الامراض العروضية مثل الخبن والطي والزحاف و...<br />
لاحظ الشاعر صريع الغواني في الغزل يقول :<br />
<br />
يا أيها المعمود قد شفك الصدود<br />
فأنت مستهام خالفك السهود<br />
تبيت ساهرًا قد ودعك الهجود<br />
وفي الفؤاد نار ليس لها خمود<br />
تشبها النيران من الهوى وقود<br />
إذا أقول يومًا قد أطفئت تزيد<br />
يا عاذلي كفى فإنني معمود<br />
<br />
وقد ألمّ الشعراء العباسيون بالأوزان التي أخرجها الخليل ونظموا في تفعيلاتها وكان افضلها واقربها واطوعها للغناء هي الأوزان القصيرة كالمجتث والقتضب ومجزؤء الكامل والهزج وغيرها من البحور المجزوءة التي تستدعي الرشاقة والعذوبة وتلائم حياة القصور والحانات والخمائل وساعات الانس والطرب وما يحبب النغم إلى النفسِ او أكثر استجابتها للغناء وطواعية للنغم الموسيقي.<br />
لاحظ ابا نؤاس حيث يقول :<br />
<br />
حامل الهوى تعب يستخفه الطرب<br />
إنْ بكى يحقُ لـه ليسَ ما به لعبُ<br />
تضحكين لاهية والمحب ينتحبُ<br />
كلما انقضى سببٌ منكِ عاد لي سببُ .<br />
<br />
وكذلك الاوزان الشعرية وبحور الشعر العربي ازدادت وتطورت فظهرت بحور جديدة واوزان لم تكن معروفة من ذي قبل مثل الموشح والزجل اللذان ظهرا لاؤل مرة في بلاد الاندلس ثم انتشرا في المشرق بعد ذلك ثم المواليا والمزدوج والمسمط والمربع والمخمس تبعا لتطور حالة المجتمع وحاجته للنغم والغنائية . هذا بالاضافة الى التغيير في الفاظ الشعر واساليبه . فقد افتتح الشعراء قصائدهم بالغرض الذي نظمت القصيدة من اجله في بعض الاحيان عازفين عما كان الشعراء يسيرون عليه من استهلال القصيدة بالغزل ا و البكاء على الاطلال ولو ان بعضا منهم ظل ينشد على الطريقة المالوفة.<br />
<br />
كما تصرف بعض الشعراء بالأوزان كما ذكرت واستحدثوا أوزاناً أخرى تنسجم مع روح العصر مثل أبي العتاهية الذي كان من أشهر الذين ابتكروا في الأوزان الشعرية لما يقول من الشعر .<br />
<br />
وقد قال ابن قتيبة فيه :<br />
( وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعراً موزونا يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب )<br />
اما القوافي فهي تعتمد على الحرف الاخير من البيت الشعري وحركته وحركة الحرف الذي قبله ويسمى الروي فقديما كانت القصيدة نهاية ابياتها كائنة على وتيرة واحدة ونسق واحد وروي واحد مهما طالت القصيدة او قصرت فهي من بحر واحد وقافية واحدة ويشكل الحرف الاخير قافية القصيدة فيقال هذه قصيدة بائية اذا كانت قافيتها منتهية بحرف الباء ورائية اذا كانت قافيتها منتهية بحرف الراء وهكذا يقال ميمية ونونية و.......<br />
<br />
اما في العصرالعباسي فقد اوجد التطور انواعا اخرى من القصيد منها المربع ومنها المخمس والمشطور ومنها ما يسمى الموشح والمواليا وهكذا الا ان الجميع كانت تحتكم الى البحور الشعرية العربية الستة عشر ولا تخرج منها الا نادرا وحسب مقتضات القصيدة والضرورة الشعرية التي اجازت للشاعر ما لم تجزه لغيره.<br />
اما فيما يخص الفنون الشعرية واغراضها وكيفية تطورها فاقول:<br />
مما لاشك فيه ان الأغراض الشعرية في العصر العباسي هي امتداد للأغراض الشعرية في العصور السابقة و لكنَّ هذا لا يعني عدم بروز موضوعات جديدة فقد تطورت الموضوعات التقليدية في العصر العباسي في الشعر و برزت موضوعات جديدة في هذا العصر واهمها مايلي :<br />
<br />
واول هذه الفنون الفخر و المدح وهي اغراض شعرية معروفة<br />
منذ العصر الجاهلي ومتداخلة بين الفخر والمدح و في العصر العباسي اشتق فن المدح لنفسه مضامين جديدة فقد برز الإلحاح في هذا العصر على المعاني الإسلامية خاصةً في مدح الخلفاء و الوزراء على نحو لم يُعهد مِنْ قبل. فالخليفة في نظر الشعراء هو إمام المسلمين و حامي حمى الإسلام و قد بالغ الشعراء في وصف مكانة الممدوح الدينية لاحظ قول أبي نؤاس في مدح الخليفة هارون الرشيد وهي حالة جديدة لم يسبق لها مثيل :<br />
<br />
لقـد اتقيتَ الله حقَّ تُقـاتـه<br />
و جَهَدْتَ نفسك فوق جُهدِ المُتقي<br />
وَ أَخفْتَ أهلَ الشِرك حتى أَنَّه<br />
لَتخَافكَ النُطف التي لَمْ تُخلقِ<br />
<br />
كمَا قام الشعراء بتصوير الأحداث و الفتن و الحروب في قصائد المدح والفخر و بذلك أصحبت قصائد المدح وثائق تاريخية تُصوَّر البطولات العربية. وافضل ما قيل بهذا المعنى قصيدة أبي تمام في فتح مدينة عمورية:<br />
<br />
السيف أصدق إنباءً من الكتب<br />
في حدَّهِ الحَدُّ بينَ الجد و اللعبٍ<br />
<br />
وبروز حالات التجديد في هذا الفن مثل مدح المدن و التعصب لها و الإفاضة في تعداد محاسنها و أشهر المدن التي مُدحت الكوفة و البصرة و بغداد باعتبار هذه المدن مراكز رئيسية للحياة الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية في العالم الاسلامي او الدولة العربية . لاحظ قول عمارة بن عقيل في مدح بغداد:<br />
<br />
أعاينت في طول من الأرض أو<br />
عرض كبغداد داراً إنها جنة الأرضِ<br />
صفا العيش في بغداد واخضر عوده<br />
وعيش سواها غير صاف ولا غض<br />
تطول بها الأعمار إن غذاءها مريء<br />
وبعض الأرض أمرؤ من بعض<br />
<br />
والغزل من الفنون المعروفة منذ القدم في العصر الجاهلي و قد تميز فيه عدة اتجاهات الاول التغزل بالمرأة وفيه اتجاهين الغزل الحسي الجسدي والثاني الغزل العفيف - لاحظ كتابي ( الغزل في الشعرالعربي ) و قد أدَّ ت طبيعة الحياة في العصر العباسي إلى ازدهار فن الغزل فبرزت فيه أنواع من الغزل كالغزل القصصي و هو امتداد لما كان معروفًا في العصور السابقة وكذلك الغزل الحسي او الجسدي و لكنه صار أكثر مجونًا وخلاعة و تعابثًا. و للزندقة والشعوبية دور كبير في شيوع هذا الغزل وانتشاره و تعدد الملاهي وذيوع الآراء والافكار الإباحية التي نشرها الموالي .<br />
لاحظ قول حماد عجرد في الغزل :<br />
<br />
أني لأهوى (جوهراً) ويحب قلبي قلبها<br />
وأحب من حبّي لها من ودَّها وأحبها<br />
وأحب جارية لها تخفي وتكتم ذنبها<br />
<br />
ومن الغزل العفيف وهو امتداد للغزل العذري في العصرالاموي قول العباس بن الاحنف يتغزل في حبيبته :<br />
<br />
ألم تعلمي يا فوز أني معـــــــــــــذب ُ<br />
بحبكم , والحين للمرء يجلــــــــــــــــب ُ<br />
وقد كنت أبكيكم بيثرب مـــــــــــــــــرة ً<br />
وكانت منى نفسي من الأرض ِ يثـــرب ُ<br />
أُؤملكم حتى إذا ما رجعتمـــــــــــــــــــوا<br />
أتاني صدود ٌ منكم ُ وتجنــــــــــــــــــب ُ<br />
فان ساءكم ما بي من الصبر , فارحموا<br />
وان سرّكم هذا العذاب , فعذّبــــــــــــوا<br />
فأصبحت ُ فيما كان بيني وبينكـــــــــــم<br />
أحدّث عنكم من لقيت ُ فيعجـــــــــــــب<br />
<br />
ولون جديد او اخر ظهرَ في الشعر العباسي هو الغزل بالغلمان أو الغزل بالمذكر. على ايدي نخبة من الشعراء المجان مثل والبة بن الحباب وابي نؤاس والحسين بن الضحاك وغيرهم .<br />
يقول والبة بن الحباب في غلام متغزلا به :<br />
<br />
ﻗﻠﺕ ﻟﺴﺎﻗﻴﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺨﻠﻭﺓ<br />
ﺃﺩﻥ ﻜﺫﺍ ﺭﺃﺴﻙ ﻤﻥ ﺭﺃﺴﻲ<br />
ﻭﻨﻡ ﻋﻠﻰ ﻭﺠﻬﻙ ﻟﻲ ﺴﺎﻋﺔ<br />
ﺇﻨﻲ ﺍﻤﺭﺅ ﺃﻨﻜﺢ ﺠﻼسي<br />
<br />
وهناك نوع اخر من الغزل هو الغزل الصوفي وهو نوع جديد<br />
وقد تطرّق الصوفيون إلى الحب فجعلوا منه النور الذي يُستضاء به والسر الذي يتكئ عليه والمشعل الذي يسير الصوفي على هداه ليؤكدوا قاعدة اساسية هي ( أن الحب هو طريق الوصول إلى الله ) وهذا يعني أن غاية الحب القصوى هي الاتصال بالله مما يمهد الطريق للمعارف والإشراقات والفتوحات وتلازم الأقوال والأفعال مع بعضها ليكون الحب الإلهي قمة السلوك البشري الرفيع كالتوبة والإنابة والورع والزهد ، والتوكل والرضى .. وما إلى ذلك مما يدعو إلى التحرر من صرخة الجسد وطغيان الرغبات الحسية بالترفع إلى المعاني الراقية والمراتب الذوقية التي تنأى في كل الأحوال عن شؤون المعرفة العقلية حيث الذوقُ والكشفُ وميلُ القلب إلى الله وليس لسواه ، فيطيب عيشه فالحب الصوفي فناء مطلق يجعل من الحب والمحبوب كُلاً موحِّداً - لاحظ كتابي ( شرح ديوان الشيخ عبد القادرالكيلاني وشئ في تصوفه ) الجزء الاول الصفحات \ 93-104 .<br />
فالحب الروحي المثالي المجرد عن رغبة الجسد ونزوة الغريزة ، يجعل من صاحبه في حالة اندماج و التصاق حقيقي بالمحبوب فتتألق النزعة الوجدانية الصافية في شعر الحب الصوفي .<br />
ولاحظ قول السهروردي :<br />
<br />
لمعت نارهم وقد عسـعس<br />
الليل وملّ الحادي وحار الدليل<br />
فتأملتها وفكري من البيـن<br />
علـيل ، ولحظ الغرام الدخيلُ<br />
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى<br />
وغـرامي ذاك الغرام الدخيلُ<br />
ثم مالوا إلى الملام فقالوا :<br />
خُلَّبٌ مـا رأيـت أم تـخييلُ<br />
<br />
اما في فن الوصف فالشعراء بطبيعة انفسهم ودواخلهم وصّافون وبسبب اتساع خيالهم و دقة ملاحظتهم فالشعر العربي زاخر بفن الوصف ابتداءا من العصر الجاهلي وحتى الشعرالمعاصر في هذا الوقت. اما في العصر العباسي فنظرا للتطور الحضاري و النمو الاقتصادي فقد اتسع مجال الوصف وظهرت عدة اتجاهات في الوصف اهمها الاتجاه القديم وقد امتدت يد الحضارة لهذا الاتجاه بالتهذيب والتطوير وفقا للتطور الزمني والحضاري وفيه وصف الشعراء الرحلة في الصحراء ووصف الناقة و الفرس و الليل و النجوم و وصف المعارك و الحروب ومن ثم الاتجاه اتجديدي في العصرالعباسي ويتمثل في الابتكار الجديد اذ كان نتاج التطور الحضاري و النمو الاقتصادي و شيوع الترف والاسراف , وفيه وصفوا المظاهر الحضارية كالجسور والحدائق والبساتين والرياض والحدائق والزهور والموائد والقصور والمآكل والمشارب.<br />
لاحظ قول ابي الفرج في وصف جسر جديد شيد<br />
على نهر دجلة:<br />
<br />
أيا حبذا جسراً على متن دجلة<br />
بإتقان تأسيس وحسنٍ ورونق<br />
جمالٌ وفخر للعراق ونزهة<br />
وسلوة من أضناه فرط التشوق<br />
<br />
كما وصفوا القصور وما فيها من فرش وأثاث ورياش وما يحيط بها من حدائق غنّاء تتغني فيها الطيور وتلعب فيها الظباء والغزلان و وصفوا الآلات الموسيقية والنغمية والألعاب ورحلات الصيد والطرد و وصفوا الخمرة ومجالسها وأدواتها وسقاتها وغلمانها وما يتردد فيها من أصوات المغنين والمغنيات.<br />
اما فن الهجاء فنلاحظ فيه في العصر العباسي اتجاهين الهجاء السياسي والهجاء الشخصي وقد امتاز اللونان معاً بالسخرية الشديدة والإيذاء المؤلم فالهجاء السياسي في الاغلب اتجه نحو التركيز على الإنحراف الديني و نسب الشذوذ و الزندقة للمهجوين .<br />
و مِنْ الهجاء السياسي او الهجاء العام قول دعبل الخُزاعي في هجاء المعتصم و الواثق:<br />
<br />
خليفةٌ ماتَ لمْ يَحزنْ لهُ أحدُ<br />
و آخرٌ قامَ لمْ يفرح به أحدُ<br />
فَمَرَّ هَذا وَمَرَّ الشُؤمُ يَتبَعُهُ<br />
وَقامَ هَذا فَقامَ الشُؤمُ وَالنَكَدُ<br />
<br />
و الهجاء الشخصي اتجه نحو السخرية ورسم الصورالهزلية المضحكة والمعيبة للمهجو. مثال ذلك :<br />
قول ابن الرومي في الهجاء :<br />
<br />
ولحية يحملها مـائق<br />
مثل الشراعين إذا أشرعا<br />
تقوده الريح بها صاغرا<br />
قودا عنيفا يتعب الأخدعا<br />
فإن عدا والريح في وجهه<br />
لم ينبعث في وجهه إصبعا<br />
لو غاص في البحر بها غوصة<br />
صـاد بها حيتانه أجمعا<br />
<br />
والزهد ليس ظاهرةً جديدة على العصر العباسي إنما هو من عصر الصحابة او التابعين ثمّ العصر الأموي الذي برز فيه الكثير من الشعراء في أشعارهم بوادر للزهد والتصوف مثل الحسن البصري وقطع الأسباب المتصلة بالقلوب .لذا أصبح الشعر الذي ينظم في الامور الزهدية والدينية بذاته اصبح سلاحا حادا يواجه تيار الزندقة و الإنحرافْ و المجون.<br />
<br />
و الزهد بحد ذاته يعتبر سلوكية يهدف للابتعاد عن الدنيا وهجرها والالتزام بالعبادات والطاعات الربانية .<br />
أما التصوف فهو نزعة روحية خالصة اساسها المجاهدة والرياضة الروحية والوصول للكشف عن الذات الالهية. وقد ظهر من الرجال المتصوفين اشتهر الشيخ معروف الكرخي والجنيد البغدادي والحلاج والقاضي الفاضل وابن الفارض والشيخ عبد القادرالكيلاني والسهروردي .<br />
لاحظ الشيخ عبد القادرالكيلاني يقول:<br />
<br />
مافي الصبابة منهل مستعـــــــــــذب<br />
الا ولي فيه الالذ الاطيــــــــب<br />
اوفي الوصال مكانة مخصوصــــــة<br />
الا اومنزلتي اعز واقـــــــرب<br />
وهبت لي الايام ر ونق صفوهـــــــا<br />
فغلا مناهلها وطاب المشرب<br />
اضحت جيوش الحب تحت مشيئتي<br />
طوعا ومهما رمته لايغـــــرب<br />
<br />
راجع كتابي ( الغزل في الشعر العربي ) صفحة 233- 258.<br />
ومن النساءِ المشهوراتِ بالعبادة والصوم والاستغراق في الذات العلية الشاعرة رابعة العدوية و قد نادت بالحب الإلهي .<br />
لاحظ قولها تناجي حبيبها الله تعالى :<br />
أحبك حبين حب الهوى<br />
وحبـًا لأنك أهلاً لذاكـا<br />
فأما الذي هو حبّ الهوى<br />
فشغلي بذكرك عمن سواكا<br />
وأما الذي أنت أهل له<br />
فكشفك للحجبِ حتى أراكا<br />
و شعر الزهد الخالي من الغلو يتجلى في شعر أبي العتاهية وشعر أبي نواس الشاعر الماجن بعد توبته في شيخوخته فله أبيات في الزهد تعد من روائع الشعرالعربي وقيل انه قالها في اخريات ايامه بعد أنَ تيقظ من غفلته و تاب إلى الله.<br />
لاحظ قوله في الزهد :<br />
<br />
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً<br />
فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ<br />
أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تضرعاً<br />
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمْ<br />
إنْ كانَ لا يرجوك إلا مُحسنٌ<br />
فبمن يلوذ و يستجيـر المجرم<br />
مالي إليكَ وسيلةً إلا الرجــا<br />
و جميل ظني ثمَّ إني مسلـمُ<br />
<br />
اما في شعرالحكمة - وكانت هذه في الجاهلية ايضا قالها كثير من شعراء الجاهلية مثل زهير بن ابي سلمى ولبيد - وقد أثرَّت حركة الترجمة الواسعة في شعر الحكمة فنجد أن بعض الشعراء في العصر العباسي استوعبوا الحكم اليونانية والفارسية و الهندية التي ترجمت للفارسية ثم نقلها ابن المقفع وغيره إلى العربية فتمثلوا بها شعراً ، وضمنوا بعضها أبياتهم مثل كتاب( كليلة ودمنة ) ذي الاصول الهندية او كتاب( الأدب الكبير) وكتاب ( الأدب الصغير) اللذين نقل فيهما ابن المقفع من تجارب الفرس وحكمهم الكثير .<br />
لاحظ قول صالح عبد القدوس يقول :<br />
<br />
المرء يجمع و الزمان يفـرق<br />
ويظـل يرقع و الخطوب تمزق<br />
ولأن يعادي عاقلا خيـر له<br />
مـن أن يكون له صديق أحمق<br />
فارغب بنفسك أن تصادق أحمقا<br />
إن الصديق علي الصديق مصدق<br />
وزن الكلام إذا نطقت فإنما<br />
يبدي عيوب ذوي العقول المنطق<br />
<br />
اما في الرثاء فقد أثرَّت الحضارة فيه فبعدَ أن كان الشعراء العرب ينظمونه في البحور الطويلة اصبح الشعراء في هذا العصر ينظمونه في البحور الخفيفة. وفي رثاء الخلفاء وليس جديدا على الشعر العربي رثاؤهم . لاحظ قول ابي نؤاس في رثاء الامين :<br />
<br />
طوى الموت ما بيني وبين محمّد<br />
وليس لما تطوي المنية ناشر<br />
وكنت عليه أحذر الموت وحده<br />
فلم يبق لي شئ عليه أحاذر<br />
<br />
كما بكى شعراء هذا العصر أبنائهم ورثوهم مثلما فعل الشعراء في العصور المتقدمة قبلهم و مِنْ ذلك رثاء ابن الرومي لأ بنه محمد حين توفاه الموت اوخطفته يد المنون :<br />
<br />
بكاؤكما يُشفي و إنْ كانَ لا يُجدي<br />
فجودا فقد أودى نظيركما عندي<br />
بُنيَّ الذي أهدتـهُ كفاي للثـرى<br />
فيا عزَّة المَهديّ يا حسرةَ المُهدي<br />
ألا قاتل الله المنايا ورميـها<br />
من القوم حبات القلوب على عمد<br />
توخى حمام الموت أوسط صبيتي<br />
فللَّه كيف اختار واسطة العقد<br />
<br />
الا ان من جديد رثاء العصر العباسي رثاء المغنين والاحبة والاصدقاء و تضمن هذا الرثاء أوصافًا لم يعرفها الرثاء العربي.<br />
و من ذلك قول أحدهم في رثاء المغني إبراهيم الموصلي:<br />
<br />
بكت المسمعات حزناً عليه<br />
وبكاه الهوى وصفو الشراب<br />
وبكت آلة المجالس حتى<br />
رحم العود دمعة المضراب<br />
<br />
اما الخمرة فهي فنٌ أدبيٌ ليسَ بجديدٍ على الشعر العربي وإنما هو قديم ابتدأ قبلَ الإسلامْ ومن أشهرالشعراء في العصرالجاهلي في وصفِ الخمرة الاعشى وعمرو بن كلثوم ولما جاء الإسلام أمر بتحريمها وحدّ شاربيها وصانعيها وبائعيها وحامليها . ولذا قلت معاقرتها والقول فيها واقتصر على نفرٍ قليل . وفي العصر الاموي انبعثت من جديد على ايدي عدد من الشعراء من غير المسلمين مثل الاخطل .<br />
<br />
اما في العصر العباسي فقد شاعت الخمرة وتوسعت مجالسها وكثرت حاناتها وزاد الإقبال عليها نتيجة الترف وكثرة اللهو ومجون العصر وانفتاحه ويبدو أن الحرية وراء هذا الإقبال. وفي كل هذا قال الشعراء وانشدوا ومن اشهر من قال فيها الشاعر ابو نؤاس والشاعر غالب عبد القد وس الذي يقول فيها :<br />
<br />
أديرا عليّ الكأس إنّي فقدتها<br />
كما فقد المفطوم درّ المراضعِ<br />
<br />
و قول ابي نؤاس هذه الابيات :<br />
<br />
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء<br />
وداوني بالتي كانت هي الداء<br />
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها<br />
لو مسها حجر مسته سراء<br />
قامت بإبريقها والليل معتكر<br />
فلاح من وجهها في البيت لألاء<br />
فأرسلت من فم الإبريق صافية<br />
كأنما أخذها بالعين إغفاء<br />
رقت عن الماء حتى ما يلائمها<br />
لطافة وجفا عن شكلها الماء<br />
<br />
اما الفترة الزمنية التي تحدثت عن شعرائها فتشمل القرنين الثاني والثالث أي من \ 132هجرية - 746 ميلادية وحتى بداية القرن الرابع الهجري أي لسنة \400 هجرية .<br />
<br />
فالشعراء الذين عاشوا في هذه الفترة الزمنية من الدولة العباسية هم من تحدثت عن اشهرهم في هذا المجلد على ساتبعه بمجلد اخر- باذن الله تعالى - اتحدث به عن شعراء الفترة الاخرى حتى نهاية الدولة العباسية بما فيها تلك الدويلات والامارات التي انفصلت عن جسم الدولة العباسية وتشكلت فيها حكومات محلية مستقلة او شبه مستقلة عن الحكم العباسي .<br />
واعتذر ان اطلت قليلا فالدراسة موجزة والموضوع طويل.<br />
<br />
أ. فالح الحجية</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-8502592798986926192018-01-20T23:51:00.000-08:002018-01-20T23:51:01.551-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<br />
<br style="color: #0066ff; font-family: "Traditional Arabic"; font-size: 20px; font-weight: 700; text-align: start;" />
<div id="post_message_25176" style="color: #0066ff; font-family: "Traditional Arabic"; font-size: 20px; font-weight: 700; text-align: start;">
<div align="center" style="font-family: tahoma, arial, helvetica, verdana; font-size: 12pt; font-stretch: normal; font-variant-east-asian: normal; font-variant-numeric: normal; line-height: normal;">
<b><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"></span></b></div>
<div align="center">
<b><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"><span style="color: red;"><span><span style="font-family: traditional arabic;">النحو العربي ودوره في تدريس اللغة العربية وفهم نظامها<br />الأستاذ الدكتور علي أحمد مدكور<br />عميد كلية التربية جامعة السلطان قابوس<br /></span></span></span></span></b></div>
<b><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"><br /><div align="right">
<span style="color: black;"><span style="font-size: x-large;"><span style="font-family: traditional arabic;">مقدمة:<br /><br />اللغة قدر الإنسان. فلغة الإنسان هي عالمه. وحدود لغة الإنسان هي حدود عالمه. فهي ولاء وانتماء، وثقافة وهوية، ووطن وشخصية.<br /><br />فاللغة هي الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله، والفكر الذي يدور فينا وحولنا. فهي تحمل المجتمع في جوفها، وتعبر عن ضميره، وتشكل حياته، وتوجه سلوك أفراده، وجماعاته، ونظمه ومؤسساته.<br /><br />واللغة هي الأم التي تنسج شبكة الوفاق بين أفراد المجتمع وجماعاته، ونظمه ومؤسساته، وقيمه ومعتقداته. فلا وفاق بدون لغة. ولا مجتمع بدون وفاق.<br /><br />وكما تسهم اللغة في صياغة المجتمع، فإن المجتمع يسهم بدوره في صياغتها وتطويرها. فالجماعة الناطقة باللغة هي التي تهب الألفاظ معانيها، وتشتق من المفردات ما يعبر عن مستحدثاتها ومراميها.<br /><br />واللغة منهج للتفكير، ونظام للاتصال والتعبير. فثقافة كل مجتمع كامنة في لغته، وفي معجمها، ونحوها، وصرفها، ونصوصها، وفنها، وأدبها.. فلا حضارة إنسانية دون نهضة لغوية.<br /><br />أزمة العربية في بلادها:<br /><br />اللغة العربية أهم مقومات الثقافة الإسلامية. وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطاً بعقيدة الأمة وهويتها وشخصيتها. لذلك صمدت أكثر من سبعة عشر قرناً سجلاً أميناً لحضارة أمتها وازدهارها،. وشاهداً على إبداع أبنائها وهم يقودون ركب الحضارة التي سادت الأرض حوالي تسعة قرون.<br /><br />وفي اللغة العربية ذاتها سمات تميزها. من أهم هذه السمات قدرتها الفائقة على حساسية التواصل، فاللغة العربية لغة غنية ودقيقة إلى حد كبير. فقد استوعبت التراثين العربي والإسلامي، كما استوعبت ما نقل إليها من تراث الأمم والشعوب ذات الحضارة القديمة كالفارسية واليونانية والرومانية والمصرية.. إلخ. كما نقلت إلى البشرية في فترة ما، أسس الحضارة وعوامل التقدم في العلوم الطبيعية والرياضيات والطب والفلك والموسيقى. وما تزال تنقل إلى العالم اليوم العقيدة الشاملة ممثلة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالقرآن نزل بلسان عربي مبين. وهذه حقائق يجب ترسيخها في عقول الناشئة، كما ينبغي أن تكون أهدافا ثابتة لعلوم اللغة والأدب والفنون خاصة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية عامة.<br /><br />وهي لغة موسيقية شاعرة. فإذا تكلم ذو بيان فإنك تطرب لسماعها، وتفهم بيانها، وترتاح لمعانيها وأصواتها. وهي بهذا الجرس والرنين منحت العربي التفوق في الأداء كلاماً وكتابة، وغناء وشعراً على وزن وقافية. لذلك يجب التركيز في مناهج تعليمها على تدريب المتعلم على التذوق الأدبي والفني، وعلى الإحساس بالجمال في الأداء اللغوي، وعلى حسن الإلقاء.<br /><br />وهي لغة متميزة من الناحية الصوتية؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات في اللغات السامية. وأصواتها تستغرق كل جهاز النطق عند الإنسان، ابتداء بما بين الشفتين في نطق حروف كالباء والميم والفاء، وانتهاء، بجوف الناطق في حروف كالألف والواو والياء.(1)، لذلك فإن تدريب الأبناء على إخراج الحروف من مخارجها، ونطق الأصوات بطريقة سليمة، يعتبر هدفاً من أهم أهداف مناهج تعليم اللغة العربية.<br /><br />وبالرغم من تميز اللغة العربية، إلا أننا نعيش أزمة لغوية طاحنة، هي – في الواقع – دليل على انتكاسة الأمة وتبعيتها، وتخلفها عن الركب. ويرجع نبيل علي أسباب الأزمة إلى عوامل كثيرة من أهمها:<br /><br />1. عدم إلمام الكثيرين لدينا بجوانب إشكالية اللغة؛ حيث يقتصر تناولها في أغلب الأحوال على الجوانب التعليمية، والمصطلحية، خوفاً من الخوض في دراسة علاقة اللغة العربية بالدين والسياسة القومية والوطنية.<br /><br />2. قصور العتاد لمعظم منظرينا اللغويين. وخاصة بعد أن أصبحت اللغة ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي، والعلمي، والتربوي، والفني، والإعلامي، والتقاني.<br /><br />3. خطأ التشخيص لدائنا اللغوي. حيث يوجه الاتهام إلى إدانة اللغة العربية ذاتها، تحت زعم أن هذه اللغة الإنسانية العظيمة تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر!<br /><br />4. الابتعاد عن السبب الحقيقي وراء ذلك، وهو العولمة الاقتصادية. وانبهار الجماهير العربية بثقافة الغرب ولغاتها، وتدهور اهتمام الجماهير باللغة العربية، وعدم اعتزازهم بها. وإلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة والجامعات الخاصة، التي تعلم باللغات الأجنبية، والافتخارُ بذلك واعتبارُه نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، ودليلاً على التقدم الحضاري !!! وهنا تقوم اللغة العربية دليلاً شاهداً على الانتكاسة الثقافية للأمة في الوقت الحاضر.<br /><br />5. غياب إرادة الإصلاح اللغوي. إننا نعاني من أزمة لغوية حادة تلطخ جبيننا الحضاري. وجاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى الأمة بعداً جديداً، يتعلق بضرورة معالجة اللغة العربية آلياً بواسطة الحاسوب.(2) ومع ذلك فحركات التعريب تواجه معارضة شديدة بعد أن سارت شوطاً لا بأس به من قبل. والحكومات عاجزة، أو فلنقل بصراحة غير راغبة في فرض تشريع ملزم بعدم استخدام اللغات الأجنبية في التعليم، وفي لافتات المحلات، وغير راغبة في أن تقتدي حتى بإسرائيل التي تحرم استخدام المصطلح الأجنبي الذي يتم إقرار مقابل له باللغة العبرية .. ووصل بهم الأمر إلى أنهم يعلمون أبناء العرب اللغة العربية باللغة العبرية!<br /><br />6. عولمة تعليمنا، بحيث لا تعكس سياساته، ومفاهيمه، وسلوك مدرسيه، وأداء طلابه، ما للغة الأم من أهمية. فالاهتمام باللغة العربية لا يتم إلا من خلال المقرر الخاص بها! وأما المقررات الأخرى فهي حرة طليقة من قيود العربية والالتزام بها. وفي مقرر اللغة العربية ذاته، يتم اختزال العربية في النحو. ويتم اختزال النحو في إعراب أواخر الكلم! ويصل الأمر إلى حد الإبكاء عندما تعلم اللغة العربية من قبل المدرسين باللهجات العامية! ... وهكذا لم يثمر التعليم العربي – في الواقع- إلا مزيداً من عزوف الطلاب عن مداومة تعلم لغتهم الأم، وتذوق مآثرها!<br /><br />7. التعليم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام والعالي، بالرغم من الحقيقة العلمية التي أجمع عليها الباحثون واللغويون، وهي أن التعليم بغير اللغة الأم يغلق مفاتيح الفكر، ويعوق عملية الإبداع والابتكار لدى المتعلمين، إلا أن المخططين للسياسة التعليمية قد صموا آذانهم – رغم الاعتراضات المتكررة في كل الندوات والمؤتمرات – عن سماع ذلك. وسمحوا بإنشاء المدارس التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام وهو الأمر المحرم لدى الدول المتقدمة. كما سمحوا بفتح الشعب والأقسام التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العالي. غير ناظرين إلى التجربة المصرية القديمة التي كانت تعلم الطب باللغة العربية، وخرجت الأفذاذ النادرين الذين لا يثق معظم الناس إلا بطبهم وعلمهم. وغير مهتمين بالتجربة السورية الرائعة السائدة حاليا!<br /><br />ولقد أدى الاهتمام بالتعليم باللغات الأجنبية إلى إهمال حركة التعريب بل وإلى معارضته من قبل كثيرين من الأكاديميين، بل ومن بعض رواد الحداثة وما بعدها!.<br /><br />إننا بحاجة إلى إثارة وعي القيادات السياسية في الوطن العربي بخطورة المشكلة اللغوية. التي هي من الخطورة والأهمية بحيث يصعب علاجها أو تناولها من دون إستراتيجية واضحة للإصلاح اللغوي الشامل، وذلك في إطار خطة قومية أكثر شمولا لإعداد الأقطار العربية للدخول إلى عصر المعلومات والمعرفة.(3)<br />إن رسم الخطة القومية سالفة الذكر يتطلب الإجابة عن الأسئلة الآتية:<br /><br />كيف نهيئ لغتنا العربية لمطالبة عصر المعلومات؟<br /><br />كيف نبعث الحياة في كيان هذه اللغة العظيمة تنظيرا، وتعليما، واستخداما؟<br /><br />كيف نحررها من احتكارية بعض المتخصصين فيها الذين يدورون حولها ولا يردون حوضها؟<br /><br />كيف نخرجها من دائرة اهتمام المتخصصين فقط إلى الدائرة الأوسع والأشمل. وخاصة بعد أن صار علم اللغة الحديث يستند – فيما يستند - إلى الرياضيات، والهندسة، والإحصاء، والمنطق، والبيولوجي، والفسيولوجي، والسوسيولوجي، وأخيراً علم الحاسوب ونظم المعلومات؟<br /><br />كيف نهتم بالمعالجة الآلية للغة العربية، ونعرّب نظم التشغيل، وننتج لغات برمجة عربية، ونستعد للدخول إلى عصر الترجمة الآلية عن طريق اللغة العربية. (4)<br /><br />إن التقاعس في هذه الأمور في غاية الخطورة؛ حيث إن إسرائيل قد تقدمت إلى منظمة الوحدة الأوروبية لتطوير نظم الترجمة الآلية من لغات دول السوق إلى اللغة العربية (لا العبرية)؛ وذلك حتى تتأهل لدخول الأسواق العربية من هذا الباب، وحتى تستطيع النفاذ المباشر إلى التفاصيل الفنية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات، والاحتفاظ بالأسرار التكنولوجية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات. فإذا سمحنا لإسرائيل أن تتولى نيابة عنا مهمة معالجة اللغة العربية آلياً، فعندئذ تكون قد حلت بنا كارثة ثقافية كبرى.(5)<br /><br />ضرورة تعليم الناشئة مبادئ البرمجة:<br /><br />إن نظم التشغيل تتعامل حاليا مع اللغة العربية مثلها مثل غيرها من اللغات الأخرى على مستوى عنصر الحرف . لكن مع تقدم نظم التشغيل الآتي لا محالة، سوف ترتقي هذه النظم للتعامل مع الكلمة العربية، أي على المستوى الصرفي، ثم مع الجملة العربية؛ أي المستوى النحوي. لكن هذا يحتاج إلى جهود المستثمرين، ومساهمة الباحثين والخبراء والمطورين؛ لأن شركات المايكروسوفت الأجنبية ليس لديها الدافع للإنفاق على اللغة العربية، وليس لديها الخبراء في هذه اللغة أيضاً. لذا يحتاج الأمر إلى جهود المخلصين من أبناء الوطن العربي في كل هذه المجالات.<br /><br />كما أننا في أمس الحاجة إلى أن نعلم صغارنا مبادئ البرمجة باللغة العربية؛ نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين البرمجة والفكر من جانب، وبين الفكر واللغة من جانب آخر. وقد عربت لغات سهلة للصغار مثل لغة "اللجو" ولغة "البيسك" إلا أن جهود التعريب قد توقفت – للأسف – هي الأخرى، في ظل غياب الحماس للتعريب عموماً إضافة إلى أسباب أخرى.<br /><br />النحو منهج للتفكير ونظام للتعبير والاتصال :<br /><br />ولكن أين موقع النحو من كل هذا؟ وما دوره في تدريس العربية وحفظ نظامها؟<br /><br />إن الغاية من تدريس النحو إرساء النظام اللغوي في الذهن، وإقامة اللسان، وتجنب اللحن في الكلام؛ فإن تحدث المتعلم أو قرأ أو كتب كان واضح المعنى، مستقيم العبارة، جميل الأسلوب.<br /><br />إن تعلم اللغة العربية إنما هو عملية ذهنية واعية لاكتساب السيطرة على الأنماط الصوتية والنحوية والمعجمية، من خلال دراسة هذه الأنماط وتحليلها بوصفها محتوى معرفياً. فتعلم اللغة يستند إلى الفهم الواعي لنظام اللغة كشروط لإتقانها. فالكفاية المعرفية سابقة على الأداء اللغوي وشرط لحدوثه.(6)</span></span></span></div>
<div align="right">
<b style="background-color: #f5f5ff; font-family: "Traditional Arabic"; font-size: 20px;"><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"><span style="color: black;"><span style="font-size: x-large;"><span style="font-family: traditional arabic;">النظريات اللغوية وموقفها من النحو:<br /><br />لكن تدريس النحو قد خضع لنظريات لغوية حددت موقفها عبر التاريخ.<br /><br />إن النحو العربي من حيث محتواه وطرائق تدريسه ـ كما يعلم عندنا ـ ليس علماً لتربية الملكة اللسانية العربية، وإنما هو علم تعليم وتعلم صناعة القواعد النحوية! وقد أدى هذا مع مرور الزمن، إلى النفور من دارسته، وإلى ضعف الناشئة في اللغة ذاتها.<br /><br />إن جوهر المشكلة ليس في اللغة ذاتها، إنما هو في كوننا نتعلم العربية قواعد صنعة، وإجراءات تلقينية، وقوالب صماء، نتجرعها تجرعاً عقيما، بدلا من تعلمها لسان أمة، ولغة حياة.(7)<br /><br />إنه لا يمكن فهم دور النحو في تدريس اللغة العربية، دون فهم النظريات التي تفسر نظام اللغة، وتحكم طرائق تعليمها وتعلمها على مر العصور.<br /><br />ويمكن القول ـ بصفة عامة ـ إن تفسيرَ نظام اللغة وطريقةَ تعليمها وتعلمها، والوقوفَ على دور النحو في ذلك، قد مر عبر العصور من خلال ثلاث نظريات رئيسية هي :<br /><br />النظرية البنيوية<br /><br />والنظرية السلوكية<br /><br />والنظرية المعرفية<br /><br />وسنعرض لكل نظرية من هذه النظريات، ولدور النحو فيها من حيث المبنى والمعنى والتعليم والتعلم فيما يأتي من هذه الورقة.<br /><br />النظرية البنيوية<br /><br />يرى الباحث أن "البنيوية" اسم حديث نسبياً لطروحات قديمة. بدأها الإمام عبدالقاهر الجرجاني ـ المتوفى سنة 471هـ ـ فيما يسمى بنظرية "النظم" التي تناولها بالتفصيل في كتابه: دلائل الإعجاز. ثم أعاد طرحها ـ بشكل أو بآخر ـ دي سوسير تحت اسم "البنيوية". ثم أعاد الحديث عنها تشومسكي في الستينات من القرن العشرين تحت اسم النظرية "التحويلية التوليدية" أو "النحو التوليدي"، الذي ظن كثير من الباحثين أنها ثورة في كيفية تعلم اللغة غير مسبوقة!<br /><br />البنيوية بين عبدالقاهر<br /><br />ودي سوسير وتشومسكي<br /><br />نظرية النظم عند عبدالقاهر:<br /><br />اهتم السابقون على الإمام عبدالقاهر الجرجاني بالألفاظ وجعلوا لها شأنا كبيرا في تحقيق بلاغة الكلام. ورفض عبدالقاهر ذلك بشدة، على اعتبار أن الألفاظ عنده تابعة للمعاني، وأنه "لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ؛ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها. إن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق. (8)<br /><br />فالإعجاز في النص القرآني أو النص الأدبي البليغ عند عبدالقاهر لا يكمن في الألفاظ بالدرجة الأولى، وإنما يكمن في الأفكار. فطريقة بناء الفكرة وترتيبها وإخراجها هي أساس البلاغة. والبلاغة التي ترجع إلى الفكر أكثر من اللفظ تجعل لغتها عالمية، يستمتع بها أصحاب اللغات الأخرى حين تترجم لهم. فلن يستمتع غير العربي ـ مثلا ـ بنص عربي يترجم له، إذا كان كل ما يميزه هو مجموعة من الألفاظ العربية الجميلة لأن الترجمة لن تستطيع مهما بلغت دقتها نقل جمال الألفاظ العربية، وإنما يستمتع حيث يكون النص ذا قيمة فكرية. (9)<br /><br />إن النَّظْم عند عبدالقاهر ذو مستويين: مستوى فكري نفسي، ومستوى لفظي صوتي، والأول هو الذي يستدعي الثاني ويؤلفه، وليس العكس. فهو يربط بين البلاغة - باعتبارها فناً قولياً - وبين الفنون الجميلة الأخرى، مثل الرسم والنحت والتصوير والنقش. ويرى أن الفنان هو الذي يهب المادة الخام وجوداً جديداً، فقد يتناول اثنان قطعة من الحجر، فيشكل واحد منهما من هذه المادة تمثالاً رائع الدقة والجمال، يكاد ينطق بالمعاني التي أودعها فيه الفنان، في حين يصنع منها الآخر مسخا مشوها لا يعبر عن شيء. وهنا تجد الفارق كبيراً بين الصورتين مع أنهما في الأصل من مادة واحدة. وكذلك الحال بين الشاعر والشاعر الآخر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي هي محصول النَّظْم (10)<br /><br />والعمل البلاغي الجميل في نظرية عبدالقاهر لا يمكن الفصل فيه بين الشكل والمضمون. ولا يمكن النظر فيه إلى كل جزئية على حده. ولكنه يجب النظر إليه باعتباره كلاً متماسكاً. فالنظم من النظام. فلو أخذنا مثلا جزءاً من التمثال الجميل كأنف التمثال، وفصلناه عن بقية الجسم، فإنه لا يمكن الحكم عليه بالجمال أو عدمه، إنما يحكم عليه بموضعه من التمثال وتناسقه معه.<br /><br />كذلك الأمر في الفن القولي؛ فالنَّظْم أن تكون كل جزئية فيه في خدمة النظام العام. وأن تكون كل جزئية في مكانها من التعبير تقديماً أو توسطاً أو تأخيراً. وأن تكون هناك علة وسبب يقتضي وضع كل جزئية في مكانها، حتى لو وضعت جزئية في غير مكانها لاختل النَّظْم. وهذا لا يمكن أن تحققه الألفاظ ولا غرابة الكلمات ولا خفتها، وإنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات، وموافقة هذه المعاني النفسية.<br /><br />فالنظم إذن عند عبدالقاهر هو إدراك المعاني النحوية والملاءمة بينها وبين المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. أو بمعنى آخر: هو إدراك المعاني النحوية، واستغلال هذا الإدراك في حسن الاختيار والتأليف. (11)<br /><br />وليس المقصود بالمعاني النحوية هنا المعنى الشائع للنحو، الذي هو إعراب أواخر الكلام، ونطق الكلام حسب القواعد الإعرابية. وإنما المقصود بقية القرائن النحوية من الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والابتداء والإخبار. فتنظر في وجوه كل باب وفروقه. فتعرف لكل حال موضعها. وتجيء بها حيث ينبغي لها، وتوضع في معناها الخاص الذي يلائم المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. فالاسم ، أي اسم، قد تجيء به فاعلا مرة، وقد تجيء به مفعولا مرة أخرى، وقد تقدمه مرة ثالثة، وقد تؤخره مرة رابعة، لأنه يدل على معنى نفسي خاص في نظم الكلام وتركيبه في كل حالة. فهناك فوارق ـ مثلا ـ بين أن تقول : زيد ينطلق وينطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد ... وهناك فوارق في وجوه الشرط والجزاء ـ مثلا ـ بين أن تقول : إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، .. وكذلك الأمر في الحال، وفي الفاعل والمفعول .. إلخ<br /><br />إذن لكي يتحقق النَّظْم لا يكتفى بالإدراك الواعي للمعاني النحوية، بل لابد من إدراك كيفية استغلال هذه المعاني في بناء العبارة ونسجها، فبناء العبارة ونسجها عند عبدالقاهر- يتطلب أمرين: الأول الاختيار والثاني التأليف. أما الاختيار فيراد به اختيار الكلمة المناسبة للمعنى النفسي لدى الأديب. وهنا ينبغي إدراك أنه حتى في المترادفات، هناك كلمة أفضل من كلمة في سياق معين، بينما الأخرى قد تكون هي الأفضل في سياق آخر. أما التأليف فيراد به وضع كل كلمة في مكانها المناسب من العبارة وفقا لمعناها النحوي؛ فوضع الكلمة موضع الابتداء يختلف عن وضعها موضع الإخبار. ومجيء الخبر مقدما يختلف عن مجيئه في موضعه مؤخراً. ومجيء المفعول مقدماً على الفعل والفاعل يختلف عن مجيئه في موضعه بعدهما .. وهكذا .. فالعبرة بمدى وفاء الكلمة للمعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه.(12)<br /><br />اللغويون المحدثون:<br /><br />وقد حاول الباحثون ـ على نحو ما فعل عبدالقاهر ـ بناء ماسماه بنظرية إسلامية للغة، تقوم على أساس أن اللغة عملية عقلية معقدة تتجلى في توخي معاني النحو بين معاني الكلمات بناء على مقتضيات العقل ، لبناء تراكيب في الذهن متطابقة مع مقاصد المتكلم وأغراضه. هذه التراكيب أساسها المعاني النحوية والمعاني المعجمية، حيث إن عمليات التفكير العقلية لا تتعامل مع معاني الكلمات مفردة، بل تتعامل معها عندما تكون مرتبطة بمعاني النحو. هذه العمليات العقلية تربط أغراض المتكلم بهذه التراكيب في داخل الذهن، ثم تربط هذه التراكيب مع شكلها الصوتي ـ الألفاظ ـ في خارج الذهن، في الفم واللسان والبلعوم(13)<br /><br />وعلى هذا ترى هذه النظرية أن المعاني هي الأساس في تركيب الكلام، بينما تبقى الأصوات ـ أي الألفاظ ـ تابعة لهذه المعاني وخادمة لها. كما ترى هذه النظرية أن اختلاف الألسن بين البشر آية من آيات الله، قال تعالى: " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين". (الروم: 22)<br /><br />ويرى صاحب هذه الفكرة أن الله قد أودع في جهاز اكتساب اللغة وإنتاجها قوانين أساسية لأي لغة إنسانية في كل زمان ومكان. فمعاني الكلام: الخبر والاستفهام والتعجب والأمر والنهي، وما إلى ذلك، كلها متوفرة لجميع البشر. إضافة إلى ذلك فقانون الإسناد من مسند ومسند إليه هو الركيزة الأساسية في بناء الكلام الإنساني.وعملية الإسناد هذه تقوم على قواعد التعليق التي ذكرها الجرجاني. وهي قواعد فطرية وضعها الله في ذهن الإنسان. وترى أن الاسم له أهمية كبيرة في عملية الإسناد مقارنة بالأفعال والحروف التي لا تقوم بهذا الدور. قال تعالى : "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" (البقرة:31)<br /><br />وترى هذه النظرية أن قواعد التعليق السابق الإشارة إليها تساعد على وصف الاختلاف بين اللغات. كما يرى صاحب هذه الدراسة أن النظرية الإسلامية للغة والأفكار التي استندت إليها، لها إمكانات هائلة لم تتحقق بعد. ويمكن تحقيقها إذا توفرت لها الهمم والعزائم والرغبات الصادقة.(14)<br /><br />العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات:<br /><br />ويمكن الربط بين القوانين الأساسية لاكتساب اللغة وإنتاجها في التصور الإسلامي السابق، وبين ماسماه بعض الباحثين ـ وهو بصدد بيان أوجه الالتقاء والافتراق بين اللغة الإنسانية ولغة الجينات ـ بالعمومية اللغوية.(15) فقد ثبت نظرياً، ومن خلال البحوث الميدانية للأنثربولوجيا اللغوية، أن جميع اللغات الأساسية تشترك في خصائص عديدة، سواء على مستوى الصوتيات، أو بنية الكلمات، أو تراكيب الجمل وأنماطها. أما لغة الجينات فهي لغة عامة مشتركة بين جميع الكائنات. وهي تتسم بدرجة عالية من العمومية، حيث تستخدم نفس الأبجدية الرباعية، ونفس الكود الوراثي، أو معجم الكلمات (الكودونات)، التي تشفر لنفس مجموعة الأحماض الأمينية.<br /><br />وتفيد القراءة في سفر الإنسان أو الجينوم البشري (16) أن المادة الوراثية لكل الناس سواء. نحن البشر جميعا نشترك في 99.9% من مادتنا الوراثية؛ فالاختلافات بين الشعوب ضئيلة جداً. وهذه الفروق، وإن كانت ضئيلة جدا، موجودة. وستجد من يضخم فيها من العنصريين وأنصار تميز الأجناس، وخاصة ممن يمتلكون العلم في زماننا؛ فمن يمتلك العلم هو صاحب القوة.<br /><br />ولكن ينبغي الإحاطة بأنه رغم العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات، إلا أن عمومية لغة الجينات تفوق عمومية اللغات الإنسانية، نظراً لوحدة أبجدية لغة الجينات، واختلاف أبجدية اللغات الإنسانية واختلاف معاجمها. إلا أنه يبقى أنهما يشتركان في صفة العمومية، ولا ينبغي استبعاد أن العمومية اللغوية هي نتاج العمومية في لغة الجينات... وذلك يحتاج إلى المزيد من البحث بالتعاون مع العلماء المهتمين بكشف أسرار خريطة الجينوم البشري، والعلاقة بين اللغة وبين البيولوجيا الجزيئية.<br /><br />الخاصية التوليدية عند عبدالقاهر:<br /><br />لقد واجه اللغويون قديما وحديثا سؤالاً مهماً هو: كيف للغة الإنسانية المحدودة من حيث عدد الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ وجاءت الإجابة من قبل على يد عبدالقاهر الجرجاني، في سياق حديثه عن المعاني النحوية التي هي الأساس في تشكيل النَّظْم. فهو يرى أن النظم إنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات وموافقتها للمعاني النفسية. فالمقصود بالمعنى النحوي هو الدور الذي تؤديه الكلمة في التركيب، واختلاف هذا الدور للكلمة الواحدة باختلاف التراكيب التي توضع فيها هذه الكلمة.<br /><br />إذن فالكلمة الواحدة تكتسب معاني كثيرة بحسب المكانة التي تأخذها في التراكيب، فإن جاءت فاعلاً يكون لها معنى، وإن جاءت مفعولا يكون لها معنى آخر، وإن جاءت ظرفاً يكون لها معنى ثالث، وإن جاءت حالاً، أو تمييزاً، أو مضافاً إليه، أو مبتدأ، أو خبراً، أو اسما لإن أو خبراً لكان ... الخ فإنها تعبر عن معان مختلفة. وأحيانا تأتي نفس الكلمة مصاغة في صيغة معينة، كصيغة المبالغة، أو اسم الفاعل، أو الصفة المشبهة، أو اسم المفعول؛ فيختلف المعنى النحوي لها في كل حالة. وكذلك الأمر إذا جاءت على وزن فعَل بفتح العين فإنها تختلف عنها هي نفسها إذا جاءت على وزن فعُل بضم العين .. وهكذا وهلم جراً.<br /><br />والجدير بالملاحظة هنا أن اختلاف وضع الكلمة في التركيب يولد معاني نحوية كثيرة. والعربية هنا من أغنى لغات العالم. لكن الأجدر بالملاحظة هنا أيضاً هو أن إدراك الفوارق الدقيقة التي يحدثها تغيير مكانة كل كلمة في الجملة، وإدراك الوضع المناسب للكلمة بحيث تغطي المعنى النفسي المطلوب، هو الذي يحقق معنى النَّظْم، وهو سر البلاغة في القول البليغ.<br /><br />وقد عبر الإمام عبد القاهر عن هذا "التوليد النحوي" الذي يحدث نتيجة الوضع الدقيق للكلمة في الجملة أو العبارة، وقد أعطى مثالاً لذلك بقوله: "فلينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق، وزيد ينطلق ، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، وزيد هو المنطلق... ولننظر في الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج.كما يمكن النظر في الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، وجاءني وقد أسرع(17) وهكذا يتم توليد المعاني النحوية الكثيرة من ألفاظ قليلة وذلك باختلاف موضع الكلمة في الجملة، وبإدراك المعاني الدقيقة للكلمة في السياق، مما يولد المعاني النحوية المختلفة.<br /><br />النحو التوليدي لدى عبدالقاهر وتشومكسي:<br /><br />وقد جاءت الإجابة عن السؤال السابق. وهو كيف للغة الإنسانية المحدودة الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ على لسان تشومسكي صاحب نظرية "النحو التوليدي" في العصر الحديث، التي تتناول كيفية توليد الصيغ اللغوية المتعددة من الكلمات وأشباه الجمل والتي تلخصها مقولته الشهيرة: اللغة هي الاستخدام اللامحدود لموارد محدودة.<br /><br />ويوجه نبيل علي النظر إلى العلاقة في الخاصية التوليدية بين البيولوجيا الجزيئية وبين اللغة. فإذا كانت اللغة تستطيع أن تولد معاني نحوية كثيرة من مفردات وحروف قليلة، فقد أظهر مشروع الجينوم خطأ التقديرات السابقة لعدد جينات النص الوراثي البشري، والتي تقدر حاليا بمالا يزيد عن 35 ألف جين، إذ لا بد أن يكون هذا الرقم غير دقيق، وإلا فكيف لهذا العدد المحدود من الجينات أن يولد كل هذه البروتينات والإنزيمات والوظائف الفسيولوجية، والخصائص البيولوجية والغرائز النفسية؟ لكن الإجابة جاءت عن طريق نظرية النحو التوليدي التي تتناول توليد الصيغ اللغوية المتعددة من حروف وكلمات ومقاطع محدودة.<br /><br />وفي ظل ماطرحناه من "التوليد النحوي" الذي بدأه عبدالقاهر، وبنى حوله تشومكسي نظريته اللغوية، لا يبدو غريبا أن يكون عنوان المحاضرة التي ألقاها أحد علماء البيولوجي في حفل منحه جائزة نوبل هو : التوليد النحوي للحياة(18)<br /><br />ثنائية البنية اللغوية:<br /><br />لقد أقام الإمام عبدالقاهر نظريته في النَّظْم على ثنائية المعاني والألفاظ. إلا أنه قد أعلى من شأن المعاني وجعلها الأساس في اختيار الألفاظ وتركيبها، حيث قال: إنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ، من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك. فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل ستجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها، ولاحقة بها. وإن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق.(19)<br /><br />على النسق نفسه تقريباً أقام تشومكسي نظريته اللغوية على أساس أن منظومة اللغة ذاتُ بنية ثنائية. ويقصد بذلك أن الجملة اللغوية لها بنية سطحية ظاهرة هي تلك التي ننطق بها (أي الألفاظ)، وبنية منطقية عميقة، وهي البنية التي تتشكل في مخ صاحب الجملة قبل النطق بها (أي المعاني المرتبة)... وعملية الإخراج الصوتي هي عملية تحول هذه البنية العميقة، أي البنية الفكرية، وقد تجسدت ألفاظاً، وأصواتاً، ونبراً وتنغيماً، وتقديماً وتأخيراً، وإظهاراً، وحذفاً، وإضماراً ... إلخ.<br /><br />وهكذا نرى أن الثنائية اللغوية لدى العالمين واضحة. ولكننا نرى أن عبدالقاهر كان مبدعاً في تأكيده أن بنية اللغة إنما تبدأ في الذهن بالوقوف على المعاني وترتيبها، والعلم بمواقعها في النفس، وما يستتبع ذلك من دقة الاختيار والترتيب للألفاظ المنطوقة. وربما كان ذلك هو السبب في أن دي سوسير قد سمى الأفكار والمعاني "البنية العميقة".<br /><br />لكننا ـ مع ذلك ـ نفهم من معنى "النَّظْم" أن عبدالقاهر قد جعل الثنائية تتلاشى في عنصر ثالث هو النَّظْم. وجعل البلاغة كلا متكاملاً من المعنى واللفظ معاً. وبما أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، فالنظم ـ إذن ـ عنصر ثالث. فالثنائية اللغوية قد تحولت على يديه إلى ثلاثية(20).</span></span></span></span></b></div>
<div align="right">
<div align="left" class="smallfont" style="font-family: tahoma, arial, helvetica, verdana; font-size: 12px; font-stretch: normal; font-variant-east-asian: normal; font-variant-numeric: normal; font-weight: normal; line-height: normal;">
<div align="right" style="font-size: 12pt; font-stretch: normal; font-variant-east-asian: normal; font-variant-numeric: normal; font-weight: bold; line-height: normal;">
11:46 AM ]</div>
</div>
<br style="font-family: "Traditional Arabic"; font-size: 20px; text-align: start;" /><div id="post_message_25178" style="font-family: "Traditional Arabic"; font-size: 20px; text-align: start;">
<div align="center" style="font-family: tahoma, arial, helvetica, verdana; font-size: 12pt; font-stretch: normal; font-variant-east-asian: normal; font-variant-numeric: normal; line-height: normal;">
<b><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"></span></b></div>
<div align="right">
<b><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"><span style="color: black;"><span style="font-size: x-large;"><span style="font-family: traditional arabic;">دي سوسير والبنيوية.<br /><br />جاء اللغوي السويسري فردينان دي سوسير في بداية القرن العشرين ليؤكد ما قاله عبدالقاهر من قبل ثمانية قرون؛ فاللغة في رأيه "نظام" من العناصر القواعدية والمعجمية المترابطة. فهي ليست تلك الظاهرة المتمثلة في التجليات السطحية من الألفاظ والعبارات والنصوص؛ فتحت ظاهر سطحها، ترقد بنية عميقة متعددة العناصر والمستويات؛ نسق معرفي من العلاقات الفكرية التي تربط بين الأفكار والألفاظ؛ وبين مكونات تركيب الجمل والفقرات؛ وبين المعنى والسياق؛ وبين أصل اللفظ ومشتقاته؛ وبين تنغيم الكلام ونية المتكلم .. وهلم جراً. وهذه العلاقات في طبيعتها ليست علاقاتٍ اعتباطية عشوائية، بل يحكمها عدد من المبادئ العامة التي تشترك فيها جميع اللغات، كما سبق القول.<br /><br />لقد قامت البنيوية لدى دي سوسير على ثنائية الرمز ومدلوله، ليمهد بهذه الثنائية للقاء اللغة مع المعلوماتية وجوهوها الثنائي المعروف.<br /><br />ولما كانت اللغة هي "سندريلا"(21) العلوم ورابطة العقد في خريطة المعرفة الإنسانية، فقد امتدت البنيوية إلى مجالات معرفية أخرى . وكان أن طبقت في مجالات علم النفس، ونقد الأدب والشعر، والتنظيمات السياسية والاجتماعية. وقد يكون من المناسب في هذا المجال القول بأن عبدالقاهر كان أول من وضع أسسا علمية لنقد الأدب والشعر، وهي تلك التي أشار إليها في نظريته للنَّظْم التي سبقت الإشارة إليها.<br /><br />وتقوم البنيوية لدى دي سوسير على ركيزتين : الأولى وجود علاقة عضوية بين الرمز اللغوي ومعناه، والثانية ضرورة الفصل في التحليل البنيوي بين الموضوع، وبين وجهة النظر الذاتية للشخص القائم بعملية التحليل؛ وذلك ضمانا للموضوعية في التحليل. سواء كان موضوع التحليل موضوعاً أدبياً أو أسطورة أو تنظيماً اجتماعياً.<br /><br />العولمة تستخدم التفكيكية في هجومها الحالي :<br /><br />تختلف التفكيكية مع التوجيهين السابقين ؛ فالرمز اللغوي أو اللفظ لا يحيل إلى معنى بعينه، كما في البنيوية، بل يحيل إلى رمز آخر، والرمز الآخر يحيل إلى رمز آخر .. وهكذا تسلم الرموز بعضها إلى بعض بطريقة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي. فالمعنى ـ بالتالي ـ مرجأ دوماً .. ليظل الكاتب أو القارئ يدور في حلقة مفرغة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي.(22)<br /><br />وبناء على هذا الإرجاء والاستحالة في الوصول إلى المعنى، أطلقت التفكيكية حرية قراءة النصوص... حتى النصوص المقدسة. فهناك عدد لا نهائي من القراءات المحتملة لكل نص، وفقا لخلفية القارئ وهدفه من وراء القراءة. وعلى هذا الأساس جاءت نظرية القراءة التي أسسها جاك دريدا، والتي استحدثت منهجاً لتفكيك النص المكتوب، والكشف عن تناقضاته الكامنة، وثغرات فكر مؤلفه، ومناوراته اللغوية.(23).<br /><br />والآن تستخدم العولمة الأسلوب التفكيكي في هجومها على الثقافات الأخرى، وخاصة الثقافة العربية الإسلامية، بقصد تقطيع أوصالها ، وعزل ثوابتها عن متغيراتها، ثم إعادة بنائها على نحو جديد لخدمة أغراض المعولِمين!<br /><br />البنيوية وتدريس النحو:<br /><br />ما دور النحو في الحفاظ على اللغة؟ وكيف يدرس وفقا لهذه النظرية؟<br /><br />إن المدخل في تدريس اللغة ـ وفقاً لهذه النظرية ـ هو شرح النظام النحوي والصرفي ( البنية العميقة) ثم الانطلاق من هذه المعاني النحوية وقواعدها إلى المهارات اللغوية الأخرى والتطبيق عليها، من خلال الألفاظ والجمل والأمثلة والشواهد والنصوص .. إلخ وهو مانسميه حاليا بالطريقة "القياسية" في تعليم اللغة العربية للناطقين بها، وطريقة "النحو والترجمة" في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.<br /><br />لقد ظن البعض أن الطريقة القياسية تعود إلى عصر النهضة في البلاد الأوربية، كأثر من آثار الممارسة في اللغتين اليونانية واللاتينية. لكن التاريخ يروي لنا أن هذه الطريقة عميقة في ممارسة تعليم اللغة في التاريخ العربي الإسلامي، خاصة في كتاب سيبويه، وكتب ابن عقيل، وشذور الذهب، والأشموني وغيرها من الكتب التي تبعت الطريقة القياسية في تعليم العربية لأبنائها وطريقة النحو والترجمة في تعليم العربية لغير الناطقين بها.<br /><br />والطريقة القياسية هي إحدى طرق التفكير التي يستخدمها العقل في الوصول من المعلوم إلى المجهول. والفكر في القياس ينتقل من القاعدة العامة إلى الحالات الجزئية بناء على القاعدة؛ أي من القانون العام إلى الحالات الخاصة.ولما كانت الجزيئات قد لا تنطوي كلها تحت القاعدة العامة ؛ فقد أدى هذا إلى الحذف ، والتقدير، والتأويل، واختلاف الآراء في المسألة الواحدة. لكن المشكلة أن تدريس النحو صار غاية في ذاته لدى المتأخرين؛ حيث نظر إليه على أنه وسيلة لتنمية ملكات العقل وطريقة التفكير، بصرف النظر عن الممارسة اللغوية الصحيحة!<br /><br />وتقوم طريقة النحو والترجمة في التدريس على شرح القواعد والانطلاق منها إلى تعليم قراءة النصوص العربية وترجمتها إلى اللغات الأم أو اللغات المحلية. وقد اعتمد على هذه الطريقة في تعليم العربية في جنوب شرق آسيا، وفي أفريقيا. حيث كان الطلاب يحفظون سور القرآن، وتشرح لهم الألفاظ والمعاني، ثم تشرح القواعد التي تساعد على فهم التراكيب، ثم يدربون على قراءة النصوص وكتابتها وترجمتها إلى اللغات المحلية.<br /><br />ومن أهم منطلقات هذه النظرية في تدريس اللغة ما يأتي:<br /><br />اللغة نظام من القواعد النحوية التي لابد من فهمها كشرط لممارسة اللغة على نحو صحيح.<br /><br />اللغة نشاط ذهني، وتدريب عقلي، يشتمل على تعلم نظام اللغة، وتذكر قواعدها، والتفريق بين المعاني النحوية، ثم القياس عليها من الأمثلة والنصوص.<br /><br />نظام اللغة وقواعدها النحوية والصرفية هو الإطار المرجعي لتعليمها وتعلمها.<br /><br />سيطرة الدارسين وفقاً لهذه النظرية يكون على مهارات القراءة والكتابة قبل الاستماع والكلام.<br /><br />طرائق التدريس وفقا للنظرية البنيوية:<br /><br />الطرائق المتبعة في تدريس العربية وفقا للنظرية البنيوية كالطريقة القياسية وطريقة النحو والترجمة، تسير غالباً على النحو الآتي:<br /><br />يلم الدارس بقواعد اللغة العربية ويتعرف على أصواتها وقواعدها وخصائصها أولاً.<br /><br />تقدم القواعد النحوية حسب الترتيب المنطقي لها، ثم يتم القياس عليها عن طريق الشواهد والنصوص البلاغية.<br /><br />تقدم الأمثلة والنصوص والتراكيب حسب ما يقتضيه نظام اللغة وقواعدها؛ فالألفاظ تابعة للمعاني النحوية. والطلاب - بمساعدة المعلم - يردون الفروع إلى الأصول ويطبقون القواعد على النصوص.<br /><br />ضبط النصوص والأمثلة والشواهد مرتبط بمعرفة النظام اللغوي والقواعد النحوية والصرفية.<br /><br />"إذن فتنمية قدرات الطالب العقلية هدف أساسي من أهداف هذه الطريقة حتى يستطيع مواجهة مواقف التعلم المختلفة بمشكلاتها غير المتوقعة. من هنا يتدرب الطالب كثيرا على القياس النحوي، وعلى استقراء القاعدة النحوية" في الأمثلة والشواهد والنصوص البلاغية.(24)<br /><br />النظرية السلوكية<br /><br />أرى أن النظرية السلوكية لم تبدأ حديثا مع السلوكيين في القرن العشرين وإنما تمتد جذورها عبر التاريخ إلى العلامة ابن خلدون المتوفي سنة 727هـ، وإلى نظريته المسماة "الملكة اللسانية".<br /><br />تقوم نظرية الملكة اللسانية عند ابن خلدون على أسس ثلاثة:<br /><br />أولها : أن "السمع أبو الملكات اللسانية"(25)<br /><br />ثانيها: أن اللغة هي "عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان".(26)<br /><br />ثالثها: أن تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو، الذي هو علم صناعة الإعراب.<br /><br />أما السلوكيون المحدثون فقد تمثلت آراؤهم في كتاب "السلوك اللغوي" الذي أصدره عالم النفس السلوكي المشهور سكنر عام 1957م. فقد لجأ السلوكيون في محاولتهم تفسير السلوك اللغوي إلى العوامل الخارجية التي تؤثر فيه. فالسلوك اللغوي في نظرتهم عبارة عن مثير واستجابة.<br /><br />وقد شن تشومسكي هجوما عنيفاً في مقالة له عام 1959 ينتقد فيها كتاب سكنر سالف الذكر ورؤيته السطحية للسلوك اللغوي.<br /><br />وبعد الستينيات انتقل الاهتمام إلى المتعلم ذاته باعتباره عاملاً أساسياً وفاعلاً في عملية تعلم اللغة. ومن ثم بدأ التركيز على المتعلم وحاجاته والأغراض التي يتعلم اللغة من أجلها.<br /><br />كيف يكتسب الإنسان اللغة؟<br /><br />ولكن كيف يكتسب الإنسان اللغة؟ سؤال طرح كثيراً دون إجابة شافية في معظم الحالات. نحن ندرك المدخلات إلى الموقف التعليمي؛ لأن هذا نصنعه بأيدينا. ونحن قادرون على قياس المخرجات عن طريق أساليب القياس المختلفة. لكننا لاندري حتى الآن ماذا يحدث داخل العمليات، أي داخل المخ الإنساني، هذه المعجزة المحيرة، صنع الله الذي أحسن كل شيء.<br /><br />سكنر والسلوكيون:<br /><br />للإجابة عن السؤال الذي بدأنا به هذا الحديث، وهو كيف يكتسب الصغار اللغة الأم؟ على نفس النمط تقريباً الذي قال به ابن خلدون استحالت اللغة في نظر سكنر، صاحب النزعة السلوكية المحضة في علم النفس المعرفي إلى نظام لاكتساب العادات. فهي نوع من أنواع السلوك الشفاهي لا يختلف عن غيره من أنواع السلوك الأخرى، التي يكتسبها الفرد من خلال الخبرة، والتجربة، والمحاولة والخطأ. وبذلك تحولت اللغة إلى مجرد نوع من أنواع السلوك السمعي الشفاهي! كما رأينا عند ابن خلدون.<br /><br />وبهذا التفسير حاول سكنر أن يخضع اللغة قسرا لثنائية المثير والاستجابة. أي أن اللغة مدخلات ومخرجات. وأغفل بذلك جوهر القضية، حيث يكمن السر اللغوي، أي العمليات التي تحدث بين المثير والاستجابة. باختصار لقد افترض سكنر عدم وجود علاقة أو وسيط بين المثير والاستجابة، وربط بين المثير ورد الفعل مباشرة دون اعتبار لما يحدث بينهما داخل المخ الإنساني.(27) وذلك خلافا للفهم البنيوي الذي يفترض وجود بنية عميقة داخل المخ البشري لمعالجة المعلومات اللغوية وغير اللغوية. وبذلك وضعت البنيوية أساس علم النفس المعرفي.<br /><br />اكتساب اللغة : نموذج ابن خلدون وسكنر<br /><br />فلو أخضعنا هذا النموذج لمفهوم النُّظُم المكون من مدخلات وعمليات، ومخرجات، فإننا نجد أن نموذج سكنر قد قفز فوق العمليات ولم يعترف بوجودها أصلاً. أما ابن خلدون فقد حاول وصف ما يحدث داخل النفس نتيجة الحفظ والتكرار فقال: "إن الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقوم أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة. ثم يزداد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة".<br /><br />وعلى العكس من ذلك، فقد تأثر كل من دي سوسير وتشومكسي بافتراض كانط وجود قدرة ذاتية كامنة في العقل الإنساني، أو "غريزة" لغوية تتوارثها أجيال البشر أو بنية عميقة قوامها نسق معرفي كامن في العقل يربط بين المدخلات والمخرجات.<br /><br />وفي غياب البحث العلمي التطبيقي لإثبات صحة هذه الفرضية لجأ تشومسكي إلى التجريد الفلسفي لإثبات وجود هذه الغريزة لكي يفسر الكيفية التي يكتسب بها الأطفال لغتهم الأم، وذلك بتطويع هذه الغريزة للمطالب الخاصة للبيئة اللغوية التي ينشأون فيها... وهكذا استحالت اللغة وفقا لهذا النموذج الافتراضي إلى غريزة بشرية أو إنسانية عامة، مثلها مثل غيرها من الغرائز التي يشترك فيها الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وبيئاتهم الاجتماعية.<br /><br />اكتساب اللغة : نموذج عبدالقاهر ودي سوسير وتشومسكي<br /><br />وفي إطار المنحى المعرفي، طرح تشومسكي مجموعة من الأسئلة المحورية التي تحتاج إلى جهود علم النفس المعرفي، ومن أهم هذه الأسئلة ما يأتي:<br /><br />1. ما هذا النسق المعرفي أو البنية العميقة، وماذا بداخل عقل الإنسان من معارف لغوية؟<br /><br />2. كيف ينشأ هذا النسق . أو بمعنى آخر كيف يكتسب الأطفال اللغة الأم؟<br /><br />3. كيف توظف هذه المعرفة في الاستماع والفهم، وفي النطق والحديث، وفي التعرف على الرموز في القراءة والفهم؟<br /><br />4. وما السر وراء الخاصية الإبداعية للغة التي تجعلها قادرة على توليد عدد لا نهائي من التعابير النحوية واللغوية؟(28)<br /><br />لقد اقترض علم النفس من علم اللغة هذا التوجه البنيوي التوليدي، بافتراض وجود بنية عميقة داخل المخ البشري، لمعالجة المعلومات اللغوية وغير اللغوية. ويتوقع أن تتخذ هذه البنية العميقة أو آليات الذهن اللغوي مدخلاً لفهم طبيعة عمل طاقات الإدراك الأخرى كالإدراك السمعي، والإدراك البصري، والحدس، والبصيرة النافذة، والقدرة على التخيل، وحسن التوقع...إلخ.<br /><br />لذلك يأمل علماء النفس (السيكولوجي) وعلماء دراسة وظائف الأعضاء (الفسيولوجي) أن يؤدي كشف النقاب عن النشاط اللغوي لمخ الإنسان (أي العمليات) ولو جزئياً إلى إلقاء الضوء على السر الذي أودعه الله في هذه المعجزة المستعصية على الفهم ... أي المخ البشري.<br /><br />طريقة تربية الملكة اللسانية:<br /><br />قد يكون من المناسب أن نعيد طرح سؤال تشومسكي: كيف يتعلم الطفل اللغة؟ وكيف ينشأ هذا النسق المعرفي؟ أو كيف تبنى هذه الغريزة أو الملكة؟<br /><br />يقول العلامة ابن خلدون: "السمع أو الملكات اللسانية". وهذا يعني أن بناء الغريزة والملكة اللغوية يبدأ بالاستماع الجيد إلى النصوص الجميلة.<br /><br />اللغة ملكة :<br /><br />سبق أن قلنا إن دي سوسير وتشومسكي قد خالفا سكنر الذي اختصر العملية المعرفية في المثير والاستجابة – بإقرار أن هناك بنية معرفية عميقة في مرحلة العمليات ، هي التي تربط بين المثيرات اللغوية وبين الاستجابات أو ردود الأفعال ، وقد استحالت هذه البنية العميقة ، عن طريق التجريد الفلسفي ، إلى "غريزة " بشرية" ، أو " ملكة" إنسانية" ، موجودة لدى كل البشر ، وأن المخ الإنساني يقوم ببناء هذه الغريزة أو الملكة على نحو ما لم يستطع أحد تفسيره حتى الآن .<br /><br />وهنا نصل إلى ابن خلدون الذي قدم لنا في بداية القرن الثامن الهجري نظريته في بناء الملكة اللسانية ، والذي يرى أن أهداف تعلم اللغة لا تتحقق إلا إذا اكتسب المتعلم " ملكة اللغة " .<br /><br />فاللغة في المتعارف – كما يقول ابن خلدون – هي " عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك " العبارة " فعل لساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها " وهو اللسان " .<br /><br />تتكون الملكة بالاستماع :<br /><br />يقول ابن خلدون " " فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودةً فيهم يسمع كلام أهل جيله ، وأساليبهم في مخاطباتهم ، وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم .. فيلقنها كذلك ، ثم لا يزال سماعه لذلك يتجدد في كل لحظة ، ومن كل متكلم ، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ، ويكون كأحدهم ، وهكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل " ، وأبرز مثال على ذلك أن أبناءنا يتعلمون اللهجات العامية ويستخدمونها مثلنا تماما بدون منهج أو معلم .<br /><br />إذن ، فالملكة اللسانية التي كان يتمتع بها العرب قديماً لم تكن جبلة وطبعاً ، وإنما حصلت لمن حصلت له نتيجة للعرف والعادة ، والمعايشة المستمرة للنطق الفصيح في بيئة الفرد اللغوية. فالملكة الصحيحة تتكون بتكرار الاستماع إلى اللغة الفصيحة ، وممارستها كلاماً وتحدثاً .<br /><br />كيف تفسد الملكة ؟<br /><br />كيف فسدت " الملكة " ؟ يقول ابن خلدون : " فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم ، وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب ، فيعبر بها عن مقصوده ... ويسمع كيفيات العرب أيضاً ، فاختلط عليه الأمر ، وأخذ من هذه وهذه ، فاستحدث ملكة ( ثانية) وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا هو معنى فساد اللسان العربي. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم". ولذلك كان أهل صناعة العربية يحتجون بها. لكن فساد اللسان العربي استمر في عصر ابن خلدون ، وازداد فساداً واضطراباً مع تقدم الزمن حتى عصرنا الحاضر .</span></span></span></span></b></div>
<div align="right">
<b style="background-color: #f5f5ff;"><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"><span style="color: black;"><span style="font-size: x-large;"><span style="font-family: traditional arabic;">كيف وضع النحو أو علم صناعة الإعراب ؟<br /><br />يقول ابن خلدون : " لما جاء الإسلام وفارقوا ( أي المسلمون ) الحجاز لطلب الملك الذي كان في الأمم والدول ، وخالطوا العجم ، تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين – والسمع أبو الملكات اللسانية – ففسدت بما ألقى إليها مما يغايرها ، لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ، ويطول العهد بها ، فينغلق القرآن والحديث على الفهوم ، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة ، شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ، ويلحقون الأشباه بالأشباه ، مثل أن الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات ، فاصطلحوا على تسميته إعراباً. وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً ، وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم. فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة ، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة. ويقال بإشارة من علي رضي الله عنه. إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد. فهذب الصناعة ، وكمل أبوابها. وأخذ عنه سيبويه فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور، الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعد .<br /><br />تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو :<br /><br />ثم يدخل ابن خلدون إلى جوهر المشكلة ، ويتحدث عن صلة النحو بهذه الملكة اللسانية، فيقول عن صناعة العربية وقوانين الإعراب إنها: " علم بكيفية لا نفس كيفية " ثم يشرح الفكرة بالتفريق بين " الملكة " و " قوانين الملكة "، أي بين العلم النظري ، والممارسة العملية ، ويقدم تمثيلاً لذلك بمن يجيد " علم الخياطة " ولا يمارسها عملاً ، أو بمن يجيد " علم التجارة " ولا يقدر على ممارستها. فإذا سألته عنها شرحها لك خطوة خطوة ، ولو طالبته بتنفيذ ما شرح أو شيء منه لم يحكمه. ويؤكد ابن خلدون رأيه هذا بتمثيل آخر أقرب إلى واقع القضية وهي العلاقة بين النحو والملكة اللسانية فيقول: إن كثيراً ممن درسوا النحو وتعمقوا أصوله وفروعه وأفنوا أعمارهم في البحث عن مسائله ومشاكله ولم يجيدوا هذه الملكة اللسانية، لا يستطيعون التعبير اللغوي الصحيح. بينما كثير من الكتاب والشعراء ممن أجادوا هذه الملكة يعبرون عما يريدون بطلاقة وسلاسة وإن لم يتعمقوا النحو وقضاياه .<br /><br />يوضح ابن خلدون هذه القضية في فصل في المقدمة بعنوان : " فصل في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم " والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة ، فهي علم بكيفية ، لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة ، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ، ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها – في التعبير عن بعض أنواعها - : الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ، ثم يغرزها في لفق الثوب مجتمعين ، ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ، ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها .. الخ ، وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا. وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول : هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة ، وتمسك بطرفه ، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما ... إلخ، وهو إن طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه .<br /><br />" وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها ، فإن العلم بقوانين الإعراب ، إنما هو علم بكيفية العمل ( وليس العمل نفسه ). وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين ، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه ، أو ذي مودته ، أو شكوى ظلامة ، أو قصداً من قصوده ، أخطأ فيها عن الصواب، وأكثر من اللحن ، ولم يجد تأليف الكلام لذلك ، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي، وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ، ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور ، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ، ولا المفعول من المجرور ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية ، وأنها مستغنية عنها بالجملة. (29) .<br /><br />إذن فكيف تربَّى الملكة اللغوية في رأي ابن خلدون ؟<br /><br />لكن المتعلم العربية الآن – كما كان الأمر في عهد ابن خلدون – لا يملك هذا المناخ اللغوي الصافي ، وذلك المشرب العذب المتاح الذي كان ميسوراً لأجيال العرب قبل تسرب اللكنة وحدوث الخلط والاضطراب في اللسان العربي. بل العكس هو الصحيح. إذ يحيط به من كل جانب ما يدفعه دفعاً عن صحة اللغة وجمالها اجتماعيا وثقافياً : استماعاً ، وقراءة ، وكتابة. ولم يعد في متناول يده ذلك النموذج المثالي الطيع الأصيل الذي يلفته له المجتمع فيحاكيه ويحتذيه دون تعمد ! إذا كان هذا هو حال المجتمع عموماً ، فماذا نعمل على مستوى المناهج الدراسية على وجه الخصوص ؟<br /><br />يرى ابن خلدون أنه بعد أن انتهى العهد الذي كانت فيه تربية الملكة اللسانية طبعاً وسليقة ، فإنه لا بد من اصطناع المناخ اللغوي اصطناعاً متعمداً ، واتخاذ الوسائل التي توصل إلى إجادة الملكة اللسانية. فيقول : " ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها ، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم ( العرب) القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث ، وكلام السلف ، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم ، وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم ، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ، ولقن العبارة عن المقاصد منهم ، ثم يتصف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عبارتهم ، وتأليف كلماتهم ، وما وعاه وحفظه من أساليبهم ، وترتيب ألفاظهم ، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال ، ويزداد بكثرتها رسوخاً ، وقوة.<br /><br />ثم يربط بين كثرة المحفوظ والاستعمال وبين قوة التعبير بلاغة ونقداً ، فيقول : " وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً ، ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر ، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها ، وهكذا يجب أن يكون تعلمها ، والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه".(30)<br /><br />تكوين العادات اللغوية:<br /><br />يقول ابن خلدون : إن " الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال ، لأن الفعل يقوم أولا وتعود منه للذات صفة ، ثم يتكرر فتكون حالاً ، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة ، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.(31)<br /><br />كما يري أن النصوص المختارة للدراسة والحفظ يجب أن تبث في ثناياها مسائل اللغة والنحو، بحيث يتعرف الدارس من خلالها على أهم قوانين العربية ، ويؤكد أن الملكة لا تربى من خلال نصوص تحفظ دون فهم ، " فالملكة لاتحصل من الحفظ دون الفهم " .<br /><br /><br /><br />لا قيمة لقواعد الإعراب وحدها :<br /><br />إذن فتربية الملكة لا يتوقف على حفظ القواعد ومعرفة الإعراب وأواخر الكلم . فابن خلدون نفسه يقرر أن الإعراب قد فقد من اللغة العربية في عهده. وأن فقدان هذا الإعراب لم يهدم أداء اللغة لمعناها الصحيح البليغ. بل يمكن أن يعتاض عنه بما أسماه " قرائن الكلام ".<br /><br />كما يقرر أن اللغة العربية على عهده " لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعـول. فاعتاضوا عنها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه ، ويسمى " بساط الحال " محتاجا إلى ما يدل عليه. وكل معنى لابد أن تكتنفه أحوال تخصه. فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود ، لأنها صفاته. وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع . وأما في اللسان العربي ، فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات في تركيب الألفاظ وتأليفها من تقديم وتأخير أو حذف أو حركة إعراب ، وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة ".<br /><br />ويؤكد ابن خلدون أن البلاغة والبيان كانت ما تزال ديوان العرب ومذهبهم في عهده. وأنه لا يجب الالتفات " إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق. حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ( عهد ابن خلدون ) ذهبت. وأن اللسان العربي فسد اعتباراً بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم ، وألقاها القصور في أفئدتهم " .(23)<br /><br />مايستفاد من النصوص السابقة :<br /><br />من العرض السابق لتصور ابن خلدون في تربية الملكة اللسانية يمكن استنباط ما يأتي :<br /><br />أولا ً: لقد قرر ابن خلدون فكرته ، وهي أن تربية الملكة اللسانية لا يضرها عدم حفظ القواعد النحوية ، وفقدان الإعراب ، إذ تغني عنه القرائن ، وهي فكرة جريئة ، لم يجرؤ أحد قبله أو بعده على القول بها على هذا النحو المتكامل . فهو – إذن – يرى أن فقدان الإعراب من لغات الأمصار في عهده – وكما هو الحال في لغتنا الآن – ليس بضائر لها، مادامت تؤدي مهمتها في الفهم والإفهام وتوضيح المراد.<br /><br />ثانياً : قدم ابن خلدون تصوره في إطار نظرته الاجتماعية للغة على أنها " ملكة " تكتسب بالتعليم والمران والدربة ، ومادامت هذه " الملكة " قد تحققت للمستخدمين للغة في الأمصار في عهدة ، فإنها تكون صحيحة بليغة بدون الإعراب ، إذ فيها من القرائن ما يغني عنه.<br /><br />ثالثاً : يرى ابن خلدون أن تربية " الملكة اللسانية " يمكن أن يستغنى عن حفظ القواعد والعلامات الإعرابية في أداء المعنى، بما أسماه " القرائن الدالة على خصوصيات المقاصد " كالتقديم والتأخير ، والحذف ، والحروف غير المستقلة .<br /><br />رابعاً : إن تربية " الملكة اللسانية " لا تتم إلا من خلال حفظ النصوص الأصلية الراقية والشواهد الحية المتطورة " وعلي قدر المحفوظ ، وكثرة الاستعمال ، تكون جودة المصنوع نظما ونثرا ، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها " .<br /><br />خامساً : أن يتم تناول النصوص كما تنطق فعلا ، وأن تتم دراستها من حيث مستوى الأصوات ، والحروف ، وبنية الكلمة ، والتركيب والدلالة ، فهذا هو المفهوم الحديث للنحو .<br /><br />سادساً : إن " الملكة اللسانية " لا تربى من خلال نصوص تحفظ دون فهم ، فالملكة لا تحصل من الحفظ دون الفهم .<br /><br />تحويل فكرة ابن خلدون إلى منهج وطريقة متكاملين :<br /><br />إن تربية " الملكة اللسانية " وفقا لنظرية ابن خلدون ، يمكن أن تتم من خلال تطبيق أسلوب في تخطيط المنهج ، وتنفيذه ، وتقويمه ، ومتابعته ، على النحو التالي :<br /><br />النظرية السلوكية في التدريس :<br /><br />أثرت النظرية السلوكية ببعديها القديم والحديث في المداخل التي اتبعت في تدريس اللغات الأم عموما ، وفي تدريس اللغات الثانية على وجه الخصوص. حيث نرى التأثير واضحا فيما يسمى " الطريقة المباشرة "، والطريقة "السمعية الشفوية" في تعليم اللغات لغير الناطقين بها .<br /><br />- فالنظرية السلوكية ترى أن عملية تعلم اللغة عبارة عن استقبال مثير ، وإصدار استجابة. وأن تعزيز استجابات معينة يؤدي إلى تكرارها حتى تتكون العادات اللغوية على حد تعبير سكنر وأنصاره ، أو حتى تتكون الملكة على حد تعبير ابن خلدون .<br /><br />- اللغة نظام صوتي كلامي، وليست كتابة. والإنسان يتعلم اللغة بدءاً بالاستماع إليها، ثم نطق أصواتها قبل التعرض لشكلها المكتوب. فالفرد يتعلم اللغة بدءاً بالاستماع فالكلام ، ثم القراءة فالكتابة .<br /><br />- تعلم اللغة يبدأ بالمحاكاة، والتذكر، والحفظ، واكتساب العادات بمثل اكتساب العادات الاجتماعية عن طريق التدريب والتعزيز .<br /><br />- تعليم اللغة هو تعليم " النفس كيفية " أولاً وليس " العلم بكيفية " أولاً، حسب تعبير ابن خلدون. أو هو " تعليم اللغة " وليس " عن اللغة "، حسب التعبير السلوكي الحديث . ولذلك يجب تدريب المتعلم على الممارسة اللغوية وليس على تعلم القواعد .<br /><br />- تعليم اللغة مستغن عن تعليم النحو الذي هو معرفة أواخر الكلم، في عبارة ابن خلدون . وهو أمر يمكن أن يؤجل إلى المستويات العليا أو المتخصصة في دراسة اللغة . فالفرد يمكن أن يتعلم اللغة الثانية بالمحاكاة كما يتعلم الطفل لغته الأم.<br /><br />- الفرد يتعلم ثقافة اللغة من خلال النصوص والعبارات التي تحكي عادات الشعوب وتقاليدها وأساليب حياتها ، وفنونها وآدابها وكل ما يميزها عن غيرها.<br /><br />- اللغة تعلم من خلال اللغة ذاتها، وليس من خلال لغات أخرى ، فالمتعلم لابد أن يفكر باللغة التي يتعلمها من خلال منهجها الفكري ونظامها الدلالي.<br /><br />- لابد من اصطناع بيئة لغوية طبيعية؛ حيث تدرس النصوص والأمثلة والشواهد في مواقف طبيعية ترتبط بمدلولات النصوص، أو عن طريق تمثيل الأدوار، أو عن طريق تعلم الأشياء الموجودة بالفعل في البيئة التي يوجد فيها المتعلم، كما في الطريقة المباشرة لتعليم اللغات لغير الناطقين بها.<br /><br />- إن الفرد يتعلم لغته الثانية كما يتعلم الطفل لغته الأولى، أي عن طريق الربط المباشر بين الأسماء والمسميات . فالاستخدام الفعلي للغة في الحياة أساس التعلم .<br /><br />- يتم تعليم النحو بأسلوب غير مباشر من خلال التعبيرات المحكمة والنصوص الجميلة التي يتم تكرار الاستماع إليها وممارستها.<br /><br />تنمية قدرة المتعلم على المحاكاة، والنطق الصحيح، واكتساب مهارات الكلام، يفوق الاهتمام بتنمية المهارات العقلية ، والقدرة على القياس والاستقراء والاستنتاج.(33)<br /><br />طريقة التدريس :<br /><br />يترتب على المنطلقات السابقة أن تسير طريقة التدريس غالبا كما يأتي :<br /><br />1 – تدريب المتعلم على مهارات الاستماع الجيد ثم مهارات الكلام السليم . ثم تدريبه على قراءة ما استمع إليه وتحدث به ، ثم كتابة ما قرأه .<br /><br />2 – تدريب المتعلم على عادات الاستماع الجيد، والكلام السليم، وتعزيز هذه العادات.<br /><br />3 – يعلم النحو من خلال الأنماط اللغوية التي استمع إليها وتكلم بها ، وليس عن طريق عزل القواعد النحوية عن النصوص الواردة بها. ولا تعلم إلا القواعد الواردة في النصوص، حتى لوحدث إغفال لبعض القواعد النحوية؛ على اعتبار أن القواعد التي لا ترد في لغة الحياة لاضرورة لدراستها لغير المتخصصين.<br /><br />النظرية المعرفية<br /><br />تشير النظرية المعرفية "إلى تصور نظري لتعليم اللغات 0000 يستند إلى الفهم الواعى لنظام اللغة كشرط لإتقانها . وأن الكفاية اللغوية سابقة على الأداء اللغوي وشرط لحدوثه ". (34)<br /><br />وهذا يعني أن يتوافر لدى المتعلم درجة من السيطرة الواعية على النظام الأساسي للغة، حتى تنمو لديه امكانات استعمالها بسهولة ويسر في مواقف طبيعية .<br /><br />فتعلم اللغة وفقا لهذه النظرية هو عملية ذهنية واعية لاكتساب القدرة على السيطرة على الأنماط الصوتية والنحوية والمعجمية للغة ، وذلك من خلال تحليل هذه الأنماط باعتبارها محتوى معرفيا .( 35)<br /><br />فالتعلم – إذن – نشاط ذهني . يعتمد على قدرة الفرد الابتكارية في استخدامه للقليل الذي تعلمه في مواقف جديدة . وهكذا نحس بمذاق النحو التحويلي التوليدي لتشومسكي في هذه النظرية .<br /><br />منطلقات هذه النظرية :<br /><br />تعتمد هذه النظرية كما يذكر رشدي طعيمة على عدة منطلقات ، من أهمها ما يأتي :<br /><br />1 – اللغة الحية محكومة بقواعد أو نظم ثابتة . وتعلم اللغة عملية إدراك عقلي واع لنظامها . واستخدام اللغة يعتمد على قدرة الفرد على ابتكار جمل وعبارات لم يسبق له سماعها أو استخدامها.<br /><br />2- إن قواعد اللغة ثابتة في نفوسنا. فقدرتنا على استعمال اللغة ليس سببه هو أننا نكرر ما سمعناه بشكل آلي بحت ، ولكن في قدرتنا الذهنية على تطبيق قواعد ثابتة على أمثلة متغيرة . فقواعد اللغة مثل قواعد الشطرنج ، يتقنها الفرد إن تعلمها في موقف طبيعي يمارس فيه بالفعل هذه القواعد.<br /><br />3 – الإنسان خاصة مزود بالقدرة على تعلم اللغات . إن تعلم اللغة صفة إنسانية فهو موجود في الانساق البيولوجية للإنسان . فتعلم اللغة أمر يمكن أن يحدث في أي وقت من حياة الإنسان مادام قد أخذ مكانة في موقف ذي معنى لديه .<br /><br />4 – إن تعلم اللغة يتضمن التفكير بها . وإن الممارسة الواعية للغة هي تلك التي تتم في إطار من المعنى وليس في مجرد التدريب الآلى عليها . (36)<br /><br />5 – تولى هذه النظرية المعرفية اهتماماً خاصاً بتعليم المهارات اللغوية الأربع في وقت واحد.<br /><br />6 – تعتبر السيطرة على نظام اللغة شرطا لممارستها . وهذا يعنى ضرورة السيطرة على الأنظمة الصوتية والمعجمية بالإضافة إلى نظام القواعد النحوية.<br /><br />7 – تعتمد هذه النظرية على عنصر الفهم ، الذي يعنى أن تكون الممارسة اللغوية ممارسة واعية، وليست تكراراً آلياً لتدريبات نمطية مكررة دون معرفة للأسباب الحقيقية وراءها.<br /><br />8 – الممارس للغة من خلال هذه النظرية لديه مصفاة ، تمر من خلالها الممارسة اللغوية قبل وقوعها.(37)</span></span></span></span></b></div>
<div align="right">
<b style="background-color: #f5f5ff;"><span style="font-family: arial, helvetica,verdana; font-size: small;"><span style="color: black;"><span style="font-size: x-large;"><span style="font-family: Traditional Arabic;">دور النحو في التدريس :<br /><br />1 – يتحتم على الطالب الإلمام بالنظام الصوتي والنحوي والصرفي والمعجمي كي يتمكن من ممارسة اللغة العربية وهو على وعي بنظامها .<br /><br />2 – يسير الدرس وفق الطريقة الاستنباطية ، أو وفق ما يسمى "بالمنظَّم المتقدم" أو "المنظَّمات المتقدمة" التي تهدف إلى "مساعدة الطالب على تحقيق بنية معرفية تتصف بالثبات ، والوضوح، والتنظيم، وربط المادة التعليمية بالخبرات السابقة للطالب. وتهيئة كل الظروف الممكنة التي تجعل التعليم ذا معنى، وتسهل مهمة نمو المفاهيم الوظيفية ، وإيضاح المفاهيم الغامضة ، وربطها بالبنية المعرفية للمتعلم .<br /><br />3 – تعتمد هذه الطريقة على أمرين : أولهما الاعتماد على صيغ منظمة وملائمة لتفكير المتعلم عند تقديم المفاهيم المعرفية، وتقديم المفاهيم بشكل متدرج في عموميتها وشمولها، والأمر الآخر، ربط المادة التعليمية بحياة المتعلم، أي تقديمها من خلال ما هو مفيد عنده (38)<br /><br />4 - تقدم النصوص في مواقف ذات معنى لدى المتعلم ، ويحتوي على المفاهيم المراد شرحها. عن طريق شرح هذه النصوص يتم عرض هذه المفاهيم والقواعد، وتوضيح أبعاد النظام اللغوي للغة العربية. ثم يأتي التطبيق في مواقف تشتمل على نصوص وحوارات وألعاب لغوية .. إلخ.<br /><br />5 - إن الهدف ليس هو حصر المواقف التي يمكن أن يمر بها الطالب ثم التدريب عليها كما في النظرية السلوكية. لكن الهدف هو تدريب المتعلم على الاستخدام الواعي للقاعدة في مواقف جديدة يصعب توقعها أو التنبؤ بها أوحصرها. وهنا تلتقي النظرية المعرفية مع نظرية النَّظْم ونظرية النحو التوليدي؛ حيث يتم تطبيق القاعدة الواحدة في مواقف غير محدودة وغير متوقعة. وهنا يكون القياس والتحويل والابتكار.<br /><br />6- التركيز في التدريس وفقاً لهذه النظرية على تنمية القدرة الذهنية عند الطالب، وتدريبه على قواعد الاستنتاج والاستقراء وعلى مبادئ التعميم والتطبيق من خلال شرح مفصل للقواعد وتفسيرها حتى تتضح في ذهن المتعلم. فالتعلم الواعي لقواعد اللغة شرط أساسي لممارستها. وفهم القواعد لا بد أن يسبق التطبيق عليها.<br /><br />7- بما أن التعليم في هذه النظرية يبدأ بالفهم الواعي للمفاهيم النحوية فالممارسة عليها، فإن الكتب المقررة على الطلاب تسير على أساس المنهج الاستنباطي أو القياسي، الذي يبدأ بعرض المفاهيم ثم التدريب عليها.<br /><br />8- الدرس يبدأ بعرض مادة جديدة، وتمرينات عليها، ثم أنشطة لغوية تطبيقية.<br /><br />9- كل المهارات تعلم في وقت واحد. تبدأ بعرض المادة المراد تعلمها، ثم الاستماع إلى النص أو الموقف الاتصالي، والتدريب على استنتاج ما فيه من مفاهيم، ثم تطبيق هذه المفاهيم على مواقف جديدة مناسبة لنوعية المتعلمين.<br /><br />طريقة التدريس وموقع النحو فيها:<br /><br />نعرض فيما يلي طريقة مقترحة تقوم على أساس الاستفادة من مميزات النظريات البنيوية، والسلوكية، والمعرفية. وتتكون من ثلاث مراحل : التخطيط، والتنفيذ، والمتابعة.<br /><br />أولا مرحلة التخطيط: يتم تحديد القواعد النحوية المقررة لفئة المتعلمين حسب الهدف من التعلم، وحسب نوعية الدارسين وخبراتهم السابقة، وبما يتسق مع منطق النظام في اللغة العربية. يتم اختيار النصوص الجميلة المناسبة، والتي تتسق مع حركة الحياة وثقافة اللغة العربية. ويتم الربط بين هذين على اعتبار أن تعلم القواعد المقررة سيتم استنباطاً واستنتاجاً واستقراء من خلال هذه النصوص.<br /><br />ثانيا: التنفيذ يتم تناول النصوص المناسبة- لكل مرحلة أو لكل صف دراسي - بالدراسة والفهم، والتحليل، والتفسير، والنقد والتقويم، واستنباط القواعد المقررة، من خلال الإجراءات الاتية:<br /><br />الاستماع إلى النص منطوقاً نطقاً جيداً ممثلاً للمعنى، مرة أو مرتين، ثم مناقشة فكرته العامة، وأفكاره الرئيسية، والتعرف على قائل النص ومناسبة قوله.<br /><br />التدريب على قراءة النص قراءة جهرية، مع التركيز على معالجة الجوانب الصوتية، واللفظية، والتركيبية من حيث معناها ومبناها.<br /><br />الوقوف على نظام اللغة وقوانين الإعراب المناسبة لهذه المرحلة أو لهذا الصف كما هي موجودة في النص مع التركيز على أسس الاستنتاج وقواعد الاستقراء، وقواعد التعميم لنظام اللغة، ومجالات التطبيق.<br /><br />قراءة النص قراءة صامتة، دفعة واحدة، أو على دفعات، بحيث تحمل كل دفعة فكرة رئيسية، ثم تناوله بالدراسة، والتحليل، والتفسير، والنقد والتقويم.<br /><br />الوقوف على المعايير والقيم ونواحي الجمال في النص وقواعد ذلك.<br /><br />حفظ النص حفظاً جيداً (إن كان من القرآن أو السنة أو الأدب شعره ونثره)، بحيث ينطبع في نفس المتعلم، فيقتبس منه، وينسج على منواله في كلامه وكتابته.<br /><br />التعبير كتابة عن موضوع النص بعد دراسته والقراءة حوله.<br /><br />ثالثا: التقويم والمتابعة، ويتم في خطوتين : الأولى وتتمثل في تقويم تعبير التلاميذ وفقا للمعايير التالية:<br /><br />أ- سلامة النطق والإلقاء<br /><br />ب - سلامة الكتابة ووضوح الخط.<br /><br />ج- سلامة الأسلوب (كل ما يتصل بالنحو والصرف)<br /><br />د- سلامة المعاني.<br /><br />هـ- تكامل المعاني.<br /><br />و- منطقية العرض.<br /><br />ز- جمال المعنى والمبنى.<br /><br />الخطوة الثانية: وتتمثل في معالجة الأخطاء اللغوية الشائعة في تعبير التلاميذ من حيث المبنى والمعنى أثناء التدريس وفيما يلي ذلك من دروس. وهنا يجب ملاحظة عدة أمور مهمة:<br /><br />1. أنه يجب التعرض لبعض قضايا النحو ذات الأهمية للدراسين من خلال إطار لغوي متكامل،2. سواء كانت قضايا متصلة بالأصوات ودلالة الألفاظ والتراكيب أو كانت متصلة ببعض الأساليب النحوية أو البلاغية.<br /><br />3. أنه يجب الاكتفاء في المرحلة الابتدائية بدراسة مكونات الجملة العربية عامة،4. وكما ترد في النصوص،5. على أن يتم تفصيل ذلك في المراحل التالية.<br /><br />6. لا يخصص لكل مفهوم نحوي نص قائم بذاته،7. حتى لا تلوى أعناق النصوص أو تصطنع لخدمة النحو،8. وإنما يدرس في كل نص ما يحتويه من الأساليب النحوية والبلاغية المنشودة.<br /><br />9. أن يتم دراسة الأساليب النحوية كما هي منطوقة في النص،10. دون التعرض للحذف أو التقدير أو عوامل الإعراب في مراحل التعليم العام.<br /><br />11. أن يحاط المتعلم ببيئة لغوية عربية سليمة في كل جوانب المؤسسة التعليمية التي ينتمي إليها.<br /><br /><br />وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.<br /><br />________________________________________<br />الهوامش<br /><br />محمد حسنين زيدان "أيهما زرياب" الشرق الأوسط، 8121/1984، ص13<br /><br />نبيل علي : الثقافة العربية وعصر المعلومات: رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، الكويت، سلسلة عام المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد (265) يناير 2001م، ص227.<br /><br />نبيل علي: المرجع السابق، ص231.<br /><br />نبيل علي: العرب وعصر المعلومات، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد (148)، شوال 4141هـ، أبريل 1994م، ص135.<br /><br />نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات، مرجع سابق،ص55.<br /><br />رشدي طعيمه: المرجع في تعليم اللغة العربية، جامعة أم القرى، الجزء الأول ص399.<br /><br />أنظر: علي أحمد مدكور: تدريس فنون اللغة العربية، الطبعة الشرعية الثالثة، دار الفكر العربي،1423هـ،2002،ص287.<br /><br />عبدالقاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ، ص44.<br /><br />أحمد درويش: دراسة في الأسلوب بين المعاصرة والتراث، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 1988،ص98.<br /><br />المرجع السابق ،ص102 .<br /><br />المرجع السابق ص104.<br /><br />انظر: علي أحمد مدكور: التربية وثقافة التكنولوجيا، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1423هـ، 2003م، ص160 ـ 163.<br /><br />سعود بن حميد السبيعي "نحو نظرية إسلامية للغة" في مجلة جامعة أم القرى للعلوم التربوية والاجتماعية والإنسانية، العدد الثاني، المجلد عشر، ربيع 121هـ، يوليو 2000م،5-20.<br /><br />المرجع السابق، ص5.<br /><br />نبيل علي: "وراثة اللغة ولغة الوراثة" في الكتب وجهات نظر، القاهرة، دار الشروق، العدد(27)، أبريل 2001م، ص26.<br /><br />أحمد مستجير "الجينوم: قراءة في سفر الإنسان"، في الكتب وجهات نظر، القاهرة، دار الشروق، العدد (18)، يوليو 2000م، ص14.<br /><br />عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، مرجع سابق،ص302.<br /><br />نبيل علي: "وراثة اللغة ولغة الوراثة" مرجع سابق، ص26.<br /><br />عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، مرجع سابق، ص.44<br /><br />علي أحمد مدكور: التربية وثقافة التكنولوجيا، مرجع سابق، ص168.<br /><br />د.هـ. روبنز: موجز تاريخ علم اللغة، عالم المعرفة رقم 227، الكويت. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت رجب 1418هـ، نوفمبر 1997م ص 318- 321 وانظر أيضا نبيل علي: "وراثة اللغة ولغة الوراثة"، مرجع سابق، ص22.<br /><br />نبيل علي :الثقافة العربية وعصر المعلومات رؤية مستقبل الخطاب العربي، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 265، يناير 2001م، ص167.<br /><br />المرجع السابق، ص177.<br /><br />رشدي أحمد طعيمه: المرجع في تعليم اللغة العربية للناطقين بلغات أخرى، جامعة أم القرى اللغة العربية، العدد (18)، ص351.<br /><br />أنظر: علي أحمد مدكور: تدريس فنون اللغة العربية، مرجع سابق، الفصل الخامس بتدريس النحو.<br /><br />ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، بيروت، لبنان، دار القلم، ط1، 1978 ، ص:546<br /><br />Salkie, Raphael, linguistics and Politics, Unwin Hyman, Ltd. Great Britain, 1990, P.85<br /><br />المرجع السابق، ص19.<br /><br />ابن خلدون: المقدمة، مرجع سابق، ص:558.<br /><br />المرجع السابق، ص559.<br /><br />المرجع السابق، ص554.<br /><br />محمد عبيد: في اللغة ودراستها، القاهرة، عالم الكتب، 1974، ص55 وما بعدها.<br /><br />رشدي أحمد طعيمه: المرجع في تعليم العربية، مرجع سابق، ص360.<br /><br />رشدي أحمد طعيمه، مرجع سابق، ص398.<br /><br />المرجع السابق، ص399.<br /><br />المرجع السابق، ص 400 – 401.<br /><br />المرجع السابق، ص 407- 408.<br /><br />رياء المنذري "فاعلية استخدام المنظم المتقدم في تحصيل النحو لدى طالبات الصف الثاني الإعدادي" رسالة ماجستير. كلية التربية، جامعة السلطان قابوس، 2004، ص6-7.</span></span></span></span></b></div>
</div>
</div>
</span></b></div>
</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-24196239675361748212016-09-06T13:35:00.001-07:002017-09-17T03:13:55.218-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
مركزية المرأة في قصيدة "الذئب" للبحتري<br />
<br />
سلطان الزغول<br />
يمكن أن نقسم قصيدة "الذئب" للبحتري، ومطلعها:<br />
سلامٌ عليكم لا وفاءٌ ولا عَهدُ! أَمَا لكُمُ مِن هَجر أحبابكم بُدُّ<br />
إلى لوحات ثلاث: لوحة المرأة التي يبدأ بها الشاعر، وتظهر في الأبيات (1-6). ولوحة الفخر التي تتجلى في الجزء الثاني الأكثر طولا، ويبلغ عدد أبياته ضعف عدد أبيات الجزء الأول؛ الأبيات (7-12). ولوحة الذئب التي تميّز هذا النصّ وتعطيه خصوصيته، ويمكن رصدها في الأبيات (19-35). يلي ذلك ستة أبيات لعلها تمثل خلاصة التجربة الفنية في هذه القصيدة، وهي الأبيات (36-41). ورغم قصر اللوحة الأولى إلا أنها تمتلك تأثيرا كاسحا؛ فموقف المرأة من الشاعر من جهة، ومشاعره نحوها من جهة أخرى هي ما يقوده عبر مسارب النص الأخرى.<br />
أول ملمح يمكن التأكيد عليه في قراءة هذه القصيدة هو تعالقها مع المتن الشعري العربي؛ فعبر التناصات الغنية التي تزخر بها أبيات البحتري يبرز انحيازه للنصّ الجاهز، للنموذج المنجز سابقا، مقابل انحياز معاصره أبي تمام لطاقة اللغة المتجددة. وهذا ما دفع بعض النقاد من معاصري الشاعرين ولاحقيهما إلى عقد الموازنات والمقارنات بين شاعر يمضي على سنن العرب هو البحتري، وآخر يخرج عليها هو أبو تمام. وهي موازنة كانت ترجِّح –على الأغلب- كفّة البحتري المقتدي على أبي تمام المبتدع.<br />
فإننا لنكاد نلمح نهج شعراء النقائض، خاصة الفرزدق عبر تفاخره، في قول البحتري:<br />
فقل لبنـي الضحـاك مهلا! فإنّـني أنا الأفعوان الصلُّ والضَيْغم الوَرْدُ<br />
بنــي واصلٍ مهلا! فإنّ ابن أختكم له عزمـاتٌ هَزْلُ آرائهــا جِدُّ<br />
متى هِِجْتموه لا تَهيجوا سوى الردى وإنْ كـان خِرقا ما يُحلُّ له عَقْدُ<br />
ثم نرى الفرزدق بكامل تدفقه في البيت الثاني والعشرين:<br />
وأطلسَ مِلْءِ العَيْن يحمل زَوْرَهُ وأضْلاعَهُ من جانبيهِ شَوى نَهْدُ<br />
بل في مشهد لقاء الذئب كلّه. وهو مشهدٌ ينهلُ فيه البحتري من لغة الفرزدق وصياغته وأفكاره، على الرغم من أنّ الفرزدق انتهى إلى مصاحبة الذئب، حيث تأكّد له عبر تقاربهما أنّ الذئب كائن لا يقلّ عنه حزنا وألما وحاجة إلى دفء الصديق، بينما سار البحتري إلى قتل من أكدت له التجربة أنه غريمٌ عدوّ لا يعرف الرحمة، وأن قسوة العالم لا تسمح باستمرارهما معا في هذه الحياة، فإما أن يقتلَ الذئبُ الشاعرَ ويأكلَه، أو ينتهي هذا الكائن المفترس إلى مصيره المحتوم، فيقوم الشاعر بتناول شيء من لحمه غير المستساغ، في سبيل تأكيد انتصاره من جهة، والتعبير عن أنّ الإنسان لا يقلّ ذئبية عن الحيوانات المفترسة من جهة أخرى.<br />
ومن الشعراء الذين نلمح أطيافهم تمرّ سريعا عبر هذه القصيدة النابغة الذبياني، حيث نلاحظ توازيا مع بيته المشهور:<br />
كِليني لِهمّ يا أميمةَ ناصِبٍ وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ<br />
وذلك في أسلوب صياغة البيت الرابع عشر:<br />
ذريني وإياهم فحسبي صريمتي إذا الحرب لم يُقدَح لِمُخْمِدِها زَنْدُ<br />
على الرغم من اعتراف النابغة بضعفه أمام الآخر وهو يخاطب المرأة، مقابل تأكيد البحتري لقوته وشجاعته التي قد تؤثر في امرأة هجرته، وتدفعها إلى الندم على فراقه.<br />
ليست هذه القراءة معنية بإحصاء تناصّات البحتري على أي حال، لكنها هدفت منذ البداية إلى التأكيد على أننا أمام نصّ يتشكّل على وقع أصوات سابقة، تظلّ أصداؤها تتردّد بقوة وفاعلية، وتبرز انحياز البحتري للمتن الشعري العربي بصيغته التقليدية القارّة. وليس آخر هذه الأصوات زهير وحكمته الخالدة، أو مقارعات الصعاليك الليلية، لكن أبرزها بصمات طرفة بن العبد التي تطبع خاتمة نصّ البحتري، سواء عبر المستوى الصوتي باستخدام قافية الدال، أو عبر الموقف من الحياة، والشجاعة في مواجهة الموت. فإذا ما قرأنا قول البحتري:<br />
ذريني من ضَرْبِ القِداح على السُّرى، فَعَزْميَ لا يَثْنيــهِ نَحْسٌ ولا سَعْدُ<br />
سأحملُ نفســـــي عند كلّ مُلمّة على مِثلِ حدّ السّيف أخلَصَهُ الهِندُ<br />
فإن عشت مَحمـودا فمِثلي بَغَى الغِنَى لِيَكسِبَ مـــالا، أو يُنثَّ له حمدُ<br />
وإن متُّ لـم أظفَر فليس على امرئٍ غدا طالبا إلا تَقَصِّيـــهِ والجَهْدُ<br />
استعادت أذهاننا فورا قول طرفة الخالد:<br />
ألا أيُّ هذا اللائمي أحضرَ الوغى وأن أشهدَ اللذات هل أنت مُخلدي<br />
فإن كنتَ لا تسطيـعُ دفعَ منيّتي فدعني أبــادرها بما ملكت يدي<br />
كما استعادت معاني مشابهة عبر أبيات أخرى في المعلقة.<br />
ربما كان البحتري ينطلق في هذه القصيدة من نقطة مركزية، هي هجر المحبوبة، ما يدفعه إلى أن يحاول جهده في القصيدة كلها أن يثبت خطأ قرارها بترك فارس مغوار ذي مكانة متميزة في القبيلة، ومعرفة بالصحراء وأسرارها، بل إنه صديق للحيوانات المفترسة التي يتجنّبها الناس عادة. وهو القادر على أن يقارع أشدّ الخطوب حلكة، ويخرج منها منتصرا، يؤكد ذلك انتصاره على الذئب بعد معركة شرسة خاضها بشجاعة وإقدام دون تردد. ورغم تفاخره الذي يملأ أطراف القصيدة تظلّ مسحة من الحزن والكآبة تَبرز في كثير من مفاصل النصّ، مظهرة حجم خسارته. ثم تظهر بوضوح في الخاتمة التي يغلّّفها ألم وخسارة لم يحلْ دونها الانتصار على الذئب، وهو انتصار كان حريّا به أن يملأ النفس بالنشوة والإحساس بالتفوق وتذوق طعم الانتصار.<br />
تبدأ القصيدة بلوحة المرأة، وهي لوحة تُسْلمنا منذ الكلمة الأولى إلى الإحساس بمرارة الوداع:<br />
سلامٌ عليكم لا وفاءٌ ولا عَهدُ! أَمَا لكُمُ مِن هَجر أحبــابكم بُدُّ<br />
أأحبابَنـا قد أنجز البينُ وَعْدَهُ وشيكا، ولم يُنْجَزْ لنا منكمُ وَعْدُ<br />
فتحية المحبوبة تكاد تكون تصريحا بالهجر، عوضا عن أن تكون تحية ابتداء، خاصة وهو يُتبع التحية بنفي الوفاء والالتزام بالعُهود عنها. لكنه سرعان ما يقطع خطاب الهجر والوداع ليستبدله بالتضرّع المقرون بالعتاب والأسى في الشطر الثاني من البيت نفسه. ثم يؤكد أساه وعتابه وحزنه في البيت الثاني الذي يبدأه مستخدما أداة نداء القريب، فعلى الرغم من البَيْن الذي قطع ما بينهما إلا أنّه يخاطبها بتأسّ وتودّد مستخدما لفظ (أحباب)، وهو منادى يتصل بالضمير (نا) الذي يدلّ على التصاق هؤلاء الأحباب بالمتكلم. هذا التأسّي والحزن والعتاب يبرزه ويوضّحه ما يلي صيغة النداء من ألفاظ تؤكد انقطاع الوصل دون تحقيق أي اتّصال حقيقي؛ فالبَيْن قد تمّ وأنجز بسرعة دون أن تفي المرأة بوعد واحد من وعودها، ما يشي بأنها تتحمّل مسؤولية الفراق.<br />
بعد ذلك يلتفت الشاعر إلى خطاب الأطلال عبر الإلحاح والتأكيد على استخدام صيغة نداء القريب، التي تظهر عمق تأثير بَيْن المحبوبة، ما يدفعه إلى التمسك بقربها، ولو كان ذلك عبر صيغ بناء التراكيب الفنية:<br />
أأطلالَ دارِ العــامريّـة باللِّوى سَقَتْ رَبْعَكِ الأنواءُ مـا فَعَلَتْ هِنْدُ؟<br />
أدار اللِّوى بين الصَّريمةِ والحِمى أما للهوى إلا رَسيسَ الجَوَى قَصْدُ؟ <br />
يدعو الشاعر للأطلال بأن تربو بماء الأنواء، وذلك خلال سؤاله إياها مستنكرا ما فعلته محبوبته من صرم وقطع. ويحيلنا نداء أطلال دار العامرية، وهي أطلال دار محبوبته التي أقدمت على فعل ما لا يستطيع تصديق حدوثه من انقطاع وهجر، يحيلنا إلى أجواء الحب العذري السامي، وإلى ليلى العامرية، ما يعطي إيحاء بعمق هذا الحب الذي مرّ به الشاعر. ثم يخاطب المكان بصيغة النداء نفسها، قبل أن يحدّده بدقة، في محاولة للقبض عليه عبر اللغة، وامتلاكه من خلال الكلمات، سلاحِه الوحيد في مواجهة الفراق والقطع الذي أقدمت عليه المحبوبة. وما يلبث أن يتساءل بالحرقة نفسها التي ظهرت في الأبيات السابقة: أما للهوى من قصد إلا هذه الحرقة الباقية؟ ألا يمكن أن يهوى من يهوى فيتحقق له الفرح والوصال؟ لماذا ينتهي العاشق دائما إلى هذا الألم؟. ومن ما يلفت في هذا البيت أن تتحدّد دار الحبيبة المفتقدة "بين الصَّريمةِ والحِمى"؛ بين مكان اشتق اسمه من الفعل (صرم)، بمعنى قطع بقوة وعنف، ومكان يحميه أصحابه لما فيه من خير، فهي حبيبة ممتنعة ممنوعة أولا وأخيرا، لا أمل يرجى من تحقيق الوصال معها، ما يدفع إلى أن يختم الشاعر لوحته بالاستسلام للحزن الذي يقود إلى الرقة في صياغة الكلمات:<br />
بنفسيَ مَنْ عذَّبْتُ نفســـي بِحُبِّهِ وإن لم يكنْ منه وِصالٌ ولا وُدُّ<br />
حبيبٌ من الأحبـاب شَطَّتْ بِهِ النَّوَى وأيُّ حبيبٍ ما أتى دونهُ البُعْدُ!<br />
إذا كانت اللوحة تبدأ بالتصريح القاسي: لا وفاء لهذه المحبوبة ولا عهد، فإنها تنتهي بافتدائها بالنفس التي تعذّبت بحبّها، دون أن تحصل منها على أي نوع من أنواع الوصال. وهذا يدفع الشاعر إلى أن يلبس رداء الحكمة مؤكدا أنه ليس في الحب قرب دائم، فهو يتساءل معزيا نفسه: هل من حبيبين لم يحل البعد بينهما؟ وبذلك يتطهّر من حرقة الحب وآلامه، في سبيل المضيّ في هذه الرحلة الفنية عبر القصيدة إلى نهايتها. وهي رحلة تتخذ من المحبوبة منطلقا، وتتكئ على فراقها لتبني عالما جماليا شامخا.<br />
تبدأ لوحة الفخر بالبيت السابع، دون أن تنقطع عن لوحة الذئب التي تتلوها في سبيل تأكيد الصفات التي اتخذها الشاعر لنفسه، وهي لوحة تشرع للحبيبة بابا واسعا على عالم مَن أحبّها وفارقته، ما يعطي الشاعر تعويضا عن خسارته، عبر تأكيده لها أنها هي التي خسرت فارسا لا يعوّض، ورجلا عزّ نظيره في هذه الدنيا: ظريف<br />
إذا جُزتَ صحـــراءَ الغُوَير مغرِّبا وجازَتْكَ بطحاءُ السواجير يا سعدُ<br />
فقل لبنـــي الضحـاك مهلا فإنني أنا الأفعوان الصِّلُّ والضَّيغَمُ الوَرْدُ<br />
بنـــي واصل مهلا فإنّ ابنَ أختكُم لهُ عَزَمَاتٌ هزْلُ آرائهــــا جِدُّ<br />
متى هِجْتُموهُ لا تهيجوا سوى الرّدى وإنْ كــانَ خِرْقا ما يُحلُّ له عَقْدُ<br />
يفتخر الشاعر على بني الضحاك مستخدما ألفاظا صحراوية قاسية؛ فهو "الأفعوان الصِّلُّ والضَّيغَمُ الوَرْدُ": وبذلك يصف نفسه بالثعبان الداهية، والأسد الشجاع، كما أنه يتقصّد ذكر أماكن الصحراء وتحديدها بدقة تؤكد خبرته ومعرفته بتلك الصحراء وقسوتها، وذلك كلّه ليس ببعيد عن موقفه المتأزم من المحبوبة التي يريد أن يقول لها إنها قد أضاعت فرصة التقرب من فارس مهيب، له عزمٌ هزلُه جدّ، وإذا ما استفزّه مستفزّ فقد استفزّ الردى نفسه، رغم ظرفه وسماحته وكرمه. وكأنما يشير عبر ذكر الظرف والسماحة إلى صفات تحبّذ النساء توفّرها فيمن تحبّ، ناهيك عن صفاته الأخرى التي تجعل منه رجلا مثاليا لا يدانيه أحد في القوة أو النجدة أو السماحة أو المكانة.<br />
نحن إذن أمام فارس فذّ، وهو محبّب إلى النفس أيضا. ويتابع وصف الذات الخارقة قائلا:<br />
مهيبا كنصل السيف لو قُذفتْ به ذرى أجأ ظلّت وأعلامُـــهُ وَهْدُ<br />
يودُّ رجال أننـي كنتُ بعض مَن طوتهُ المنايــا لا أروحُ ولا أغدو<br />
ولولا احتمـالـي ثِقْلَ كلّ مُلِمَّة تسوءُ الأعادي لم يودُّوا الذي ودّوا<br />
إنه مهيب يشبه نصل السيف في حدّته، وهو قاس شديد لو قُذف به جبل (أجأ) لسُوّي بالأرض. أما الرجال فيحسدونه ويتمنون لو كان قد قُتل أو مات، وذلك لاحتماله ثقل الملمّات، ومواجهته الأعداء، ما يجعله مقدّما عنهم لتميّزه. <br />
ويكاد ما وراء الخطاب يتكشّف عبر قوله:<br />
ذريني وإيـاهم فحسبي صريـمتي إذا الحرب لم يُقْدَح لِمُخْمِدِها زّنْدُ<br />
ولي صاحبٌ عضْبُ المضاربِ صارمٌ طويلُ النجــادِ ما يُفَلُّ لهُ حدُّ<br />
فبعد أن استعرض صفات الفارس المتميّز بين أقرانه في القبيلة، عاد يخاطب الحبيبة التي اعتقد أنه قد تطهّر من مشاعره نحوها في خاتمة لوحة الغزل، ومضى يؤكد لها عبر لوحة الفخر كل ما من شأنه أن يدفعها إلى الندم على فراقه. لكنّ حبّها الذي دفع بهذا البناء الفنيّ إلى الاكتمال، سواء عبر لوحة الغزل الممتلئة شجى وجوى وتأسيا، أو لوحة الفخر المتشبّعة بصفات البطولة الخارقة، وهي صفات ستتأكّد وتترسّخ خلال لوحة الذئب التي يشمخ فيها هذا الفارس، منتصرا على الطبيعة المتوحشة، بعد أن تفوّق على نظرائه من الفرسان. أقول: لكن حبّها ليس رداء يمكن خلعه، أو موقفا عابرا يمكن التخلّص من وطأته عبر نفث عبرات الحب أو الفخر، والتطهّر منها كأن لم تكن. إنه حبّ راسخ يدفع بالحبيبة إلى الظهور بكامل هيبتها خلال انطلاق الشاعر وحيدا، مكتفيا بما حدث له من (صريمة) على يد المحبوبة، قبل أن يقطع تميّزه على أقرانه أي وسيلة تعويض عن الفقد عبر الصداقة الإنسانية، فلم يعد له من صاحب مخلص إلا سيفه القاطع، وهذا ما سيجعله يمضي إلى التعمق في الصحراء ومواجهة وحوشها الكاسرة، بعد أن انقطعت حبال تواصله الإنسانية، مع المرأة أولا، ثم مع الأصدقاء الذين صاروا يودّون موته بعدما رأوا فيه من سمات التميز والتفوّق.<br />
نحن إذن أمام خيبة شاعر يحسّ بالتوحّد والقلق، وهو يعرف قدراته التي تؤهّله للاندماج الاجتماعي، ولعب دور حاسم في الحياة. وانطلاقا من هذه المشاعر خاض غمار رحلته الصحراوية التي واجه فيها وحش الصحراء. ولا بدّ من التأكيد أننا لسنا هنا بصدد إثبات حقيقة هذه الرحلة وما جرى فيها من أحداث درامية، كل ما يعنينا هو الرحلة الفنية التي قام بها البحتري عبر اللغة، والتي تشكّل بديلا خالدا عن خسارات الشاعر الإنسانية والاجتماعية.<br />
بعد أن قدّم الشاعر ما قدّم من صورة ناصعة لفروسيته عبر لوحة الفخر، بدأ يتصوّر أن حبيبته قد تندّمت على فراقه، فما وجدت حيلة إلا البكاء تشكو عبره هذا الفراق بدموع غزيرة، تتساقط بحزن دفعه إلى أن يهدئ من روعها، طالبا منها ألا تحزن لبين رجل ذي همة وطموح إلى العلياء، ليس له ندٌّ أو نظير بين الرجال. ولعله يخاطب بهذا نفسه التي عزّ عليها مفارقة المحبوبة التي هجرته، فلم يجد ما يعزّيها به إلا ما ظل الشاعر العربي يعزّي به نفسه ورفيقته منذ أن بدأت رحلة القصيدة الجاهلية: لا تحزني للفراق، فأنا بصدد الرحيل في سبيل تحقيق المجد والرفعة:<br />
وبــاكيةٍ تشكو الفِرَاقَ بأدمُعٍ تُبادِرُها سَحَّا، كما انتشر العِقْدُ<br />
رَشادَكِ لا يحْزُنْكِ بَيْنُ ابن هِمَّةٍ يتوقُ إلى العليـاء ليس لهُ ندُّ<br />
لكنّ الشاعر لا يترك هذه المعادلة التقليدية في القصيدة العربية دون إضافة، إن الخسارة التي دفعته إلى التأمّل والتجربة وخوض غمار الرحلة القاسية تقوده إلى الكشف:<br />
فَمَنْ كان حرّا فهو للعزمِ والسُّرى وللّيل من أفعالهِ والكَرَى عبدُ<br />
إذا كان الفارس حُرّا، فإن حرّيته في الحقيقة ليست سوى وهم؛ فمع مرور الأيام والليالي وهو على قيد مغامرته التي تجلب له المكانة والسموّ، يتحوّل إلى عبد للعزم والسُّرى، ولليل والسهر. فهو يحمل عبئا ثقيلا لا يمكنه التخلّص منه، لا يمكنه أن يرضى بما يرضى به عامة الناس، لأن الناس لن يقبلوا منه إلا الخارق والعظيم.<br />
وسرعان ما يمضي الشاعر وقد استراح لهذه النتيجة إلى اللوحة الثالثة، التي يصف فيها ليلة من لياليه الصحراوية، قضاها حتى آخرها ساهرا، يترقّبُه ذئب هاجع، أصابه شيء من النعاس وهو ينتظر أن يغفو غريمه دون جدوى، وقد ظلّ ينظر إليه بعين ابن ليل خبير بكائنات الصحراء، ينتظر لحظة غفلة من صيده حتى ينقضّ عليه:<br />
وليلٍ كأنّ الصُّبْحَ في أخرَياتِـهِ حُشـاشَةُ نَصْلٍ ضمَّ إفْرنده غِمْدُ<br />
تسرْبَلْتُهُ والذئبُ وَسْنانُ هاجعٌ بعينِ ابن ليلٍ ما لهُ بالكرى عَهْدُ<br />
أثيرُ القطا الكُدْرِيَّ عن جَثَماتِهِ وتألَفُنــي فيهِ الثّعـالبُ والرُّبْدُ<br />
يكتبُ الشاعر هذه اللوحة بريشة فنان يرسم مشهدا صامتا سرعان ما تدبّ فيه الحركة، فبعد الترقّب توثّب فانقضاض فتلاحم فسقوط وموت. وهو يبدأ بذكر الليل الذي أمسى سربالا يغطي جسده، ما يؤكّد توحّده واندغامه الكلّي بليل الصحراء الذي لم يعد فيه ما يخيف، بل إنه ليدعو إلى التأمّل والتفكّر بتشكّله البطيء، ثم انجلائه عن الصبح رويدا رويدا. ولولا ترقّب عدوّ ينتظر لحظة غفلة لينقضّ ما كانت صورة تشكّل الصبح آخر الليل تستدعي ذكر أداة من أدوات القتل هي السيف، على الرغم من أنّ هذا السيف، رفيق الشاعر الوحيد في رحلته الليلية، ما زال يهجع في حضن غمده، لكنه على أهبة الاستعداد في أي لحظة لأن يظهر لمعانه، كما أنّ الصبح يتشكّل منذ خيوط الفجر قبل أن ينشقّ ويتكشّف. وبعد أن يُعرّج على الطرف المقابل، شريكه في بناء هذا المشهد الدرامي، واصفا كمونه ونعاسه، مشيرا إلى اندغامه هو الآخر في الليل الذي صار له أبا حاميا، ينفذُ إلى تفاصيل المشهد الذي يحيط به وبغريمه في هذا الترقّب المثير: فإذا ما صدرت عنه نأمَة أو حركة خفيفة أثيرت طيورُ القطا السوداء عن مراقدها، أما الثعالب وكائنات الصحراء المفترسة فقد أمست تتعايش معه، بعد أن صار وجوده مألوفا في موطنها القاسي. ومن ما يلفت في مكونات هذا المشهد الليلي أنّ كائناته يسمُها لون الليل القاتم، فالقطا كُدريٌّ أسود مغبرّ، والكائنات الأخرى رُبدٌ مسودّة، أما الذئب الذي سيواجهه فهو أطلس؛ أغبرٌ مسودّ. ولعلّ في ذلك ما يشير إلى أحاسيس الشاعر التي تسمُها قتامة البين والفراق عمّن أحبّ.<br />
ثم يترك مكونات المشهد المحيط ليسلّط ضوءا ساطعا على الذئب، غريمه الأغبر القاسي:<br />
وأَطْلَسَ مِلْءَ العيـن يحملُ زَوْرَه وأضلاعَـهُ من جانبيهِ شَوَى نَهْدُ<br />
لهُ ذنبٌ مِثلُ الرِّشــاءِ يجــرُّهُ ومَتْنٌ كمتـن القوس أعوَجُ مُنْأدُّ<br />
طواه الطَّوَى حتى استمرَّ مرِيـرُهُ فما فيهِ إلا العَظْمُ والروح والجِلْدُ<br />
يقضْقِض عُصْلا في أسِرَّتِها الرَّدى كقضقَضَةِ المقْرُور أَرْعَدَهُ البرْدُ<br />
نحن أمام لوحة ذئبٍ يرسمها فنان محترف، تنفذ إلى التفاصيل الجسدية والنفسية الدقيقة، لكنها تستبدل الخطوط والألوان بالكلمات والإيقاعات. إنّه ذئب أغبر يميل إلى السواد، يملأ العين بضخامته، ويرتفع صدره وأضلاعه على أطراف بارزة قوية. وله ذنب طويل يجرّه خلفه يشبه حبل الدلو، أما ظهره فمقوَّس معوجّ، فيه انحناءة القوس وقوّتها. وهذا الذئب قد استحكمت عزيمته وقويت لشدة الجوع الذي لم يترك فيه ما يعيق حركته، فما بقي إلا عظم صلب عريض، وجلد أغبر قاس، وروح تشدّها رغبة البقاء إلى التقدّم. وهو قد بدأ معركة بقائه بقضقضة أنيابه الصلبة المعوجّة، التي يشبه تقضقضها اصطكاك أسنان المرتعش من شدة البرد، وشتان ما بين حركة أسنان المقرور المرتعد التي تشير إلى ضعف، وطقطقة أنياب ذئب جائع مصمّم على القتل في سبيل الحياة، يذكّر صوتها بصوت تكسّر العظام، فهي أنياب يقيم الرّدى في خطوطها المخيفة.<br />
بعد أن ركّز عدسة تصويره الماهرة على الطرف الأول، الطرف الذي ترسّخت في الأذهان صورة مرعبة لقوته وشدة فتكه، مشيرا إلى حاله البائسة نفسيا وجسديا، والتي تظهر في ذكر جوعه، وارتباكه الذي تؤشّر عليه قضقضة الأنياب، على الرغم من أنّها تحمل للطرف الآخر الرعب وترقّب الموت المحتّم، أقول: بعد أن فعل ذلك، وكما يتصرّف مصوّر سينمائي محترف، تحوّل بعدسته إلى الطرف الآخر، مشيرا إلى البيداء القاسية في خلفية المشهد:<br />
سَمَا لِي وبِي من شدّةِ الجوعِ ما بِهِ بِبَيْداءَ لمْ تُحْسَسْ بها عِيشةٌ رَغْدُ<br />
كِلانا بهـــا ذئبٌ يُحَدِّثُ نفسَــهُ بِصاحِبِه، والجَدُّ يُتْعِسُـــهُ الجَدُّ<br />
لقد التقى ذئبان جائعان؛ الذئب الإنسان، والذئب الحيوان في صحراء لا أثر للعيشة الهنيئة الرغدة فيها، كلّ ما يمكن أن يمرّ بقاطنيها هو الألم والجوع، والصراع الذي يستمرّ على إثره طرف عبر التغذّي من لحم غريمه، فقتل الآخر هو الوسيلة الوحيدة للنجاة. وحسن حظ أحدهما لا يعني إلا سوء حظ الثاني في هذه المعركة التي لا تنتهي إلا بموت هذا ونجاة ذاك. <br />
وسرعان ما تصاعدت درامية المشهد، فمضى شاعرنا يصوّر أدق تفاصيل المعركة:<br />
عَوَى ثُمَّ أَقْعَى، وارْتَجَزْتُ فَهِجْتُــهُ، فأقبلَ مثلَ البرقِ يتبَعُــهُ الرَّعْدُ<br />
فَأَوْجَرْتُهُ خَرْقـــاءَ تَحْسِبُ ريشَها علـى كوكبٍ يَنْقَضُّ والليلُ مُسْوَدًُّ<br />
فما ازداد إلا جُرْأةً وصــــرامةً، وأَيْقَنْتُ أنَّ الأمر منهُ هو الجــدُّ<br />
فأتْبَعْتُهـا أخرى فأَضْلَلْتُ نَصْلَهــا بِحيثُ يكون اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ<br />
فَخَرَّ وقد أورَدْتُـــهُ مَنْهَلَ الرَّدَى علـــى ظَمَأٍ لو أَنَّهُ عَذُبَ الوِرْدُ<br />
بدأ الذئب بإصدار صوته المرعب معلنا عن وجوده وإصراره على البقاء، ثم قعد على مؤخّره مستعدّا للوثوب، أما الرجل فبدأ ينشد الرجز محمّسا نفسه، أو أنّه بدأ إصدار أصوات متتابعة مرتفعة ليخيف غريمه، ما أهاج الذئب الذي هجم بسرعة خاطفة، ناشرا من حوله أصواتا مرعبة عبر عوائه المختلط بتحرّكه القويّ السريع، فما كان من الرجل إلا أن أطلق سهما قويا انغرز في جلد الذئب القاتم، لكن إصابته بهذه الطعنة السريعة لم تثنه عن عزمه، بل زادته جرأة وصرامة وانقضاضا في تقدّمه، ما جعل الرجل يغرز نصل سيفه أو رمحه في قلب الذئب الذي خرّ قتيلا بعد أن صمّم على أن يرد مورد الموت. <br />
لكنّ الرجل لم يكتف بقتل غريمه، كان لا بدّ له من تأكيد ذئبيته بتناول شيء من لحمه، وربما كان أكل لحم الذئب سببه شدة الجوع حسب:<br />
وقُمْتُ فجَمَّعْتُ الحَصى واشْتَوَيْتُهُ عليه وللرَّمْضـاء مِنْ تَحْتِهِ وَقْدُ<br />
وَنِلْتُ خَسيــسا منهُ، ثمَّ تركتُهُ وأقْلَعْتُ عنـهُ وهو مُنْعَفِرٌ فَرْدُ<br />
لقد حَكَمَت فينا الليالي بِجَوْرِهـا وحُكمُ بنات الدهر ليس له قَصْدُ<br />
لقد انتهى هذا المشهد الدراميّ الصاخب إلى أن قام الرجل بإشعال النار، ليشوي شيئا قليلا من لحم الذئب القاسي، لكن رمل الصحراء كان يتّقد من تحته أصلا. وبعد أن تذوّقه تركه متعفّرا بالتراب ومضى. وكان تعليقه على ما حدث أنّ حكم الدهر جائر، وألا عدل على هذه البسيطة.<br />
ربما قاد هذا التعليق إلى الاعتقاد أنّ الشاعر ليس معنيا بالصحراء وحيواناتها، إنّه يتّخذها قناعا للحديث عن العلاقات الذئبية التي تسم مجتمع المدينة، بغداد وسامراء خاصة، على المستوى الثقافي والسياسي، حيث التنافس للحصول على المكانة الأدبية من جهة، وتنافس الأمراء العباسيين في العصر العباسي الثاني للوصول إلى كرسي الحكم. فالشاعر الذي غادر مجتمعا بسيطا في بيئة أقرب إلى البداوة، تسمه العلاقات البريئة المجرّدة من الأغراض والنفعية يصدمه ما يرى في مجتمع العراق من تحارب وتنافس على السلطة، يصل حدّ تخلّص الأخ من أخيه، والابن من أبيه، فلا يجد إلا فنّه الشعري وسيلة للتعبير عن مشاعره المتضاربة، متكئا على معارفه الصحراوية التي اكتسبها في صباه وشبابه، ليبني هذا النصّ المدهش والمتقدم فنيا، خاصة في نزعته الدرامية التي صوّر عبرها مشهد الذئب خاصة بأدقّ تفاصيله ومفرداته.<br />
من جهة أخرى ليس هذا التعليق الذي يؤكّد أنّ سمة هذه الحياة هي الجور والظلم بعيدا عن موقف الحبيبة التي اختارت فراق الشاعر، وهو مَن هو في فروسيته ونجدته وكرمه ومقارعته الأعداء ووحوش الصحراء، وربما كان ذلك لصالح وغد لئيم لا يستحقها، ما دفعه إلى أن يتساءل عبر الجزء الأخير من قصيدته، الجزء الذي يخصّصه ليبّث عبره خلاصة تجربته: هل من العدل أن يشقى الكريم في هذه الحياة، ويأخذ اللئيم من الأيام الصفو والسعادة:<br />
أفي العدلِ أنْ يشقى الكريـم بِجَوْرِها؛ ويأخُذَ منهـا صَفْوَها القُعْدُدُ الوَغْدُ؟<br />
ذرينـي من ضَرْبِ القِداح على السُّرى فَعَزْميَ لا يَثْنيــهِ نَحْسٌ ولا سَعْدُ!<br />
سأحملُ نفســـــي عند كلّ مُلمّة على مِثلِ حدّ السّـيف أخلَصَهُ الهِندُ<br />
لِيَعْلَمَ مَنْ هــابَ السُّرى خشية الرَّدى بأنَّ قَضـــــاءَ اللهِ ليس له ردُّ<br />
فإن عشتُ مَحمـودا فمِثلي بَغَى الغِنَى لِيَكسِبَ مـــالا أو يُنثَّ لـه حمدُ<br />
وإن متُّ لـم أظفَر فليس علـى امرئٍ غدا طالبا إلا تَقَصِّيــــهِ والجَهْد<br />
لا عدل إذن في هذه الحياة القاسية الجائرة التي يشقى فيها الكريم، ويكسب منها اللئيم النذل. ورغم ذلك فإنه مصمّم على خوض مقارعة الخطوب مهما كانت النتيجة، فعزمه لن يلين أبدا، وهو مقدم إقدام حدّ السيف الحسن الصنع إذا ما أشهر، فهو يعرف أنّ قضاء الله لا يردّ، ولن يسلم منه الجبان الذي أقعدته عن محاولة الحصول على المجد خشية الموت. وإذا لم يتمكن من الحصول على ما ينشد في هذه الحياة من مال أو ثناء فيكفيه شرف المحاولة.</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com4tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-7119640249789409242015-09-23T14:22:00.002-07:002015-09-23T14:22:51.653-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
أبيات: ((ولما قضينا من منى كل حاجة...)) بين النقد العربي القديم والحديث<br />
د. عبدالرحمن بن محمد القعود<br />
<br />
المصدر: مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد 13، السنة 13، ص243-317<br />
<br />
مقدمة:<br />
لفت انتباهي في التراث الأدبي والنقدي القديم كثرةُ تناول النقاد أبياتَ كُثَير المشهورة:<br />
ولما قضينا من منى كل حاجةٍ ومسَّح بالأركان من هو ماسحُ<br />
وشُدَّتْ على حُدْب المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيّ الأباطح<br />
لقد شغلتهم الأبيات، وأفرزت ما يشبه الجدل النقدي بينهم. جُلّهم مجمعون على جمالها، لكنهم يختلفون في تقويم هذا الجمال وفي مصدره أو سببه. بعبارة أخرى وربما أدق، بعضهم يرى أنها جميلة من ناحية الألفاظ في حين قصَّر معناها عن درجة هذا الجمال اللفظي، بينما يرى بعض ثانِ أن وراء جمال ألفاظها معاني جديرة بهذه الألفاظ الجميلة التي عبرت عنها، في حين يرى ثالث أن سر هذا الجمال إنما هو في ((النظم)) اللفظ والمعنى معاً، ملتحمين أحدهما بالآخر. فالقضية إذن تدور غير بعيدة عن إطار اللفظ والمعنى عند النقاد مفصولين أحدهما عن الآخر منتصراً لأحدهما على الآخر من ناحية، أو متلاحمين أحدهما مع الآخر من ناحية أخرى. وكما شغلت هذه الأبيات النقاد العرب القدماء واقتطعت لها مساحة غير صغيرة في خريطة النقد العربي القديم، تناولها غير واحد من النقاد المعاصرين في ظروف نقدية مختلفة، وبوجهات نظر نقدية لا يخلو أقلها من تميز، أما أكثرها فيعد امتداداً أو تنويعاً لما قاله الأقدمون. لقد تكونت من هؤلاء وهؤلاء مادة مغرية بالبحث والتتبع والدراسة والمقارنة. والهدف أن نقف على توجهات هؤلاء النقاد من خلال مواقفهم نحو الأبيات، وأن نتعرف الأدوات النقدية التي كانوا يشتغلون بها وأيها أكثر عطاء، وأبلغ فعلاً، وأين يقف نقدنا المعاصر من نقدنا القديم ؟ وكيف ؟<br />
<br />
من هنا تبدت لي جدوى أن أنهض بهذا العمل في فصلين رئيسين، يتناول أولهما نظرة النقاد القدماء إلى الأبيات ويتناول الثاني تناول المعاصرين. ولأن القدماء أرجعوا جمال الأبيات إما إلى الألفاظ وحدها، وإما إلى المعاني التي وراء الألفاظ، وإما إلى اللفظ والمعنى معاً. فقد قسمنا الفصل الأول تبعاً لهذا.<br />
ولا نعتقد أن رواية الأبيات وتوثيق نسبتها تهمنا كثيراً في هذا المجال فما يهمنا هو النقد المحيط بهذه الأبيات وما كان له من توجهات. ومع هذا ولتوسيع دائرة المعرفة حول أبيات كُثير نحب أن نوضح أن الأبيات رُويت إما غير منسوبة إلى قائل معين وإما مختلفة النسبة، رواها غير منسوبة ابن الأثير في المثل السائر (جـ2 ص66) وأبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين (ص73) وابن طباطبا في عيار العشر (ص84) والباقلاني في إعجاز القرآن (ص221- 222) والجرجاني عبدالقاهر في أسرار البلاغة (ص16) وابن قتيبة في الشعر والشعراء (ج1 ص66) وابن جني في الخصائص (ج1 ص28) والقلقشندي في صبح الأعشى (جـ2 ص211) وياقوت الحموي في معجم البلدان في ((باب الميم والنون وما يليهما)) والقالي البغدادي في كتاب ذيل الأمالي والنوادر (ص166) وأحمد بن الحسين السراج في مصارع العشاق (مجلد 2 ص211) والربعي في كتاب نظام الغريب (ص136) وابن منظور في لسان العرب ((مادة طرف)) والزبيدي في تاج العروس ((فصل الطاء من باب الفاء)) ورواية هؤلاء اقتصرت على الأبيات الثلاثة التي ذكرناها في البداية أو الأول والثالث منها أو الثالث فقط كما فعل صاحب تاج العروس ربما لأن فيه الشاهد الذي يطلبه. أما روايتها منسوبة فالقاضي الجرجاني في الوساطة (ص34- 35) يروي منها البيت الأخير فقط وينسبه إلى ابن الطثرية. وربما اكتفى القاضي بالبيت الأخير لاستشهاده بما فيه من استعارة كان يتحدث عنها. والشريف المرتضى علي بن الحسين في أماليه (غرر الفوائد ودرر القلائد) (ص457- 458) ينسبها إلى المضرَّب: عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، ويرويها ضمن أبيات أخرى على هذه النحو:<br />
وما زلت أرجو نفع سلمى وودها وتبعدُ حتى ابيضَّ مني المسائح[1]<br />
وحتى رأيت الشخص يزداد مثله إليه؛ وحتى نصف رأسي واضح<br />
علا حاجبَيَّ الشيب حتى كأنه ظباء جرت منها سنيح وبارح<br />
وهَزَّة أظعان عليهن بهجة طلبتُ، وريعان الصبا بي جامح<br />
فلما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح<br />
وشُدتْ على حدب المهاري رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح<br />
قفلنا على الخوص المراسيل وارتمت بهن الصحاري والصفاح الصحاصح[2]<br />
أما العباسي صاحب ((معاهد التنصيص)) (ص134)، فقد نسب ثلاثة الأبيات المشهورة إلى كثير عزة. وذكر أنها نسبت أيضاً إلى ابن الطثرية، كما نقل عن أمالي المرتضى الأبيات الثمانية التي ذكرناها، وذكر أن المرتضى نسبها إلى المُضرب. وأما القيرواني في الجزء الأول من ((زهر الآداب)) (ص404- 405) فينسب الأبيات إلى كُثير ويرويها هكذا:<br />
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسحُ<br />
وشُدَّتْ على حُدْب المطايا رحالنا ولا يعلم الغادي الذي هو رائح<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث واشتفت بذاك صدور مُنْضَجَات قرائح<br />
ولم نخش ريب الدهر في كل حالة ولا راعنا منه سنيح وبارح<br />
وفي هذه الرواية الأخيرة تظهر وحدة الأبيات النفسية والأسلوبية، كما يظهر انسجامها بعضها مع بعض أكثر مما هي عليه في روايتهما ثمانية كما مر.<br />
ولا نعتقد أن في نسبة الأبيات إلى كثير أو غيره ما يسبب أو يستدعي تحولاً في مسار البحث، فسيبقى كما هو سواء تحققنا من قائل الأبيات أو افترضنا مجهوليَّته. مع هذا سننسبها إلى كثير انتهاجاً للأشهر، ثم لأنها – كما يبدو – تلتقى مع أسلوبه الشعري.<br />
<br />
الفصل الأول: في النقد القديم<br />
أولاً: جمال في اللفظ (الشكل).<br />
(1) تظهر أول إشارة نقدية لهذه الأبيات – حسب علمي – عند ابن قتيبة (ت276) في الجزء الأول من كتابه ((الشعر والشعراء)) والأبيات وردت شاهداً على أحد أضرب الشعر الأربعة التي اهتدى إليها بعد تدبر منه – كما يقول – لهذا الفن: ((تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب))[3] وهذا النوع الذي استشهد عليه بهذه الأبيات (ولما قضينا) هو ما ((حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى))[4]. وبعد أن يورد الأبيات يعلق عليها أو ينقدها بقوله: ((هذه الألفاظ كما ترى، أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس، لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطيُّ في الأبطح))[5].<br />
فابن قتيبة يقر لهذه الأبيات بحسن اللفظ وحلاوته، وبأن هذا الحسن شمل حتى مخارج حروفها وحتى مطالعها ومقاطعها[6]. بتعبير آخر، يرى ابن قتيبة أن هذه الأبيات بلغت ما يمكن أن نعبر عنه بالجمال المطلق للصياغة اللفظية، غير أن ذلك – في رأيه – لم يكتمل لسبب واحد هو أنها لا تشي له بأي معنى أو بمعنى واضح مفيد على الأقل.<br />
وهنا نقف مضطرين عند قضيتين نقديتين لا مفر من الوقوف عندهما والتحاور مع ابن قتيبة فيهما: أولاهما قضية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون – حسب المصطلح النقدي الحديث – بوصفهما عنصرين متكاملين ومتلاحمين في النص لا ينبغي الفصل بينهما عند تحليله ودراسته ونقده اللهم إلا في بعض الدراسات النقدية التي تهدف إلى تعرُّف ما بين هذين العنصرين من صلة أو ترابط تعبيريي وشيج، أو توضيح خصائص أحدهما، أما خلاف هذا فإن قيمة النص الجمالية تقضي بأن تتداخل عناصره وألا تتزايل لحساب قيمة أخرى ولو فكرية، وإلا انطمست شعريته وامحت ملامح جماله مثله مثل العينين الجميلتين تخسران جمالهما إذا نظر إليهما منفردة إحداهما عن الأخرى. فحتى لا يتشرذم النص وتتفتت وحدته التي نفضل أن نراه عليها جسداً واحداً وكلاً متكاملاً ينبغي أن نتعامل مع اللفظ والمعنى على أنهما ذلك الكل الذي لا يتجزأ وغير أننا من هذا المنطلق أو المرصد نرى ابن قتيبة انزلق إلى ما ينبغي الحذر من الوقوع فيه وهو الفصل بين الشكل والمضمون، ليس بسبب هذا القسم من الشعر الذي تناول فيه ((ولما قضينا من منى كل حاجة...)) وإنما بسبب التقسيم نفسه؛ فقد أدار هذا التقسيم حول محوري المعنى واللفظ رداءة وجودة، أو رداءة بأحدهما وجودة في الآخر. ومن الواضح أن هذا التقسيم تقريري صارم يقدم اللفظ والمعنى وحدهما – بل ومفصولين أحدهما عن الآخر – معياراً نقدياً أو حد للشعر، ولو قبلنا لكانت جناية منا على النص والشعر معاً. نعم، المعنى واللفظ بوصفهما عنصرين متلاحمين، واحد من المعايير النقدية ولكنهما ليسا الوحيدين.<br />
ولم يبد من ابن قتيبة تمييز لواحد من هذين المحورين أو انتصار لأحدهما على الآخر. ولم يَسْتَيِنْ سواء من خلال تقسيمه الشعرَ أو في ثنايا مقدمته لكتابه (الشعر والشعراء) ميله، أهو إلى جانب المعنى أم إلى جانب اللفظ ؟<br />
<br />
فما أرجحه أنه سوى بينهما[7]. ودليل آخر نستنتجه استنتاجاً على مذهب التسوية هو أن ابن قتيبة لو كان يميل إلى جانب اللفظ لأورد الأبيات وغيرها مما استشهد به في موضعه – من طريق البرهنة والتدليل المشوبة بالإِشادة والإِعجاب كما صنع أبو هلال العسكري وهو يحاول إقناعنا بسلامة موقفه المنتصر للألفاظ[8]، ولو كان ينتصر للمعنى ويهتم به أكثر من اللفظ – كما يرى محمد مصطفى هدارة[9] – لاجتهد في أن يكشف للأبيات عن معنى لائق بحلاوة ألفاظها من ناحية، ويعزز به موقفه من ناحية أخرى، كما فعل ابن جني في استحلاب معانٍ للأبيات يدعم بها قوله بأهمية المعنى وأحقيته بخدمة اللفظ له. لهذا وذاك فإني مطمئن إلى القول بتسوية ابن قتيبة بين اللفظ والمعنى، ولا فيما يذهب إليه من أنه (ابن قتيبة) ((يريد أن يجعل بين اللفظ والمعنى علاقة قوية وارتباطاً وثيقاً لخلق العمل الفني الجميل))[10]، فلم تظهر لنا هذه الإِرادة أو العلاقة القوية التي أراد ابن قتيبة أن يجعلها بين اللفظ والمعنى، لم تظهر لا في أقسام الشعر عنده ولا في طبيعة تعليقه على الأشعار التي استشهد بها. وإذا نظرنا فيما يدعم به هدارة رأيه بأنّ ابن قتيبة يهتم بالمعنى أكثر من اهتمامه باللفظ وجدناه يقول: "ودليلنا على اهتمام ابن قتيبة بالمعنى أكثر من اهتمامه باللفظ أنه يجعل من المسلمات ضرورة حمل البيت لمعنى من المعاني"[11].<br />
<br />
لكني لا أعتقد أن التسليم بضرورة حمل الشعر معنىً ما يعني التسليم بأهمية المعنى مقابل اللفظ؛ فالشعر لابد أن يحمل معنى في إطار الدائرة الواسعة والشمولية التي ترسمها للمعنى الشعري سواء كان هذا المعنى جيداً أم مقارباً، واضحاً أم غامضاً، وإلا عُد كلاماً فارغاً بله أن يكون شعراً. وما يبدو هو أن قضية اللفظ والمعنى واختلافهم حولها لم تنطلق من هذا المفهوم، وإنما من تساؤل عن مدار بلاغة القول، وعن سر ما يعجبهم ويسحرهم ويطربهم منه، أهو الألفاظ ؟ أم المعاني ؟ فمن هذا التساؤل عن سر جمال المبدَع شعراً كان أم نثراً انطلقوا مفكرين مختلفين فبعض يرى أنه في الألفاظ وجمالها وحلاوتها، وبعض يرى أنه في المعنى بشرفه وصحته وإصابته إلى أن جاء عبدالقاهر الجرجاني فحسم القضية بنظرية النظم التي جعلت من عنصري المعنى واللفظ كلاً متكاملاً ومتلاحماً هو الذي جعل بين اللفظ والمعنى علاقة قوية وارتباطاً وثيقاً لخلق العمل الفني الجميل.<br />
أما أخرى القضيتين التي أراني مضطراً للوقوف عندها فهي المعنى نفسه: هويته، ومفهومه عند ابن قتيبة صحيح أن الرجل لم ينته – بشكل واضح ومحدد – إلى مفهوم للمعنى الشعري سواء بالتحليل أو التنظير، ولكنا نستطيع أن نستبين ما يدور حوله هذا المفهوم من خلال طبيعة الأبيات التي استشهد بها على أقسام الشعر التي قسمه إليها وخاصة قسم ((ما حسن لفظه وجاد معناه)) وقسم ((ما جاد معناه وقصرت ألفاظه)) فللقسم الأول استشهد بهذه الأبيات[12].<br />
في كفه خيزران ريحه عبق من كف أروع في عرنينه شمم<br />
يُغضِي حياء ويُغضَى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم<br />
ثم علق بقوله: ((لم يُقَل في الهيبة شي أحسن منه)).<br />
وقول أوس بن حجر:<br />
أيتها النفس أجملي جزعاً إن الذي تحذرين قد وقعا<br />
ثم يعلق عليه بقوله: ((لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن من هذا)).<br />
وقول أبي ذؤيب:<br />
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا تُرد إلى قليل تقنع<br />
ثم يعلق قائلاً: ((حدثني الرياشي عن الأصمعي، قال: هذا أبدع بيت قاله العرب)).<br />
وقول حميد بن ثور:<br />
أرى بصري قد رابني بعد صحة وحسبك داءً أن تصح وتسلما<br />
ويعلق: ((ولم يُقل في الكِبرَ شيء أحسن منه)).<br />
وأخيراً بقول النابغة:<br />
كليني لِهمٍّ يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب<br />
ثم يعلق عليه بقوله: ((لم يبتدئ أحد من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب)).<br />
أما للقسم الآخر ((ما جاد معناه وقصُرت ألفاظه)) فقد استشهد بقول لبيد بن ربيعة)).<br />
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح<br />
ثم يعلق بقوله: ((هذا وإن كان جيد المعنى والسبك، فإنه قليل الماء والرونق)).<br />
ويقول النابغة للنعمان:<br />
خطاطيف حجنٌ في حبال متينة تُمد بها أيد إليك نوازع<br />
ثم يعقب أو يعلق قائلاً: ((قال أبو محمد – يعني نفسه -: رأيت علماءنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مبينة لمعناه لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقُف يُمدُّ بها، وأنا كدلو تُمد بتلك الخطاطيف، وعلى أني أيضاً لست أرى المعنى جيداً)).<br />
وأخيراً يستشهد بقول الفرزدق:<br />
والشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار<br />
هذه وتلك كانت شواهد أبي محمد. وقد نقلناها هي وتعليقاته عليها لنبين أنه لم يضع أيدينا من خلال هذه التعليقات على مفهوم واضح تماماً للمعنى في الشعر، لكنا نستطيع من طبيعة هذه الشواهد نفسها أن نستدل على دائرة هذا المفهوم عنده، بل على موقفه من المعنى والكيفية أو الدرجة التي ينبغي أن يبرز الشاعر هذا المعنى عليها، فمن طبيعة هذه الشواهد يبدو أن ابن قتيبة في مفهومه أو تأطيره للمعنى الشعري لا يذهب بعيداً عن حدود الخبر، والفكرة، والمعلومة أيضاً كانت هويتها، والحكمة، والموعظة، والقيمة الخُلقية، والمعنى المشترك المتداول ذي المنحى أو المغزى الاجتماعي، وإذا كان هذا هو ما تدلنا عليه أو على بعضه شواهد الشعر التي أوردها، فإنه أو نحوه هو ما يراه عدد من الدارسين المعاصرين[13]، وهو ما اتفق معهم عليه بعد استقرائي شواهد ابن قتيبة الشعرية، بل إنه ذكر هذا في مقدمته قائلاً: "وكان حق هذا الكتاب أن أودعه الأخبار عن جلالة قدر الشعر وعظيم خطره، وعمن رفعه الله بالمديح، وعمن وضعه بالهجاء وعما أودعته العرب من الأخبار النافعة، والأنساب الصحاح، والحكم المضارعة لحكم الفلاسفة، والعلوم في الخيل، والنجوم وأنوائها والاهتداء بها، والرياح وما كان منها مبشراً أو جائلاً، والبروق وما كان منها خُلَّباً أو صادقاً، والسحاب وما كان منه جهاماً أو ماطراً، وعما يبعث منه البخيلَ على السماح، والجبانَ على اللقاء، والدني على السمو"[14].<br />
فمقياس جودة المعنى الشعري – إذاً – عنده. هو أن يكون الشعر مفيداً أي أن يحمل معلومة ما في التاريخ أو الأنساب أو الأخلاق أو النجوم والأرصاد الجوية ونحوه، غير أننا نضيف شيئاً آخر يبدو أنه يدخل في إطار مفهوم ابن قتيبة للمعنى وهو تطلبه الوضوح في المعنى الشعري بدليل ما انتقاه من أمثلة وشواهد شعرية تدل على أنه يريد أن يضع يده على معنى واضح يتأثر ويسترشد ويتعظ به ويستفيد من حكميَّته. لابد من وضوح الفكرة في النص الشعري إلى درجة التجسد في حكمة تجريبية أو في معنى ذي منحى خلقي أو اجتماعي وإلا خلا معناه من الفائدة عند ابن قتيبة مثل شواهد أوردها في أحد أقسام الشعر التي قسمه إليها وهو ما ((حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى)) مثل أبيات ((ولما قضينا.....)) نفسها، فهي أبيات إيحائية أكثر منها تقريرية تسجل معنى مفيداً. ومثل قول المعلوط[15]:<br />
إن الذين غدو بلبك غادروا وشلاً بعينك ما يزال معيناً<br />
غَيَّضن من عبراتهن وقُلْنَ لي ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا ؟!<br />
فالشطر الأخير من البيت الثاني وبتساؤله الواسع الفضفاض يُخفي الكثير من المعاني، ولكن ابن قتيبة يريدها ليس بينه وبينها حجاب. ثم مثل قول جرير[16]:<br />
يا أخت ناجية السلام عليكم قبل الرحيل وقبل يوم العُدَّلِ<br />
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت مالم أفعل<br />
فقوله ((فعلت مالم أفعل)) تعبير موحٍ يتحرش بالمتلقي كما هو محرض على التأمل ومحرك للفكر باحتمالاته الدلالية المتعددة، ولكن ابن قتيبة – كما قلنا – ينحو إلى الوضوح بكل ألوانه كأنما بيِّنة ظاهرة يُصدر في ضوئها حكمه، ومما يعزز ما ذهبتُ إليه تعليق له على أحد الأبيات الشواهد، وهو قول النابغة:<br />
خطاطيف حجنٌ في حبال متينة تَمُدّ بها أيدٍ إليك نوازع<br />
فقد علق بقوله: ((رأيت علماءنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مبينة لمعناه، لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقف يُمد بها، وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف))[17].<br />
فهو يرى المعنى غامضاً عجزتْ ألفاظه عن أن توضح معناه، ولهذا فهي – عنده – ليست جياداً.<br />
اتضح الآن مفهوم المعنى الشعري عند ابن قتيبة، وكيف كان يتوجه به، غير أن هذا المفهوم وهذا التوجه ضيَّقا من دائرة المعنى الشعري؛ فقد حُصر في مجالات لا تنسجم – مُوَصَّلةً بطريقة ابن قتيبة – وطريقة في الخطاب متميزة. لقد أخرج هذا التضييق وهذا الحصر من مفهوم المعنى الشعري ما يمكن أن نسميه بالتعبيرية والتصويرية أي التعبير الموحي عن الشاعر، والتصوير – وإن كان خاطفاً رامزاً – للحس والوجدان بما يمكن أن يُحس ويُتذوق فقط لا أن يُمعنى (بضم الياء) ولا نقصد بهذه العبارة ((لا أن يُمعنى)) استحالة شرح النص واستخراج معناه، وإنما نقصد أن الإِصرار على تضمنه أو تضمينه معاني أو أفكاراً لا مشاعر أو إحساسات يعني تفريغه من شعريته، لذلك كله بدت نظرة ابن قتيبة إلى الأبيات نظرة ضيقة لا تتسع للأبعاد النفسية في النص، ولا لاستشرافه واستحلاب تعبيراته الإِيحائية، وهي توجهات تثري النقد وتعين الناقد، لكن ابن قتيبة لايبدو مقتنعاً بهذه التوجيهات أو مدركاً لها لا في النقد ولا في الشعر، ولهذا كان نفيه للأبيات من الدائرة التي رسمها للمعنى المفيد. ونقول المفيد لأن أبا محمد لا ينكر أن هذه الأبيات تحمل معنى، ولكنه معنى لا فائدة ((ملموسة)) فيه. ويبدو أن ابن قتيبة هو ممن يرون الشعر للفائدة والمتعة معاً، ولا يقبل لهاتين أن تنفصلا أو تتخلف إحداهما عن الأخرى. لقد امتدح أبو محمد حلاوة ألفاظ هذه الأبيات وحسنها وحسن صياغتها ولكن هل استمتع بها؟ ربما، ولكن ما نرجحه هو أن عدم إدراكه لمعنى مفيد ونافع فيها قد قلل من استمتاعه بما كان أشاد به فيها من ألفاظ حلوة وصياغة حسنة. ولقد قلت من قبل؛ إن تعمد تحويل النص الشعري إلى معان أو أفكار فقط يعني تفريغه من شعريته، وإذا فرغ الشعر من الشعر خلت القلوب والأنفس والأخيلة من أي استمتاع به. وابن قتيبة قد أفسد على نفسه اكتمال المتعة بهذه الأبيات مرتين: مرة حين ألحّ على طلب فكرة أو معنى متجسد وراءها، ومرة أخرى حين سطح معانيها تماماً بهذا اللون من الشرح أو النثر الذي لا رواء فيه ولا ضياء، أو ((بهذه العبارات المنطفئة)) كما يقول وليد قصاب[18]. ولو كان ((كُثير)) يريد أن يقول كما نثر ابن قتيبة تماماً فما حاجته إلى أن يقوله شعراً؟ كُثيِّر أراد أن يُعبر، أراد أن يقول شعراً لا كلاماً، أراد أن يوصل مشاعر لا أفكاراً وأراد أن يمتع سواء صحب هذه المتعة منفعة حكمية أم لا، ثم إنه في المتعة الفنية فائدة ومنفعة بشكل ما. وما دمنا في مجال الحديث عن فائدة الشعر ومعناه فإننا نعتقد أن ابن عبد ربه في تمثيله للشعر عديم المعنى والفائدة يقول القائل[19]:<br />
الليل ليل، والنهار نهار والأرض فيها الماء والأشجار<br />
كان موفقاً في محاولته أكثر مما فعل ابن قتيبة، ومع هذا فإننا نتحفظ تجاه حكم ابن عبد ربه لأنه ربما كان هذا البيت منزوعاً من أبيات أخرى تضفي عليه بسياقها معنى ذا فائدة.<br />
وقبل أن أصل بالحديث عن رؤية ابن قتيبة تجاه ((ولما قضينا)) إلى نهايته أحب أن أسجل أن رؤيته إلى الأبيات تبدو مختلفة مع موقفين له أحدهما نظري والآخر تطبيقي. أما النظري فهو ما ذكره في مقدمة (الشعر والشعراء) من أن من الشعر ما يبعث البخيل على السماح، والجبان على اللقاء، والدنيَّ على السمو، وما نفهمه من هذا هو أن للشعر قيمة أو وظيفة أخرى غير الفائدة وهي التأثير مالم يكن ابن قتيبة أراد من قوله هذا أن الشعر يحفز إلى القيم والمعاني الأخلاقية بوجه خاص مثل الكرم والشجاعة والنبل ولم يرد التأثير بمفهومه الشامل. أما التطبيقي فهو تضمين شواهده الشعرية أبياتاً تقوم على الصورة مثل قول الفرزدق:<br />
والليل ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار<br />
ومثل قول النابغة:<br />
كِليني لِهَمٍّ يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب<br />
بل إن استشهاده ببيت النابغة هذا ونعته بالأحسن والأغرب يكاد يشير إلى أن الصورة المحشوة بالانفعالات النفسية، أي تداخل الواقع النفسي واتحاده مع الواقع الخارجي – هي من أجَل المعاني الشعرية عنده. وعلى هذا هل نعود فنقول إن مقياس جودة المعنى الشعري عند ابن قتيبة ليس أن يكون الشعر مفيداً فحسب وإنما أن يكون مفيداً بما فيه من حكمة أو معلومة أو معنى أخلاقي، أو مؤثراً بما فيه من صور فنية أو تصوير للمشاعر ؟ ولكن أبيات كُثير تنهض على التصوير الفني والتصوير الشعوري معاً ولم تعجب ابن قتيبة معنوياً، فلماذا ؟ والجواب هو – مرة أخرى – أن أبا محمد يطلب الفكرة والمعنى الواضحين المتجسدين سواء بالتقرير أو بالصورة. في بيت الفرزدق تبرز فكرة الكبر واضحة ومجسدة، وفي بيت النابغة تبرز فكرة الهَمِّ المؤرق. أما أبيات كثير فإنها لا توضح أو تجسد فكرة أو معنى محددين وإنما هي إيحائية مؤثرة ولكن نفسياً. ولهذا خلت في رأي ابن قتيبة من أي معنى مفيد.<br />
(2) وابن طباطبا (ت322هـ) له – أيضاً – رؤية نقدية تجاه أبيات كُثير هذه، غير أن هذه الرؤية – وإن كان فيها شيء من التميز – لا تخرج عن إطار رؤية ابن قتيبة. ذلك لأن ابن طباطبا قسم الشعر كما قسمه ابن قتيبة، ثم صنف هذه الأبيات في قسم يقابل القسم الذي صنفها ابن قتيبة فيه، وهو ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) يقول ابن طباطبا تحت هذا القسم: "ومن الأبيات الحسنة الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعاً، الواهية تحصيلاً ومعنى، وإنما يستحسن منها اتفاق الحالات التي وضعت فيها، وتذكُّر اللذات بمعانيها، والعبارة عما كان في الضمير منها، وحكايات ما جرى من حقائقها دون نسج الشعر وجودته، وإحكام رصفه وإتقان معناه".<br />
ثم شرع في سرد الأبيات الشواهد على ما قال ومنها الأبيات الثلاثة المشهورة[20]:<br />
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسَّح بالأركان من هو ماسحُ<br />
وشُدّت على حُدب المهاري رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح<br />
وعلى هذا فابن طباطبا معجب بهذه الأبيات من حيث هي حسنة الألفاظ مستعذبة رائقة، لكن إعجابه لا يستمر ليشمل المعنى لأنه في رأيه واهٍ يفتقر إلى قوة الفائدة والمنفعة. ومن هنا حكمت على رؤيته النقدية لهذه الأبيات بأنها لا تخرج عن إطار رؤية سلفه ابن قتيبة، ولا أتفق مع محمد زغلول سلام فيما ذهب إليه من أن ابن طباطبا رفض ما ادعاه ابن قتيبة من أن قول الشاعر ((ولما قضينا...)) من الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى[21]؛ ذلك لأن ابن طباطبا حين أورد بعض الشواهد تحت قسم ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) علق عليها قائلاً: ((فالمستحسن من هذه الأبيات حقائق معانيها الواقعة لأصحابها الواصفين لها دون صنعة الشعر وأحكامه))[22].<br />
وحين أورد أبيات كثير علق عليها قائلاً: ((هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها... فهو معنى مستوفى على قدر مراد الشاعر))[23].<br />
فظاهر أن التعليقين ذوا اتجاه واحد بعبارتين مختلفتين. ومن هنا القول بأنه يُدخِل ((ولما قضينا...)) تحت قسم ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى))، ولعل الدكتور محمد زغلول سلام بما ذهب إليه قد ظن أن ابن طباطبا – عندما قال: ((فأما قول القائل)) ثم أورد أبيات ((ولما قضينا)) وعلق عليها – أراد استثناء ما سيورده من حكمه السابق، لكن هذا لايبدو لنا استثناء، وإنما هو نقلة أراد منها توضيح غرض الأبيات ومعناها. مرة أخرى نعود إلى القول بأن ابن طباطبا لم يبتعد عن ابن قتيبة في رؤيته إلى الأبيات فقد فصل بين المعنى واللفظ، وفهم المعنى على نحو يتوخى به الحصول على شيء متجسد وملموس لمحتوى الشعر، ثم إنه تردد في توسيع دائرة المعنى الشعري لتشمل أكثر من الوعظية والأخلاقية والمعاني المشتركة المتداولة التي تشي بتجربة يسترشد بها سامعها. يقول في كتابه (عيار الشعر): "فمن الأشعار أشعار مُحكمة متقنة أنيقة الألفاظ حكيمة المعاني"[24].<br />
ويقول أيضاً: "وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها... فهي تلائمه إذا وردت عليه – أعني الأشعار الحسنة للفهم – فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان للبارد الزلال؛ لأن الحكمة غذاء الروح"[25].<br />
فنصه على الحكمة في هذين الاستشهادين يُظهر شيئاً مما يتوجه بالمعاني الشعرية نحوه، ثم إنه عقد فصلاً خاصاً عن ((المثل الأخلاقية عند العرب وبناء المدح والهجاء عليها)) قال فيه: "وأما ما وجدته في أخلاقها وتمدحت به ومدحت به سواها، وذمت من كان على ضد حاله فيه فخلال مشهورة كثيرة"[26].<br />
ثم أورد كثيراً من هذه الخلال مثل السخاء والشجاعة والحلم والحزم، والعزم، والوفاء، والأمانة، والقناعة. فواضح أن هذه قيم أخلاقية، وواضح أيضاً أنه يرمي إلى أن تكون هذه القيم مستودعاً أو ينبوعاً أصيلاً للمعاني الشعرية. هذا هو بعض ما يسعف به تنظير ابن طباطبا برهاناً على مفهومه للمعنى الشعري، فإذا التفتنا إلى التطبيق رأينا أن طبيعة الشواهد أو الأبيات التي ساقها تقف هي الأخرى برهاناً، وسنكتفي منها ببعض ما جاء تحت قسم ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) وقسم ((الشعر الصحيح المعنى الرث الصياغة)) فمن شواهد القسم الأول قول جميل[27]:<br />
عشية قالت في العتاب قتلتني وقتلي بما قالت هناك تحاول<br />
وقول جرير:<br />
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معيناً<br />
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا !؟<br />
هذا إلى جانب أبيات (ولما قضينا من منى كل حاجة...) فأجواء هذه الشواهد ومساراتها النفسية، وطبيعتها – كما سبق القول – لا تجسد منها فكرة واعظة أو حكمة مرشدة أو قيمة أخلاقية قَر عليها العرف، لهذا سارع ابن طباطبا بالحكم عليها بضعف المعنى وإن كانت حسنة الألفاظ جميلة الصياغة.<br />
ومن شواهد القسم الثاني قول أحدهم[28]:<br />
نُراع إذا الجنائز قابلتنا ونسكن حين تمضي ذاهبات<br />
كروعة ثلةٍ لمغار ذئب فلما غاب عادت راتعات<br />
وقول الآخر:<br />
وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه يحور رماداً بعد إذ هو ساطعُ<br />
وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوماً أن ترد الودائع<br />
ثم اقرأ هذه الأبيات من شواهده أيضاً:<br />
من يَلُم الدهر ألا فالدهر غير مُعتبهْ<br />
أو يتعجب لصرو ف الدهر أو تقلبه<br />
ومن يصاحب صاحباً ينسب إلى مصطحبه<br />
بزائنات رشده أو شائنات ريبه<br />
وربما غرَّ صحيحاً جَرِبٌ بحربه<br />
تعرف ما حال الفتى في لبسه ومركبه<br />
وفي شمأزيزته عنك وفي توثَبه<br />
عليك أو إصغائه إليك أو تحببه<br />
والمرء قد يدركه يوماً خمول منصبه<br />
فطبيعة هذه الأبيات كما هو واضح طبيعة حكْمية بل إن بعضها تقريري عادي الصياغة رثُّها، ولكن هذه الحكمية جعلتها راقية المعنى عنده وإن هبطت أسلوباً، أو كما قال هو مقدماً لتلك الشواهد: ((ومن الحكم العجيبة والمعاني الصحيحة الرثة الكسوة)) لاحظ قوله: ((ومن الحكم العجيبة)).<br />
ورغم وصم ابن طباطبا لأبيات: ((ولما قضينا....)) بضعف المعنى، إلا أن ظننا الغالب هو احتفاظه لها بشيء من الشعرية لا ((مما يحسب على الشعر وليس بشعر)) نَسْتَبين هذا من قوله: "والشعر هو ما إن عري من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة. وما خالف هذا فليس بشعر"[29].<br />
فكان الشعر الجدير بهذه التسمية عنده هو ما جاء بديعاً قوياً مفيداً في معناه جميلاً في صياغته، أو جميلاً في صياغته على الأقل مثل أبيات كثير هذه في رأيه، هذا إذا جارينا ابن طباطبا وابن قتيبة قبله وآخرين بعدهما، ولكننا هنا نقف مع ابن طباطبا نفسه عند تعليق منه على هذه الأبيات، فهو في هذا التعليق يبدي رؤية نقدية جيدة حين لم يشرح الأبيات وينثرها نثراً يفتقر إلى روح الفن ونبضه كما فعل ابن قتيبة، وإنما اخترق بعض طبقاتها بتأويلها أو تفسيرها تفسيراً كشف عن شيء من أبعادها الشعورية والتصويرية حين قال: "هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها من قضاء حجه وأنسه برفقائه ومحادثتهم، ووصفه سيل الأباطح بأعناق المطي كما تسيل بالمياه. فهو معنى مستوفى على قدر مراد الشاعر"[30].<br />
<br />
فابن طباطبا بهذا التعليق أو التفسير انتبه إلى حالات وأوضاع نفسية كانت وراء الأبيات منها حالة التوتر النفسي بسبب الاغتراب عن الوطن والحنين إليه ثم زوال هذا التوتر أو خفة حدته بفرحة العودة، ومنها الانتشاء الروحي بقضاء واجب ديني، ومنها الأنس بالرفاق وأخذه معهم بأطراف الحديث. والغريب أن ما انتبه إليه ابن طباطبا هو كله معانٍ حقها ألا توصف بالضعف إلا أن يكون قد نظر إليها على أنها تجارب نفسية شخصية وليس عليها للحكمة أو العرف أو القيم الأخلاقية بصمات واضحة كما سنذكر بعد قليل. مع هذا فمن حق ابن طباطبا أن نسجل له هذه الرؤية النقدية التي تدرك وظيفة الشعر في التعبير عن المشاعر ورسم المواقف النفسية، كما نسجل له – أيضاً – عبارة واضحة في هذا الاتجاه قالها أثناء حديثه عن ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) وهي قوله: "ومن الأبيات الحسنة الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعاً، الواهية تحصيلاً ومعنى، وإنما يستحسن منها اتفاق الحالات التي وضعت فيها وتذكر اللذات بمعانيها، والعبارة عما كان في الضمير منها"[31].<br />
فالعبارات الثلاث الأخيرة ((وإنما يستحسن الخ...)) في سياقها لا تترك مجالاً للشك في أن ابن طباطبا يستجيد الأشعار التي تلامس وتراً ما في نفس المتلقي فيتفاعل معها لما يجده فيها من تعبير عن تجربة أو موقف أو إثارة لذكرى. وهاتان وظيفتان من وظائف الشعر، ومما يُفسَّر به تفاعل المتلقى مع الأثر الأدبي كما يقول شكري فيصل في معرض إعجابه بعبارة ابن طباطبا السابقة: "وهي – يقصد عبارة ابن طباطبا – عبارة نقدية دقيقة من أدق ما يقع عليه الإِنسان في النقد القديم في تفسير التفاعل مع الأثر الأدبي"[32].<br />
والحق أن المضمون النقدي النظري لعبارة ابن طباطبا تلك جدير بالتقدير، ولكنا نتساءل: طالما أنه يستحسن هذا في الشعر، وأن أبيات: ((ولما قضينا)) كما فسرها هو هي تعبير عن مواقف نفسية وتجارب إنسانيه، فكيف تهيأ له وصم معناها بالضعف؟! وما يبدو هو إما أن ابن طباطبا وقع في تناقض دون أن يدري، وإما أن الأمر ببساطة هو ما انتهيت إليه من أنه يفضل – قبل كل شيء – المعاني الشعرية في إطار من الحكمة والقيم الأخلاقية ونحوها، وهو ما أرجحه خاصة وأنه لم يستسغ صياغات جميلة معينة لا لشيء إلا لكونها وضعت إطاراً لمشاعر نفسية شخصية؛ ففي رأيه أن هذه الصياغات قد ابتذلت على مالا يشاكله من المعاني))[33] ثم أورد أمثلة منها قول كثير[34]:<br />
فقلت لها يا عَزّ كل مصيبة إذا وطنت يوماً لها النفس ذلَّت<br />
ثم علق عليه بقوله: ((قد قالت العلماء لو أن كثيراً جعل هذا البيت في وصف حرب لكان أشعر الناس))..<br />
وقول كثير أيضاً:<br />
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة إلينا ولا مقلية إن تقلَّت<br />
ثم علق عليه بقوله: ((قالت العلماء لو قال هذا البيت في وصف الدنيا لكان أشعر الناس)).<br />
3- ثم نلتقي مع قدامة بن جعفر (ت337هـ) بوصفه واحداً من النقاد الذين تعرضوا لأبيات كثير. وما هو واضح أن ابن جعفر يمتدح ألفاظ هذه الأبيات بالسماحة، وسهولة مخارج الحروف، ويأن عليها رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة. وما هو واضح أيضاً أنه لم يصنف هذه الأبيات تحت قسم: حلاوة اللفظ وضعف المعنى أو عدم فائدته كما فعل سابقاه (ابن قتيبة وابن طباطبا) وإنما ساقها تحت فصل ((نعت اللفظ)) فقط وهذا قد حيرنا قليلاً، لكننا إذا قرأنا كلامه عن نعت اللفظ ((أن يكون سمحاً، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة، مثل أشعار يؤخذ فيها ذلك وإن خلت من سائر النعوت للشعر))[35]. بدت حيرتنا تتبدد فآخر كلامه يدل على أنه أراد أن كل ما مثل به في هذا الفصل ومنه أبيات كثير[36] يخلو من سائر نعوت الشعر ما عدا نعت اللفظ. قدامة إذَنْ جرد الأبيات من كل الخصائص إلا جمال اللفظ وحلاوة الوقع. وعلى هذا، فهو يلتقي في موقفه تجاه هذه الأبيات مع سلفيه ابن قتيبة وابن طباطبا، غير أننا نود مناقشة قدامة في تناقض يبدو لنا أنه وقع فيه حين طرح تنظيراً يبدو أنه لا يتفق مع موقفه من أبيات كثير. يقول في تنظيره هذا: "ومما يجب تقدمته وتوطيده قبل ما أريد أن أتكلم فيه أن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها في ما أحب وآثر، من غير أن يُحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة، وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى – كان – من الرفعة والضعة، والرفتْ والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة"[37].<br />
<br />
فابن جعفر هنا يرى أن المعاني كلها معرضة للشاعر أو هو معرض لها. له الحرية كاملة في أن يتناول منها ما يحب دون أن يُحظر عليه منها شيء. وهنا نتساءل: ناقد يذهب في حرية الشاعر مع معانيه – سواء كانت رفيعة أو ضعيفة، حميدة أو ذميمة – إلى هذا الحد أحرى أن يقف من أبيات كُثيِّر موقفاً ينسجم مع مذهبه، لأن كثيراً عبر عن معنى – مهما يكن نوع هذا المعنى على حسب مفهوم قدامة نفسه. فأجاد، أي أنه حقق الشرط الذي اشترطه قدامة في توصيل المعنى ((وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى.. أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة))[38] من هذه الزاوية نرى أن قدامة وقع في شيء من التناقض لا يخرجه منه إلا كون هذه الأبيات تعبر عن مشاعر وتجارب نفسية أقرب إلى الذاتية وأن قدامة – مثل بعضهم – لا يعد هذه ضمن المعاني الشعرية، بقي أن نذكر أن موقف قدامة من أبيات كُثير كان أقل دقة وتحديداً من موقف ابن قتيبة وابن طباطبا حين حكم عليها بأنها خلت من سائر النعوت للشعر باستثناء نعت اللفظ دون أن يوضح هذه النعوت التي خلت منها هذه الأبيات، ويحدد كيفية خلوها منها ولو بإضاءات نقدية بسيطة نستطيع في سناها تحسس الطريق إلى مناقشته والتحاور معه. إنَّ نقد قدامة لأبيات كُثير نقد تعميمي وغير منطقي رغم طغيان المنطق على رؤيته النقدية في كتابه ((نقد الشعر)) ونحن لا نتفق معه في أن الأبيات تخلو من كل نعوت الشعر سوى اللفظ، ولكنها التعميمية في النقد، هذه الجناية التي كثيراً ما عانى منها الشعر والشعراء..<br />
(4) ربما لا يبدو أبو هلال العسكري (ت395هـ) – وهو ممن تناول أبيات كثير – ذا نظرة نقدية متميزة وأصيلة تجاه الأبيات إذ إن نظرته – للوهلة الأولى – لا تخرج عن أفق رؤية سابقيه الذين تحدثنا عنهم. فهو معجب بالأبيات من حيث حلاوة لفظها وعذوبته، ومن حيث سلاستها وسهولتها، أما معناها فوسط. وليس تحت ألفاظها كبير معنى[39]، لكننا محتاجون إلى التفصيل لجلاء المسألة من ناحية، ولوضوح موقف أبي هلال من قضية اللفظ والمعنى من ناحية أخرى، ثم لأن رؤيته لأبيات ((ولما قضينا...)) مرتبطة بشكل واضح وصريح بموقفه هذا.<br />
موقف العسكري من قضية اللفظ والمعنى هو انتصاره الواضح للفظ ((وليس الشأن في إيراد المعنى، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحُسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه،. وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً))[40] وواضح أنه يكرر قول الجاحظ: ((والمعاني مطروحة في الطريق... الخ))[41]، ولكنْ ما هو مفهوم أبي هلال للفظ الذي ينتصر له ؟ وما هو مفهومه للمعنى الذي يؤخره ؟ يبدو أن العسكري لا يقف بمفهوم اللفظ عند الألفاظ في ذاتها مجردة، لقد ابتعد به وتوسع فيه إلى حد يَدخُل فيه نحو من الصياغة والتركيب، أو كما قال: ((مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف))[42]، كما يدخل فيه إحكام الصنعة، وجودة المطالع، وحسن المقاطع، وبديع المبادئ وغريب المباني، ولعله بهذا ممن مهدوا – بشكل ما – لتبلور نظرية النظم عند عبدالقاهر الجاجاني. أما المعنى فقد أورد له نعوتاً مثل الصواب، والبعد عن المحال[43]، وعن الاستكراه والسخف[44]، ومع أن هذه أوصاف يصعب الاتفاق على وضع مقاييس لها، كما يصعب معرفة مفهومه الدقيق لها، فسنقف بعض الوقت عند أول النعوت وهو الصواب خاصة وقد ألح عليه في أكثر من مكان مثل قوله: "وليس بطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً"[45].<br />
وقوله: "فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ، إن المدار بعد على إصابة المعنى"[46].<br />
خاصة وقد قرنه – كما نلاحظ في الاستشهاد الأخير – بتحسين اللفظ كأنهما الوجهان المختلفان لعملية الإِبداع الواحدة. ووقوفنا يتحدد عند فصل خصصه أبو هلال للتنبيه على خطأ المعاني وصوابها بإيراد أبيات بَيَنْ خطأها وصوابها من وجهة نظره مثل قول امرئ القيس:<br />
أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل<br />
فهو في رأيه خطأ، وعلق عليه بقوله: ((وإذا لم يغررها هذه الحال فما الذي يغرها؟!))[47].<br />
فللسوط ألهوب وللساق درة وللزجر منه وقع أخرج مُهذِبِ[48]<br />
وقد علق عليه قائلاً: ((فلو وصف أخس حمار وأضعفه ما زاد على ذلك. والجيد قوله))[49].<br />
على سابح يعطيك قبل سؤاله أفانين جريٍ غير كزولا واني<br />
ومثل قول كُثير في المدح:<br />
وإن أمير المؤمنين برفقه غزا كامنات الود مني فنالها<br />
وعلق بقوله: ((فجعل أمير المؤمنين يتودد إليه... وإنما تُمدح الملوك بمثل))[50]:<br />
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتآي عنك واسع<br />
ومثل قول المرّار:<br />
وخال على خديك يبدو كأنه سنا البدر في دعجاء بادٍ دجونها<br />
فقد عاب معنى هذا البيت لمخالفته العرف والعادة، إذ ((المعروف – كما يقول – أن الخيلان سود أو سمر والخدود الحسان إنما هي البيض، أفتى هذا الشاعر بقلب المعنى))[51].<br />
ومثل قول الكميت[52]:<br />
كأن الغُطامط في غيها أراجيز أسلم تهجو غفارا<br />
إذا ما الهجارس غنينها تجاوين بالفلوات الوبارا[53]<br />
وقد أورد انتقاد نصيبٍ الكميتَ بأنّ أسلم لم تهج غفاراً قط، ولأنه لا يكون بالفلوات وبار. كما غلط أبا تمام في قوله:<br />
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه بكفيك ما ماريت في أنه برد<br />
وعلق عليه قائلاً: ((وما وصف أحد من أهل الجاهلية ولا أهل الإِسلام الحلم بالرقة، وإنما يصفونه بالرجحان والرزانة))[54] فهذه بعض من أمثلة كثيرة أوردها أبو هلال العسكري في موضع الصواب والخطأ في المعاني الشعرية. وبعد نظر في هذه الشواهد ننتهي بانطباع عن أن أهم ما يقصده بصواب المعنى هو اتفاقه مع الواقع والتاريخ ومع العرف الاجتماعي والأخلاقي وحتى مع العرف الأدبي. وهو ما يحمل فكرة أو حكمة، وهو أيضاً ما يمكن أن تعلق عليه بـ((صَدَقَ)) كما يقول حسان:<br />
وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا[55]<br />
وهنا نتذكر أبيات ((ولما قضينا...)) ونتذكر أن أبا هلال انتقد معناها بأنه وسط مرة وبأنه ليس كبيراً مرة أخرى. ترى لماذا تدنى مستوى معنى أبيات كُثير في نظر أبي هلال؟ هل نقول: لأنها لا تسجل شيئاً مما يتوجه نحوه بمعاني الشعر، ولأننا لا يمكن أن نعلق عليها بكلمة ((صَدَقَ)) إذ هي لا تهدف إلى التقرير أو الإِخبار وإنما إلى التعبير ومبدعها لم يرد لها أن تحمل أفكاراً أو معاني بقدر ما تحمل عواطف وتجارب مرسومة بالكلمة ؟ أم نقول: إن ما أنقصه من معاني الأبيات أضافه إلى كفة ألفاظها ليزيد من تعزيز موقفه مع الألفاظ مقابل المعاني ؟ الواقع أنه هذا وذاك. أما ذاك فقد عرفناه، وأما هذا فإن أبا هلال عندما حدد موقفه بانتصاره الواضح للفظ لم يشأ أن يترك الأمر دون أن يورد ما يراه دليلاً يسند به هذا الموقف وفي هذا الإِطار أعطانا دليلين نرجئ أحدهما إلى حينه. أما الآخر فهو قوله: ((ودليل آخر (أي على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ. أن الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً، وسلساً ومعناه وسطاً، دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرابع النادر كقول الشاعر))[56] ثم أورد الأبيات ((ولما قضينا)) وعلق عليها بقوله: ((وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى، وهي رائقة معجبة))[57] فإلى ماذا يهدف العسكري بهذا الدليل ؟ يهدف إلى أكثر من شيء: يريد – أولاً – أن يبرهن على أهمية اللفظ المحسَّن وأوَّليته مقابل المعنى بدليل هذه الأبيات النادرة الرائقة وما تملكه من روعة وسحر على تأخر في معناها، فلم يقف معناها الوسط دون إعجاب المتلقين بها وسيرورتها في لهواتهم. ويريد – ثانياً – أن يشيد بها ويضعها من الشعر في جيده. هذان شيئان يظهران بوضوح في دليل أبي هلال، غير أن هناك بُعدين آخرين نلمحهما لمحاً في هذا الدليل. أما أحدهما فهو أن قيمة المعنى الثانوية عنده ليست قيمة وجوده في القصيدة أو في النص الإِبداعي شعراً كان أم نثراً وإنما هي قيمة ثانوية من حيث المعاناة الإِبداعية، أي إن الحصول على المعنى لا يحتاج إلى معاناة ومجاهدة المعاني مطروحة في الطريق كما يقول، وإنما تكون المجاهدة والمعاناة في صياغة هذا المعنى بطريقة فنية جمالية تتجاوز وظيفة الإِفهام والتوصيل، يقول: "ومن الدليل (وهو دليله الذي أرجأناه) على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرايعة، والأشعار الرايقة، ما عملت لإِفهام المعاني، لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها في الإِفهام"[58].<br />
<br />
فلاحظ كلمة ((تحسين)) وإيحاءها بما أشرت إليه. وأما الآخر من البعدين – وفي ما يضيء أيضاً البعد الأول – فهو أن أبا هلال العسكري لا يرى أن المهم في النص ما تقوله وإنما كيفية القول، ليس المهم أن توصل فكراً وإنما المهم أن تقيم معادلاً فنياً لهذا الفكر، إذ ((لو كان الأمر في المعاني – كما يقول العسكري – لطرحوا (يقصد المبدعين من كتاب وخطباء وشعراء) أكثر ذلك (يشير إلى ما ذكره من تأنق هؤلاء المبدعين وحرصهم على التجويد والترتيب) فربحوا كداً كثيراً، وأسقطوا عن أنفسهم تعباً طويلاً))[59] على أني لا أزال ألمح بُعداً ثالثاً لتنظيرات أبي هلال ورؤيته لأبيات كثير في إطار السياق الذي تناولها فيه، وهذا البعد هو أنه ليس من الضروري أن تحتوي القصيدة على معنى محدد، أو بتعبير أدق، ليست المعاني ((المحددة)) شرطاً ملازماً للصفة الشعرية في الشعر إذ هو قائم بذاته وبالنسق البنائي فيه. والدليل – في رأيه – هو أبيات كُثير فهي لا تحمل كبير معنى ((وإنما هي: ولما قضينا الحج ومسحنا الأركان وشدت رحالنا على مهازل الإِبل، ولم ينتظر بعضنا بعضاً جعلنا نتحدث وتسير بنا الإِبل في بطون الأودية))[60] ومع أن نثر الأبيات على هذا النحو الذي يظهر أنها لا تحمل معنى محدداً ذا شأن، يخدم البعد الثالث الذي ذكرنا آنفاً إلا أنه نثر سلب الأبيات طاقاتها الانفعالية والفنية، كما جردها من القيمة الجمالية اللغوية التي أشاد بها فطفا بها هذا النثر أو طفت به وانتحت نحو السذاجة والسماجة والفتور والركود. ولقد أغضب هذا النثر أحد النقاد المعاصرين[61] لأنه – بما فيه من جفاف – وَأدَ الأبيات وذبحها من الوريد إلى الوريد، ولأنه قتل فيها حس الحركة. ويبدو هذا من أبي هلال خطيئة نقدية لا تنسجم مع المسار النقدي الذي تتبعناه له ولا مع المكانة الفنية التي اجتهد في أن يضع فيها الأبيات.<br />
<br />
ملخص ما نحصل عليه الآن هو أن رؤية أبي هلال العسكري لأبيات كثير هي رؤية المعجب بها وبما فيها من شعرية، وأن هذا الإِعجاب إنما كان بسبب اللفظ أو الشكل رغم وسطية المعنى أو المحتوى. فهي رؤية تذوقية أولاً، ورؤية تخدم موقفه من قضية اللفظ والمعنى ثانياً حين عزز بها انتصاره للفظ. ثم إن هذه الرؤية تأتي خارج إطار ثنائية تحسين اللفظ وإصابة المعنى، هذه بالتحفظ[62]، غير أنني أعود مؤكداً – من خلال أقواله – أن هذه الثنائية غير متعادلة الطرفين إذْ المقدم والأهم فيها هو اللفظ، كما أنها – أيضاً – غير متلازمة الطرفين إذْ قد يغيب المعنى بدرجة أو بشكل من الأشكال، ومع هذا يبقى الشعر متألقاً أو – كما يقول هو – رائعاً نادراً ورائقاً معجباً.<br />
هذه رؤية أبي هلال لأبيات كثير، وهي رؤية اعترف أن الرواية التي أخذت منها، والأفق الذي جالت فيه كانا مبعث نشاط لي وإعجاب مني خاصة وقد لمحت في أفقها أبعاداً ونقاطاً تُذكر ببعض الاتجاهات في النقد الأدبي الحديث. إن ما بدا لي من أن العسكري لا يحفل كثيراً بالمحتوى، وإنما بلغة النص، وبالنص من حيث هو بناء، وأنه يرى الكتابة الإِبداعية نسقاً لا يهدف إلى مجرد التوصيل، حتى ليذكرنا هذا بما سماه (رولان بارت) بالكتابة اللازمة، يكان يغرى بأنه نعده (العسكري) سابقة بنيوية في النقد العربي القديم.<br />
(5) وبعد هؤلاء نلتقي بالباقلاني أبي بكر محمد بن الطيب (ت403هـ) ونظرته إلى الأبيات لا تخرج عن أفق رؤية أسلافه ممن يفصلون بين اللفظ والمعنى ويقصرون فضيلة الأبيات على ألفاظها منتقصين شعريتها بسبب ضعف معناها. ولم ترد الأبيات عند الباقلاني تحت قسم من أقسام الشعر، ولا تحت فصل يعالج إحدى قضاياه كما فعل الذين تناولنا رؤيتهم، وإنما وردت الأبيات خلال حديثه عن قصيدة البحتري: ((أهلاً بذلكم الخيال المقبل)) وتحديداً وهو يشرح البيت الثاني من هذه القصيدة وهو:<br />
برق سرى في بطن وجرة فاهتدت بسناه أعناق الركاب الضُّلل<br />
ومما علق به على هذا البيت قوله: ((فهو ذو لفظ محمود، ومعنى مستجلب غير مقصود، ويُعلم بمثله أنه طلب العبارات، وتعليق القول بالإِشارات))[63]، ثم قال: ((وهذا من الشعر الحسن، الذي يحلو لفظه، وتقل فوائده، كقول القائل، ثم أورد الأبيات الثلاثة المشهورة:<br />
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح<br />
وشدت على حدب المهارى رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح<br />
وعلق عليها بقوله: ((هذه ألفاظ بديعة المطالع والمقاطع، حلوة المجاني والمواقع، قليلة المعاني والفوائد))[64]. هذا هو تعليق الباقلاني على أبيات كُثير. وتلك كانت مناسبة استحضاره للأبيات واستشهاده بها. ومن خلال التعليق اتضحت لنا نظرته النقدية للأبيات وهي نظرة متأثرة بابن قتيبة بدليل التشابه في التعليق، ولم ألاحظ ما هو جدير بالتسجيل، اللهم إلا حين نقرأ قوله عن بيت البحتري السابق: ((ويُعلم بمثله أنه طلب العبارات وتعليق القول بالإِشارات)) ثم يقول بعده مباشرة: ((وهذا من الشعر الحسن الذي يحلو لفظه، وتقل فوائده، كقول القائل)) ثم يورد أبيات كُثير، فنفهم منه بعد أن نسحب عبارة: وتعليق القول بالإِشارات على أبيات كثير – أنه انتبه إلى ما في أبيات: ((ولما قضينا)) من إشارات وعبارات إيحائية انتبه إليها ابن جني بشكل واضح فتحدث عنها. أما غير هذا فلا شيء يستحق المناقشة.<br />
(6) ثم ينضم أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي (ت821هـ) إلى القافلة، ويقف من الأبيات موقف كل من ابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة بن جعفر والباقلاني بوجه عام، وأبي هلال العسكري بوجه خاص. لكنا لا نجد في موقف صاحب صبح الأعشى تميزاً لأنه نقل رأي أبي هلال العسكري حول الأبيات. وكذا حديثه قبلها وبعدها نقلاً حرفياً سوى كلمة أو اثنتين[65]. وما تُمكن إضافته هو أن القلقشندي ذهب في الانتصار للألفاظ ليس إلى حد التقرير فقط وإنما إلى حد التمثيل والمقارنة حين يقول تحت (فضل الألفاظ وشرفها): "إن الألفاظ من المعاني بمنزلة الثياب من الأبدان فالوجه الصبيح يزداد حسناً بالحلل الفاخرة والملابس البهية، والقبيح يزول عنه بعض القبح.<br />
كما أن الحسن ينقص حسنه برثاثة ثيابه وعدم بهجة ملبوسه، والقبيح يزداد قبحاً إلى قبحه، فالألفاظ ظواهر المعاني، تحسن بحسنها، وتقبح بقبحها"[66].<br />
وعلى هذا فأبيات كثير عنده جميلة جمالاً مطلقاً بسبب ألفاظها وبصرف النظر عمّا وراء هذه الألفاظ من معنى صواباً كان هذا المعنى أم خطأ، جميلاً أم قبيحاً كبيراً أم وسطاً. وهذا ما يمكن أن يختص به عن سلفه أبي هلال العسكري.<br />
وبالقلقشندي نأتي إلى آخر من نعلم من النقاد القدامى الذين يُرجعون جمال أبيات كثير إلى شكلها. ولا نريد أن نكرر ما قلناه في حينه وفي موضعه، لكن ما نرغب توضيحه هو أن أخطر شيء في موقف جُل هؤلاء هو طلبهم في المعنى أن يكون محدداً متجسداً واضحاً من ناحية، وأن يكون متفقاً مع العرف والعادة والقيم السائدة أو متلفعاً بالحكمة من ناحية أخرى. وهذه نظرة ضيقة تخنق المعنى لافتقارها إلى الشمولية سواء بالنسبة إلى تجربة الشعر مع نفسه وغيره من البشر أم بالنسبة إلى تجربته مع الكون والحالة بأوسع تداعياتها وأعقدها. لكن هذه النظرة لها ما يصححها أو يعدل شيئاً في مسارها عن نقاد آخرين تناولوا أبيات كثير برؤية أكثر انفتاحاً وأرهف حساً.<br />
<br />
ثانياً: - جمال في المعنى (والألفاظ).<br />
(1) يبدو أن نظرة ابن قتيبة – ومن تابعه في هذه النظرة من النقاد – إلى أبيات كثير كانت نظرة استفزازية لآخرين مثل ابن جني (ت392هـ) الذي تناول الأبيات تناولاً من الواضح أنه يرد به على ابن قتيبة ومن يرى رأيه. وتناول ابن جني لهذه الأبيات جاء في ((باب الرد على من ادّعى على العرب عنايتها بالألفاظ واغفالها المعاني)) من كتابه الخصائص[67]. فهو من المنتصرين للفكر أو المضمون (المعاني). ولا يرى عناية العرب بألفاظها إلا دليلاً على أن المعاني عندها أقوى، وعليها أكرم، وفي نفوسها أفخر قدراً[68]. وعنده أن ما يبدو عناية بالألفاظ إنما هو في الحقيقة عناية بالمعاني وخدمة لها، ((فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا تريَنّ أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها وتشريف منها))[69]. هذا هو رأي ابن جني في قضية اللفظ والمعنى وموقفه منها. وهذا – أيضاً – هو السياق الذي تناول فيه أبيات كثير، ولكنا نقرأ بين أسطر السياق هذا أو نستقرئ، منه يقينه بأن وراء كل شكل جميل مضموناً جميلاً، ظاهراً كان هذا المضمون أم خافياً. وإذا ما بدا خلاف ذلك لِناقدٍ ما، فإنما ذلك لعلة في الناقد نفسه أو لأسباب فنية تتعلق بالنص. ورداً على من يخالفونه وفي إطار التطبيق لنظريته يشرع في تحليل أبيات كثير وتفسيرها (أورد منها بيتين فقط) ممهداً بعرض وجهة نظر الآخر: ((فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه، وزخرفوه، وَوَشَّوْه، وَدَبَّجوه، ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً، بل لا نجده قصداً ولا مقارباً؛ ألا ترى إلى قوله:<br />
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح<br />
فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه، وصقاله وتلامح أنحائه، ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإِبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها، مشروفة المعاني خفيضتها))[70]، هذه هي وجهة نظر الآخر أوردها ابن جني ونقلناها لنوضح أنه يعي هذه الوجهة وعياً تاماً، بل إنه بسبب هذا الوعي، ولأن هذه الرؤية لا تَدَّغِم في نظريته التي ذكرناها تَصدَّى لدحضها بتعمق الأبيات واستشراف أبعادها واعتصار مدلولاتها، وتوظيف ألفاظها مستفيداً في هذا من معرفته وذائقته اللغويتين. والحق أنني أعجبت مثلما مُتِّعِت برؤية ابن جني النقدية لأبيات ((ولما قضينا)) وبطريقة تأوله لها في معرض رده على من قالوا بامتلائها جمالاً من حيث الألفاظ والصياغة، وفراغها من حيث المعنى ففي هذه الرؤية وفي طريقة عرضها ما يظهر ذكاء وحساً نقدياً واحتفاء بالنص وعشقاً له. يرى ابن جني في البداية أن سبب رؤية أحد وجهي الأبيات (وهو الألفاظ) مشرقاً والآخر (المعاني) معتماً إنما كان بسبب عدم إنعام نظرهم في الأبيات وفي موقفهم منها؛ أي بهذه النظرة التي قرت على السطح فتسطح المعنى بسببها عندهم. وذلك في قوله: "هذا الموضع (يشير إلى رؤية ابن قتيبة ومن وافقه) قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ما رآه القوم منه"[71].<br />
<br />
كأنه ينتقد الآخر بالتسرع في إطلاق الأحكام النقدية نتيجة لعدم التحبب إلى النص، والدنو منه دنواً تتضح به أبعاده، وتنكشف طيّاته وأطواؤه. وإذا كان هذا الآخر لم يوفق في رؤيته النقدية بسبب فشله في مقاربة النص، أو عدم إدراكه لأهمية هذه المقاربة فإن مما أعان على عدم التوفيق افتقاره إلى رهافة الحس النقدي من ناحية، واتجاه الشاعر بتعبيراته إلى الإِيحاء والرمز من ناحية أخرى كما يرى ابن جني: ((وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وخفاء غرض الناطق))[72] هذه هي الأسباب التي يراها ابن جني قد حالت دون إدراك معاني أبيات كُثير من قِبل بعض النقاد. ثم بعد ذكره هذه الأسباب التي تضمنت رؤيته النقدية للأبيات نظرياً، يدخل في مرحلة التطبيق محللاً ومفسراً ومحاولاً إثبات أن وراء ألفاظها معاني تستحق الإِكبار. وأن في عباراتها إيحاءات خفية، ورموزاً حلوة، وإيماءات معبرة فيقول: ((ذلك أن في قوله ((كل حاجة)) ما يفيد منه أهل النسيب والرقة، وذوو الأهواء والمقة مالا يفيده غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم، ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه، والمعتاد فيه سواها، لأن منها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي، إلى غير ذلك مما هو تالٍ له، ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه، وعقد غرضه عليه، بقوله في آخر البيت:<br />
ومسح بالأركان من هو ماسح<br />
أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها، وآرابنا التي أنضيناها[73]، من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به، وجارٍ في القربة من الله مجراه؛ أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أو البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح))[74] هذه رؤية ابن جني لهذا البيت؛ رؤية نافذة حاول بها اختراق قلب الشاعر ليعرض معناه على شاشة لغوية أسلوبية. وعبارة ((كل حاجة)) – عنده – عبارة مكثفة إيحائية، بإحدى سياقاتها ومتعلقاتها ((مِنَى)) تبث معاني ذات نكهة خاصة لفئة معينة. ولكن الشاعر لا يريد أن تظن به الظنون، ولهذا خادع المتلقى عما أوما إليه، بقوله في الشطر الثاني: ومسح بالأركان من هو ماسح)) ليوهمه أن كل حاجة قضاها من مِنَى إنما كانت في مجال التقرب من الله. ثم بعد هذا ينتقل إلى البيت الثاني قائلاً:<br />
((وأما البيت الثاني فإن فيه:<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا<br />
وفي هذا ما أذكره؛ لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا، ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب، وتعنو له ميعة الماضي الصليب[75]. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين، والفكاهة بجمع شمل المتواصلين))[76]، يريد ابن جني أن يقول إن مجرد ذكر كلمة ((أحاديث)) في هذا البيت على افتراض أن الشاعر أوردها مرسلة غير مقيدة بكلمة ((أطراف)) إنها وحدها تثير شجوناً، وتستدعي ذكريات، وتحرك مشاعر يُكبرها العشاق وتخفق لها قلوبهم، كلمة ((حديث)) تمردت على جذرها اللغوي وخرجت على المعجم ودخلت في معجم أهل العشق والنسيب فأصبحت مصطلحاً من مصطلحاتهم الشعرية يكبرونها ويطعمون حلاوتها لما تحمله من معاني الوصال والعتاب والتشاكي وكل ما يتبادله المحبان إذا التقيا. ثم يورد ابن جني أبياتاً يدعم بها رؤيته إذا يقول: ألا ترى إلى قول الهذلي[77].<br />
وإن حديثاً منك – لو تعلمينه – جَنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل[78].<br />
وقول الآخر[79]:<br />
وحديثها كالغيث يسمعه راعى سنين تتابعت جدباً<br />
فأصاخ يرجو أن يكون حياً ويقول من فرحٍ هيا ربا<br />
وقول الآخر[80]:<br />
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد<br />
وقول المولد[81]:<br />
وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز<br />
هكذا فَسَّر ابن جني كلمة ((أحاديث)) في قول كثير: ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) مفترضاً فصل هذه الكلمة عن سابقتها ((أطراف)) مرة، وناظراً إلى واقع العلاقة بينهما مرة أخرى حين يقول: "فإذا قدر الحديث – مرسلاً – عندهم هذا، على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله (بأطراف الحديث) وذلك أن في قوله (أطراف الأحاديث) وحياً خفياً، ورمزاً حلواً، ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعطاه المحبون، ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون، من التعريض والتلويح، والإِيماء دون التصريح، وذلك أحلى وأدمث، وأغزل وأنسب، من أن يكون مشافهة وكشفاً، ومصارحة وجهراً، وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم، وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما وإن عذب موقعه، وأنق له مستمعه"[82].<br />
وهنا، في هذه النقطة، يكون ابن جني قد أدرك بحاسة نقدية لغوية دقيقة أحد الأبعاد الجمالية والمعنوية لعلاقات الألفاظ بعضها مع بعض، وما قد ينبعث من تجاورها من حوار هامس أو همس متحاور. ولم يكتف ابن جني بتوظيف العلاقات والتجاور بين الكلمات في التفسير الشعري، وإنما استثمر صيغة الجمع حين تناول بيتي كُثير في موضع آخر من كتابه هو ((القول على الفصل بين الكلام والقول)) فقد نبه إلى أن الشاعر إنما استعمل ((أحاديث)) بصيغة الجمع ولم يستعمل ((حديث)) بصيغة المفرد لغرض معنوي. ذلك أنه إذا كانت كلمة ((حديث)) مفردة ذات إيحاء خاص، وطعم متفرد، فإنها مجموعة تزيد تلك الإِيحاءات وتكشف هذه الطعوم[83]. كلمة ((أحاديث)) وفق استثمار ابن جني لها ملمح جمالي، ورامز معنوي في الوقت نفسه. ولم يرد ابن جني بعد هذا أن يقف طويلاً عند قول كثير: ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) إذ فيه – كما يرى – ((من الفصاحة مالا خفاء به. والأمر في هذا أسير، وأعرف، وأشهر))[84].<br />
<br />
الآن يكتمل موقف ابن جني من أبيات كثير، وتتكامل رؤيته لها فيتضحان، ويتضح لنا منهما إعجابه بمعناها أكثر من إعجابه بلفظها؛ أي إنه – بعبارة أخرى – يرى أن سر جمال هذه الأبيات هو في معانيها قبل أن يكون في ألفاظها ((وإذ كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم، وأشد تقدماً في نفوسهم، من لفظهما وإن عذب موقعه، وأنق له مستمعه))[85]. وإذا كان ابن قتيبة والذين معه قد أعجبوا بألفاظها ووضعوا من معانيها، فابن جني معجب بالعنصرين معاً، فالبيتان عنده جميلان شكلاً ومعنى، غير أنه – كما أوضحت – يرفع من قدر المعنى ولكن ليس على حساب اللفظ إذ لم نلحظ شيئاً من ذلك في أثناء تناوله وتحليله للبيتين. ولقد سبق أن قلت إنني معجب برؤية ابن جني للأبيات، وبطريقة تناوله إياها. ولست أعني أن ما انتهى إليه صحيح ومنطقي فالأدب لا يعرف هذا النوع من الأحكام، ولكن إعجابي يأتي من أن رؤيته رؤية جمالية، وطريقته طريقة اختراقية، وتناوله تناول ودي يحتفي بالنص ويتحبب إليه ليستدر معانيه، ويعتصر مدلولاته، ويظهر أن كل هذا هو مما يَسر لابن جني خطوات نقدية ناجحة مثل قدرته على تجاوز طريقة الشرح العقيم للنص إلى طريقة التفسير والتأويل اللذين ينطلقان بالمعنى إلى آفاق أرحب لا يحدها عرف أو واقع، ولا حتى دلالات أخلاقية أو حِكْميَّة، أو معجمية جامدة. ثم مثل إدراكه للأبعاد الإِيحائية في النص، وما فيه – كما يقول – من وحي خفي. ورمز حلو[86]. وكما يتضح، فابن جني يستجيد ويستعذب هذا المنحى من التعبير الذي يدخل في إطار الغموض الفني، بل إني أرجح أن هذا الجانب الإِيحائي الجميل في بيتي كثير هو مما أغرى ابن جني بهما، على أن هذا لا يصرفنا في الجانب الآخر عن التساؤل عما إذا كان موقف ابن جني من المعنى وانتصاره له – في إطار قضية المعنى واللفظ في النقد العربي القديم – قد دفعه إلى أن يذهب بعيداً في تأويل أبعاد لمعنى هذين البيتين، لولا أن نتذكر أن المعنى – كما يقول روبرت شولز – لا ينتشر في العمل ببساطة، وإنما يفسر على أيدي خبير في العمليات اللغوية[87]. وابن جني – دون شك – هو من خبراء اللغة وعملياتها. وما نخلص إليه مطمئنين هو أن هذا الخبير (ابن جني) نجح في استعمال ذائقتيه: الفنية واللغوية أداتين نقديتين وظفهما لاستعادة شعرية نص كُثيرِّ وقد كان أفرغ منها من قِبل بعض النقاد، بل إنه بطريقة تناوله قد أعاد كتابة هذا النص، أو اشترك فيها. وإن قراءته له (النص) هي من نوع القراءة المنتجة لا الاستهلاكية العابرة.<br />
(2) وفي اتجاه ابن جني يسير ابن الأثير (ت637هـ) فموقفه من قضية اللفظ والمعنى هو موقف سلفه حين يحفل بالمعاني ولكن ليس على حساب الألفاظ. ثم إنه في هذا المجال أو السياق تناول ((ولما قضينا من منى كل حاجة)) غير أن تناوله لم يكن أكثر من إعادة وتكرار لما قاله ابن جني، بل إن مقارنة بين نصي الرجلين تظهر أن ابن الأثير قد أخذ كثيراً من نص ابن جنى فنقله بمعناه وبأكثر عباراته دون أن يشير إلى مرجعه. وربما يُعد ذلك إحدى السرقات في النقد العربي القديم، ولكنا نترفق بابن الأثير ونخفف قسوتنا في الحكم عليه إذا ما التمسنا عذراً له في رأي أن رؤية ابن جني للأبيات هي الرؤية التي تتفق مع ذائقته، وتعبر عن موقفه فلم ير حرجاً في نقلها، خاصة وأن المنهجية العلمية في النقد لم تتأصل بعد في زمنه. ولا يعني التماسنا عذراً له اعترافنا له باستقلالية النظرة النقدية للأبيات، مع أن من الإِنصاف أن نذكر له التفاتة نقدية مستقلة تجاه أحد أشطر الأبيات هذا:<br />
ومالت بأعناق المطي الأباطح<br />
<br />
فقد ذكرنا أن ابن جني لم يقف طويلاً عند هذا الشطر. وربما لهذا أراد ابن الأثير أن يتم مالم يكمله سلفه حتى تكتمل تلك الإِضاءة التي نشرها الأول حول أبيات كثير والالتفاته النقدية التي نقصدها لابن الأثير هي في قوله بأن في هذا الشطر: ((من لطافة المعنى وحسنه مالا خفاء به))[88]. وتخريجه هذا المعنى اللطيف على أن لذة الحديث شغلت القوم عن إمساك الأزِمَّة فاسترخت عن أيديهم فأسرعت المطايا في المسير حتى تراءت أعناقها كأنها السيل في الأباطح، ولكنا ننقل نصه لاكتمال الصورة: "إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن إمساك الأزمة، فاسترخت عن أيديهم، وكذلك شأن من يشره وتغلبه الشهوة في أمر من الأمور، ولما كان الأمر كذلك، وارتخت الأزمة عن الأيدي أسرعت المطايا في المسير، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، وهذا موضع كريم حسن، لا مزيد على حسنه، والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى"[89].<br />
هذا هو ما أضافه ابن الأثير إلى رؤية ابن جني. وهي إضافة تستحق التنويه؛ ذلك أنه أدرك، بل ابتدع بعداً معنوياً للاستعارة في ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) وهذا البعد المعنوي المبتدع هو تعليله لسرعة الإِبل باسترخاء الأزمة عن الأيدي بسبب نشوة الحديث. فمن حق ابن الأثير أن نسجل له هذا التسلل الدقيق والرشيق إلى حمى هذا الشطر واقتناص هذا المعنى منه، بل إنه نوع من الهجوم الصعب على المعاني المحمية بحجب الخواطر كما يقول هو: "وللهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب البواتر أيسر من الهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب الخواطر"[90].<br />
ويظهر أن إنعامه الدقيق للنظر قد ساعده على إدراك محتوى هذا الشطر كما قال: "والذي لا ينعم نظره فيه (أي في هذا الشطر) لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى"[91].<br />
وبابن الأثير نأتي إلى نهاية رؤيتين نقديتين متضادتين لأبيات كثير، إحداهما لا ترى لمعناها كثير فائدة بالقياس إلى ما فيها من ألفاظ حلوة وصياغة جميلة، فسر جمالها عند أصحاب هذه الرؤية هو في ألفاظها. وفي هؤلاء من ينتصر – بوضوح – للألفاظ. وأخراهما ترى سر جمالها ليس في ألفاظها فقط، وإنما في المعاني التي وراء هذه الألفاظ. وأصحاب هذه الرؤية يجنحون إلى المعاني في إطار الخلاف حول قضية اللفظ والمعنى في النقد العربي. ومن خلال المبحث السابق عرفنا أن هؤلاء نجحوا بطرق فنيه في اكتشاف معانٍ للأبيات غير أنها ليست من جنس تلك المعاني التي ترضي أذواق أولئك الذين ضيقوا دائرة المعاني وهي دائرة رحبة.<br />
<br />
ثالثاً: جمال في البناء والنظم والتصوير.<br />
(1) في التناولات النقدية التي مرت بنا حتى الآن، يبرز الفصل بين الشكل والمضمون أداةً أو وسيلة نقدية متسوِّدة إلى درجة شوشت على أذهان بعض النقاد الذين تعرفنا مواقفهم فانحجبت دونهم أكثر من نقطة مضيئة في أبيات كثير كان ينبغي ألا تخطئها عين النقد. ولهذا سنتوقف عند تناول نقدي بالغ الأهمية. ذلك أنه يتناول الأبيات ليس من زاوية الفصل بين لفظها ومعناها وإنما عن طريق الربط بينهما ربطاً وثيقاً محكماً.<br />
يرفض عبدالقاهر الجرجاني (ت471 أو 474هـ) وهو من نعنيه بهذا التناول النقدي الذي أشرنا إليه – يرفض أساساً فكرة الفصل بين المعنى واللفظ ويتجسد رفضه في فكرة النظم التي بلورها خاصة في كتابه ((دلائل الإِعجاز)) وفكرة النظم بإِيجاز تُرجع سر جمال القول إلى النص بوصفه بناء فنياً متكامل الشكل والمضمون متلاحمهما.<br />
وليس من صميم البحث أن نتحدث عن نظرية النظم عند عبدالقاهر، ولا أن نتقصى أبعادها إلا بمقدار ما يفيدنا هذا عند تقويم موقفه النقدي من أبيات كُثير. وما نرى أنه يهمنا الآن هو كون نظريته قضاءً على ثنائية اللفظ والمعنى، وأنه في ضوء هذه النظرية عرض بنقد من ((يفردون اللفظ عن المعنى))[92]، أو من على أساسهما ((قسموا الشعر فقالوا إن منه ما حسن معناه دون لفظه))[93] معرضاً بابن قتيبة ومن يقف موقفه، كما أنه انتقد من يقدمون الكلام من أجل معناه فقط. ذلك لأن هذا التقديم في حقيقته فصل لشيئين من طبيعتهما الاتصال والتداخل والتلاحم،. بل إن هذا الفصل – كما يرى – يزيل أدبية النص وشعريته. ولهذا فحق النص أن ينظر إليه شكلاً ومضموناً لا شكلاً فقط أو مضموناً فقط. يقول في هذا الصدد: "واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدباً وحكمة وكان غريباً نادراً فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص ألا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته وألا ينظر فيها إلى جنس آخر وإن كان من الأول بسبيل أو متصلاً به اتصال مالا ينفك منه. ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب صياغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصفة – كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه. وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فصه أنفس لم يكن ذلك تفضيلاً له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتاً على بيت من أجل معناه ألا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعر[94] وكلام وهذا قاطع فاعرفه"[95].<br />
<br />
ففي نصه الذي نقلناه – على طوله – أراد الجرجاني أن يؤكد ترابط اللفظ والمعنى، وأن يقرب لنا صورة هذا الترابط بمشاكلته بين الكلام والتصوير والصياغة حين قال: إن الكلام بما فيه من شكل ومضمون هو مثل التصوير والصياغة بما فيهما من شكل ومضمون. وعلى هذا فالمعنى من الكلام هو كالفضة أو الذهب من الصياغة. قد نفضل خاتماً على خاتم لأن فضة ذلك أجود أو فصه أنفس لكن هذا لا يعد تفضيلاً له من حيث هو خاتم، على هذا يقيس الجرجاني الشعر، فقد نفضل بيتاً على بيت من أجل معناه لكن هذا لا يعد تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام إبداعي. قد نسمي هذا نظماً أو نحوه، أم أن ندخله في إطار الشعر فلا، إذ الشعرية – كما يراها الجرجاني – تلاقً متفاعل بالجمالية والفنية بين المعنى واللفظ بما لهما عنده من مفهومات شاملة.<br />
على هذا، هل نقول: إن الجرجاني – في إطار قضية اللفظ والمعنى – لا ينتصر للمعنى على اللفظ ولا للفظ على المعنى، وإنما ينتصر لفكرة النظم التي تلقفها أو استوحاها ممن سبقه (كالجاحظ (ت255)، والواسطي (ت307) صاحب كتاب ((إعجاز القرآن في نظمه)) وكأبي هلال العسكري) فبلورها في شكل الربط بين الاثنين أي بين الشكل والمضمون؟ إننا نجابه حقاً – في تناول عبدالقاهر لقضية اللفظ والمعنى غموضاً وإيهاماً بالتناقض كما رأى ذلك محمد خلف الله[96]، ومحمد مصطفى هدارة[97]. ففي مواضع من كتاب دلائل الإِعجاز وأسرار البلاغة يبدو كأنه ينتصر للمعنى، وفي موضع آخر يظهر كأنه ينتصر للفظ، ذلك أنه رأى أن الألفاظ تابعة للمعاني[98]، وأنها خدمها، والمصرفة في حكمها، المالكة سياستها[99]، بل إنه يقول بعبارة صريحة: "فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته"[100].<br />
<br />
كما يقرر في موضع آخر أن المزية للمعنى دون اللفظ: ((قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ))[101] فظاهر ما نقلناه من نصوص لعبدالقاهر لا تترك مجالاً للشك في أنه من أنصار المعاني لا الألفاظ، لكنه في مواضع أخرى يرى ((أن الداء الدويّ... غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ وجعل لا يعطيه من المزية – إن هو أعطى – إلا ما فضل عن المعنى))[102] بل إنه يخطئ أنصار المعنى تخطيئاً عظيماً، ويرى أن موقفهم هذا يفضي بهم إلى إنكار الإِعجاز وأن فيه إلغاء جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف ((اعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب (تقديم الكلام بمعناه) ما بلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإِعجاز ويبطل التحدي من حيث لا يشعر، وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن لا يجب فضل ومزية إلا من جانب المعنى وحتى يكون قد قال حكمة أو أدباً، واستخرج معنى غريباً أو شبيهاً نادراً فقد وجب اطراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف وبطل أن يجب بالنظم فضل وأن تدخله المزية وأن تتفاوت فيه المنازل))[103]، وقبل هذا علق على كلام الجاحظ (والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير) علق بقوله: ((فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني وأبى أن يجب لها فضل.. فأعلمك أن فضل الشعر بلفظه لا بمعناه وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه لم يستحق هذا الاسم بالحقيقة))[104]، أفليست هذه النصوص التي نقلناها لا تترك هي الأخرى مجالاً للشك في أن عبدالقاهر ينتصر للفظ على حساب المعنى خلافاً لما توحي به أقواله السابقة والتي يبدو فيها منتصراً للمعنى ؟! الأمر في ظاهره تناقض أو موهم بالتناقض على الأقل، لكننا حين نمعن النظر ونتروى ونستجلي أبعاد نصوص عبدالقاهر وأقواله في إطار القضية – وفي أذهاننا استبعاد أن يقع مثل هذا الناقد العظيم في تناقض خطير مثل هذا – نخرج برؤية تحل مشكل ظاهرية التناقض، وتبعد ما اكتنف الموقف (موقف عبدالقاهر) من غموض إزاء مسألة اللفظ والمعنى. ولعل الخطوة الأولى في الطريق إلى التوفيق بين أقوال عبدالقاهر وزحزحة التناقض عن موقفه هي إدراكنا بأنه في إطار القضية تحدث عن نوعين من اللفظ قدّم أحدهما مقابل معنى وأخَّر الآخر، وعن نوعين من المعنى قدم أحدهما مقابل لفظ وأخر الآخر ومهمتنا الآن هي تعرف ما يقدم وما يؤخر من لفظ أو معنى. أما اللفظ الذي يؤخره فهو اللفظ من حيث هو لفظ ومجرد صوت لا يحمل أية دلالة معنوية، وأيضاً من حيث هو لفظ مجرد ومفرد عن جيرانه من الألفاظ، وعلى هذا فالألفاظ – عنده – بدون دلالات لا تتفاضل، وإنما تتفاضل بمالها من دلالات معنوية تلائم بها معاني جاراتها.<br />
ويبدو أن الجرجاني حريص على ترسيخ هذا المفهوم بدليل إيراده أكثر من مرة فهو في دلائل الإِعجاز يقول: "فقد اتضح إذن اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ[105] وللمزيد من التأكيد على أن اللفظة لا قيمة لها في ذاتها منفردة وإنما بتفاعلها الدلالي مع جاراتها يستشهد الجرجاني ببعض الأبيات ويعلق عليها"[106].<br />
ثم يضيف: "فلو كانت الكلمة إذا حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها من أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبداً أو لا تحسن أبداً"[107].<br />
<br />
لكن الأمر خلاف هذا، فالألفاظ لا تأخذ أمكنتها أو منازلها إلا بهذه المعاني التي تسكنها ((ولو خلت (هذه الألفاظ) من معانيها حتى تتجرد أصواتاً وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل))[108]، ((ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ التي هي لغات دلالتها لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء ولا ينصور أن يجب فيها ترتيب ونظم))[109].<br />
هذه هي الألفاظ التي يؤخرها عبدالقاهر، والألفاظ من حيث هي ألفاظ مفردة عن أخواتها ومن حيث هي أصوات مجردة من الدلالة. وفي مقابل هذه الألفاظ التي يؤخرها تأتي معانيها، ليست معانيها الذاتية فحسب وإنما معانيها المتولدة من تلاؤمها بعضها مع بعض أي المعنى الذي أفرزه بناء العبارة ونظمها أو ((كل ما نتج عن السياق من فكر وإحساس وصورة وصوت)) كما يقول محمد زكي العشماوي[110]. هذا جانب، وجانب آخر هو أن عبدالقاهر حين يقدم هذا النوع من المعنى على ذاك النوع من الألفاظ يريد أن يقرر لذاك المعنى أسبقية وأولوية بالنظم والترتيب قبل الألفاظ، وهذه الأسبقية أو الأولوية هي بعض مما عبر عنه بالفضل أو المزية حينما قال؛ إن المزية من حيز المعاني دون الألفاظ كما ذكرنا قبل. ((فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكراً في نظم الألفاظ.. فباطل من الظن ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظر حقه))[111] والمعنى من هذا المنظور هو ما تنهض عليه نظرية النظم التي تبلورت على يديه وترسخت نظريةً نقديةً لها أهميتها، هذه النظرية التي نلمس منه صدقاً ونشاطاً في الدفاع عنها، وفي شرحها وإيضاحها. عملية النظم عنده أبعد وأعمق من كونها عملية رَص للألفاظ وضمها بعضها إلى بعض؛ إذ هي اقتضاء لآثار معاني هذه الألفاظ وترتيب لها على حسب ترتيب المعاني في النفس[112]، وبدون هذا الترتيب تنعدم الصورة التي يتوخاها المبدع لنصه والتي تحصل له من معاني الألفاظ[113] – كما يقرر عبدالقاهر – لا من الألفاظ في أنفسها. بقى الآن أن نعرف نوع اللفظ الذي يقدمه أو ينتصر له عبدالقاهر على المعنى، ونوع المعنى الذي يؤخره وينتصر للفظ عليه. فأما اللفظ الذي قصده بالتقديم فهو لفظ يحمل مفهوم المصطلح – عنده – وليس هو اللفظ بوصفه كلمة صوتيه لها معناها اللغوي. اللفظ عنده ذو مفهوم واسع يستوعب أكثر من طريقة فنية للتعبير، يستوعب الصياغة والنظم والتأليف والبناء وكل ما يخدم وشائج عناصر النص وتفاعلها.<br />
واللفظ عنده هو النظم الذي به تتناسق دلالات الألفاظ، وتتلاقى معانيها وتتلاءم. لنقرأ قوله: "واعلم أن الداء الدوي والذي أعيى أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ.. فإن مال إلى اللفظ شيئاً ورأى أن ينحله بعض الفضيلة لم يعرف غير الاستعارة"[114].<br />
ولننظر كيف أدخل الاستعارة في مفهوم اللفظ الذي يعنيه بالتقديم. ولنقرأ – أيضاً – قوله: "إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن لا يجب فضل ولا مزية إلا من جانب المعنى.. فقد وجب اطراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف وبطل أن يجب بالنظم فضل وأن تدخله المزية"[115].<br />
ولننظر – أيضاً – كيف أدخل (تقنيات) الفصاحة والبلاغة وما هو من شأن النظم والتأليف في مفهوم اللفظ هذا، وكيف أعاد في تساؤله ذكر النظم مستنكراً ألا يجب له فضل ومزية كأنه يشير إلى أنه (النظم) يحتل مساحة كبيرة في مصطلح اللفظ المعنى بالتقديم. لقد قلت قبل قليل: إن للفظ عند عبدالقاهر مفهوماً واسعاً، غير أن هذا المفهوم لا يخرج عن مفهوم الصورة التي يبرز فيها المعنى ملتحماً بها، ولهذا نجد عبدالقاهر نفسه يقرر أن ما يراد باللفظ هو الصورة، وأن الناس إنما ((حملوا كلام العلماء، في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره وأبو أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا ناب[116] به موضعه: إلى سائر ما ذكرناه قبل فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصة التي حدثت فيه))[117]. وبهذا يكون انتصار عبدالقاهر الجرجاني – في إطار قضية اللفظ والمعنى – إنما هو في حقيقته انتصار ضمني للصورة الشعرية[118] كما يرى محمد مصطفى هدارة[119]. والجرجاني نفسه انتقد أولئك الذين ((جهلوا شأن الصورة... فقالوا إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث))[120]، وهو في الحقيقة انتقاد ضمني لمن يفصل بين اللفظ والمعنى. وأما المعنى الذي يؤخره عبدالقاهر وينتصر للفظ – بمعنى الصورة – عليه فهو المعنى مجرداً من الشكل، ومن هنا رأيه استحالة معرفة مكان الفضل والمزية في الكلام الأدبي إذا كانت نظرتنا فيه إلى مجرد معناه[121] إذ المعول عليه في أدبية النص أو شعريته ليس المعنى كما يرى عبدالقاهر، وإن كان هذا المعنى أدباً وحكمة وغريباً نادراً مع شرف هذه المعاني. المعول عليه هو الإِطار أو القالب الذي قدم فيه المعنى ملتحماً به ومنسجماً معه هو الصورة: صورة العمل الأدبي المتخلقة من ألفاظه ومعانيه ومن أدوات هذا التخلق وطرقه الفنية، هو الصورة التي انتهى إليها النص الشعري بعد أن انصهرت أشياؤه في مُفاعَل التكوين الإِبداعي العجيب.<br />
<br />
بعد هذه الجولة التي نعدها ضرورية لتفهم رؤية عبدالقاهر الجرجاني إلى أبيات كثير، ومعينة – أيضاً – على تصور أبعاد تناوله إياها – نصل الآن إلى تتبع هذا التناول وتفحص تلك الرؤية. ونعتقد أنهما تناول ورؤية يقفان في مستوى مقاربات النص الجادة، هذه المقاربات التي تحترم النص ولا تقنع منه بالمرور العابر أو بالنظرة العجلى التي لا تخترقه وتجسه في كل جوانبه. وإذا كانت مقاربة النص تتحقق – كما يقول تودوروف[122] – بعدة طرق منها البقاء داخله، ومنها قراءته باعتباره نظاماً تسعى هذه القراءة إلى توضيح علائق شتى أجزائه، ومنها استغلاليته فإن عبدالقاهر سعى قريباً جداً من هذه المقاربات التي نرجو أو تتكشف من خلال وقوفنا على بعض لمساته النقدية للأبيات، لكنا نشير الآن إلى مقاربة استغلالية النص لنقرر في البداية أن عبدالقاهر استغل نص كثير من أكثر من شيء حتى في الانتفاع به وتوظيفه في خدمة ((نظرية النظم)) التي ينتصر لها في العمل الأدبي، فتناوله لهذا النصر جاء في أعقاب حديثه عن بيت الفرزدق:<br />
وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حيُّ أبوه يقاربه[123]<br />
والذي يُضرب به المثل – كما يقول – في تعسف اللفظ. وتعسف اللفظ هذا في رأي الجرجاني لم يكن بسبب لفظه مجرداً ((من حيث أنك أنكرت شيئاً من حروفه أو صادفت وحشياً غريباً، أو سوقياً ضعيفاً))[124] وإنما كان ((لأنه لم يرتب الألفاظ في الذكر على موجب ترتيب المعاني في الفكر، فكد وكدر، ومنع السامع أن يفهم الغرض إلا بأن يقدم ويؤخر، ثم أسرف في إبطال النظام، وإبعاد المرام، وصار كمن رمى بأجزاء تتألف منها صورة، ولكن بعد أن يراجع فيها باباً من الهندسة، لفرط ما عادى بين أشكالها، وشدة ما خلف بين أوضاعها))[125]، فواضح أنه نظر إلى بيت الفرزدق هذا في ضوء نظرية النظم وفي إطارها الذي أشرنا إلى أنه يستوعب صورة العمل الأدبي المتخلقة من ألفاظه ومعانيه ومن أدوات هذا التخلق وطرقه الفنية، إن توعر اللفظ أو تعسفه في بيت الفرزدق لا تكمن أسبابه في ألفاظ البيت من حيث هي ألفاظ مجردة إذ لا غرابة فيها ولا وحشية ولا ضعف أو سوقية، السبب هو في تهافت البناء الفني وفي تباعد أجزاء الصور وعلائق النظم، ولهذا نجده بعد بيت الفرزدق يعرض من ناحية تعارضية أبيات ((ولما قضينا)) ليصحح النظرة النقدية الأخرى تجاه هذه الأبيات، تلك النظرة التي ترى جمال الأبيات في ألفاظها فحسب، ففي رأيه أن من أثنوا على الأبيات واستحسنوها بسبب ألفاظها، كانوا واهمين بسبب تسرعهم في الحكم، ولو تأملوا وروّوا لأدركوا أن هذا الجمال يكمن في شيء آخر وراء هذه الأبيات، يكمن في النظم أو الصورة في أوسع معنى لهما وأشمله عنده.<br />
وأول ما يستهل به عبدالقاهر رؤيته للأبيات[126] هو التأكيد على قاعدة نقدية لابد من الإِيواء إليها في نقد العمل الأدبي، وهي التفكير، وحسن التأمل، وعدم التسامح أو التساهل في إطلاق الأحكام ((راجع فكرتك، واشحذ بصيرتك، وأحسن التأمل، ودع عنك التجوز في الرأي))[127]. وهذه قاعدة تجعلنا نعد عبدالقاهر – دون شك – من هؤلاء النقاد الذين دعوا إلى مقاربة النص بمعايشته وتعمقه دليلاً على احترامه وربما عشقه. ثم بعد هذا يلفت الأنظار إلى أن جمال الأبيات يعود – في جوهره – إلى جملة أشياء أجملها في الاستعارة الصائبة، والترتيب الحسن، والسلامة من الحشو ومن التقصير[128]، كأن يريد أن يقول هنا: إن هذه الأبيات تلبست بالجمال ولبست الحسن بتكاملها المنتظم أو انتظامها المتكامل. وبعد هذا الإِجمال يشرع في التعليل لما أطلقه من أحكام فيبدأ بالبيت الأول:<br />
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح<br />
وما في شطره الأول من بعد عن التقريرية والحشو والتفاصيل التي تفسد الشعر، وذلك أنه ((عبر عن قضاء المناسك بأجمعها، والخروج من فروضها وسننها، من طريق أمكنه أن يقصر معه اللفظ، وهو طريقة العموم))[129]، باستعماله عبارة ((كل حاجة)) فلم يحتج إلى سرد هذه المناسك ومالها من فروض وسنن. ورغم استفادة الجرجاني النقدية الجيدة من عبارة ((كل حاجة)) إلا أنها استفادة محدودة مقارنة بما فعله ابن جني، فالفضاء الذي غزاه ابن جني بهذا الشطر أرحب وأطرف ألواناً. ثم ينتقل الجرجاني إلى الشطر الثاني:<br />
ومسح بالأركان من هو ماسح<br />
محاولاً تبصيرنا بطريقة التعبير الفنية التي اكتسب بها شعريته وهي الإِشارية والإِيحائية، فالمسح بالأركان هو إشارة إلى طواف الوداع وهو في الوقت نفسه إشارة إلى المسير وإيحاء به[130]، أو هو كما عبر ابن طباطبا ((استشعار قائله لفرحة قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها، من قضاء حجه وأنسه برفقائه ومحادثتهم))[131]، وقد يكون الجرجاني اطلع على ما قاله سلفه، ومهما يكن فقد أدرك البعد النفسي في مضمون الأبيات. ويبدو أن الجرجاني هو من هؤلاء النقاد الذين يحاولون استنزاف طاقات النص التعبيرية فقد استوقفه قول كثير:<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا<br />
وخاصة منه لفظة ((أطراف)) ومالها أو فيها من إيحاءات دلالية، يقول في هذا الصدد: ((ثم دل بلفظة)) ((الأطراف)) على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر، من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطرفين من الإِشارة والتلويح والرمز والإيحاء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه ألفة الأصحاب، وأنسة الأحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإِياب، وتنسم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإِخوان))[132] ومع أننا لا نستبعد أن يكون الجرجاني قد استفاد – أيضاً – مما قاله ابن جني في هذا إلا أنه قد اعتصر هو الآخر الأبعاد الدلالية لكلمة الأطراف في إطار علاقات النص، وفي إطار مرجعيته المضمونية أو الظرفية التي قيل فيها وأيضاً في إطار مرجعيته النفسية التي عايشها مُنشؤه سواء في شكل رغبة شريفة تحققت أو آمال يحلم بتحققها من مثل ما ذكره الجرجاني نفسه عن كلمة ((أطراف)).<br />
ويظهر أن الجرجاني مأخوذ ومعجب إعجاباً واضحاً بالصورة الاستعارية أو الاستعارة التصويرية في قول كثير: ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) فعنده أن هذه الاستعارة كمثل التاج للأبيات، وأن كُثيراً أضاف بها إلى نصه حسناً وجمالاً بسبب ما وفق إليه من دقة وإحكام في تأليفها ((ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه))[133] ولعل إعجاب الجرجاني بهذه الاستعارة هو ما دفعه إلى تناولها بالتحليل ليس في أثناء تناوله أبيات كثير في كتابه (أسرار البلاغة) فقط، وإنما في كتابه الآخر (دلائل الاعجاز)[134]، ففي هذه التناولات لم يكتف عبدالقاهر بإطلاق حكمه، وإنما سعى بثقة إلى كشف الأسرار الجمالية في هذا الاستعارة، وهو سعي نكبر من أجله الجرجاني وأمثاله من رواد النقد القدامى الذين أدركوا قيمة التعليل في الأحكام النقدية، فعدا ما ذكرناه من دقة التأليف وإحكامه بوصفهما أحد الأسرار وراء جمال تلك الاستعارة، ينبهنا الجرجاني إلى سر آخر يكمن في الترابط بينها وبين الشطر السابق ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) فقول الشاعر: وسالت بأعناق المطي الأباطح)) تأكيد – في رأيه – وتوضيح لقوله: ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) ذلك أنه يرى أن السير السهل السريع (الذي توحيه الاستعارة) زاد في نشاط الركبان فأخذوا بينهم بأطراف الأحاديث[135] بخلاف ابن الأثير الذي رأى – كما عرفنا في موضع سابق - أن لذة الحديث هي ما شغل الركبان عن إمساك الأزِمَة فاسترخت عن أيديهم فأسرعت المطايا. ومهما يكن السبب والمسبَّب فالرجلان قد نجحا في إدراك إحدى علائق النص المهمة. والفرق بينهما هو أن عبدالقاهر جعل شطر الاستعارة ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) هو المحور الرئيس في النص في حين أن ابن الأثير يرى أن ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) هو ذلك المحور. لقد حرص كل منهما أن ينطلق في تعليله من منطلق واقعي إضافة إلى الذوقي دون شك غير أنني أحس ميلاً إلى توجه ابن الأثير لإِحساس آخر بأن ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) تبدو هي بؤرة الاستقطاب والانطلاق في الوقت نفسه لعلاقات النص أو هي بنية النص الكبرى المسؤولة – فيما يبدو – عن تماسكه. ثم إن السياق التعاقبي لأحداث النص تُرجح هذا التوجه. وسر ثالث يأتي وراء إعجاب الجرجاني باستعارة كثير وهو هذه الخصوصية[136]، أو الخاصية[137] التي يرى الجرجاني – بأن أسند الفعل ((سال)) إلى الأباطح لا إلى المطي ثم بتعدية هذا الفعل بالباء لا بفي، ثم بإدخال هذه الباء على الأعناق التي أدخلها في البيت. ولو لم ينهج الشاعر هذا (التكتيك) الفني واكتفى بقوله: سالت المطي في الأباطح، لفارقت الاستعارة – في رأي عبدالقاهر – دقتها ولطفها وخصوصيتها وغرابتها[138]. ولعل من أهم أسباب جمالية هذه الاستعارة رمزيتها للحركة وإيحائيتها بها. ويَعد عبدالقاهر كلمة ((أعناق)) في قول الشاعر ((بأعناق المطي)) دون قوله ((بالمطي)) الرمز الأقوى لحركية الصورة لأن السرعة والبطء – كما يقول – يظهران غالباً في الأعناق[139] وإذا كانت كلمة ((أعناق)) رمزاً لحركية الصورة وإيحاء بها، فإن هناك كلمة أخرى يراها عبدالقاهر تولت وظيفة التحديد لنوعية هذه الحركة وكيفيتها وهي كلمة ((سالت)) فهي رمز آخر ولكن لسرعة الحركة (السير) مصحوبة بالسهولة والليونة والسلاسة، أو كما يقول الجرجاني نفسه: ((وأخبر بعد بسرعة السير، ووطاءة الظهر، إذا جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح))[140].<br />
<br />
يبدو أن رحلتنا مع عبدالقاهر الجرجاني قد طالت، لكن إحساسنا بهذا الطول لم يكن حاداً ولا مملاً، ففي الرحلة متعة النقد وفائدته اللتان أفدناهما منه، إلى جانب الصبر عند النقد والإِخلاص فيه، وإلى جانب ما لمسناه عنده من مجاهدة نقدية تطبيقية حاول بها ومن خلال أبيات كثير التدليل على ما يذهب إليه من أن سر جمال النصوص الأدبية إنما يكمن في النظم، في انصهار الشكل والمضمون والتحامهما بعضهما مع بعض، في أبيات كثير لا وجود مستقلاً للمعنى كما لا وجود مستقلاً للفظ، وهؤلاء الذين أرجعوا جمالها إلى اللفظ إنما هم – في رأيه – متسرعون واهمون. ولهذا تساءل – في استغراب وإنكار – بعد تحليله النقدي للأبيات قائلاً: ((هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها[141]؟!)) بل إنه يرفض أن يُجعل من الألفاظ وحسنها قياساً أوحدَ لمثل أبيات كثير، إذ من حق هذا اللون من الشعر – كما نفهم من قول الجرجاني[142] – أن يتخذ دليلاً على تناصر المعاني، وتفاعلها بعضها مع بعض، ودليلاً على تزايد حسنها بتناسق أشكالها، وبالبراعة في صياغتها على نسق خاص طبقاً لما بينها من تقارب فكري ساعة الإِبداع، وتجاور أو تجانس ساعة التلقي.<br />
ونود أن نذكر – قبل الفراغ من هذا المبحث – أن من النقاد القدامى من تناول الصورة الاستعارية في ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) مثل القاضي الجرجاني (ت366هـ) في الوساطة[143]، ومثل العباسي (ت963هـ) في معاهد التنصيص[144] لكن تأول هذين جاء محصوراً في إطار الصورة الاستعارية كما أشرنا حين اجنزأا البيت المشتمل على الاستعارة فتحدثا عنها. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد كان حديث القاضي الجرجاني عنها من جنس النقد الوصفي المفتقر إلى التحليل والتعليل إذ قال: ((فإذا جاءتك الاستعارة كقول ابن الطثرية))[145].<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح<br />
فقد جاءك الحسن والإِحسان، وقد أصبت ما أردت من إحكام الصنعة وعذوبة اللفظ))[146] ولعل القاضي الجرجاني أراد أن يشير بقوله ((إحكام الصنعة)) إلى سلامة البيت وخلوه من حشو الكلام ومما لا فائدة للشعر في ذكره، فقد أدرج البيت في قسم ((الحشو في الشعر)) وما أشار إليه الجرجاني القاضي هو ما نص عليه صراحة الجرجاني عبدالقاهر كما مر بنا، أما حديث العباسي عن الاستعارة فلا نلمس فيه جديداً غير ما قاله عبدالقاهر فيها، أي إن ما قاله العباسي هو ما قاله عبدالقاهر إما بحرفه وإما بمعناه، تلك كانت طريقة العباسي والقاضي الجرجاني في تناولهما استعارة كثير، وتلك كانت رؤيتهما إليها: رؤية مجتزئة في بعضها لم تحلل ولم تعلل، ومكررة لم تضف في بعضها الآخر. ولقد ذكرنا ما قاله هذان الناقدان ليتضح لنا ما تميز به تناول عبدالقاهر لاستعارة كثير تلك، وهو أن تناوله هذا جاء امتداداً لرؤيته الأبيات في إطار الصورة بمفهومها الشامل عنده، وفي شكل متكامل البناء والنظم. ونرجح أن هذا قد أتى متوافقاً مع إحدى رؤاه النقدية التي يتجاوز فيها في بعض الحالات حدود البيت إلى النص كاملاً متكامل الإِبداع، أو ما يمكن أن نسميه وحدة النص الإِبداعية، هذه الوحدة التي لا تتيسر إلا بتلاحق أجزائها وانضمام بعضها إلى بعض كما يرى عبدالقاهر: ((واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له الحذق والأستاذية وسعة الذرع وشدة المنة (القوة) حتى تستوفي القطعة وتأتي قدمها. وكون عبدالقاهر لم يعتمدها قاعدة نقدية في جميع الحالات لا يقلل من قيمتها، فهو واقع كثيره في أسر وحدة البيت وتكفيه هذه الإِضاءة التي أحدث بها انفراجاً في هذا الأسر وإرخاءً له[147].<br />
(2) وممن وقفوا عند الأبيات ابن رشد (ت595هـ) في تلخيص كتاب أرسطو في الشعر. ولم يكن وقوفه طويلاً، ولكنه وقوف يشكل رؤية نقدية أو تذوقية جديرة بالتسجيل. والمناسبة هي قول أرسطو – كما لخصه ابن رشد: "والقول إنما يكون مختلفاً، أي مغيراً عن القول الحقيقي، من حيث توضع فيه الأسماء متوافقة في الموازنة والمقدار، وبالأسماء الغريبة وبغير ذلك من أنواع التغيير. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمي شعراً أو قولاً شعرياً، ووجد له فعل الشعر"[148].<br />
ثم مثل (ابن رشد) لذلك ببيتي كثير:<br />
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح<br />
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح<br />
وعلق على البيتين بقوله: ((وإنما صار شعراً من قبل أنه استعمل قوله: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح، بدل قوله: تحدثنا ومشينا))[149].<br />
ابن رشد يقر لأبيات كثير بالشعرية وبأن لها فعل الشعر وأنها من الأشعار المحركة ((وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال – يشير إلى حالة الأبيات التي استشهد بها، وأبيات كثير من ضمنها – وما عدا من هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشعرية إلا الوزن فقط))[150] فمن أين اكتسبت ((ولما قضينا)) شعريتها؟؛ كما نلحظ من رؤية ابن رشد، لم تتلبس الشعرية هذه الأبيات بسبب معنى مفيد تحويه أو فكر تتضمنه، وهذا يلفت الانتباه، فابن رشد يُحسب من المفكرين الذين يُتوقع تَطلُّبهم في الشعر فكراً أو معنى مفيداً. وإنما اكتسبت الأبيات شعريتها عنده بابتعادها عن المباشرة التعبيرية. نفهم هذا من تعليقه السابق: ((وإنما صار شعراً من قبل أنه استعمل قوله: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح، بدل قوله: تحدثنا ومشينا)) فالعبارة الأولى ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) ابتعدت عن المباشرة بإيحائيتها، وابتعدت الثانية باستعارتها. الأبيات عند ابن رشد لا تختزن معنى محدداً مفيداً ولكنها محركة تخلق انطباعات وأحاسيس مما يذكرنا بواحد من مبادئ الرمزيين في الشعر. وابن رشد لم يتناول الأبيات في إطار قضية اللفظ والمعنى كما فعل كثير من القدامى. وشعريتها عنده لم تكن بسبب لفظ أو معنى وإنما بسبب أسلوبية تعبيرية خاصة نقلتها عن القول الحقيقي إلى الشعري وأوجدت لها فعل الشعر. وهذا مقياس يقربه من ميدان عبدالقاهر الجرجاني الذي لا يرى جمال الشعر في الألفاظ فقط أو في المعاني فقط وإنما في تلك الطريقة التعبيرية الخاصة التي يطلق عليها ((النظم)).<br />
<br />
بهذا نصل إلى نهاية رؤية النقد العربي القديم إلى أبيات كثير. ونقر أن ما يثير الإِعجاب منها موقفان لا يخلوان من تشابه وهما موقفا ابن جني وعبدالقاهر الجرجاني من الأبيات وطريقة تناولهما إياها. هذا التناول الذي يدفعنا إلى الزعم بأن هذين الناقدين يلتقيان مع الأسلوبيين أو يلتقي معهما الأسلوبيون في غير واحدة من سمات النقد الأسلوبي[151]، فكلاهما استفاد كثيراً من توظيفه أو عدّه اللغة أحد الأبعاد المثرية والمثمرة لدراسة النص. وكلاهما أخضع الأبيات للتحليل، والبحث عن العلاقات بين الدوال والمدلولات بعيداً عن الوصف والمعيارية الجامدة. كلاهما بحث عن المعنى، بل درس ((طريقة التعبير)) عن الفكر من خلال اللغة. وكلاهما قام برصد انحراف عن المألوف في التعبير: ابن جني رصد لنا انحرافاً في ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) عما هو مألوف في ذكر الحديث مرسلاً لو قال: ((أخذنا في أحاديثنا)) فقد قيد الأحاديث بأطراف، وهو مما جسد للنص معنى عالياً متقدماً في النفوس كما يقول ابن جني[152]. والجرجاني رصد لنا انحرافاً في ((سالت بأعناق المطي الأباطح)) حين أسند الفعل ((سال)) إلى الأباطح لا إلى المطي لو قال ((سالت المطي في الأباطح)) إذ لو فعل لكانت استعارة عادية مألوفة. وإذا كان النحو عملية أساسية في الرسالة الإِبداعية كما يرى الأسلوبيون[153]. وفإن عبدالقاهر يتخذ من النحو متكأً رئيساً لنظريته في النظم وكلاهما اعتصر إمكانات النص التعبيرية مقدمةً وتفسيراً في الوقت نفسه لجمالياته، وفاعلياته ووظائفه، وهذا شيء حفظ له (النص) رواءه ونضارته. وأخيراً فكلاهما اندمج في النص وأبدى معه تعاطفاً واضحاً سهل لهما الولوج إلى أعماقه واكتشاف كثير من أسراره. ولا أنسى أن أنوِّه – أيضاً – ببعضٍ من تناول أبي هلال العسكري الأبيات؛ فقد أجالها في أفق نقدي دفعني إلى التساؤل عما إذا كان هذا الناقد العباسي يُعد سابقة بنيوية[154] في النقد العربي القديم، بل إنني أتساءل أمام رؤى هؤلاء النقاد الثلاثة مجتمعين عما أبقوه في أبيات كثير لنقادنا بعدهم في العصر الحديث.<br />
<br />
الفصل الثاني – في النقد الحديث<br />
لم تشغل أبيات ((ولما قضينا...)) نقاد العرب المتقدمين وحدهم، فقد انشغل بها أيضاً النقاد العرب المحدثون. ولولا موقف عبدالقاهر الجرجاني المضيء لقلنا إن تناول القدماء للأبيات كان واقعاً كله في دائرة قضية اللفظ والمعنى وأيهما يكمن وراء الأعمال الأدبية. أما تناول المحدثين من نقادنا فقد جاء إما في سياق التأريخ للنقد الأدبي وإما من خلال بحوث ودراسات لقضايا هذا النقد، ولست أزعم أني أحيط بكل هؤلاء النقاد الجدد الذين تناولوا أبيات كُثَير، أو أني قد اطلعت على كل ما كتب عنها في النقد الحديث فربما فاتني منه شيء. لكن ما اطلعت عليه في الموضوع شيء لافت للنظر، ومثير للتساؤل، ومغرٍ بالبحث مثله مثل ما وقع تحت عيني في النقد القديم.<br />
ولأن رؤية النقد الحديث تبدو متشابهة ومتداخلة ويصعب بسبب هذا تقسيمها تحت عناوين أو مسميات محددة مثل ما فعلنا مع النقد القديم – فإنني سأتناول رؤية أو تناول كل ناقد حديث على حدة للسبب الذي ذكرته، وحتى تسهل متابعة هذا التناول ومناقشته والتحاور مع صاحبه إن رأيت لذلك حاجة.<br />
ولأني لست متأكداً من النسق الزمني الذي ينتظم هذه التناولات الحديث فسأعول على ما أرجح أسبقيته استئناساً بتاريخ طبعات المراجع. وأحمد الشايب – فيما يبدو – هو أول هؤلاء الكوكبة من النقاد ولهذا سنستهل به هذا المبحث.<br />
<br />
1- تعرض الشايب لأبيات كُثَير في كتابه (أصول النقد الأدبي) ثلاث مرات: مرة في فصل عن الذوق الأدبي وأخرى في فصل عن العاطفة وأخرى عن الحقيقة كموضوع للأدب. ولم يشأ أن يقف طويلاً في المرة الأولى عند الأبيات فقد اقتصر على القول بأن ابن قتيبة عجز عن تبين أسرار جمالها الأدبي، وأنه غفل عن العاطفة الصادقة والخيال الجميل[155]. وقد كرر في وقفته الثانية ما قاله في الأولى من أن الأبيات تختزن عاطفة قوية وشعوراً صادقاً وخيالاً بارعاً، غير أنه أضاف إلى هذا شيئاً آخر هو قوة الأسلوب، وأن هذا كله وخاصة قوة الشعور يعوض ما تفتقده الأبيات من المعاني الفلسفية أو المبتدعة[156]. أما في وقفته الثالثة فقد كرر – أيضاً – ما قاله في وقفتيه الأولى والثانية وهو توافر صدق الشعور وحسن الخيال في الأبيات، كما كرر انتقاده لابن قتيبة بأنه ((لم يحسن تحليل هذه الأبيات فمسخها مسخاً شنيعاً وذهب بأصل جمالها الذي تراءى منه شيء في الألفاظ وغفل عن باقيه))[157] غير أنه أطال في هذه الوقفة شيئاً ما حين وضح بعض مظاهر النص العاطفية والخيالية.<br />
<br />
أحمد الشايب إذن، أي من خلال هذه الوقفات الثلاث يرى أن سر جمال الأبيات يتركز في عنصرين اثنين هما العاطفة والخيال، فعنده ((أن الجديد في الشعر هو التصوير الخيالي للعواطف لا التعبير اللغوي عن الفلسفات وليس الغرض منه التعليم بل التأثير))[158] وفي مجال تدليله على توافر هذين العنصرين ((العاطفة والخيال)) في الأبيات ذكر أشياء أشار إليها ثلاثة من النقاد القدماء أنفسهم وهم ابن جني وابن طباطبا وعبدالقاهر الجرجاني مثل أمل الحاج في المغفرة بعد أداء الحج، والشوق إلى الوطن، والتآلف الذي يجمع بين المسافرين ومثل الكناية أو الرمز بمسح الأركان للانتهاء من المناسك، ويشد الرحال على متون الإِبل للاستعداد للعودة[159]، وأحسب أن الأستاذ الشايب أراد أن يؤكد – بما قاله – شعرية الأبيات التي تعرضت للانتقاص من قبل بعض النقاد الأقدمين، إذ الشعرية – كما نفهم من كلامه – لا تجسدها المعاني الذهنية. ومعنى الشعر ليس بالضرورة ذهنياً فهناك النفسي والشعوري بل إنه بهذين ألصق وأليق. ولا يبدو أن هذا الناقد الحديث رغم هذه الإِدراكات الجيدة التي نسجلها له قد أضاف شيئاً ذا قيمة نقدية إلى ما قاله القدامى خاصة الثلاثة الذين ذكرناهم قبل قليل. وهو نفسه – بمنهجيته العملية – يرى ذلك ويقره حين قال: إن عبدالقاهر الجرجاني جاء فتعقب ابن قتيبة ((وبين ما في الأبيات من صدق الشعور وقوته التي أثمرت جمال التعبير وروعة الخيال وإن لم تشتمل على حقائق حكمية كما يود ابن قتيبة))[160]. وحين قال بعد أن أشار إلى مظاهر العاطفة والخيال في الأبيات: ((وهذه هي الحقيقة الأدبية التي غفل عنها ابن قتيبة وأدركها الجرجاني))[161].<br />
<br />
(2) كما وقف – دون إطالة – عند الأبيات محمد مندور في كتابه (النقد المنهجي عند العرب) وذلك في معرض حديثه عن ابن قتيبة، وتحديداً في الموضع الذي يبين فيه ما يقصده ابن قتيبة بالمعنى. يقول مندور: ((وبمراجعة الأمثلة التي أوردها (ابن قتيبة) يظهر أنه يقصد بالمعنى إلى أحد أمرين:<br />
1- فكرة.<br />
2- معنى أخلاقي.<br />
فأما الفكرة فبدليل أنه ينتقد الأبيات الآتية (ولما قضينا) لخلوها فيما يقول من كل معنى مفيد)) ثم يورد مندور الأبيات ويتابع قائلاً: ((إذ من الواضح أن هذه الأبيات الجميلة التي نثرها ابن قتيبة... لا تحمل أية فكرة، وإنما هي تصوير فني رائع استطاع عبدالقاهر الجرجاني أن يدرك جماله فيما بعد، ويدل على ما فيه من صور أخاذه وخصوصاً في الشطر الأخير)) وسالت بأعناق المطي الأباطح))[162].<br />
هذا هو كل ما قاله مندور عن الأبيات. ولا أعتقد أن الموضع الذي تناولها فيه يستدعي التحليل أو الإِطالة، لكن شيئاً يلفت الانتباه في كلامه، وهو موافقته ابن قتيبة في أن الأبيات لا تحمل أية فكرة! ففي مثل هذا مزلق إلى الفصل بين الشكل والمضمون، وفيه ما يوهم بأنه (مندور) غفل عما في الأبيات من معنى نفسي خاصة أنه في تعليقه على الأبيات ركز على ما فيها من جانب تصويري ولم يشر إلى تلك المضمونات أو الأفكار النفسية أو الشعورية التي أدركها كل من ابن طباطبا وابن جني والجرجاني عبدالقاهر. فهل نقول بسبب هذا: إن مندوراً – من ناحية معاكسة وقع فيما وقع فيه ابن قتيبة من تحديد للمعنى الشعري وتضييق له؛ أما ابن قتيبة فحين حصر معاني الشعر في الحكمة والأخلاق ونحوهما. وأما مندور فحين جرد الأبيات من أية فكرة ناسياً أو غافلاً عما تفيض به من معانٍ عن مثل هذه البدهيات النقدية، ثم أن ما نرجحه هو أنه لم يعنِ بالفكرة التي جرد أبيات كُثَيِّر منها الفكرةَ على إطلاقها، وإنما عنى الفكرة الذهنية أو الفلسفية. أما الشيء الذي نؤكده مطمئنين فهو أن الدكتور مندوراً في تناوله الأبيات لم يضف جديداً نقدياً، وهو ما يقرره نفسه عندما أكد أن ما في الأبيات من تصوير فني رائع أخاذ – استطاع عبدالقاهر الجرجاني أن يدرك جماله فيما بعد[163].<br />
<br />
(3) وممن تناولوا أبيات ((ولما قضينا...)) سيد قطب في كتابه (النقد الأدبي: أصوله ومناهجه) وكان تناوله في مبحث عن ((القيم التعبيرية)) وعلى الرغم من أنه لم يطل وقفته عند الأبيات ذاتها تحليلاً أو تقويماً إلا أن السياق الذي تناولها فيه يختزن من الرؤى النقدية والفنية ما يسم هذه الوقفة بالعمق والثراء والمردودية. كل هذه أشياء تنقل صاحبها إلى صف أولئك النقاد الذين يحتفلون بالنص، ويحتفون به، ويؤانسونه، ويتنسمون معناه حتى يبوح بمكنونه وسره.<br />
أبيات كُثَيِّر في رأي قطب ذات مضمون شعوري لا ذهني. ولكل من هذين تعبيره الخاص؛ ينفرد الأول بتعبيره الأدبي والثاني بتعبيره العلمي ((وإذا كانت ميزة التعبير العلمي والتعبير الفلسفي هي دقة الدلالة الذهنية للعبارة، فميزة التعبير الأدبي هي الظلال التي يخلفها وراء المعاني، والإِيقاع الذي يتسق مع هذه الظلال، ويتفق في الوقت ذاته مع لون التجربة الشعورية التي يعبر عنها، ومع جوِّها العام))[164]. ومن هذا المنطلق يذهب قطب إلى أن الدلالة المعنوية للعبارة ما هي إلا عنصر واحد من عناصر دلالتها، بل كثيراً ما تكون أصغر عنصر في العمل الأدبي، ولهذا لا يجوز أن نكتفي بها[165] عند تقويم نص ما. ومن هنا جاء نقده لابن قتيبة وأبي هلال العسكري بسبب طريقتهما في نثر الأبيات – لأنها – في رأيه – ألغت قيماً تعبيرية مهمة مثل التناسق والإِيقاع والظلال والصور ولم تُبق سوى المعنى الذهني العام[166]، في حين أن هذه القيم مؤثرات يكمل بها الأداء الفني[167]. ولا يريد قطب لهذه القيم أن تنفصل أو تتجزأ في العمل الأدبي فهي ((كلها وحدة في العمل الأدبي يصعب انفصالها)). وهذا القول يذكرنا بالمنهج الإِجرائي الذي سلكه عبدالقاهر الجرجاني في نقده التطبيقي للأبيات والذين قلنا عنه إنه يطبق ما أسميناه بالوحدة الابداعية للنص. ومع أن سيد قطب قد التقى الجرجاني بشكل ما أو في منعطف ما إلا أننا لا نحس أن سيداً كرر سلفه، فلسيد قطب رؤيته المستقلة تجاه الأبيات، تلك الرؤية المتكئة إلى نظرية نقدية تثري العمل الأدبي وتستدره بتوظيفها كل جزئياته في كشفه وإدراك سر جماله.<br />
لم يحدثنا سيد قطب حديثاً صريحاً عن سر جمال الأبيات لكنا نستشف أن القيم التعبيرية ومجيئها معادلاً فنياً للقيم الشعورية في أبيات كُثَيِّر هي السبب الرئيس لجمالها عنده، خاصة إذا عرفنا أن بيان قيم العمل الأدبي التعبيرية والشعورية هو – عند – واحدة من وظائف النقد كما يقول في مقدمة كتابه[168].<br />
<br />
(4) ونلتقي ناقداً وأديباً آخر من هؤلاء الذين استوقفتهم الأبيات وهو إبراهيم العريض، فقد تناولها مرة في كتابه (الأساليب الشعرية) في فصل بعنوان (بين الحكمة والفن) ومره أخرى في كتابه (الشعر والفنون الجميلة) في فصل بعنوان (الألفاظ رموز).<br />
في التناول الأول خطأ العريض من النقاد القدامى من قال عن الأبيات بأنه ليس تحت ألفاظها كبير معنى، ومشيراً إلى أن الشعر ليس حكمة أو معنى ذهنياً فقط إذ قد يكون فناً يحفل بالوصف والصور والعواطف ويزخر بالحياة ((وأي معنى تراهم كانو ينشدون وراء هذه الأبيات أكثر مما هي حافة به من براعة الوصف إلى افتنان في التصوير إلى حرارة في الشعور؟ إنها لوحة تكاد تنبض بالحياة))[169] ولأن الأبيات قطعة فنية تحمل معنى شعورياً أكثر مما تحمل حكمة أو معنى ذهنياً، فإن السبيل الوحيد لتقديرها وتذوقها – كما يرى – هو ((القلب بالتجاوب الشعوري لا ما يشعه العقل بالتجرد الذهني))[170]. هكذا كان تناول إبراهيم العريض لأبيات كُثَير: نقد لرؤية النقاد القدامى إليها. وإشادة بما فيها من فنية جسدتها بارعة الوصف، وروعة التصوير وحرارة الشعور، لكن شيئاً يلفت النظر في حديث العريض عن الأبيات وهو تركيزه على نبض الحياة في الأبيات؛ فقد قال مرة: ((إنها لوحة تكاد تنبض بالحياة))[171]. وقال ثانية: ((هذا الإِحساس الناعم بالحياة التي تفيض به القطعة فيضاً))[172]، وقال ثالثة: ((إنها – قيل كل شيء قطعة فنية لا تستهدف غاية أبعد من الحياة))[173]. وأعترف أنني أكاد أقف عاجزاً عن استبانة ما يقصده بمثل هذه التعبيرات فهي – في رأيي – من التعبيرات النقدية الغامضة التي لا تضع أيدينا على شيء واضح أو موحٍ على الأقل، إلا أن يكون قد قصد بهذه الحياة تلك الحركة التي تسري في الأبيات، وفي الحركة – على أية حال – حياة ورمز لهذه الحياة، وإلا أن يكون قد عنى هذا الأمل المعانق للمستقبل والذي تومض به الأبيات بما إيماضاً،. والأمل في جوهره إحساس بالحياة بل حياة، ومتى فقد الإِنسان الأمل وتسلط عليه اليأس فقد الحياة في حقيقتها، ألم يقولوا: لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس؟! فعلى هذا وذاك، أي بما يدب في الأبيات من حركة، وبما يشع فيها من أمل – جاء إحساس العريض بما تفيض وتنبض به من حياة.<br />
<br />
هذا عن تناوله الأول، أما في تناوله الثاني عبر كتابه (الشعر والفنون الجميلة) فيقول في سياق هذا التناول: إن اللفظة تستطيع على يد الشاعر ((أن تنقلنا بمجرد تداعي الصور الذهنية الناشئة عنها كلمح البصر في الأذهان إلى أحاسيس لا نتبينها بوضوح ولكنها على غموضها تبعث في النفس إشراقاً وروعة))[174]، ونحسب أن الإِحساس بالحياة الذي ركز عليه في تناوله الأول هو واحد من هذه الأحاسيس التي ذكرها هنا. وإلى جانب تلك الصور وهذه الأحاسيس التي تنقلنا إليها الألفاظ على يد الشاعر وبطريقة خاصة – هناك أيضاً ما يتراءى في أفقها من أشعة وظلال ((ونجد – كما يقول العريض – مصداق ذلك في هذه القطعة الجميلة لكثير عزة، التي وقف منها النقاد حائرين وزماناً طويلاً، فلم يستطيعوا تعليل ما فيها من موطن الفتنة والجمال على وجهه الصحيح إلا منذ قريب))[175]. ونريد أن نقف عند رأيه بأن هؤلاء القدامى لم يستطيعوا تعليل ما في الأبيات من موطن الفتنة والجمال على وجهه الصحيح إلا منذ وقت قريب أي في العصر الحديث فإني لا أميل إلى إطلاق هذا الحكم سواء فيما يتعلق بالقدماء. أما بالمحدثين من النقاد؛ أولاً لأن من القدماء من وضع أيدينا على أكثر من موطن جمالي للأبيات وخاصة ابن جني وعبدالقاهر الجرجاني، ولعل الأستاذ العريض لم يطلع على ما كتباه عن الأبيات. وثانياً لأنا لا نعتقد أن المحدثين قالوا الكلمة الأخيرة والصحيحة في الأبيات، لأن ما قالوه لم يذهب بعيداً عما قال القدماء، ثم إن لكل ناقد رؤيته المستقلة ولكل عصر ذوقه. بقيت نقطة أخرى نضيفها وهي رأيه بأن النقاد الأقدمين لم يفطنوا إلى رمزية الألفاظ في الأبيات[176]، فهذا أيضاً مالم نوافقه عليه فابن جني والجرجاني فطنا إلى هذا وأوضحاه.<br />
<br />
(5) ثم نلتقي بدوي طبانة الذي تناول الأبيات في كتابه (دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى غاية القرن الثالث) وتناوله يأتي في معرض حديثه عن كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة.<br />
وطبانة ينضم هو الآخر إلى هؤلاء النقاد – قدماء ومحدثين – الذين انتقدوا ابن قتيبة ومن وافقه في الغض من شأن معاني الأبيات أو توهينها، وفي الغفلة عن نظرتها ((التصويرية التي يحتل الشعر بها منزلته بين الفنون))[177]. ثم يستدرك على هؤلاء بقوله: "ولكنا نرى في ناحية أخرى من يتصدى للدفاع عن هذا الشعر، ويضعه موضعه من الصور الفنية الرائعة التي ازدانت صورها بمحتواها. وفي طليعة هؤلاء أبو الفتح عثمان بن جني"[178].<br />
ويعد أن ينقل بعضاً من أقوال ابن جني عن الأبيات يعلق عليها بقوله: ((وهذا دفاع جيد عن معاني الشعر، وأن جودة مبانيه لا تمنع جودة معانيه...))[179] ونريد أن نقف عند شيئين من تعليقات الدكتور بدوي، أحدهما أنه لم يلفت أنظارنا إلى مظاهر جمالية في الأبيات سوى ما فيها من تصوير انتبه إليه الأقدمون كما يقول بدوي نفسه. وأما الآخر فهو تعليقه على موقف ابن جني من الأبيات بأنه ((دفاع جيد عن معاني الشعر، وأن جودة مبانيه لا تمنع جودة معانيه)). وما نريد أن نقف عنده هو الجزء الأخير من عبارته هذه فصحيح أن ابن جني دافع دفاعاً جيداً بل رائعاً عن معاني الأبيات، كما جاهد بذائقته اللغوية والنقدية في التفتيش عن دقائقها،. لكنا لا نذهب – كما جاهد الدكتور بدوي – إلى أن هذا الدفاع كان في بعض مناحيه دفاعاً عن أن جودة مباني الشعر لا تمنع جودة معانيه إذا العبارة لا تستقيم – في رأينا – منطقياً، ثم إن تتبعنا نقد ابن جني الأبيات لا ينتهي بنا إلى هذه النتيجة بل إلى أن ما كان يدافع عنه هو أن جودة مباني ((ولما قضينا)) وجمال شكلها يشيان بمعانٍ جميلة، فهما مؤشران إلى ما يحويه هذا المبنى من مضمونات تليق به ويليق بها وعلى هذا فعبارة بدوي طبانة تستقيم إذا استبدلنا كلمة ((دليل)) بقوله ((لا تمنع)) فنقول: ((وهذا دفاع جيد عن معاني الشعر، وأن جودة مبانيه دليل جودة معانيه)).<br />
<br />
ثم ينهي طبانة وقفته عند الأبيات بالإِشادة بتحليل عبدالقاهر الجرجاني للأبيات وبفهمه العميق لروح الأدب إذ دلّ على وجوه الجمال ومواضع الحسن فيها. وما بفهمه من هذا هو أن رؤيته تتفق مع رؤية الجرجاني وابن جني قبله، ولأننا لم نلمح أية إضاءات نقدية منه فهو كآخرين غير من المعاصرين لم يتجاوزهما.<br />
<br />
(6) والعقاد هو – أيضاً – من هؤلاء النقاد المعاصرين الذين تعرضوا لأبيات كُثير، وذلك في مقالة له بعنوان ((في الأساليب)) ولأنه في هذه المقالة يتحدث عن موقفه من السهولة في الأدب والفن، وعن مفهومه لهذه السهولة وأبعادها فقد انتقد من النقاد من أرجع جمال الأبيات إلى سهولتها وصياغتها اللفظية ((بيد أن السهولة – يقول العقاد – لا تجد لها نصيراً أسوأ من أولئك الذين يجعلونها وحدها أساس البلاغة ومحورها ويقولون إنها هي دون المعنى كل ما يطلب من الشعر الرائق والنثر المستعذب، ويوردون على ذلك أبياتاً اتفقت الأذواق على استحسانها والإِعجاب بها ولكنها في زعمهم خلت من المعاني ولا فضل فيها لغير ((الصياغة اللفظية)) وطلاوة العبارة، وأشهر ما يوردون من ذلك قول كُثير))[180] ثم يورد خمسة الأبيات كما هي مروية في (زهر الآداب) ونحسب العقاد ينتقد بهذا أبا هلال العسكري بشكل خاص، فهو أبرز من استشهد بالأبيات على أن جمال الشعر في ألفاظه.<br />
ويرى العقاد أن أبيات كُثير ((من أعذب الشعر وأسلسه، وأنها خلو مما تعود النقاد أن يسموه ((بالمعاني)) في الشعر[181]. لكنه يرى أن موطن استحسانها والإِعجاب بها يتجاوز الألفاظ ((والمعاني)) الذهنية إلى الصور والشعور حين يقول: "فإن في الشعر شيئاً غير الألفاظ ((والمعاني)) الذهنية وهو ((الصور)) الخيالية وما تنطوي عليه من دواعي الشعور"[182].<br />
ثم يشرع في تتبع مظاهر تلك الصور ودواعي هذا الشعور أو بعضها، وإن كانت لا تبتعد في حقيقتها عما أشار إليه ابن جني وعبدالقاهر الجرجاني وابن طباطبا، اللهم إلا ما يراه أن مما يدل على هذه الصور هو ((رائحة السآمة التي تَنَسَّم عليك من قوله ((ومسح الأركان من هو ماسح))... كأنما تمسيح الأركان لم يكن همه الذي يعنيه من تلك الرحلة وكأنه يتوسل به إلى مأرب يشغله عن الأركان ومن يمسحها من الماسحين))[183]. هذا ما يراه العقاد، لكنا لا نحس أن طبقات جو الأبيات تنسم علينا رائحة من هذا النوع، قد تَنَسَّم شجناً واغتراباً وشوقاً أما أن تنسم سآمة فلا شيء في الأبيات – في رأيي – يوحي به.<br />
وإذا كان قول كُثير ((ومسح بالأركان من هو ماسح)) قد تنسمَ على العقاد رائحة من التناقض تتنسم علينا من المقابلة بين عبارتين له في تلك المقالة التي تناول فيها ((ولما قضينا...)) ففي إحدى العبارتين – وهي التي يدافع بها عن الأبيات – قوله الذي سبق أن نقلناه وهو ((فإن في الشعر شيئاً غير الألفاظ ((والمعاني)) الذهنية وهو ((الصور)) الخيالية وما تنطوي عليه من دواعي الشعور)) فواضح أنه في هذه العبارة لا يعد المعاني الذهنية أصلاً في جمال الأدب أو أساليبه، لكنا نقرأ عبارته الثانية وهي ((وفحوى ما تقدم أن الصور الخيالية والمعاني الذهنية هي الأصل في جمال الأساليب في الأدب والفنون))[184] فنحس بانحراف عما قد قرره سابقاً خاصة وأنه يرى أن الأبيات من أعذب الشعر وأسلسه رغم خلوها مما تعود النقاد أن يسموه بالمعاني، وهذا ما جعلنا نحس بهذا التناقض الذي أشرنا إليه. وعلى أية حال، فأهم ما نلحظه في وقفة العقاد عند الأبيات أنه – كما قلنا – لم يبتعد عما قاله الأولون فيها.<br />
<br />
(7) وفي فصل بعنوان (بين اللفظ والمعنى) من كتاب (أسس النقد الأدبي عند العرب) تناول – أيضاً – أحمد أحمد بدوي أبيات كُثير، وبدوي لا يتفق مع ابن قتيبة ((في الاستهانة بهذه الأبيات))[185] فمثله مثل عبدالقاهر الجرجاني الذي ((بين – كما يقول بدوي – وجه الجمال فيها[186]. كما يقرر (بدوي) أنها ((لوحة فنية لقوم عائدين إلى أوطانهم))[187]. وفي هذه اللوحة تصوير لتحركات هؤلاء القوم ونشاطهم وشعورهم، كما فيها تصوير للإِبل وسيرها. هذا ما قاله أحمد بدوي عن الأبيات، وهو قول لا نرى فيه أي انحراف عن مسار النقاد المعاصرين الذين لم نجد حتى الآن في وقفاتهم عند الأبيات إلا القليل من الاضافات النقدية المتميزة.<br />
<br />
(8) وفي كتاب ((نظرية المعنى في النقد العربي)) تناول الأبيات أيضاً الدكتور مصطفى ناصف. وفي بداية تحليله الأبيات انتقد موقف النقد العربي الحديث منها وذلك في نقطتين رئيسيتين أولاهما هروب أصحاب هذا النقد من صعوبات المعنى إلى لفظ الصورة، وأخراهما هي أن موقفهم هو الموقف القديم نفسه، وإذا كان ثمة فرق فهو في استعمال المصطلحات[188]. وبعد هذا النقد الذي أرى أنه محق فيه يشرع في الحديث عن الأبيات فيرى أن ((من الجائز أن تكون الاستعارة في البيت الأخير (وسالت بأعناق المطي الأباطح) ذات دلالة أسطورية غائرة بحيث تعنى توزع النفس خروج العواطف عند (لعلها عن) حدود الضبط والنظام التام، ومسيل الماء الذي استخدم في التعبير عن العودة، وهي من التصورات الأساسية الثرية في العقل البشري، يصحبه قدر من الإِحساس الكامن بالتوتر))[189]. لم يقطع ناصف بأن الاستعارة ذات دلالة أسطورية فهو يقول ((من الجائز)) ورغم هذا فهو لم يكشف الصلة بين الأبيات ودلالتها الأسطورية المحتملة كشفاً واضحاً يومئ على الأقل إلى هذه الأسطورة. وإذا كان ناصف قد انتقد النقاد المحدثين بهروبهم من صعوبات المعنى إلى الصور فإني أخشى أن يكون قد هرب هو من الصور نفسها مللاً وسأماً أو إحساساً منه بابتذالها في النقد الحديث إلى هذه الدلالة الأسطورية ولا نستبعد أن يكون خروج العواطف عن حدود الضبط والنظام التام بعضاً من توجهات معنى الأبيات وإحدى ثمرات نشاطه، كما إن الإِحساس بقدر من التوتر هو مما توحي به، غير أنه ليس توتراً مأساوياً وإنما هو من نوع التوتر الذي يتنفس معه الشاعر متعة ويتأوه تلذذاً. ولهذا لا نجدنا مرتاحين إلى رأيه بأن في الأبيات رنة حزن وألم.<br />
<br />
لقد أهَمَّتْ الاستعارة في قول كُثَير ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) مصطفى ناصف. وكان ينطلق في تحللها من نظرية التفاعل التي يلخصها في ((أن الاستعارة عبارة عن فكرتين اثنتين عن شيئين مختلفين تعملان خلال كلمة أو عبارة واحدة تساندهما معاً، ومعنى هذه الكلمة أو العبارة هو الناتج عن تفاعلهما))[190]، ولهذا فهو يرى أنه ((حينما نقول إن الأباطح سالت بأعناق المطي وننظر – ملياً – في فكرة التفاعل التي أهمتنا... نشفق – إلى حد ما – على الإِبل – بعبارة أخرى بدت الأباطح أو لِنَقل الأرض أقوى من المطي. المطي أعناقها تعلو تهبط وتسير على هذا النحو، ولكن الحركة تذوب أو تتلاشى في الأرض. هذا التلاشي لا يظهر في ضوء فكرة المقارنة[191] ظهوره في ضوء فكرة التفاعل))[192] فهو الاستعارة في ضوء نظرية التفاعل هذه جعلت ناصفاً يستشعر الشفقة على الإِبل فالتعبير أو التركيب الأسلوبي يوحي إليه بأن الأباطح أو الأرض أقوى منها. هل كان هذا بسبب أن الأرض احتوت المطي فضعفت بسبب عملية الاحتواء هذه ؟ ربما. ولن يحول تحريك الإِبل أعناقها أو تحركها بأعناقها دون القول بضعفها ما قبل الأرض لأن هذه الحركة أسيرة إطار أرضي تذوب وتتلاشى فيه. ولا نلوم ناصفاً إذا أمن جانب تحليل الاستعارة في ضوء فكرة التفاعل واطمأن إليه وفضله، فهذا التحليل فيما يبدو أكرم باطلاق الرموز وبث الإِشارات للمعاني الإِنسانية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نعتقد أنه في إطار فكرة التفاعل تلك ينشط المعنى ويتنامى بقدر أكثر، وربما لهذا علل هو تحليله أو رؤيته للاستعارة في بيت كُثير بقوله ((ومغزى هذا كله أن مسيل أعناق الإِبل أصبح صورة من التطلع المستمر للإِنسان وما يصاحبه من تقدم وتراجع وبدء وإعادة))[193]. لم يقل كُثير بعبارة مباشرة: إن الإِنسان متطلع باستمرار، ولكن هذا التطلع مصحوب باحتمالات النجاح والفشل، والأمل والإِحباط، لم يقل كُثير هذا ولكن مصطفى ناصف عن طريق فكرة التفاعل في الاستعارة تأوله. أفِّق ناصف أم لا ؟ دار ذلك بخلد كُثير أم لا ؟ شيء لا يعنينا كثيراً المهم أننا بهذه الطريقة ننقذ المعنى من قالب الحذاء الصيني الذي يحرمه من جمالية التنامي والنشاط والتجدد.<br />
لم نلحظ أن ناصفاً كان يهرب من صعوبة المعنى مثلما فعل بعضهم. ما كان يهرب منه هو الوقوع في تفسيرات أو تأويلات يقتفي فيها أثر القدماء، وربما لهذا انطبعت تحليلاته بشيء من الصعوبة وعدم الوضوح ومهما يكن فرؤيته للأبيات تظل متميزة عن غيرها سواء في القديم أو الحديث.<br />
<br />
(9) وفي مبحث عن ((أساليب التقويم الفني للصورة، واختلافه بين البلاغيين العرب)) من كتاب ((الصورة البلاغية عند عبدالقاهر الجرجاني)) تناول أبيات كُثير كذلك الدكتور أحمد علي دهمان، ولكن تناوله لم يفرده برؤية مستقلة عن القدامى، اللهم إلا اختلاف المصطلحات والألفاظ. يرى (دهمان) – مثلاً – أن الأبيات ((تشكل صورة لموقف وجداني، أو تجربة تسير في موكب متحرك يؤثر في المتلقى، ويعبر عن انفعال نفسي عند الشاعر، فهي وصف لحالة شعورية))[194] هذا نموذج أو شيء مما قاله عن الأبيات. وبقية ما قاله لم يخرج به بعيداً عن هذا فهو يركز على ما في الأبيات من صور خيالية وحركة ومعانٍ شعورية، وكل هذه كما قلنا صرح بها أو أشار إليها النقاد الأقدمون. وعلى هذا نستطيع أن نكرر القول بأن أحمد دهمان – مثله مثل بعض المعاصرين – اقتفى أثر القدامى في النظر إلى أبيات كُثير.<br />
<br />
(10) وربما يكون الدكتور شكري فيصل هو آخر من أعلمه تناول أبيات كُثير في النقد الحديث وتناوله جاء في إطار محاضرة[195] استعرض فيها مواقف بعض النقاد القدامى والمعاصرين منها. ومن تقويمه للأبيات وأحكامه عليها أنها أبيات ((مثيرة للوجدان ومثيرة للأذهان... وأنها رسمت موقفاً إنسانياً خالداً))[196] أو أن تجربتها (كما قال في موضع لاحق) ((تجربة إنسانية رفيعة))[197] وأن قراءتها كاملة (على أنها خمسة أبيات كما رواها صاحب زهر الآداب) ((لا تترك مجالاً للشك في أن صاحبها لم يكن يفكر في أهل ووطن بقدر ما كان يفكر في غزل وأحبة))[198].<br />
شكري فيصل في هذه الأحكام أو هذا النوع من التقويم لا يبتعد عن أجواء النقد الانطباعي. ومهما تكن درجة انطباعية هذا النقد، فهي لا تخدش شيئاً من صدقه فجل ما قاله فيصل عن الأبيات حق وصائب غير أن ملاحظتنا الرئيسة هي أن النقاد والقدماء قالوا هذا أو نحواً منه،. وإن كان بعبارات ومصطلحات مختلفة. ولا يضير النقاد المحدثين أو كرروا هذه الأحكام فهي من نوع الانطباعات النقدية المشتركة لكن ما يضير هو أن نكرر هذا ثم لا نضيف إليه رؤى نقدية أخرى،. لهذا فمن حق ناقدنا أن نسجل له لفته نقدية جيدة أضافها وهو ينتقد موقف ابن قتيبة من الأبيات ونثره وإياها نثراً ((قتل به – كما يقول فيصل – حس الحركة حين قال (ابن قتيبة) ولم ينظر بعضنا بعضاً، مقابل قولة الشاعر: ولم ينظر الغادي الذي هو رائح))[199] ونقول لفتة نقدية جيدة لأننا حين نقارن بين عبارة؛ لم ينظر بعضنا بعضاً (نثر ابن قتيبة) وعبارة: ولم ينظر الغادي الذي هو رائح (شعر كُثير) نلاحظ – حقاً – انطفاء الحركة في عبارة ابن قتيبة بل انطفاء الحركة حتى من العيون. ابن قتيبة قيد القوم وشل أبصارهم إطلاقاً. أما عبارة كُثير فالحركة فيها متقدمة ونشطة في صورة أو بسبب صورة الغادي والرائح، كما احتفظت العيون أيضاً بحركتها فالنظر لم يتوقف إلا من الغادي إلى الرائح، أما إلى بقية القوم فبث النظرات أو إرسالها مستمر. وغير هذه اللفتة هناك تأكيده (فيصل) – كما ذهب بعض النقاد القدامى والمعاصرين – بأن المعاني لا ترد مجسمة دائماً فقد تأتي في شكل إيحاءات ورموز وهالات وظلال[200] فهذه وجهة نقدية تثري المحتوى الشعري وتوسع دائرته.<br />
<br />
خاتمة ورؤية:<br />
لعل ما انتهينا إليه تتبع لا يخلو من التحليل والتقويم لنظرة النقاد العرب القدماء والمعاصرين إلى أبيات كثير. عند القدماء تعرفنا نظرتين نقديتين متضادتين تجاه هذه الأبيات. إحداهما – كما قلت – لا ترى لمعناها كبير فائدة بالقياس إلى ما فيها من ألفاظ. وفي هؤلاء من ينتصر – بوضوح – للألفاظ ويرى أنها وراء العمل الأدبي المعجب الجميل مثلما صنع أبو هلال العسكري حين استشهد بالأبيات. وأخراهما ترى سر جمالها ليس في ألفاظها فقط وإنما في المعاني التي وراء هذه الألفاظ. وأصحاب هذه يجنحون إلى المعاني في إطار الخلاف حول قضية اللفظ والمعنى في النقد العربي. ولقد نجح هؤلاء بطرق فنية في اكتشاف معانٍ للأبيات غير أنها ليست من جنس تلك المعاني التي ترضي أذواق أولئك الذين ضيقوا دائرتها رغم رحابتها المتسعة كل نبضة أو خلجة في قلب الحياة. كلتا هاتين الرؤيتين – على ما لاحداهما من إضاءات نقدية لافته – تفصلان بين الشكل والمضمون في العمل الشعري حتى لقد شوش هذا الفصل على أذهان بعض النقاد الذين تعرفنا مواقفهم فانحجبت دونهم أكثر من نقطة مضيئة في أبيات كثير كان ينبغي ألا تخطئها عين النقد. ولهذا رحبنا بتلك النظرة النقدية القديمة الثالثة، فقد جاءت متميزة برفضها الفصل بين اللفظ والمعنى عند تناولها أبيات كُثير، ونعني نظرة عبدالقاهر الجرجاني الذي يُرجع سر جمال القول إلى النص بوصفه بناء فنياً يتكامل فيه الشكل والمضمون ويتلاحمان وذلك تحت مظلة نظرية النظم التي تبلورت عنده. ورغم اختلاف هذا الناقد مع ابن جني في محط الانطلاق نحو رؤية الأبيات فإن بينهما بَعْد هذا المحط اتفاقات من خلالها يلتقيان مع الأسلوبيين أو يلتقي معهما الأسلوبيون في غير واحدة من سمات النقد الأسلوبي. ولقد وقفنا فيما مضى على نقاط من هذا التشابه بين هذين الناقدين إلا أن محاورة نص كثير استهدافاً لاكتشاف مكوناته وعلاقته تبقى إحدى النقاط الفاعلة، بل لعلها المحط الرئيس الذي انطلقت منه رؤاهما النقدية. أما عند المعاصرين فقد بدأ في رؤيتهم الأبياتَ كثير من التشابه والتداخل. ولم يتجل فيها شيء من التميز والتفرد سوى عند القليل منهم. وقد وقفنا عند هؤلاء وأبرزنا ما رأيناه تفرداً وتميزاً في تناولهم. أما الباقون فقد تحدثوا عن أشياء مثل العواطف والصور والحركة وهذه أشياء تحدث عنها القدماء بشكل ما.<br />
<br />
هذا ملخص نظرة النقاد العرب معاصرين وقدماء إلى أبيات كثير. وهي نظرة تشكلت عمقاً وشمولاً وتنوعاً بقدر ما لدى كل ناقد من ذوق وفكر وذكاء، ورغم ما فيها عند بعض النقاد من هنات إلا أن فيها إثراء واضحاً للتجربة النقدية العربية. فيها دليل مسار للناشئين، وفيها استخلاص نتائج للآخرين.<br />
لم يختلف النقاد إطلاقاً حول جمال أبيات كثير. نقطة الخلاف هي منشأ هذا الجمال، ولا نريد أن نكرر شيئاً قلناه في حينه، لكنا نحب أن نوضح، أو نؤكد على أشياء ربما أشار إلى بعضها المعاصرون والأقدمون. فالأبيات جميلة لأنها تعبر عن تجربة، ولأنها تثير انفعالات وتداعب مشاعر وتلمس برفق أكثر من جانب للذكريات. والأبيات جميلة لأن في عفويتها وبساطتها من العمق ما جعل لسان أكثر من متلق وناقد رطباً بذكرها وما أغرى بها أكثر من ناقد لتجسيد أسرار هذا الجمال، لكن بعض النقاد – مثل ابن قتيبة ومن وقف موقفه – تخدعهم هذه البساطة وهذه العفوية عن ما في الأبيات من مضمونات وتجارب فيرجعون سر جمالها إلى اللفظ. وهي هذه البساطة التي تجعل الأبيات تعانق المتلقي بلباقة متناهية إلى حد إمحاء سلطة كاتبها. والأبيات مجرى لأكثر من لون في حياة العربي: فمِنَى والأركان – كما أشار بعض النقاد القدامى – لفظتان ذواتا بُعدٍ روحاني مريح، كما أن لمِنَى بُعداً آخر ذا مشاعر من نوع خاص. والمهاري أو المطي: كلمتان غارقتان في نهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والاتصالية. بل إنهما رمز للترحال الذي يقف معلماً من معالم حياة العربي ونقطة في خريطة همومه. وسالت والأباطح: لفظتان شهيتان. بل إنهما يفتحان شهية الحياة بالمطر الذي ترمزان إليه، والمطر دون شك ذو شأن خطير وجليل ولطيف في حياة العربي أما أطراف الأحاديث فهي عبارة ودية حنون ابتعدت عن الرسمية فاكتسبت نكهة خاصة وطعماً فريداً ينعشان الجو النفسي ويشيعان فيه غير قليل من النداوة ويكفي أن قلوباً أنضجتها القروع نقعت بهذه الأحاديث فاشتفت.<br />
<br />
في أبيات كثير الخمسة حسب رواية ((زهر الآدب))[201] يجيء الفعل مقابل الصفة أحد المظاهر التعبيرية الرئيسة بل إن الأبيات – إما بوصفها جملاً شعرية أو بما فيها من جمل شعرية – تتكئ على الفعل والصفات لم تَرِدْ فيها إلا مرتين (منضجات قرائح) وهذا يبدو انحرافاً جديراً بأن يُعد خاصة أسلوبية لأنه كثَّفَ أدبية النص وبالتالي شعريته إذا نحن استأنسنا بمعادلة بوزيمان (نسبة إلى العالم الألماني أ. بوزيمان a.busemann) وأساس هذه المعادلة هو أن تمييز العددية للفعل مقابل الصفة تُعد ((دالاً على أدبية الأسلوب؛ فكلما زادت كان طابع اللغة أقرب إلى الأسلوب الأدبي))[202] لأن الفعل (الحدث) رامز إلى تفاعل الشاعر مع مضامين النص وانفعاله بها، وإلى درامية النص نفسه. وغير هذه القيمة العددية للفعل نلاحظ مجيئه في جميع الأبيات في صورة الماضي إما مباشرة أو بإدخال لم على الفعل المضارع لم تختلط الأزمنة بشكل عشوائي في النص. ولم يحدث ما يمكن أن يعد تحولاً زمنياً من الماضي إلى الحاضر مثلاً. ومهما تكن المصادفة أو متطلبات الإِيقاع قد أسهمت في هذه الخاصة، فإن شيئاً ما في إطار تفاعل الشاعر مع تحربته قد أسهم هو الآخر فيها. تَحرُّك الزمن على هذه الصورة يأتي واضحاً إلى درجة نتخيل عندها أن الشاعر. يلح عليه إلحاحاً. فهل هو إشارة إلى تعلق الشاعر أو إحساسه أكثر بهذا الزمن الماضي وارتباطه به؟ ربما، فهو يقص تجربة حلوة الأحداث والذكريات لكن في قص التجربة والتلذذ بذكرها – أحياناً – شيئاً غير هذا هو التطلع والتوق إلى تكرارها، أي إلى المستقبل. ومن هنا لا تبدو ((ولما قضينا)) حاملة أشياء الأمس فقط وإنما ظلال الغد أيضاً.<br />
وكلمة أحاديث بمتعلقاتها تبدو إحدى الكلمات المضيئة في النص وإحدى شفراته. وتكرارها في البيت الرابع ((نقعنا قلوباً بالأحاديث)) يعطي مؤشراً إلى أخذها دور المنَفَّس لتراكمات عاطفية. إنها البلسم الشافي، ومن هنا انتقاء كلمة ((نقعنا)) المضيئة أيضاً. فالقلوب منضجات قرائح لا يُجدي فيها إلا النقع في الأحاديث حتى تتشربها ثم لا يُخشى بعد هذا ريبُ الزمان. الأحاديث هنا لقاح ضد أي اعتلال عاطفي.<br />
شيء آخر نلحظه في هذه الأبيات الخمسة، وهو هذه الحاءات التي تفرش أرضيتها، نجدها في الصدور كلها وفي الأعجاز، فهل ساهم هذا في خلق توازن إيقاعي متموج في الأبيات؟ نعم. والحاء حرف هادئ ونحسب أنه بانتشاره في الأبيات ساعد على أن يكون وقعها على المتلقي وتقبله إياها حسناً. إن انتشار حرف الحاء. وإن انتشار الأفعال في صورة الماضي منحت الأبيات غير قليل من موسيقاها الداخلية التي ألقت كثيراً من ظلالها على موسيقاها الخارجية فانسابتا هادئتين.<br />
<br />
ثم إن الأبيات تتحرك في فضاء قصصي يقترب كثيراً من الحكاية؛ فالإِشارة العابرة، واللمحة السريعة، والرمز الخفي، والخصائص الدرامية المتمثلة في الحركة المنتشرة في رقعة الأبيات، كل هذه أشياء تعطي طعم الحكاية ونكهتها. وأحسب هذا إحدى بُنى النص أو وحداته التي منحته بساطته اللاذَّة، وعفويته الجميلة المريحة، وأحسب – أيضاً – أن تحرك الأبيات في فضاء كهذا هو مما قادها إلى صيغة الإِخبار؛ إذ الملاحظ أن الفعل الدال على الزمن الماضي هو المستخدم في الأبيات، فالحكاية هنا سردية لا يتردد فيها إلا صوت واحد ولكنه ليس صوت المتكلم وإنما المتكلمين ((نا)) وأحسب هذا – مرة ثالثة – أكسب الأبيات ((شعبيتها)) ومنحها ألفة واقتراباً لدى متلقيها حين لم يلحظ ذاتية متمركزة تخلق تزايلاً من نوع ما. والحكاية (هنا ليست من ذوات الحبكة والتأزم، ومع هذا نجد إحساساً بأن ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) قامت بفعل انفراجي لتأزم نفسي ليس حاداً وليس مَرَضياً، ولا تقوله الأبيات ولكنها توحي به..<br />
<br />
المصادر والمراجع<br />
1 - الأساليب الشعرية. إبراهيم العريض. دار مجلة الأديب 1950م.<br />
2 - الأسلوب. دراسة لغوية إحصائية. د/ سعد مصلوح. دار الفكر العربي ط2 – 1404هـ - 1984م.<br />
3 - الأسلوبية.. والبيان العربي. د. محمد عبدالمنعم خفاجي وآخرون – الدار المصرية اللبنانية. الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م.<br />
4 - أسرار البلاغة. الإِمام عبدالقاهر الجرجاني. دار المعرفة. بيروت – لبنان 1402هـ - 1982م.<br />
5 - أسس النقد الأدبي عند العرب. د. أحمد بدوي. مكتبة نهضة مصر الطبعة الثالثة 1964م.<br />
6 - أصول النقد الأدبي. أحمد الشايب. مكتبة النهضة المصرية – القاهرة الطبعة الخامسة 1374هـ - 1955م.<br />
7 - إعجاز القرآن. لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني. تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف الطبعة الخامسة.<br />
8 - البلاغة والأسلوبية. د/ محمد عبد المطلب. الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1984م.<br />
9 - بناء القصيدة في النقد العربي القديم. د/ يوسف حسين بكار. دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م.<br />
10 - البنيوية في الأدب. روبرت شولز. ترجمة: حنا عبود. اتحاد الكتاب العرب 1984م.<br />
11 - تاريخ النقد الأدبي عند العرب (نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري) د/ إحسان عباس. دار الأمانة – مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى 1391هـ - 1971م.<br />
12 - تاريخ النقد العربي إلى القرن الرابع الهجري جـ1، د/ محمد زغلول سلام. دار المعارف بمصر.<br />
13 - تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر. أبي الوليد بن رشد. تحقيق وتعليق الدكتور محمد سليم سالم. القاهرة 1391هـ - 1971م.<br />
14 - الحيوان جـ3.. لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. تحقيق فوزي عطوي. دار صعب، بيروت – الطبعة الثالثة 1402هـ - 1982م.<br />
15 - الخصائص جـ1. لأبي الفتح عثمان بن جني. دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت - الطبعة الثالثة.<br />
16 - الخصومة بين القديم والجديد في النقد العربي القديم. د/ البسيوني أحمد منصور مكتبة الفلاح الطبعة الأولى 1401هـ - 1983م.<br />
17 - دراسات في النقد العربي. د/ وليد قصاب. دار العلوم للطباعة والنشر – الرياض الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م.<br />
18 - دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى غاية القرن الثالث. د/ بدوي طبانة دار الثقافة – بيروت، الطبعة السادسة 1394هـ - 1974م.<br />
19 - دلائل الإِعجاز. الإِمام عبدالقاهر الجرجاني. دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت – لبنان 1402هـ - 1981م.<br />
20 - ديوان حسان جـ1 ص430 تحقيق د/ وليد عرفات. دار صادر – بيروت 1974م.<br />
21 - الشعر والشعراء جـ1. أبي محمد عبدالله مسلم بن قتيبة تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر 1966م.<br />
22 - الشعر والفنون الجميلة. إبراهيم العريض، دار المعارف بمصر.<br />
23 - شكل القصيدة العربية في النقد العربي حتى القرن الثامن الهجري. د/ جودت فخر الدين، دار الأدب، الطبعة الأولى نوفمبر 1984م.<br />
24 - صبح الأعشى جـ2. أبي العباس أحمد بن علي القلقشندي.<br />
25 - الصورة البلاغية عند عبدالقاهر الجرجاني جـ2. د/ أحمد علي دهمان. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر. الطبعة الأولى 1986م.<br />
26 - العقد الفريد جـ6. الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي. تحقيق د/ عبدالمجيد الترحيني. دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة الأولى 1404هـ - 1983م.<br />
27 - علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته. د/ صلاح فضل. دار الآفاق الجديدة – بيروت. الطبعة الأولى 1405هـ - 1985م.<br />
28 - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده جـ1. لأبي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي. تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد. دار الجبل – بيروت - لبنان الطبعة الرابعة 1972م.<br />
29 - عيار الشعر. محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي. تحقيق د/ طه الحاجري ود/ محمد زغلول سلام المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة 1956م.<br />
30 - كتاب الصناعتين. لأبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري. تحقيق د/ مفيد قميحة. دار الكتب العلمية – بيروت. لبنان جـ2 الطبعة الأولى 1401هـ - 1981م.<br />
31 - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. تحقيق د/ أحمد الحوفي ود/ بدوي طبانة مكتبة نهضة مصر الطبعة الأولى 1379هـ - 1959م.<br />
32 - محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجدة – المجموعة الثالثة. الطبعة الأولى 1407هـ - 1986م.<br />
33 - مراجعات في الأداب والفنون. عباس محمود العقاد. دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة الأولى 1966م.<br />
34 - مشكلة السرقات في النقد العربي. محمد مصطفى هدارة. مكتبة الأنجلو المصرية – 1958م.<br />
35 - من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده. محمد خلف الله. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1947م.<br />
36 - نظرية المعنى في النقد العربي د/ مصطفى ناصف. دار الفكر العربي. الطبعة الثالثة 1959م.<br />
37 - نقد الشعر. لأبي الفرج قدامة بن جعفر. تحقيق وتعليق د/ محمد عبدالمنعم خفاجي. مكتبة الكليات الأزهرية. الطبعة الأولى 1400هـ - 1980م.<br />
38 - النقد المنهجي عند العرب. د/ محمد مندور. دار نهضة مصر – القاهرة.<br />
39 - الوساطة بين المتنبي وخصومه. القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني. تحقيق وشرح محمد أبي الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.<br />
ــــــــــــــــــــــ<br />
[1] المسائح: شعر جوانب الرأس.<br />
[2] الخوص: الابل الغائرة العيون. والمراسيل: المسرعات. والصفاح: جمع صفح، وهو مضطجع الجبل، والصحاصح: جمع صحصح، وهو المكان المستوي الواسع.<br />
[3] المذكور ص64.<br />
[4] السابق ص66.<br />
[5] السابق ص66، 67.<br />
[6] يكاد النقاد العرب القدامى يتفقون على أن المطالع هي أوائل الأبيات وأن المقاطع أواخرها ولمزيد من المعرفة يرجع إلى العمدة لابن رشيق جـ1 ص215 تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد ط4 – 1972م.<br />
[7] يرى هذا – أيضاً – الدكتور إحسان عباس في (تاريخ النقد الأدبي عند العرب)، ص107.<br />
[8] انظر كتاب الصناعتين ص73- 74.<br />
[9] انظر مشكلة السرقات في النقد العربي ص197.<br />
[10] السابق ص197.<br />
[11] السابق، ص197.<br />
[12] في الشواهد والتعليقات عليها يرجع إلى الصفحات: 64، 65، 66، 68 من كتاب الشعر والشعراء. جـ1.<br />
[13] يرجع إلى:<br />
- محمد مندور في (النقد المنهجي عند العرب ص33).<br />
- البسيوطي أحمد منصور في (الخصومة بين القديم والجديد في النقد العربي القديم ص282).<br />
- يوسف حسن بكار في (بناء القصيدة في النقد العربي القديم ص129).<br />
- جودت فخر الدين في (شكل القصيدة العربية في النقد العربي ص85).<br />
[14] الشعر والشعراء جـ1 ص63، 64.<br />
[15] المصدر السابق، ص67.<br />
[16] المصدر السابق، ص67.<br />
[17] الشعر والشعراء، جـ1 ص68.<br />
[18] دراسات في النقد الأدبي، ص54.<br />
[19] العقد الفريد جـ6 ص240.<br />
[20] عيار الشعر/ ص83.<br />
[21] انظر تاريخ النقد العربي جـ1 ص173.<br />
[22] عيار الشعر، ص84.<br />
[23] السابق ص84، 85.<br />
[24] السابق، ص7.<br />
[25] المصدر السابق، ص15.<br />
[26] المصدر السابق، ص12.<br />
[27] يرجع في هذه الشواهد إلى ص: 83، 84، من المرجع السابق.<br />
[28] في هذه الشواهد، يرجع إلى ص88، 89، من المصدر السابق.<br />
[29] السابق، ص17.<br />
[30] السابق ص84، 85.<br />
[31] السابق، ص83.<br />
[32] محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجده – المجموعة الثالثة – 1407هـ/ 1986م. محاضرة أدب ونقد، ص35.<br />
[33] السابق، ص85.<br />
[34] في الشواهد يرجع إلى السابق، ص85.<br />
[35] نقد الشعر، ص74.<br />
[36] انظر السابق، ص77.<br />
[37] السابق، ص65، 66.<br />
[38] انظر السابق ص65- 66.<br />
[39] انظر الصناعتين، ص73.<br />
[40] السابق، ص72.<br />
[41] الحيوان، جـ3، ص444.<br />
[42] الصناعتين، ص82.<br />
[43] انظر السابق، ص72.<br />
[44] انظر السابق، ص75.<br />
[45] السابق، 72.<br />
[46] السابق، ص84.<br />
[47] السابق، ص89.<br />
[48] الألهوب: شدة الجري، والدرة: شدة الدفع، والأخرج: الظليم، والمهذب: المسرع.<br />
[49] السابق، ص89.<br />
[50] المصدر السابق، ص90.<br />
[51] المصدر السابق، ص112.<br />
[52] المصدر السابق، ص112، 113.<br />
[53] الغطامط: الصوت، والهجارس جمع هجرس، وهو القرد والثعلب، وقيل ولده والدب، وقيل: كل ما يعسعس بالليل دون الثعلب وفوق اليربوع. والويار: جمع وبرة، حيوان كالسنور.<br />
[54] الصناعتين، ص135.<br />
[55] الديوان، جـ1، ص430، تحقيق د. وليد عرفات. دار صادر، بيروت، 1974م.<br />
[56] الصناعتين، ص73.<br />
[57] السابق، ص73.<br />
[58] السابق، ص73.<br />
[59] السابق، ص73.<br />
[60] السابق، ص73، 74.<br />
[61] شكري فيصل في ((محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجدة)) المجموعة الثالثة، ص40.<br />
[62] انظر الصناعتين ص69.<br />
[63] إعجاز القرآن ص221.<br />
[64] المصدر السابق، ص222.<br />
[65] ينظر في هذا ((صبح الأعشى))، جـ2، ص210. وما بعدها.<br />
[66] المصدر السابق ص210.<br />
[67] انظر الجزء الأول ص215.<br />
[68] انظر السابق، ص215.<br />
[69] المصدر السابق، ص217.<br />
[70] المصدر السابق، ص217، 218.<br />
[71] السابق، ص218.<br />
[72] السابق، ص218.<br />
[73] أنضيناها: فرغنا منها.<br />
[74] السابق، ص219.<br />
[75] ميعة: يريد قوته. والصليب: الشديد.<br />
[76] السابق والصفحة.<br />
[77] انظر لهذه الشواهد. ص219- 220، من المصدر السابق.<br />
[78] عوذ، مفردها عائذ: الحدثة النتاج. ومطافل، مفردها مطفل: ذات الولد.<br />
[79] نسبها أحدهم إلى الراعي. انظر هامش (3)، ص29، ن المصدر السابق.<br />
[80] هو العباس بن الأحنف.<br />
[81] هو ابن الرومي.<br />
[82] الخصائص، جـ1، ص220.<br />
[83] انظر في هذه النقطة ص28 وما بعدها، من المصدر السابق.<br />
[84] السابق، ص220.<br />
[85] السابق، ص220.<br />
[86] انظر السابق، ص220.<br />
[87] انظر البنيوية في الأدب، ترجمة: حنا عبود، ص167.<br />
[88] المثل السائر، ص69.<br />
[89] السابق، ص69.<br />
[90] السابق، ص20.<br />
[91] السابق، ص69.<br />
[92] دلائل الإعجاز، ص279.<br />
[93] السابق والصفحة.<br />
[94] نستطيع أن نستقرئ من قوله هذا أنه لا يعد الوزن معياراً جوهرياً لشعرية الشعر. ويعزز ما استقرأناه ما جاء في دلائل الاعجاز أيضاً ص20، فقد قال في فصل عقده للكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه، وذم الاشتغال بعمله وتتبعه: ((فإن زعم أنه إنما كره الوزن لأنه سبب لأن يُغنَّى في الشعر ويتلهى به، فإنا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن... فلا متعلق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكر. فيقل في الوزن ما شاء، وليضعه حيث أراد فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه))...<br />
[95] السابق، ص196، 197.<br />
[96] انظر من الوجهة النفسية في دراسة الأدب والنقد، ص77.<br />
[97] انظر مشكلة السرقات في النقد الأدبي، ص1، 2، 2، 2.<br />
[98] انظر دلائل الإعجاز، ص43.<br />
[99] انظر أسرار البلاغة، ص5.<br />
[100] السابق، ص5.<br />
[101] دلائل الإعجاز، ص51.<br />
[102] السابق، ص194.<br />
[103] السابق، ص198.<br />
[104] السابق، ص198.<br />
[105] انظر دلائل الإعجاز، ص38.<br />
[106] يقول: ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر، كلفظ الأخدع في بيت الحماسة:<br />
تلفَّتَّ نحو الحي حتى وجدتني<br />
وجعت من الإِصغاء ليتاً وأخدعا<br />
الليت: صفحة العنق، والأخدعان: عرقان في جانبي العنق قد خفيا) وفي بيت البحتري:<br />
وإني وإن بَلّغتني شرف الغنى<br />
وأعتقت من رق المطامع أخدعي<br />
فإن لها في هذين المكانين مالا يخفى من الحسن. ومن أعجب ذلك لفظة (( الشيء )) فإنك تراها مقبوله حسن في موضع وضعيفة مستكرهة في موضع، وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:<br />
ومن ماليء عينيه من شيء غيره<br />
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمُّى<br />
وإلى قول أبي حية:<br />
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة<br />
تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا<br />
فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول.<br />
[107] دلائل الإِعجاز، ص39، 40.<br />
[108] السابق، ص45.<br />
[109] السابق، ص41.<br />
[110] قضايا النقد الأدبي المعاصر ص325.<br />
[111] دلائل الإعجاز ص43.<br />
[112] انظر السابق، ص40.<br />
[113] انظر السابق، ص378.<br />
[114] السابق، ص194.<br />
[115] السابق، ص198.<br />
[116] شرح هذا في موضع دلائل الاعجاز ص51، فقال: ((لفظ متمكن)) يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه ((ولفظ قلق ناب)) يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه كالحاصل في مكان لا يصلح له فهو لا يستطيع الطمأنينه فيه – إلى سائر ما يجيء صفة في صفة اللفظ مما يعلم أنه مستعار له من معناه، وأنهم نحلوه إياه بسبب مضمونه ومؤاده.<br />
[117] دلائل الإعجاز. ص368.<br />
[118] الصورة الشعرية والنظم والصياغة تعني – فيما يبدو – شيئاً واحداً عند عبدالقاهر، وانظر: دراسات في النقد الأدبي، الحلقة الأولى، ص292، لمحمد عبدالمنعم خفاجي، ط1.<br />
[119] انظر مشكلة السرقات في النقد العربي، ص203.<br />
[120] دلائل الإِعجاز، ص368.<br />
[121] انظر السابق، ص197.<br />
[122] انظر البنيوية في الأدب لروبرت شولز، ترجمة: حنا عبود، ص163، 164.<br />
[123] وصمه ابن عبد ربه – قبل الجرجاني – في العقد الفريد، جـ6، ص238، بسوء النظم والتأليف، ثم شرحه بقوله: ((معناه: ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال:<br />
أبو أمه حي وأبوه يقاربه<br />
فبعد المعنى القريب، ووعر الطريق السهل، وليس المعنى بتوعر اللفظ وقبح البنيه حتى ما يكاد يُفهم)).<br />
[124] أسرار البلاغة، ص15.<br />
[125] السابق، ص15.<br />
[126] أورد منها ثلاثة الأبيات المشهورة، انظر ص16 من أسرار البلاغة.<br />
[127] أسرار البلاغة، ص16.<br />
[128] انظر أسرار البلاغة، ص16.<br />
[129] السابق، ص16.<br />
[130] انظر السابق، ص17.<br />
[131] عيار الشعر، ص84.<br />
[132] السابق، ص17.<br />
[133] السابق، ص17.<br />
[134] انظر الصفحات: 60، 228، 229.<br />
[135] انظر أسرار البلاغة، ص17.<br />
[136] انظر دلائل الإِعجاز، ص60.<br />
[137] انظر السابق، ص229.<br />
[138] انظر السابق، ص60.<br />
[139] انظر أسرار البلاغة، ص17.<br />
[140] السابق، ونفس الصفحة.<br />
[141] السابق، ونفس الصفحة.<br />
[142] انظر السابق، ص18.<br />
[143] <br />
[144] انظر ص35، 39.<br />
[145] تعرضنا للاختلاف في نسبة الأبيات في أول البحث.<br />
[146] الوساطة: ص35، 39.<br />
[147] دلائل الاعجاز، ص70.<br />
[148] تلخيص كتاب أرسطو في الشعر ص149.<br />
[149] السابق، ص150.<br />
[150] السابق، ص151.<br />
[151] استخدم عبدالقاهر لفظة ((الأسلوب)) في موضوع واحد – حسب علمي – من كتابه (دلائل الإِعجاز ص361) ويُعَرِّفه بأنه ((الضرب من النظم والطريقة فيه)) وما يبدو هو أن عبدالقاهر في الجزء الأول من التعريف يُقرِّب مفهوم الأسلوب من مفهوم النظم، ولهذا ربط الدكتور شفيع السيد بينهما وقال في كتابه (الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ص22): ((فالأسلوب إذن عنده (عبدالقاهر) بمعنى النظم، وما يصدق على أحدهما يصدق على الآخر، وكلاهما يحل محل صاحبه، ويتبع ذلك بالضرورة أن ما قاله عبدالقاهر بشأن ((النظم)) التي آثرها في الاستخدام)) هذا ما يراه الدكتور شفيع وما يوحي به الجزء الأول من تعريف عبدالقاهر للأسلوب لكن الجزء الثاني من التعريف بعد الأسلوب هو الطريقة التي توصل إلى النظم بوصفه الصورة النهائية للنص المبدع. وسواء فهمنا الأسلوب – هنا – على أنه النظم أو طريقته – فلن يؤثر هذا على ما يبدو أنه معالم أسلوبية في نقد عبدالقاهر.<br />
[152] انظر الخصائص، جـ1 ص220.<br />
[153] انظر البلاغة والأسلوبية، ص49. وفي بعض ما أشرت إليه من سمات أسلوبية استفدت – أيضاً – من:<br />
- الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي/ شفيع السيد.<br />
- الأسلوبية.. والبيان العربي/ محمد عبدالمنعم خفاجي وآخرون.<br />
- علم الأسلوب/ صلح فضل.<br />
[154] يُرجع إلى آخر المبحث الخاص به رقم (4).<br />
[155] انظر ص124، من المرجع المذكور.<br />
[156] انظر السابق، ص195.<br />
[157] السابق، ص195.<br />
[158] السابق، ص229.<br />
[159] انظر السابق، ص229.<br />
[160] السابق، ص195.<br />
[161] السابق، ص229.<br />
[162] ص33، 34، من المرجع المذكور.<br />
[163] انظر السابق، ص34.<br />
[164] المرجع المذكور ص43.<br />
[165] انظر السابق، ص43.<br />
[166] انظر السابق، ص44.<br />
[167] انظر السابق، ص33.<br />
[168] انظر السابق، ص5.<br />
[169] الأساليب الشعرية، ص21.<br />
[170] السابق، ص21.<br />
[171] السابق، ص21.<br />
[172] السابق، ص21.<br />
[173] السابق، ص21.<br />
[174] الشعر والفنون الجميلة، ص10، 11.<br />
[175] السابق، ص11.<br />
[176] انظر السابق، ص11.<br />
[177] المرجع المذكور، ص221.<br />
[178] السابق، ص222، 223.<br />
[179] السابق، ص224، 225.<br />
[180] مراجعات في الآداب والفنون ص77.<br />
[181] انظر السابق، ص78.<br />
[182] السابق، ص79.<br />
[183] السابق، ص79، 80.<br />
[184] السابق، ص81.<br />
[185] المرجع المذكور ص370.<br />
[186] انظر المرجع نفسه ص370.<br />
[187] المرجع نفسه ص370.<br />
[188] انظر المرجع المذكور، ص95.<br />
[189] السابق، ص96.<br />
[190] السابق، ص86.<br />
[191] يقصد فكرة فهم الاستعارة على أساس المقارنة والمشابهة أو التناسب بين الأطراف.<br />
[192] نظرية المعنى في النقد العربي، ص86.<br />
[193] السابق، ص97.<br />
[194] المرجع المذكور، ص696، جـ2.<br />
[195] يرجع إلى محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجدة ((المجموعة الثالثة))، ص7، والمحاضرة بعنوان ((أدب ونقد)).<br />
[196] السابق، ص13.<br />
[197] السابق، ص20.<br />
[198] السابق، ص54، 55.<br />
[199] السابق، ص40.<br />
[200] انظر السابق، ص39.<br />
[201] سبق ذكرها في المقدمة.<br />
[202] الأسلوب. دراسة لغوية إحصائية. ص60.<br />
<br />
<br />
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/399/#ixzz3mb8JlBrx</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com4tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-73856222292261257212015-08-22T11:50:00.001-07:002015-08-22T11:50:30.514-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<header class="cartouche" style="background-color: white; color: #333333; font-family: Georgia, Cambria, 'Times New Roman', Times, serif; font-size: 14px; font-weight: 600; line-height: 20.00200080871582px; margin-bottom: 1.42857143em; text-align: justify;"><h1 style="color: inherit; font-weight: 400; line-height: 1.42857143em; margin: 0px 0px 0.71428571em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
<span class="">تطور النثر العربي</span> <small class="soustitre" style="color: #999999; display: inline-block; font-size: 0.65em; line-height: 1;"></small></h1>
<div class="publication" style="margin-bottom: 1.42857143em; margin-top: -1.42857143em; opacity: 0.8;">
<time datetime="2009-05-22T06:19:59Z" pubdate="pubdate"><i class="icon-calendar" style="background-image: url(http://www.diwanalarab.com/plugins/auto/bootstrap/v2.1.7/bootstrap/img/glyphicons-halflings.png); background-position: -192px -120px; background-repeat: no-repeat no-repeat; display: inline-block; height: 14px; line-height: 14px; margin-top: 1px; overflow: hidden; text-indent: 100px; vertical-align: text-top; width: 14px;"></i> الجمعة ٢٢ أيار (مايو) ٢٠٠٩</time><span class="authors"><span class="sep">، </span><i class="icon-user" style="background-image: url(http://www.diwanalarab.com/plugins/auto/bootstrap/v2.1.7/bootstrap/img/glyphicons-halflings.png); background-position: -168px 0px; background-repeat: no-repeat no-repeat; display: inline-block; height: 14px; line-height: 14px; margin-top: 1px; overflow: hidden; text-indent: 100px; vertical-align: text-top; width: 14px;"></i> بقلم <span class="vcard author"><a class="url fn spip_in" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=auteur&id_auteur=1663" style="color: #990000; text-decoration: none;">رضوان باغباني</a></span></span></div>
<div class="postmeta">
<span class="comments"><a href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#comments" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="3 تعليق"><i class="icon-comment" style="background-image: url(http://www.diwanalarab.com/plugins/auto/bootstrap/v2.1.7/bootstrap/img/glyphicons-halflings.png); background-position: -240px -120px; background-repeat: no-repeat no-repeat; display: inline-block; height: 14px; line-height: 14px; margin-top: 1px; overflow: hidden; text-indent: 100px; vertical-align: text-top; width: 14px;"></i> ٣</a></span></div>
</header><div class="main" style="background-color: white; color: #333333; font-family: Georgia, Cambria, 'Times New Roman', Times, serif; font-size: 14px; font-weight: 600; line-height: 20.00200080871582px; margin-top: 0.5em; text-align: justify;">
<div class="texte surlignable">
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
النثر لغة:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
يقول صاحب اللسان: «النثر نَثرُكَ الشيءَ بيدك ترمي به متفرقا مثل نثر الجوز واللوز والسکر وکذلك نثر الحبّ إذا بُذر».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb1" id="nh1" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="لسان العرب: ابن منظور، دارإحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1992م، مادة (...)">1</a>]</span> فالمعنی اللغوي يعني الشيء المبعثر (المتفرق) الذي لايقوم علی أساس في تفرقه وبعثرته، أي: لا يقوم علی أساس من حيث الکيف والکم والاتساع.</div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
النثر اصطلاحاً:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
هو الکلام الذي ليس فيه الوزن ويعتمد علی الحقائق. بتعبير آخر: النثر هو کلام المقفي بالأسجاع.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
النثر أدب إنساني، «وهو علی ضربين: أما الضرب الأول فهو النثر العادي الذي يقال في لغة التخاطب، وليست لهذا الضرب قيمة أدبية إلا ما يجري فيه أحيانا من أمثال وحکم، وأما الضرب الثاني فهو النثر الذي يرتفع فيه أصحابه إلی لغة فيها فن ومهارة وبلاغة، وهذا الضرب هو الذي يعنی النقاد في اللغات المختلفة ببحثه ودرسه وبيان ما مر به من أحداث وأطوار، ومايمتاز به في کل طور من صفات وخصائص، وهو يتفرع إلی جدولين کبيرين، هما الخطابة والکتابة الفنية ـ ويسميها بعض الباحثين باسم النثر الفني ـ وهي تشمل القصص المکتوب کما تشمل الرسائل الأدبية المحبرة، وقد تتسع فتشمل الکتابة التاريخية المنمقة».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb2" id="nh2" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الفن ومذاهبه في النثر العربي: شوقي ضيف، دارالمعارف، القاهرة، ط 12، لاتا، ص: (...)">2</a>]</span></div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
نشأة النثر الفني:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
يجد الباحث عنتا کبيرا حينما يحاول تحديد الوقت الذي نشأ فيه النثر الفني في اللغة العربية. إذ أن الباحثين الذين تصدوا لدراسة الأدب الجاهلي قد اضطربوا في تقدير الوجود الأدبي لعرب الجاهلية وبخاصة فيها يتعلق بالنثر، ولم يستطيعوا علی الرغم من جهودهم ودراساتهم أن يصلوا في ذلك الموضوع إلی نتيجة ثابتة أو رأي موحد يمکن الاطمئنان إليه.أما هذه الآثار النثرية المختلفة التي تنسب إلی الجاهليين، فيکاد مؤرخو الأدب يتفقون علی عدم صحة شيء منها، والسبب في عدم الثقة بهذه النصوص هو أن وسائل التدوين لم تکن ميسرة في العصر الجاهلي.</div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
الآراء حول نشأة النثر الفني في العصر الجاهلي:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
يؤکد الدکتور زکي مبارك أنه قد کان للعرب في الجاهلية نثر فني له خصائصه وقيمته الأدبية، وأن الجاهليين لابد وأن يکونوا قد بلغوا في ذلك المضمار شأوا بعيدا لايقل عما وصل إليه الفرس واليونان في ذلك الوقت، بل أنهم في إنتاجهم الأدبي في النثر لم يکونوا متأثرين تأثراً کبيرا بدولة أخری مجاورة أو غير مجاورة، وإنما کانت لهم في کثير من الأحيان أصالتهم وذاتيتهم واستقلالهم الأدبي الذي تقتضيه بيئتهم المستقلة، وحياتهم التي کانت أقرب إلی الانعزال. وإذا کانت الظروف المختلفة لم تساعد علی بقاء هذا التراث من النثر الجاهلي، فليس معنی ذلك أن نهدره ونحکم بعدم وجوده، وإنما يجب أن نلتمسه في مصادر أخری. ونحن إن فعلنا هذا فسوف نجد بين أيدينا حجة لاتنکر، ودليلا لا يجحد علی أن ثمة نثرا جاهليا، ألا وهو القرآن الکريم. فإذا کنا نؤمن بأن هذا القرآن قد نزل لهداية هؤلاء الجاهليين، وإرشادهم، وتنظيم حياتهم في نواحيها المختلفة من دينية، وأخلاقية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وأنه کان يخاطبهم وهم بطبيعة الحال لايخاطبون إلا بأسلوب الذي يفهمونه ويتذوقونه، وأنه کان يتحداهم في محاکاته، والإتيان بسورة من مثله ولا يسوغ في العقل أن يکون هذا التحدي إلا لقوم قد بلغوا درجة ما من بلاغة القول، وفصاحة اللسان تجعلهم أهلا لهذا التحدي حتی يصدق معناه، إذا کان هذا کله، وأن القرآن الکريم قد نزل بلغة العرب وعلی لسان واحد منهم ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ تأکد لنا أن العرب الجاهليين قد عرفوا النثر الفني، وأن القرآن يمکن أن يعطينا صورة ـ ولو تقريبية ـ عن شکل هذا النثر، ومنهجه، وحالته التي کان عليها.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb3" id="nh3" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="النثر الفني في القرن الرابع الهجري: د. زکي مبارك، المکتبة العصرية، بيروت، لاط، لاتا، (...)">3</a>]</span><br class="autobr" />وکذلك يعتقد الدکتور محمد عبدالمنعم خفاجي بوجود النثر الفني في الجاهلية.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb4" id="nh4" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الأدب العربي بين الجاهلية والاسلام: د.محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالتأليف، القاهرة، ط 1، (...)">4</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
ويری الدکتور طه حسين بأن النشر الفني بمعنی أنه تعبير جميل رصين محکم يستدعي الرؤية والتفکير والإعداد، لايتصور أن يکون موجودا في العصر الجاهلي؛ إذ أن هذا اللون من النثر إنما يلائم نوعا من الحياة لم يکن قد تهيأ للعرب إذ ذاك. فهذه الحياة الأولية الفطرية السهلة التي کان يحياها العرب قبل الإسلام لم تکن تسمح بقيام هذا اللون من الکتابة الفنية التي تستدعي بطبيعتها الرؤية، والتفکير، ووجود جماعة إنسانية منظمة تسودها أوضاع سياسية واجتماعية معقدة. وهذا النثر المنسوب إلی الجاهليين ليس إلا شيئا منحولا مدسوسا عليهم. حيث إنه علی هذا النحو الذي روي به لايکاد يمثل الحياة الجاهلية تمثيلا کاملا. فهذه الخطب، والوصايا، والسجع، والکلام الذي ينسب لقس بن ساعدة، وأکثم بن صيفي، وغيرهما يکفي أن ننظر إليه نظرة واحدة لنرده بأجمعه إلی العصور الإسلامية التي انتحلت فيها کل هذه الأشياء؛ لنفس الأسباب التي انتحل الشعر من أجلها وأضيف إلی الجاهليين.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb5" id="nh5" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="في الأدب الجاهلي: د. طه حسين، مطبعة فاروق، القاهرة، لاط، 1933م، ص: 369؛ ومن حديث الشعر (...)">5</a>]</span><br class="autobr" />ويتحدث شوقي ضيف عن نشأة النثر الفني في الأدب العربي بقوله «نحن لانغلو هذا الغلو الذي جعل بعض المعاصرين يذهب إلی أن العرب عرفوا الکتابة الفنية أو النثر الفني منذ العصر الجاهلي، فما تحت أيدينا من وثائق ونصوص حسية لا يؤيد ذلك إلا إذا اعتمدنا علی الفرض والظن، والحق أن ما تحت أيدينا من النصوص الوثيقة يجعلنا نقف في مرحلة وسطی بين الرأيين، فلا نتأخر بنشأة الکتابة الفنية عند العرب إلی العصر الجاهلي، بل نضعها في مکانها الصحيح الذي تؤيده المستندات والوثائق، وهو العصر الإسلامي».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb6" id="nh6" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 104">6</a>]</span></div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
النثر في العصر الإسلامي:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
النثر الفني في عهد النبوة، لم يکد يختلف اختلافا جوهريا عن النثر الجاهلي. «دخل النثر العربي في طور جديد بظهور الإسلام، بعد أن تعرضت الحياة الأدبية لانقلاب شامل وتطور بعيد المدی. ولم يکن ثمة بد من أن يتأثر الأدب بالحياة الجديدة وأن يکون صدی لأحداثها واتجاهاتها. وکانت مظاهر التطور في النثر أوضح منها في الشعر، لأن الشعر فن تقليدي يترسم فيه الشاعر خطا سابقيه، ويلتزم أصولا محددة، ولذلك يکون أبطأ من النثر استجابة لدواعي التطور».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb7" id="nh7" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="مواکب الأدب العربي عبرالعصور: د. عمر الدقاق، طلاس، دمشق، ط 1، 1988، ص: (...)">7</a>]</span><br class="autobr" />أما أغراض النثر ومعانيه، فإنها بلا شك قد تغيرت تغيرا محسوسا بظهور الإسلام، و «تلوّن النثر في هذا العهد بجميع ألوان الحياة الجديدة فکان خطابة، وکتابة، ورسائل وعهودا، وقصصا، ومناظرات، وتوقيعات، وکان علي کل حال أدبا مطبوعا. وامتاز النثر في هذا العهد بالإيجاز علی سنة الطبيعة العربية الأصيلة».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb8" id="nh8" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الجامع في تاريخ الأدب العربي (الأدب القديم): حنا الفاخوري، منشورات ذوي القربی، قم، ط (...)">8</a>]</span></div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
النثر في العصر الأموي:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
کانت الکتابة ضرورة إدارية ملحة لا غنی عنها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، في المکاتبات والدواوين المختلفة. کما کانت ضرورة اجتماعية لا غنی عنها في المعاملات. وکانت کذلك ضرورة علمية لا غنی عنها في الحرکة العلمية التي ازدهرت في العصر الأموي وتعاظمت في أواخره. ونتيجة لذلك کله توسع انتشار الخط واستعمال الکتابة، إبان ذلك العصر، توسعا عظيما، نظراً لإقبال الناس علی طلبه.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
يقول الدکتور شوقي ضيف: «أن الکتابة نمت في العصر الأموي نموا واسعا، فقد عرف العرب فکرة الکتاب وأنه صحف يجمع بعضها إلی بعض في موضوع من الموضوعات، وقد ألفوا فعلا کتبا کثيرة».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb9" id="nh9" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 100">9</a>]</span><br class="autobr" />وقد کانت لمن يعرف الکتابة مکانة رفيعة عند الناس، إذ کانوا يعرفون له قدرة، وکان سعيد بن العاص يردد دائماً قوله: «من لم يکتب فيمينه يسری».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb10" id="nh10" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="صبح الأعشی في صناعة الإنشاء: أبوالعباس أحمد بن علي القلقشندي، وزارة الثقافة والإرشاد (...)">10</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
لعل من أهم الأسباب التي هيأت لرقي الکتابة الفنية في هذا العصر تعريب الدواوين في البلاد المختلفة.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb11" id="nh11" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="النثر الفني وأثر الجاحظ فيه: عبدالحکيم بلبع، مکتبة الأنجلو المصرية، لاط، لاتا، (...)">11</a>]</span>، وتعقد الحياة السياسية، وکثرة الأحزاب والمذاهب.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb12" id="nh12" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="المصدر نفسه، ص: 125">12</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
«وقد تجلت بواکير الکتابة في أواخر العصر الأموي بفضل موهبة عبدالحميد بن يحيی الکاتب».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb13" id="nh13" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="مواکب الأدب العربي عبرالعصور، ص: 118">13</a>]</span> ولقد أجمع النقاد والمؤرخون في القديم والحديث علی أن عبدالحميد إمام طور جديد في الکتابة العربية، وأنه هو الذي وضع الأساس لهذا المنهج الکتابي الذي اقتفاه الکتاب من بعده، وهو «أبلغ کتاب الدواوين في العصر الأموي وأشهرهم، وقد ضربت ببلاغته الأمثال».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb14" id="nh14" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 114">14</a>]</span>، و«کان عبدالحميد أول من فتق أکمام البلاغة وسهل طرقها وفك رقاب الشعر».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb15" id="nh15" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="العقد الفريد: ابن عبد ربه، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، لاط، 1942 م (...)">15</a>]</span><br class="autobr" />وقال ابن النديم: «عنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb16" id="nh16" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الفهرست: ابن النديم، دارالمعرفة، بيروت، لاط، لاتا، ص: 170">16</a>]</span><br class="autobr" />إذن لقد تواترت آراء المؤرخين والأدباء منذ القرن الثالث الهجري علی أن الرجل ذو مکانة ملحوظة في تاريخ النثر العربي، وأنه ذو أثر عميق في تطور الکتابة الفنية، وأنه قد سن طريقة جديدة سار علی نهجها من جاء بعده من الکتاب.</div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
النثر في العصر العباسي:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
زخر العصر العباسي بالأحداث التاريخية، والتقلبات السياسية، کما زخر بالتطورات الاجتماعية التي نقلت العرب من حال إلی حال، وقد کان لکل هذا، فضلا عن نضج العقول بالثقافة، أثر واضح في تطوير الأدب بعامة، والکتابة بصفة خاصة. لقد تقدمت الکتابة الفنية في هذا العصر تقدما محسوسا؛ وسارت شوطا بعيدا في سبيل القوة والعمق والاتساع.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
و«أصبح النثر العربي في العصر العباسي متعدد الفروع، فهناك النثر العلمي والنثر الفلسفي والنثر التاريخي، والنثر الأدبي الخالص، وکان في بعض صوره امتدادا للقديم؛ وکان في بعضها الآخر مبتکرا لا عهد للعرب به».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb17" id="nh17" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 125">17</a>]</span><br class="autobr" />وکان تشجيع الخلفاء والوزراء والرؤساء للأدب وللکتاب باعثا علی النهوض بالکتابة، داعيا إلی ارتفاع شأنها، وسمو منزلتها، ثم کان التنافس القوي بين الأدباء وتسابقهم إلی خدمة الخلفاء والرؤساء حافزا علی تجويدها والتأنق في أساليبها.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb18" id="nh18" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي: د. محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالجيل، (...)">18</a>]</span><br class="autobr" />«إن الکتابة کانت جواز عبور إلی الوزارة وبعض الوظائف المرموقة في مرافق الدولة لذلك کان علی الراغبين في الوصول إلی هذه المناصب العليا إتقان صناعة الکتابة حتی يحققوا أهدافهم التي کانوا يطمحون إليها».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb19" id="nh19" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="أعلام في النثر العباسي: د. حسين الحاج حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، (...)">19</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
والأغراض التی عبر عنها النثر الفني في هذا العصر قد اختلفت و«بعد أن کان النثر الأموي خطابته وکتابته منصرفا بوجه عام إلی أغراض سياسية وحزبية، ولم يتجه إلی الأغراض الأخری إلا في صورة ضئيلة، فانه في العصر العباسي قد اتجه إلی کثير من الأغراض والموضوعات الشخصية والاجتماعية والانسانية؛ کالمدح والهجاء والرثاء والاعتذار والتهنئة والتعزية والاستعطاف، والوصف والنسيب والفکاهة والنصح».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb20" id="nh20" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="النثر الفني وأثر الجاحظ فيه، ص: 148">20</a>]</span><br class="autobr" />ونستطيع القول بأن النثر خطا خطوة واسعة؛ فهو لم يتطور من حيث موضوعاته وأغراضه فقط؛ بل إن معانيه قد اتسعت وأفکاره قد عمقت، وأخيلته قد شحذت؛ لأن مشاهد الحياة ومقوماتها العامة قد تغيرت.</div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
مظاهر نهضة النثر في العصر العباسي:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
1ـ تنوع فنونه وأغراضه: فقد تناول کل مجالات الحياة واستخدمته الدولة في الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
2ـ وصول الکتاب إلی المناصب الوزارية.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
3ـ أنه أصبح وعاء لثقافات جديدة، کانت نتيجة لامتزاج الفکر العربي بأفکار الأمم الأخری.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
4ـ رقي الأفکار وعمق المعاني.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
5ـ التفنن في أساليبه وظهور مدارس متنوعة.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb21" id="nh21" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الأدب والنصوص: سيد سعيد غزلان وآخرون، لانا، لاط، لاتا،ج:2، ص:178">21</a>]</span></div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
أسباب نهضة النثر في العصر العباسي:</h3>
<ol class="spip" style="margin: 0px 50px 1.42857143em 0px; padding: 0px;">
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">استقرار الأمور في الدولة واتساع العمران، وما يتبع ذلك من رخاء.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">النضج العقلي وظهور آثار التقدم الفکري في الدولة.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">ظهور أجيال جديدة من المثقفين من أبناء الأمم المستعربة الذين جمعوا إلی الثقافة العربية الأصيلة فنونا جديدة من ثقافات آبائهم الفرس، الهنود و اليونان.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">تشجيع الخلفاء والأمراء للکتاب وإغداق الأموال عليهم.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">وصول الکتاب إلی المناصب الکبيرة جعل الکتابة مطمح کل راغب في الجاه والسلطان.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">التنافس بين الکتاب في سبيل الإجادة الفنية.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">کثرة المذاهب الکلامية وحاجة کل مذهب إلی التأييد وشرح مبادئه.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb22" id="nh22" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="المصدر نفسه،ج:2، ص: 178ـ179">22</a>]</span></li>
</ol>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
النثر الحديث:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
«في النصف الأول من القرن التاسع عشر، کان النثر في هذه الفترة رکيك الأسلوب يعتمد علی المحسنات البديعية، مسيطرا عليه طريقة القاضي الفاضل علی أساليب کتاب عصره و نهج نهجه، فبدت علی أساليب هؤلاء مظاهر التکلف فأسرفوا في المحاکاة وأوغلوا في الصنعة، وتعمد تصيد الألفاظ والأساليب ذات البريق واللمعان».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb23" id="nh23" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="المقال وفنونه عند الشيخ علی يوسف: طاهر عبداللطيف عوض، مکتبة الکليات الأزهرية، القاهرة، (...)">23</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
في بدايات النثر الأدبي الحديث «کانت القرائح حبيسة الأغراض الضيقة والمعاني التافهة، وقلّما کانت تتجاوز الرسائل الاخوانية، من تهنئة بمولود، أو تعزية بفقيد، أو معاتبة لصديق، وقلّما تعدی موضوع النثر هذه الحدود الضيقة ليلامس اهتمام الناس ويعالج شؤون المجتمع».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb24" id="nh24" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="مواکب الأدب العربي عبرالعصور، ص: 249">24</a>]</span><br class="autobr" />«انطلق الفکر الحديث ناشطا و راح يرود آفاقا أرحب تتصل بالواقع وبالمجتمع، نتيجة انتشار أنوار النهضة في أرجاء المشرق العربي. وبدأت الأساليب تتحرر في بعض جوانبها من قيود التصنع اللفظي. غير أن فئة من الناثرين ظلت علی تعلقها بالعبارات المنمقة، وراحت تجد فيها نمطا أدبيا متميزا لا يحسن التفريط به. ومن هذا المنطلق ساغ للشيخ ناصيف اليازجي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر فن المقامات؛ فدأب علی إحيائه، وجهد في النسج علی منواله... وفي الوقت نفسه کان ثمة ناثرون رواد ومؤلفون کبار أخذوا يراوحون بين النثر المقيد والنثر المرسل، ترفدهم في الحالين موهبة فذة، وفي مقدمة هؤلاء أحمد فارس الشدياق، أحد أرکان النهضة الفکرية، ورائد الصحافة الأدبية».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb25" id="nh25" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="المصدر نفسه، ص: 250ـ 251">25</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
ويمکن القول بأن اتصال الشرق العربي بالغرب ظل قاصرا في أول الأمر علی النواحي العلمية والفنية التطبيقية. أما النواحي الأدبية فظل فيها الاتصال معدوما. وطبيعي ألا تنهض اللغة وتظل علی عهودها السابقة جامدة راکدة مثقلة بالسجع والمحسنات البديعية».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb26" id="nh26" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الأدب العربي المعاصر في مصر: شوقي ضيف، دارالمعارف، القاهرة، ط 7، لاتا، ص: 170ـ (...)">26</a>]</span><br class="autobr" />واشتد احتکاك الشرق العربي بالغرب في منتصف القرن التاسع عشر و «أرسلت طائفة من الشباب المصري إلی أوربا وعلی رأسها رفاعة الطهطاوي «الذي تعلم في الأزهر وتخرج فيه، و رافق البعثة الکبری الأولی لمحمد علي إماما لها. ولم يکتف بعمله، بل أقبل علی تعلم اللغة الفرنسية، حتی أتقنها. وفي أثناء إقامته بباريس أخذ يصف الحياة الفرنسية من جميع نواحيها المادية والاجتماعية والسياسية في کتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». وعاد إلی مصر فاشتغل بالترجمة وعيِّن مديرا لمدرسة الألسن، وأخذ يترجم مع تلاميذه آثارا مختلفة من اللغة الفرنسية. وکان ذلك بدء النهضة الأدبية المصرية، ولکنه کان بدعا مضطربا، فإن رفاعة وتلاميذه لم يتحرروا من السجع والبديع، بل ظلوا يکتبون بهما المعاني الأدبية الأوربية. ومن الغريب أنهم کانوا يقرءونها في لغة سهلة يسيرة، ثم ينقلونها إلی هذه اللغة الصعبة العسيرة المملوءة بضروب التکلف الشديد، فتصبح شيئا مبهما لايکاد يفهم إلا بمشقة».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb27" id="nh27" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="المصدر نفسه، ص: 171">27</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
«هناك ظاهرة جديرة بالتسجيل تتعلق بالأدب في تلك الحقبة، وهي الالتفات من بعض الکتاب إلی موضوع الوطن والوطنية، بالمفهوم الحديث تقريبا؛ فقد کان الوطن من قبل ذائبا في جملة العالم الإسلامي أو دولة الخلافة، وليس له دلالة خاصة، وبالتالي ليس هناك کتابات تدور حوله وتتغنی به. أما الآن ومع کتابات رفاعة الطهطاوي بصفة خاصة، فنحن نجد فکرة الوطن تبرز، والتغني به يبدأ، حتی ليمکن أن يعتبر ما کان من ذلك حجر الأساس في الأدب المصري القومي في العصر الحديث. وهکذا نری أن رفاعة الطهطاوي يعتبر واضع بذور التجديد في الأدب المصري الحديث، فأدبه يمثل دور الانتقال من النماذج المتحجرة التي تحمل غالباً عفن العصر الترکي إلی النماذج المجددة التي تحمل نسمات العصر الحديث».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb28" id="nh28" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="تطور الأدب الحديث في مصر: أحمد هيکل، دارالمعارف، القاهرة، ط 6، 1994م، ص: 41ـ (...)">28</a>]</span><br class="autobr" />«وکان لازدهار النثر الفني عوامل کثيرة من بينها: العناية بدراسة اللغة العربية وآدابها في الأزهر والمدارس والمعاهد والجامعات، وإحياء مصادر الأدب العربي القديم وطبع أحسن مؤلفات الأدباء المعاصرين، وظهور المجلات الأدبية، وعناية الصحف اليومية بالأدب، وإنشاء دارالکتب المصرية، وکثرة ما ترجم من آداب الغرب إلی العربية، وتعدد الثورات الشعبية، التي احتاجت للخطابة، وقيام الصحف مما دعا إلی نهضة الکتابة».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb29" id="nh29" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="دراسات في الأدب العربي الحديث و مدارسه: محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالجيل، بيروت، ط 1، (...)">29</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
تطور النثر بعد الحرب العالمية الأولی، وظهر الاتجاه الأدبي الذي يدعو أصحابه إلی الأسلوب الفصيح الرصين الجزل، حتی يکون لأدبهم موقع حسن في الأسماع والقلوب، فهم يحرصون علی الإعراب وعلی الألفاظ الصحيحة. وکانوا في إطار تجديد، لا يخرجون عن أصول العربية، ويقوم هذا الاتجاه علی التحول والتطور في اللغة العربية علی نحوما تحولت وتطورت الآداب الأوربية، دون قطع صلتها بالقديم، ومن أصحابه في مصر، طه حسين، هيکل والعقاد. وهذه النزعة المجددة کانت إحياء للقديم وبعثا وتنمية في صور جديدة، ويعتمد علی عنصرين متکافئين وهما المحافظة علی إحياء القديم والإفادة من الآداب الغربية.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb30" id="nh30" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الأدب العربي المعاصر في مصر، ص: 192 ـ 193">30</a>]</span><br class="autobr" />وقد ظهرت، في أواخر القرن التاسع عشر، أربع طوائف في النثر وهي: طائفة الأزهريين المحافظين، وطائفة المجددين المعتدلين الذين يريدون أن يعبرو بالعربية دون استخدام سجع وبديع، وطائفة المفرطين في التجديد الذين يدعون إلی استخدام اللغة العامية، ثم طائفة الشاميين، التي کانت في صف الطائفة الثانية، واشتدت المعارك بين الطائفة الأولی والطوائف الأخری، حتی انتصرت طائفة المجددين المعتدلين، فعدل الکتاب إلی التعبير بعبارة عربية صحيحة لا تعتمد علی زينة من سجع وبديع، بل يعتمد علی المعاني ودقتها.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb31" id="nh31" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 392">31</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
وکان محمد عبده علی رأس طائفة المجددين المعتدلين. وهو الذي أخرج الکتابة الصحفية من دائرة السجع والبديع إلی دائرة الأسلوب الحر السليم. وکوّن لنفسه أسلوبا قويا جزلا، ومرّنه علی تحمل المعاني السياسية والاجتماعية الجديدة والأفکار العالية، ومعنی ذلك أنه طور النثر العربي من حيث الشکل والموضوع.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb32" id="nh32" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الأدب العربي المعاصر في مصر، ص: 227">32</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
ثم جاء تلميذه لطفي المنفلوطي فقطع بهذا النثر شوطا کبيرا بکتبه ومقالاته، فأنشأ أسلوبا نقيا خالصا ليس فيه شيء من العامية ولا من أساليب السجع الملتوية إلا ما يأتي عفواً، ولم يقلد في ذلك کاتبا قديما مثل ابن المقفع والجاحظ بل حاول أن يکون له أسلوبه الخاص، فأصبح النثر متحررا من کل أشکال قيود السجع والبديع، وبذا يعد المنفطوطي رائد النثر الحديث.<br class="autobr" />وکانت الشهرة التي حظي بها المنفلوطي، تعزی إلی أسلوبه أکثر مما تعزی إلی مضمون مقالاته. وهو أدرك الحاجة إلی تغيير أساليب اللغة العربية، وکثيرا ما عبّر عن اعتقاده بأنّ سرّ الأسلوب کامن في تصوير الکاتب تصويرا صادقا لما يدور في عقله من أفکار.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb33" id="nh33" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="دراسات في الأدب العربي: هاملتون جيب، المرکز العربي للکتاب، دمشق، لاط، لاتا، ص: (...)">33</a>]</span></div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
دور الصحافة والطباعة في تطور النثر:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
کانت للصحافة تأثير کبير في حرکة التطور. ولئن کانت في المرحلة الأولی وسيلة السلطة فحسب، فقد غدت، فيما بعد، محرضا وباعثا علی النهضة والتطور. وقد کانت تضم مقالات أدبية أو اجتماعية أو علمية، يفيد منها القراء. وأول من فکر في إنشاء صحيفة، نابليون، الذي أمر بإصدار ثلاث صحف، اثنتين بالفرنسية وواحدة بالعربية. ثم أنشأ محمد علي باشا جريدة رسمية باسم السلطة.<br class="autobr" />وللسوريين واللبنانيين سهم کبير في إصدار عدد ضخم من الصحف والمجلات کالأهرام والمقتطف والمقطم والهلال.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb34" id="nh34" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الرائد في الأدب العربي: إنعام الجندي، دارالرائد العربي، بيروت، ط 2، 1986م، ج:2، ص: (...)">34</a>]</span><br class="autobr" />وکانت الصحافة هي التي عادت بالکتابة الأدبية إلی أصالتها من حيث کونها خلصتها من التصنع والزخرف ورجعت بها إلی الوضوح ودقة التعبير وطوعتها من جديد للتعبير السمح عن خطرات التفکير ومشاعر الوجدان.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb35" id="nh35" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الصراع بين القديم و الجديد في الأدب العربي الحديث: محمد الکتابي، دارالثقافة، ط 1، (...)">35</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
«ففي حقل الصحافة استطاعت الصحف الاسلامية والوطنية أن تصل إلی طبقات کاملة من القراء».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb36" id="nh36" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="دراسات في الأدب العربي، ص: 51">36</a>]</span><br class="autobr" />وازدهار الصحافة کان نتيجة نمو الحرکات السياسية والاصلاحية واستعلاء الوعي القومي من ناحية والوعي الديني من ناحية أخری. فأصبحت الصحف منابر لتلك الحرکات والمنظمات التي تمثل مختلف الدعوات والمواقف الايديولوجية. وکان القصد عند هؤلاء وأولئك التأثير في الرأي العام والتعبير عن قضاياه. وبذلك يکون ظهور فن المقالة نتيجة من نتائج هذه العوامل کلها، من ظهور الصحافة، وظهور الرأي العام، وظهور الحرکات السياسية والاصلاحية. فعاد الأدب إلی الحياة مرة أخری يعبر عن قضاياه ومنازعها.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
«وقد کان لمحمد عبده أثر کبير في نهضة الصحافة في أواخر القرن التاسع عشر، وهو الذي تولی العمل في الوقائع المصرية».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb37" id="nh37" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="دراسات في الأدب العربي الحديث و مدارسه، ص: 311">37</a>]</span><br class="autobr" />وکان للطباعة أيضاً أثر کبير في تطور النثر و «ما کان للنهضة أن تحدث لولا الطباعة، فهي وسيلة النشر الأولی، في عصر يتسم بالتطور السريع، والحاجة إلی الکتاب والصحيفة والمجلة».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb38" id="nh38" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الرائد في الأدب العربي، ج:2، ص: 245">38</a>]</span><br class="autobr" />«کان لازدياد المطابع، والرغبة الأکيدة في طلب المعرفة أن زادت حرکة إحياء التراث العربي، فطبعت أمهات الکتب العربية: الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني، و العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسی ...».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb39" id="nh39" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="النصوص الأدبية: نوري حمودي علي و آخرون، دارالحرية، بغداد، ط 1، 1979م، ص: (...)">39</a>]</span><br class="autobr" />وفي البلاد العربية کان السبق للبنان في استعمال المطبعة.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb40" id="nh40" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن الزيات، دارالمعرفة، بيروت، ط 11، 2007م، ص: (...)">40</a>]</span></div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
موضوعات النثر في عصر النهضة:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
کانت موضوعات النثر واسعة الأفق، و تناولت مشکلات الحياة وما يهم الشعوب وما يبعث علی اليقظة والنهضة ممثلة في:</div>
<ol class="spip" style="margin: 0px 50px 1.42857143em 0px; padding: 0px;">
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الدفاع عن الشعوب المظلومة.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الدعوة إلی الأخذ بنظام الشوری في الحکم.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">محاربة الاستعمار، وإثارة الحمية الوطنية في نفوس الشعوب المستذلة.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">السعي في إصلاح المفاسد الاجتماعية.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb41" id="nh41" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="في الأدب الحديث: عمرالدسوقي، دارالفکر، القاهرة، ط 8، 1973م، ج:1،ص: 340 وما (...)">41</a>]</span></li>
</ol>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
خصائص النثر في عصر النهضة:</h3>
<ol class="spip" style="margin: 0px 50px 1.42857143em 0px; padding: 0px;">
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">سلامة العبارة وسهولتها، مع المحافظة علی سلامة اللغة وخلوها من الوهن والضعف.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">تجنب الألفاظ المهجورة والعبارات المسجوعة، إلا ما يأتي عفواً ولايثقل علی السمع.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">تقصير العبارة وتجريدها من التنميق والحشو حتی يکون النثر علی قدر المعنی.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">ترتيب الموضوع ترتيبا منطقيا في حلقات متناسقة، وتقسيم المواضيع إلی فصول وأبواب وفقرات بحيث لايضيع القارئ، ويفهم تناسق الأجزاء ويتبع تسلسلها بسهولة.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb42" id="nh42" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="الأدب العربي من الانحدار إلی الازدهار: جودت الرکابي، دارالفکر، دمشق، ط 2، 1996م، ص: (...)">42</a>]</span></li>
</ol>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
أغراض النثر في عصر النهضة:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
1ـ النثر الإجتماعي الذي يتطلب صحة العبارة، والبعد عن الزخرف والزينة، ووضوح الجمل، وترك المبالغات، وسلامة الحجج وإجراءها علی حکم المنطق الصحيح، لأن الغرض منه معالجة الأمر الواقع، فلا ينبغي استعمال الأقيسة الشعرية، ولا الخيال المجنح.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
2ـ النثر السياسي أو الصحفي، ويمتاز بالسهولة والوضوح بحيث يکون معناه في ظاهر لفظه؛ لأن الصحف تخاطب الجماهير، ويقرؤها الخاصة والعامة.</div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
3ـ النثر الأدبي، وهو أشد أنواع النثر حاجة إلی تخير اللفظ، والتأنق في النظم، حتی يخرج الکلام مشرقا منيرا، لطيف الموقع في النفوس، حلو النبرة في الآذان، لأن للموسيقی اللفظية أثرا کبيرا في الأذهان. وهو أدنی أنواع النثر إلی الشعر.<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb43" id="nh43" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="في الأدب الحديث، ص: 325 وما بعدها">43</a>]</span></div>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
من مجموع ما مضی «يمکن أن نطلق علی الأدب العربي في القرن التاسع عشر عصر الأدب الاتباعي الکلاسيکي، إلا أن الإتباعية فيه کانت ذات ثلاثة مستويات معرفية: الأول، يعتمد في نثره الأساليب الراقية الفنية في العصور العربية الزاهية، والثاني، کان امتدادا لعصور الانحطاط التي بدأت قبل سقوط بغداد فيما يخص التطور النثري فاکتسب طابعها، اغراق في المحسنات البديعية... وثالث مازج بينهما فکان في نثره يجمع بين کلا الطابعين الأدبيين».<span class="spip_note_ref"> [<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nb44" id="nh44" rel="footnote" style="color: #990000; text-decoration: none;" title="المقدمة في نقد النثر العربي: علي حب اللَّه، دارالهادي، بيروت، ط 1، 2001م، ص: 225 ـ (...)">44</a>]</span></div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
خاتمة البحث:</h3>
<div style="margin-bottom: 1.42857143em;">
تبين لنا من خلال هذا البحث أن نشأة النثر العربي في العصر الجاهلي کانت غامضة؛ وکان حظ النثر من الحفظ أقل من حظ الشعر. وفي العصر الإسلامي کانت مظاهر التطور في النثر أوضح منها في الشعر ؛ وأغراض النثر ومعانيه قد تغيرت تغيرا محسوسا بظهور الإسلام. وکانت الکتابة ضرورة علمية لا غنی عنها في الحرکة العلمية التي ازدهرت في العصر الأموي وتعاظمت في أواخره؛ ونتيجة لذلك توسع انتشار الخط واستعمال الکتابة، إبان ذلك العصر، توسعا عظيما، نظراً لإقبال الناس علی طلبه. وفي العصرالعباسي خطا النثر خطوة واسعة، فهو لم يتطور من حيث موضوعاته وأغراضه فقط؛ بل إن معانيه قد اتسعت وأفکاره قد عمقت، وأخيلته قد شحذت؛ لأن مشاهد الحياة ومقوماتها العامة قد تغيرت. وفي العصر الحديث خرج النثر من عهد الانحطاط، وبدأت الأساليب تتحرر في بعض جوانبها من قيود التصنع اللفظي؛ وکان للطباعة و الصحافة أثر کبير في تطور النثر.</div>
<h3 class="spip" style="color: inherit; font-size: 1.25em; font-weight: 400; line-height: 1.14285714em; margin: 0px 0px 1.14285714em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
فهرس المصادر والمراجع:</h3>
<ol class="spip" style="margin: 0px 50px 1.42857143em 0px; padding: 0px;">
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام: محمد عبدالمنعم خفاجي. دارالتأليف، القاهرة، ط 1، 1952م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الأدب العربي المعاصر في مصر: شوفي ضيف. دارالمعارف، القاهرة، ط 7، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الأدب العربي من الانحدار إلی الازدهار: جودت الرکابي. دارالفکر، دمشق، ط 2، 1996م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي: محمد عبدالمنعم خفاجي. دارالجيل، بيروت، لاط، 1990م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الأدب والنصوص: سيد سعيد غزلان وآخرون. لانا، لاط، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">أعلام في النثر العباسي: حسين الحاج حسن. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1993م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن الزيات. دارالمعرفة، بيروت، ط 11، 2007م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">تطور الأدب الحديث في مصر: أحمد هيکل. دارالمعارف، القاهرة، ط 6، 1994م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الجامع في تاريخ الأدب العربي: حناالفاخوري. منشورات ذوي القربی، قم، ط 3، 1427هـ.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه: محمد عبدالمنعم خفاجي. دارالجيل، بيروت، ط 1، 1992م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">دراسات في الأدب العربي: هاملتون جيب. المرکز العربي للکتاب، دمشق، لاط، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الرائد في الأدب العربي: إنعام الجندي. دارالرائد العربي، بيروت، ط 2، 1986م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">صبح الأعشی في صناعة الإنشاء: أبوالعباس أحمد بن علي القلقشندي. وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، لاط، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث: محمد الکتابي. دارالثقافة، ط 1، 1982م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">العقد الفريد: ابن عبدربه. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، لاط، 1942 م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الفن ومذاهبه في النثر العربي: شوقي ضيف. دارالمعارف، القاهرة، ط 12، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">الفهرست: ابن النديم. دارالمعرفة، بيروت، لاط، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">في الأدب الجاهلي: طه حسين. مطبعة فاروق، القاهرة، لاط، 1933م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">في الأدب الحديث: عمرالدسوقي. دارالفکر، القاهرة، ط 8، 1973م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">لسان العرب: ابن منظور. دارإحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1992م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">المقال وفنونه عندالشيخ علي يوسف: طاهر عبداللطيف عوض. مکتبة الکليات الأزهرية، القاهرة، لاط، 1989م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">المقدمة في نقد النثر العربي: علي حب اللَّه. دارالهادي، بيروت، ط 1، 2001م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">من حديث الشعر والنثر: طه حسين. مطبعة الصاوي، القاهرة، ط 1، 1936م.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">مواکب الأدب العربي عبرالعصور: عمرالدقاق. طلاس، دمشق، ط 1، 1988.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">النثر الفني في القرن الرابع الهجري: زکي مبارك. المکتبة العصرية، بيروت، لاط، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">النثر الفني وأثر الجاحظ فيه: عبدالحکيم بلبع. مکتبة الأنجلو المصرية، لاط، لاتا.</li>
<li style="margin: 0px; padding: 0px;">النصوص الأدبية: نوري حمودي علي وآخرون. دارالحرية، بغداد، ط 1، 1979م.</li>
</ol>
</div>
<div style="text-align: right;">
<div class="addthis_toolbox addthis_default_style">
<a class="addthis_button_facebook addthis_button_preferred_1 at300b" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#" style="color: #990000; cursor: pointer; float: left; padding: 0px 2px; text-decoration: none; width: auto;" title="Facebook"><span class="at4-icon-left at4-icon aticon-facebook" style="background-color: #305891; background-image: url(data:image/svg+xml; background-position: 0% 50%; background-repeat: no-repeat no-repeat; cursor: pointer; display: block; float: left; height: 16px; line-height: 16px; margin: 0px; overflow: hidden; text-indent: -9999em; width: 16px;"><span class="at_a11y" style="height: 1px !important; overflow: hidden !important; position: absolute !important; top: auto !important; width: 1px !important;">Share on facebook</span></span></a><a class="addthis_button_favorites addthis_button_preferred_2 at300b" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#" style="color: #990000; cursor: pointer; float: left; padding: 0px 2px; text-decoration: none; width: auto;" title="أضف للمفضلة"><span class="at4-icon-left at4-icon aticon-favorites" style="background-color: #f5ca59; background-image: url(data:image/svg+xml; background-position: 0% 50%; background-repeat: no-repeat no-repeat; cursor: pointer; display: block; float: left; height: 16px; line-height: 16px; margin: 0px; overflow: hidden; text-indent: -9999em; width: 16px;"><span class="at_a11y" style="height: 1px !important; overflow: hidden !important; position: absolute !important; top: auto !important; width: 1px !important;">Share on favorites</span></span></a><a class="addthis_button_google addthis_button_preferred_3 at300b" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#" style="color: #990000; cursor: pointer; float: left; padding: 0px 2px; text-decoration: none; width: auto;" target="_blank" title="Google"><span class="at4-icon-left at4-icon aticon-google" style="background-color: #0868b9; background-image: url(data:image/svg+xml; background-position: 0% 50%; background-repeat: no-repeat no-repeat; cursor: pointer; display: block; float: left; height: 16px; line-height: 16px; margin: 0px; overflow: hidden; text-indent: -9999em; width: 16px;"><span class="at_a11y" style="height: 1px !important; overflow: hidden !important; position: absolute !important; top: auto !important; width: 1px !important;">Share on google</span></span></a><a class="addthis_button_twitter addthis_button_preferred_4 at300b" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#" style="color: #990000; cursor: pointer; float: left; padding: 0px 2px; text-decoration: none; width: auto;" title="Tweet"><span class="at4-icon-left at4-icon aticon-twitter" style="background-color: #2ca8d2; background-image: url(data:image/svg+xml; background-position: 0% 50%; background-repeat: no-repeat no-repeat; cursor: pointer; display: block; float: left; height: 16px; line-height: 16px; margin: 0px; overflow: hidden; text-indent: -9999em; width: 16px;"><span class="at_a11y" style="height: 1px !important; overflow: hidden !important; position: absolute !important; top: auto !important; width: 1px !important;">Share on twitter</span></span></a><a class="addthis_button_compact at300m" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#" style="color: #990000; cursor: pointer; float: left; padding: 0px 2px; text-decoration: none; width: auto;"><span class="at4-icon-left at4-icon aticon-compact" style="background-color: #fc6d4c; background-image: url(data:image/svg+xml; background-position: 0% 50%; background-repeat: no-repeat no-repeat; cursor: pointer; display: block; float: left; height: 16px; line-height: 16px; margin: 0px; overflow: hidden; text-indent: -9999em; width: 16px;"><span class="at_a11y" style="height: 1px !important; overflow: hidden !important; position: absolute !important; top: auto !important; width: 1px !important;">More Sharing Services</span></span></a><a class="addthis_counter addthis_bubble_style" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#" style="background-image: url(data:image/gif; background-position: 0px -64px; background-repeat: no-repeat no-repeat; border: 0px; box-sizing: content-box; color: black; cursor: pointer; display: inline-block; float: left; font-family: arial, helvetica, sans-serif; height: 16px; margin: 0px 0px 0px -2px; outline: none; padding: 0px 0px 0px 4px; text-align: center; text-decoration: none !important; width: 32px !important;"></a><a class="addthis_button_expanded" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#" style="background-position: 0px 0px; border: 0px; color: #333333; display: block; font-family: arial, helvetica, sans-serif !important; font-size: 11px; height: 16px; line-height: 16px; margin-bottom: 3px; padding-bottom: 4px; text-align: center; text-decoration: none; width: 34px;" target="_blank" title="المزيد">0</a><div class="atclear" style="clear: both;">
</div>
</div>
</div>
</div>
<footer style="background-color: white; color: #333333; font-family: Georgia, Cambria, 'Times New Roman', Times, serif; font-size: 14px; font-weight: 600; line-height: 20.00200080871582px; text-align: justify;"><div class="notes" style="font-size: 12px; margin-top: 1.42857143em; max-width: 400px; padding-top: 1.42857143em;">
<h2 style="border-bottom-color: rgb(204, 204, 204); border-bottom-style: solid; border-bottom-width: 2px; color: inherit; font-weight: 400; line-height: 0.95238095em; margin: 0px 0px 0.95238095em; padding: 0px; text-rendering: optimizelegibility;">
حواشي</h2>
<div id="nb1" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh1" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 1">1</a>] </span>لسان العرب: ابن منظور، دارإحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1992م، مادة (نثر)</div>
</div>
<div id="nb2" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh2" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 2">2</a>] </span>الفن ومذاهبه في النثر العربي: شوقي ضيف، دارالمعارف، القاهرة، ط 12، لاتا، ص: 15</div>
</div>
<div id="nb3" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh3" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 3">3</a>] </span>النثر الفني في القرن الرابع الهجري: د. زکي مبارك، المکتبة العصرية، بيروت، لاط، لاتا، ج: 1، ص: 50 و مابعدها</div>
</div>
<div id="nb4" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh4" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 4">4</a>] </span>الأدب العربي بين الجاهلية والاسلام: د.محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالتأليف، القاهرة، ط 1، 1952م، ص:78</div>
</div>
<div id="nb5" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh5" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 5">5</a>] </span>في الأدب الجاهلي: د. طه حسين، مطبعة فاروق، القاهرة، لاط، 1933م، ص: 369؛ ومن حديث الشعر والنثر: د. طه حسين، مطبعة الصاوي، القاهرة، ط 1، 1936م، ص: 24 وما بعدها</div>
</div>
<div id="nb6" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh6" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 6">6</a>] </span>الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 104</div>
</div>
<div id="nb7" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh7" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 7">7</a>] </span>مواکب الأدب العربي عبرالعصور: د. عمر الدقاق، طلاس، دمشق، ط 1، 1988، ص: 77</div>
</div>
<div id="nb8" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh8" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 8">8</a>] </span>الجامع في تاريخ الأدب العربي (الأدب القديم): حنا الفاخوري، منشورات ذوي القربی، قم، ط 3، 1427هـ، ص: 322</div>
</div>
<div id="nb9" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh9" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 9">9</a>] </span>الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 100</div>
</div>
<div id="nb10" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh10" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 10">10</a>] </span>صبح الأعشی في صناعة الإنشاء: أبوالعباس أحمد بن علي القلقشندي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، لاط، لاتا، ج:1،ص: 37</div>
</div>
<div id="nb11" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh11" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 11">11</a>] </span>النثر الفني وأثر الجاحظ فيه: عبدالحکيم بلبع، مکتبة الأنجلو المصرية، لاط، لاتا، ص:122</div>
</div>
<div id="nb12" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh12" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 12">12</a>] </span>المصدر نفسه، ص: 125</div>
</div>
<div id="nb13" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh13" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 13">13</a>] </span>مواکب الأدب العربي عبرالعصور، ص: 118</div>
</div>
<div id="nb14" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh14" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 14">14</a>] </span>الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 114</div>
</div>
<div id="nb15" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh15" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 15">15</a>] </span>العقد الفريد: ابن عبد ربه، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، لاط، 1942 م ،ج:2،ص:106</div>
</div>
<div id="nb16" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh16" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 16">16</a>] </span>الفهرست: ابن النديم، دارالمعرفة، بيروت، لاط، لاتا، ص: 170</div>
</div>
<div id="nb17" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh17" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 17">17</a>] </span>الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 125</div>
</div>
<div id="nb18" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh18" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 18">18</a>] </span>الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي: د. محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالجيل، بيروت، لاط، 1990م، ص: 312</div>
</div>
<div id="nb19" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh19" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 19">19</a>] </span>أعلام في النثر العباسي: د. حسين الحاج حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1993م، ص: 18</div>
</div>
<div id="nb20" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh20" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 20">20</a>] </span>النثر الفني وأثر الجاحظ فيه، ص: 148</div>
</div>
<div id="nb21" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh21" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 21">21</a>] </span>الأدب والنصوص: سيد سعيد غزلان وآخرون، لانا، لاط، لاتا،ج:2، ص:178</div>
</div>
<div id="nb22" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh22" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 22">22</a>] </span>المصدر نفسه،ج:2، ص: 178ـ179</div>
</div>
<div id="nb23" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh23" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 23">23</a>] </span>المقال وفنونه عند الشيخ علی يوسف: طاهر عبداللطيف عوض، مکتبة الکليات الأزهرية، القاهرة، لاط، 1989م، ص: 46</div>
</div>
<div id="nb24" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh24" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 24">24</a>] </span>مواکب الأدب العربي عبرالعصور، ص: 249</div>
</div>
<div id="nb25" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh25" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 25">25</a>] </span>المصدر نفسه، ص: 250ـ 251</div>
</div>
<div id="nb26" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh26" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 26">26</a>] </span>الأدب العربي المعاصر في مصر: شوقي ضيف، دارالمعارف، القاهرة، ط 7، لاتا، ص: 170ـ 171</div>
</div>
<div id="nb27" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh27" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 27">27</a>] </span>المصدر نفسه، ص: 171</div>
</div>
<div id="nb28" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh28" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 28">28</a>] </span>تطور الأدب الحديث في مصر: أحمد هيکل، دارالمعارف، القاهرة، ط 6، 1994م، ص: 41ـ 42</div>
</div>
<div id="nb29" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh29" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 29">29</a>] </span>دراسات في الأدب العربي الحديث و مدارسه: محمد عبدالمنعم خفاجي، دارالجيل، بيروت، ط 1، 1992م ،ج:2، ص:303</div>
</div>
<div id="nb30" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh30" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 30">30</a>] </span>الأدب العربي المعاصر في مصر، ص: 192 ـ 193</div>
</div>
<div id="nb31" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh31" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 31">31</a>] </span>الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص: 392</div>
</div>
<div id="nb32" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh32" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 32">32</a>] </span>الأدب العربي المعاصر في مصر، ص: 227</div>
</div>
<div id="nb33" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh33" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 33">33</a>] </span>دراسات في الأدب العربي: هاملتون جيب، المرکز العربي للکتاب، دمشق، لاط، لاتا، ص: 55</div>
</div>
<div id="nb34" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh34" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 34">34</a>] </span>الرائد في الأدب العربي: إنعام الجندي، دارالرائد العربي، بيروت، ط 2، 1986م، ج:2، ص: 243ـ 244</div>
</div>
<div id="nb35" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh35" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 35">35</a>] </span>الصراع بين القديم و الجديد في الأدب العربي الحديث: محمد الکتابي، دارالثقافة، ط 1، 1982م، ج:1، ص: 482 ـ483</div>
</div>
<div id="nb36" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh36" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 36">36</a>] </span>دراسات في الأدب العربي، ص: 51</div>
</div>
<div id="nb37" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh37" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 37">37</a>] </span>دراسات في الأدب العربي الحديث و مدارسه، ص: 311</div>
</div>
<div id="nb38" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh38" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 38">38</a>] </span>الرائد في الأدب العربي، ج:2، ص: 245</div>
</div>
<div id="nb39" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh39" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 39">39</a>] </span>النصوص الأدبية: نوري حمودي علي و آخرون، دارالحرية، بغداد، ط 1، 1979م، ص: 57</div>
</div>
<div id="nb40" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh40" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 40">40</a>] </span>تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن الزيات، دارالمعرفة، بيروت، ط 11، 2007م، ص: 314</div>
</div>
<div id="nb41" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh41" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 41">41</a>] </span>في الأدب الحديث: عمرالدسوقي، دارالفکر، القاهرة، ط 8، 1973م، ج:1،ص: 340 وما بعدها</div>
</div>
<div id="nb42" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh42" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 42">42</a>] </span>الأدب العربي من الانحدار إلی الازدهار: جودت الرکابي، دارالفکر، دمشق، ط 2، 1996م، ص: 327 ـ 328</div>
</div>
<div id="nb43" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh43" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 43">43</a>] </span>في الأدب الحديث، ص: 325 وما بعدها</div>
</div>
<div id="nb44" style="padding-right: 80px; position: relative;">
<div style="font-size: inherit; font-weight: 200; line-height: inherit; margin-bottom: 1.42857143em;">
<span class="spip_note_ref" style="display: block; position: absolute; right: 0px; width: 60px;">[<a class="spip_note" href="http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=18328#nh44" rev="footnote" style="color: #990000; font-weight: 700; text-decoration: none;" title="حواشي 44">44</a>] </span>المقدمة في نقد النثر العربي: علي حب اللَّه، دارالهادي، بيروت، ط 1، 2001م، ص: 225 ـ 226</div>
</div>
</div>
</footer></div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-18194194787290877082015-08-12T03:47:00.001-07:002015-08-12T03:47:22.522-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
الحكاية المثلية «نوعاً أدبياً»<br />
الرسالة والقضايا<br />
<br />
عبد الواحد التهامي العلمي<br />
عندما يريد الباحث في الأدب العربي القديم أن يقف على الأجناس الأدبية بشكل عام وأجناس السرد بشكل خاص، فإن ما يصطلح عليه بالحكاية المثلية يشكل أحد أهم الأجناس الأدبية السردية التي أسهمت في صياغة الأدب العربي القديم على نحو ما أسهمت في التعبير عن الرؤى الإيديولوجية التي عبر عنها مجموعة من كتّاب هذا الجنس، كما جسدت التواصل الحضاري الذي خاضت فيه الثقافة العربية مع ثقافات الشعوب المجاورة. ومن نصوص الحكاية المثلية: «النمر والثعلب» لسهل بن هارون، و«الأسد والغواص» المجهولة المؤلف، و«كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع.<br />
<br />
1- الحكاية المثلية «جنساً أدبياً قديماً»<br />
الحكاية المثلية مجموعة من القصص أو الحكايات ترتكز على أحداث متتابعة يكون أبطالها من الحيوانات التي تتحاور فيما بينها، وغالباً ما يكون هذا الحوار موجهاً لنقد سلوك الناس وطبائعهم وأخلاقهم أو معالجة قضايا اجتماعية وسياسية كثيرة عن طريق التلميح والترميز. وهي فن من فنون النثر العربي القديم المعروفة في التراث القصصي، «إذ لم يخل منه عصر، فضلاً عن كونه «فنًّاً كونياً عرفته كل الثقافات عبر التاريخ» (1)، واختلفت في تسميته حيث عُرِّف هذا الجنس بتسميات متعددة كـ «المثل» أو «الأمثولة» أو «الحكاية المثلية» أو «الخرافة» أو «الحكاية» أو «القصة على لسان الحيوان»، أو «رواية الحيوان».<br />
<br />
لقد اختلف الدارسون حول نشأة هذا الفن؛ فبعضهم يرى أن أصوله يونانية، وبعضهم الآخر يكاد يجزم أن الهند كان لها السبق في ظهور هذا النوع من الحكايات، بينما يرى آخرون أن هذا الفن كان له ارتباط وثيق بالحكاية أو القص الشعبي والأسطورة، مما حقق له الشيوع والانتشار في كثير من الأمم.<br />
<br />
إن أي فهم حقيقي لهذا الجنس الأدبي ينبغي أن بضع في اعتباره أنه جنس أدبي كلاسي يجري عليه ما يجري على الأجناس الأدبية التي أنتجت في العصر الكلاسي عربياً أو غربياً؛ أي أن الحكاية المثلية شأنها شأن الخطبة والخبر والنادرة والمقامة والقصيدة... إنما صيغت لتستجيب لحاجات جمالية وأخلاقية متداخلة. فالتصور الكلاسي للأدب لا يفصل بين الفن والأخلاق ويقوم الإنتاج الأدبي بتواشج أدبيته بنجاعته في مجال الأخلاق والسلوك والاعتقاد. وهذا يعني أن المدخل الصحيح لقراءة الحكاية المثلية ينبغي أن يقوم على مراعاة هذا الوضع الأدبي المخصوص. فالوظيفة الحجاجية أو التداولية تكيف الوظيفة الأدبية، كما أن الوظيفة الأدبية تتخلل الوظيفة الحجاجية والتداولية. وهذا يعني أننا لا نستطيع استخلاص المكونات التي صنعت أدبية هذا النوع دون مراعاة التباسها بالوظيفة الحجاجية التي منحتها صيغتها التي تشكلت بها داخل النص المعطى. إننا لا نستطيع أن نفصل مكونات البنية السردية على سبيل المثال عن المقصدية التداولية العامة التي تتحكم في بنية النوع؛ فالزمن، والمكان، والشخصيات، والتضمين، عناصر سردية وضعت على نحو يخدم المقصدية الأخلاقية والتعليمية التي تنهض عليها نصوص الحكاية المثلية في كليلة ودمنة على سبيل المثال. كما أن مقاصد الحكاية المثلية ليست عقلية خالصة، بل تداخلت مع المكون الجمالي بحيث يمكن القول إن استدعاء السرد والرمز والتمثيل والهزل والغرابة كان لأجل إضفاء الطابع الأدبي على التواصل الذي تراهن عليه نصوص هذا النوع.<br />
<br />
ولإبراز هذا التداخل نشير على سبيل المثال إلى حكاية «القرد والغيلم» التي تقوم على حبكة سردية مثلما تقوم على رسالة عملية؛ فهذه الحكاية تحكي قصة قرد هرم كان ملك القردة، لكن قرداً شاباً قوياً تغلب عليه ونزع منه الملك. وبعد هروبه إلى الساحل صعد شجرة تين وجعلها مكاناً لإقامته ثم شرع يأكل ويرمي بعض التين في الماء، وكان الغيلم يلتقط الذي يسقط من أعلى الشجرة. هكذا نشأت صداقة متينة بين القرد والغيلم أنسته زوجته. ولما طال غيابه فكرت زوجته السلحفاة بمساعدة جارتها في حيلة للقضاء على القرد بعد أن تظاهرت بالمرض، وادعت الجارة لزوجها أن علاجها الوحيد هو قلب القرد بناء على وصفة الأطباء. وكاد الغيلم أن يغدر بصديقه لولا فطنة القرد عندما علم بنوايا الغيلم فخاطبه قائلاً: «وما منعك أصلحك الله، أن تعلمني عند منزلي حتى كنت أحمل قلبي معي؟ فإن هذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحدنا لزيارة صديق له خلَّف قلبه عند أهله أو في موضعه لننظر إذا نظرنا إلى حُرَمِ المَزُر وليس قلوبنا معنا. قال الغيلم: وأين قلبك الآن؟ قال خلفته في الشجرة. فإن شئت فارجع بي إلى الشجرة حتى آتيك به»(2). وهكذا يتبين أن هذه الحكاية تحمل رسالة إلى المتلقي، وتعالج عدة قضايا إنسانية وأخلاقية: كالوفاء، والمكر، والكيد، والغباء، والفطنة، والصراع بين الخير والشر، وبين الوفاء والغدر؛ كما يظهر ذلك جلياً في حديث الغيلم مع نفسه: «كيف أغدر بخليلي لكلمة قالتها امرأة من الجاهلات؟ وما أدري لعل جارتي قد خدعتني وكذبت بما روت من الأطباء. فإن الذهب يجرب بالنار، والرجال بالأخذ والعطاء، والدواب بالحمل والجري. ولا يقدر أحد أن يجرب مكر النساء ولا يقدر على كيدهن وكثرة حيلهن»(3).<br />
<br />
2 -الحكاية المثلية جنس مركب:<br />
في حقيقة الأمر يمكن القول إن الحكاية المثلية هي خطاب مركب من صيغتين؛ صيغة السرد وصيغة القول، أي أنها تتكون في بنيتها الخِطابية من حكايات يرويها راوٍ أو رواة، وتجري في زمان ومكان، ويقوم بأفعالها شخصيات، وتتوالى أحداثها أو تتتابع، كما أنها تخضع للتحول. غير أن السرد ليس الصيغة الوحيدة التي تشكلت بها نصوص الحكاية المثلية؛ فقد صيغت الحكاية المثلية أقوالاً حجاجية، وهذا هو الذي كان يعنيه عبد الفتاح كيليطو عندما رأى أن المثل يتكون من عنصرين هما: السرد أي الحكاية التي تجري أحداثها بين الحيوانات والحكمة التي تشكل الغاية من الحكاية المثلية، والحكمة بدورها ما هي إلا وسيلة تؤدي إلى غاية هي: العمل(4). وبتعبير آخر، تنطوي الحكاية المثلية في نصوص كليلة ودمنة على سبيل المثال على وظيفة تخييلية سردية تتمثل في إقناع القارئ بحكايات رمزية ووصف وتشويق وحوارات، كما تنطوي على وظيفة تداولية تتمثل في توجه النص ضمناً أو صراحة إلى المتلقي يدعوه إلى العمل بالتوجيهات التي يسعى إلى ترسيخها في السلوك الفردي والاجتماعي(5).<br />
يقول أحد الباحثين إن الحكاية المثلية ملتقى أنماط كتابة عديدة؛ فهي من جهة نص سردي يعتمد الوصف والإخبار، وهي من جهة أخرى نص حجاجي ذو مقاصد أخلاقية واجتماعية وسياسية وفكرية تحتاج إلى أساليب الوعظ(6). وينتهي الباحث إلى إبراز أهم مكون في الحكاية المثلية هو الترابط بين «أدب الفكرة (الحجاج) وأدب السرد (القص)؛ ذلك أن الحكاية المثلية تقنعنا وتمتعنا؛ تقنعنا لأنها حلقة من السلسلة الحجاجية، أي دعامة من دعائم كامل الاستدلال، وتمتعنا بما تتضمنه من الإثارة رغم اختزالها وما تفتحه للقص من أفق ومشاريع وبما تشف عنه من دلالة فكرية وثقافية»(7).<br />
<br />
لقد اختلف الدارسون حول نشأة هذا الفن؛ فبعضهم يرى أن أصوله يونانية، وبعضهم الآخر يكاد يجزم أن الهند كان لها السبق في ظهور هذا النوع من الحكايات، بينما يرى آخرون أن هذا الفن كان له ارتباط وثيق بالحكاية أو القص الشعبي والأسطورة، مما حقق له الشيوع والانتشار في كثير من الأمم<br />
ويبدو أن الباحث كان محقاً عندما نعت الحكاية المثلية أو صنفها في إطار ما أسماه بالأدب الحجاجي(8)؛ فالحكاية المثلية في ذاتها تعد حجة كما بيَّن سيمور شتمان قائلاً: «فحينما نجد حجاجاً... فهو في الأغلب صنيع الأمثال السائرة... ولنتذكر الأمثال والحكايات الخرافية كما بينت لنا سوزان سليمان في كتاب رائع حول رواية الأطروحة»(9). والحكاية المثلية حجة لأنها ترتبط بسياق تواصلي يتوخى فيه السارد إقناع المتلقي بالأطروحة التي يرغب في توصيلها له.<br />
<br />
3 - بلاغة الحكاية المثلية:<br />
تفضي القراءات الحديثة التي قامت بفحص نماذج من الحكاية المثلية قي التراث العربي (كليلة ودمنة) على سبيل المثال إلى النظر إلى هذا النص باعتبار بلاغته المخصوصة المتمثلة كما قلنا سابقاً في الجمع بين البعد التعليمي الأخلاقي والبعد الأدبي التمثيلي. فهذا النموذج من التعبير الأدبي يجمع بين خصائص الخطاب الحجاجي وخصائص الخطاب الأدبي؛ ذلك أنه لا يوجد أي تعارض بين الغرض الحكمي المعلن داخل النص وبين تعدد الدلالات والتأويلات المحتملة التي يمكن أن تنبثق عن تنظيمه الجمالي. يقول سامي سويدان إن كتاب كليلة ودمنة على الرغم من وظيفتيه الإمتاعية والتعليمية فهو لا يخلو من بعد رمزي «فمزية الرمز افتراضه التأويل، والتأويل في أساسه متعدد في وسائله كما في نتائجه. وإذا كان تكرار إعلان الحكمة المرجو بلوغها من الحكاية - المثل في البدء (الطلب) وفي النهاية (الجواب) محاولة لحصر هذا التأويل أو تلك وجهة النظر، فإنه مع ذلك لا يلغي تعددهما. بل قد يكون النص نفسه، بقدر ما يقع الإعلان المذكور في المستوى الظاهر منه، ناهيك بالقراءات المتعددة التي يتيحها بناؤه ونظمه، حاضاً على تجاوزه ودافعاً إلى استكناه دلالاته المتنوعة(10). ويختلف مع هذا الرأي عبد الوهاب الرقيق الذي يرى أن الحكاية المثلية نوع سردي حجاجي ينطوي على معنى وحيد هو المعنى المعلن الذي يترك للقارئ مجالاً للتأويل(11). ومثل هذا الرأي يركز على البعد العملي في الحكاية المثلية أي أنها نص تعليمي في المقام الأول تسعى إلى توضيح الفكرة أو توجيه السلوك. الحكاية المثلية وفق هذا الرأي قرينة الخطابة والنصوص الدينية والسياسية. غير أن النظر إلى ما تتوفر عليه الحكاية المثلية من وجوه ومقومات جمالية يؤكد أن القراءة المنايبة لطبيعة هذا النوع الأدبي ينبغي أن تتجاوز معنى الظاهر إلى معانٍ باطنية يقوم المتلقي باستخراجها واكتشافها، لكن ذلك لا ينبغي ألا يفيد أننا بإزاء نص رمزي مركب؛ فالرمزية التي اعتمدها النص هي: «رمزية بسيطة أولية تتفق مع المستوى العقلاني للحكم والأفكار التي تعبر عنها، بقدر ما تتفق مع التصور الكامن وراء هذا النمط من التعبير لأدائها. فالرؤية العقلانية التي تكمن وراء العمل تتوسل شكلاً بسيطاً لتبليغ البعيد والعميق من طروحاتها، وهو أمر يتلاءم مع الهم الإصلاحي الذي يتوخى الفعالية الأقوى في الإفهام والاتساع الأقصى في دائرة الاتصال»(12).<br />
<br />
ومجمل القول في بلاغة الحكاية المثلية أنها قامت على جملة من المقومات والسمات التي تضفى على النص الأدبي. وسنقف فيما يأتي على أبرز مقومات أدبية الحكاية المثلية:<br />
<br />
أ- التمثيل والترميز:<br />
يقول ابن المقفع: «فأول ما ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له والرموز التي رُمزت فيه وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مُفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً، فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني ولا أي ثمرة يجتني منها ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب. وإنه إن كانت غايته منه استتمام قراءته والبلوغ إلى آخره دون تفهم ما يَقرأ منه لم يعد عليه شيء يرجع إليه نفعه»(13).<br />
<br />
تقوم الحكاية المثلية على تجسيد المعاني المجردة في صور محسوسة؛ فالعدالة والمحبة والحكمة والتعاون والأنانية معانٍ يتوسط بها ترغيباً وترهيباً في حكايات مخترعة أبطالها من الحيوانات. ويشير عبد الوهاب الرقيق في هذا السياق إلى أن التشخيص أبرز تقنية في الترميز في الحكاية المثلية أي تقديم الحيوان في هيئة الإنسان و«تشخيص الحيوان بالكلام والفكر ظاهرة قارة في الحكاية المثلية إلى حد أننا لا نحتاج إلى التمثيل عليها. ولكننا نحب أخيراً أن ندقق أن الحيوان الموضوع للإنسان بالتشخيص لا يرمز إلا إلى مظهر واحد من الإنسان إذ ليس في كليلة ودمنة حيوان واحد يرمز إلى الإنسان في كليته وتعدد أبعاده»(14).<br />
تنزع الحكاية المثلية إلى التغريب، لكنه تغريب مشدود إلى الواقع بحكم أن الحيوان ليس سوى قناع يخفي وراءه الإنسان أحد أبعاده الأخلاقية؛ فهذه الحيوانات هي كائنات حقيقية موجودة في الطبيعة، وقد أسبغ عليها النص خصائص سلوكية إنسانية؛ فالغرابة تزول بمجرد ما ندرك أن الحيوان ليس إلا رمزاً للتعبير عن سلوك الإنسان. إن الغرابة في الحكاية المثلية تختلف عن غرابة الحكاية العجيبة - مثلاً- في كونها لا تخرق الواقع الطبيعي إلا في خاصية إسناد الكلام إلى الحيوانات، لكن الحكاية المثلية تحتفظ بالخصائص الطبيعية للحيوانات، في حين أن الحكاية العجيبة تقوم على شخصيات وأحداث مفارقة للطبيعة.<br />
<br />
ب - البنية السردية أو التضمين:<br />
إن المتأمل في نصوص الحكاية المثلية باعتبارها نوعاً كلاسياً من أنواع الجنس القصصي، يلاحظ أنها تنطوي على بعض المؤشرات الخاصة بها والدالة عليها، وعلى ما يميزها عن غيرها من النصوص. هكذا أشار عبد الوهاب الرقيق إلى أنها تشترك مع النصوص السردية الأخرى في بعض العناصر القصصية كالمكان، والزمان، والشخصية القصصية، والراوي أو الرواة، والحوار، والتوتر، والعقدة، والحل، والمغزى...<br />
لقد تناول الباحث الراوي والتضمين باعتبارهما مكونين لأدبية الحكاية المثلية «فالراوي هو هيئة قصصية على درجة من التعقيد والتشعب لا تعرفها الأنواع السردية الكلاسية» الخبر، والمقامة، والنادرة، والتضمين هو أسلوب في الربط بين المقاطع وهو ظاهرة بنيوية مهيمنة في الحكاية المثلية،... باختصار، الراوي، والتضمين، والرمز هي العلامات الجوهرية الجديرة بأن ترفع الضباب عن أدبية الحكاية المثلية»(15).<br />
ويرى الباحث أن «الهيئة السردية» في كليلة ودمنة هي هيئة متعددة الأصوات؛ إذ لا يتكلف فيها راوٍ واحد بمهمة السرد، وإنما يتوزع الرواة إلى مجموعة من الساردين، كالسارد الأصلي الذي ينشئ القص، وهو الراوي الأساس، «الخفي»، «المجهول»، «الغيري»، الذي يتفرع عنه رواة آخرون، وسمي «غيرياً» لأنه يقتصر على «سرد حكاية غيره دون المشاركة في أحداثها. هو إذن سارد أصلي، غيري، شمولي المعرفة، حريص على الحياد والموضوعية، مقتصر على عرض الوقائع بغير تعليق أو انحياز»(16)؛ وعن هذا الراوي الأصلي يتفرع راوٍ آخر، وهو كما يقول عبد الوهاب الرقيق: «سارد فرعي غيري بما أنه يقع على مستوى قصصي ثانٍ ويقص حكاية غيره، حكاية ليس هو شخصية من شخصياتها؛ هذا الراوي هو بيدبا الفيلسوف؛ ففي باب «البوم والغربان»، على سبيل المثال، نجد هذا الراوي الذي لا يشارك في الأحداث بل يكتفي بروايتها. «قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل من الجبال شجرة من شجر الدوح فيها وكر ألف غراب وعليهن والٍ منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم...»(17).<br />
وقد يتكلف بالسرد، في «كليلة ودمنة»، راوٍ آخر، وهو في الغالب شخصية من شخصيات الحكاية، ككليلة، أو دمنة، أو الأسد، أو النمر، أو الغراب، أو البوم، أو القرد، أو الغيلم، إلى غير ذلك من الشخصيات التي تتولى رواية الأحداث.<br />
وهناك راوٍ أو سارد آخر، سماه الباحث: «السارد الفرعي الذاتي» لأن هذا السارد هو شخصية من شخصيات الحكايات التي تقوم بسرد حكاية تكون مشاركة في أحداثها أو قامت بها. «ومثال ذلك في باب «الحمامة والثعلب الحزين» تلك الحمامة التي ابتليت بالثعلب الخبيث. فاشتكت لمالك الحزين قائلة: «إن ثعلباً دهيت به كلما كان لي فرخان، جاء يتهددني ويصيح في أصل النخلة فأفرق منهن فأطرح إليه فرخي»(18).<br />
<br />
خلاصة:<br />
تثبت الحكاية المثلية العربية أن التراث العربي لم يكن تراثاً شعرياً فقط، ولكنه كان أيضا تراثاً سردياً استجاب لغريزة الحكي عند الإنسان العربي، غير أن السرد الرسمي (العالِم) كان يختلف عن السرد الشعبي، في كونه يمثل جزءاً من بنية الثقافة العربية التي اشترطت في قبولها السرد بناء على الشعر أو الحكمة. وقد مثلت الحكاية المثلية نموذجاً للسرد العربي الذي امتثل لشروط النص في الثقافة العربية.<br />
<br />
الهوامش:<br />
1- عبد العزيز شبيل، التناص والتراث العربي بين «كليلة ودمنة» و«الأسد والغواص»، حوليات الجامعة التونسية، عدد52، 2007، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، ص 144.<br />
2- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، دار الجيل، الطبعة الثالثة، 2006، ص241.<br />
3- نفسه، ص 239.<br />
4- عبد الفتاح كيليطو، الحكاية والتأويل، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1988، ص. 37.<br />
5- نفسه.<br />
6- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع، دار صامد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2007، ص 92.<br />
7- نفسه، ص 96.<br />
8- نفسه، ص 96.<br />
9- سيمون شتمان، الحجاج والسرد، ترجمة عبد الواحد التهامي العلمي، مراجعة الدكتور محمد مشبال، مجلة الصورة، العدد الخامس، 2003، ص 58.<br />
10- سامي سويدان، ص 305.<br />
11- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة، مرجع مذكور، ص 72.<br />
12- سامي سويدان، ص 304-305.<br />
13- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، مرجع مذكور، ص 69.<br />
14- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لابن المقفع، مرجع مذكور، ص 109.<br />
15- نفسه، ص 98.<br />
16- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، مرجع مذكور، ص 99.<br />
17- نفسه، ص 208.<br />
18- عبدالوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لابن المقفع، مرجع مذكور، ص 100.</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-31591027279901931372015-08-05T19:19:00.002-07:002015-08-05T19:19:28.778-07:00العجائبي<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
بهاء بن نوار <br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
تعدّ العجائبيّة أحدَ المصطلحات النقديّة والروائيّة المستحدثة، الجديدة على قِدَمِها، ورسوخها في التراثيْن: العربيّ، والعالميّ، حيث نجد لها حضورا طاغيا في جميع مناحي الحياة، ومشاربها؛ في حياة الفرد اليوميّة بما يعتريها من تهاويم خيال، وأحلام يقظة، ونوبات كوابيس، وفي حياته الفكريّة العميقة بما يسودها من قلق وجوديّ، ونزوع استباقيّ، ورغبة جامحة في تحطيم أسوار كلّ ما هو متداوَلٌ، ومألوف. وما يعنينا هو البحث في موضوع تلقي النقد العربيّ مصطلحَ العجائبيّة الأدبيّة والروائيّة تحديدا، التي من الصعب جدا تحديد مفهومها تحديدا دقيقا، نظرا لتنوّع موضوعاتها، وتعدّد أساليبها، وتداخل العلاقات فيها بين العالم الذي يقدّمه الخيال من جهة، وذاك الذي يخصّ القارئَ من جهة أخرى.(1(<br />
<br />
<br />
<br />
ويُعدّ كتاب تودوروف (Todorov) "مدخل إلى الأدب العجائبيIntroduction à la Littérature Fantastique المطبوع سنة 1970، من أبرز الآثار النقديّة المنظرة لموضوع العجائبيّة، والمحدّدة أطرَه، وضوابطه، وجميعَ تفرّعاته النظريّة، والتطبيقيّة. وقبل التعرّض إلى أهمّ ما تطرّق إليه تودوروف في نظريّته التي تفرّد بها عن بقيّة المنظرين، فإنّ علينا أن نتتبّع تطوّر هذا المصطلح في مفهومه العام أولا، فمفهومه الخاص، الذي تكوّنت منه رؤية النقاد المعاصرين له الآن. وفي هذا السياق، نجد في القواميس التاريخيّة للغة الفرنسيّة أنّ أصل كلمة العجائبية (Fantastique) يعود إلى المفردة اللاتينيّة (Phantasticus) المأخوذة بدورها عن الإغريقيّة (Phantastikos) التي تخصّ "المخيّلة"، وتعني في القرن السادس عشر كلَّ ما هو "شارد الذهن"، و"أخرق"، و"خارق"، ثمّ "خياليّ".(2) وكذلك نجد في قاموس لغة القرن السابع عشر أنّ العجائبيّة تعني كلَّ ما يقع خارج الواقع، وكلّ ما هو مستبعَد، وشاذ، وخارق. (3)<br />
<br />
<br />
<br />
فالعجائبيّة في معناها العام، والبسيط تعني اختراق كلِّ ما هو واقعيٌّ، ومعقول، ومعانقة كلّ ما يتجاوز هذا الواقع، ويستبقه، سواء كان هذا الاستباق سلبيّا بالوقوع في بؤرة "الشاذ"، و"الأخرق"، و"الشارد"، أم إيجابيّا بالانفتاح على كلِّ ما هو خارق، ومنفلتٌ من قيود المنطقيّ، واليوميّ، حيث تعدّ العجائبيّة هنا فسحة تحرّر، وتنفيس، يتخفف فيها المبدع من قيود العرف، وضوابطه الثقيلة. وقد ازدهر هذا النزوعُ العجائبيّ الجامح نحو الخارق والخياليّ في أدب القرون الوسطى، حيث لا زالت العقولُ مرتبطة بالأسطورة، وحيث الحدودُ غير واضحة بين المنطقيّ واللامنطقيّ، فكان العجيب يُدرَك تقريبا على أنه حقيقيّ، لتتقلّص مكانته في الفترة الكلاسيكيّة الديكارتيّة، وما أن يحلّ القرن الثامن عشر حتى يستعيدها، فيقتحم الأدبَ، ويغدو المجال المفضّل للرومانسيّة. (4)<br />
<br />
<br />
<br />
هذا على المستوى العام، أمّا على المستوى الخاص؛ المستوى التنظيريّ الذي تناوله النقاد، والدارسون بوصفه تقنيةً أدبيّة، كثيرا ما يلجأ إليها المبدعون في تمرير رسائلهم الفنيّة، فلعلّ من أبرز من تناول هذا الجانب – إلى جانب تودوروف – روجيه كايوا (Roger Caillois) في مقالة له كتبها سنة 1966، ويحدّده من خلالها بأنه اقتحام الممنوع، الذي لا يمكن أن يحدث، ولكنه رغم ذلك يحدث، في نقطة، وفي لحظة دقيقة، وفي قلب عالم متجدّد بامتياز [...] حيث يُعَدُّ وليدَ استقرار فظّ لما فوق الواقع في عالم عاديّ. (5) وما يوحي به تعريف "كايوا" هو أنّ العجائبيّ وليد اختراق مطلق، وصدع مستديم في بنية الواقع، ببعثرة قوانينه الطبيعيّة، والهزء منها، وبثّ روحٍ جديدة فيها، جوهرها الاقتحام، والمغامرة، والتجدّد الدّائم.<br />
<br />
<br />
<br />
وما نلحظه على هذا التعريف أنّه يرتكز على ماهية العجائبيّ بوصفه صدعا يتبطّن جسدَ المألوف، ويخترقه، وينشر الفوضى، والانقباض فيه. وهذا ما يختلف عن رؤية تودوروف، الذي يركّز على زمن امتداد العجائبيّ، ويسعى جاهدا إلى حصره بدقة ضمن لحظة زئبقيّة، تتوسّط عالميْن مختلفيْن، أو جنسيْن متباينيْن هما: "الغريب"L'étrange ، و"العجيب "Le merveilleux حيث "يستغرق العجائبيّ زمن التردّد أو الريب؛ وحالما يختار المرء هذا الجواب أو ذاك، فإنه يغادر العجائبيّ كيما يدخل في جنس مجاور هو الغريب، أو العجيب. فالعجائبيّ هو التردّد الذي يحسّه كائنٌ لا يعرف غير القوانين الطبيعيّة، فيما يواجه حدثا فوق طبيعيّ حسب الظاهر.(6)<br />
<br />
<br />
<br />
وهنا لا بدّ من تعريف الحدَّيْن الآخريْن، اللذيْن يؤطران مفهوم العجائبيّ، ويسيّجانه: الغريب، والعجيب: حيث يعرّف تودوروف أوّلهما بأنه ذاك الذي تتلقى فيه الأحداث التي تبدو على طول القصة فوق طبيعيّة، تفسيرا عقلانيّا في النهاية.(7) أمّا ثانيهما، فيعرّفه بأنه ذاك الذي يقترح علينا وجود فوق الطبيعيّ، من جرّاء بقائه غير مفسَّر، وغير متعقّل.(8) وهذا يعني أنّ تودوروف يضع العجائبيّ في لحظة زئبقيّة منفلتة، يحتار معها المتلقي بين قبول التفسير الطبيعيّ المنطقي (الغريب) أو الارتماء في أحضان التفاسير الخرافيّة، واللاعقلانيّة (العجيب)؛ أي أنّ الشكَّ، والحيرة هما جوهر العجائبيّ، وصميم تكوينه.<br />
<br />
<br />
<br />
ونلاحظ من خلال تمييز تودوروف بين حدَّيْ: العجيب، والغريب، وجعله العجائبيّ حالا وسطى بينهما، أنه يشقّ لنفسه طريقا بكرا، ويبتدع تنظيرات جديدة، تختلف عن التنظيرات القديمة المتداولة في مختلف القواميس، حيث لا نكاد نجد أيَّ فرق واضح بين موضوعيْ: العجيب، والغريب، بل يكادان يغدوان مترادفيْن: فالغريب "الذي توضّح معناه مع القرن الحادي عشر مأخوذٌ عن الأصل اللاتينيّ: (Extraneus) الذي يعني كلَّ ما هو خارجيٌّ، ليتطوّر إلى كلِّ ما هو خارج المتداوَل، وفوق المألوف، فالشاذ، والمتفرّد. (9) أمّا العجيب، الذي ترسّخ في القرن نفسه، فمأخوذٌ عن أصل لاتينيّ آخر دارج وكلاسيكيّ (Mirabilia) الذي يخصّ الأشياء المذهلة، والمدهشة، ليرتبط مع اللاتينيّة المسيحيّة بالمعجزات، ثمّ يشمل بعد ذلك جميعَ الأحداث المدهشة، والغريبة، وغير المألوفة. (10)<br />
<br />
<br />
<br />
ولا يكاد يختلف قاموس لغة القرن السابع عشر عن هذا التحديد، حيث نجد أنّ الغريب يفيد كلَّ ما هو خارج الشروط التي نحياها عادة، وكلّ ما هو غير مألوف.(11) في حين يفيد العجيب جميعَ الظواهر فوق الطبيعيّة، أو تلك المنجزة بفضلٍ إلهيّ، أو معجزة. (12) والفرق الوحيد الذي نلمسه بينهما هو أنّ العجيب يميل إلى المعجزات الإلهيّة، وإلى الإدهاش بمعناه المشرق، والإيجابيّ، بعكس الغريب، الذي تشوبه غالبا بصمةٌ من قلق هنا، أو شذوذ هناك. ممّا يعني – إن صحّ التعبير – أنَّ العجيب يمثل الجانبَ الحلميّ من الخارق، في حين يمثل الغريب الجانبَ الكابوسيّ.<br />
<br />
<br />
<br />
وكما رأينا فإنّ تودوروف لا يلتزم بهذه المعاني الأوّليّة، بقدر ما يضيف إليها معانٍ جديدة، يجعل فيها من فهم القارئ، وتلقيه، محكَّ التجربة ومعيارها؛ فما يهتدي إلى منطقيّته، ومعقوليّته يُعدّ غريبا، وما لا يهتدي منه إلى ذلك يُعدّ عجيبا، علما أنّ معايير الفهم، والتفسير تختلف من فرد إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن، ممّا يطبع نظريّة تودوروف ورؤيته لكلٍّ من العجائبيّ، والغريب، والعجيب بطابع النسبيّة، والتزأبق، والتمنّع على أيّة محاولة للحصر الشامل، والدّقيق.<br />
<br />
<br />
<br />
ولا يكاد يختلف أبتر (Apter) عن تودوروف في تأكيده على ضرورة توافر عنصر التردّد، والشكّ في خضم الأدب العجائبيّ؛ حيث "في أعماق الفنتازيا في القصّ الحديث ثمّة شكٌّ بخصوص العالم الذي تنتمي إليه: أهو هذا العالم، أم عالمٌ مغايرٌ تماما." (13) ونلاحظ أنّ أبتر برغم اتفاقه المفاهيميّ مع تودوروف إلا أنّه يختلف عنه في بناء المصطلحات، وتوليدها؛ فما يسمّيه تودوروف "فانتاستيكًا" هو لدى أبتر "فنتازيا"، وما يصطلح عليه تودوروف بالتردّد (Hésitation) هو ما يصطلح عليه أبتر ب"المأزق الإدراكيّ". (14) وأيّا كان اختلافهما حول المصطلح، فإنّ ثمّة اختلافات أخرى كثيرة، يمكن تلمّسها، والحكم من خلالها بانفصال كلتا النظريّتيْن، رغم تشابههما الظاهر؛ فما يؤكد عليه تودوروف من ضرورة التمييز بين جنسَيْ: "الغريب"، و"العجيب"، وحصر كلٍّ منهما في نطاق محدّد لا يتعدّاه، لا نجد له أيَّ حضور في نظريّة أبتر، الذي يبني رؤيته على نظريّة التحليل النفسي، وعلى تحليل نماذج تطبيقيّة، كبعض أعمال پو (Poe) وهوفمان (Hoffmann) وبورخيس (Borges) وغيرهم، انطلاقا من هذه النظريّة، ومن تشخيصات فرويد (Freud)، وتأويلاته.<br />
<br />
<br />
<br />
وما نلحظه على جهود الدارسين العرب المعاصرين أنّ أغلبهم يجعل من نظريّة تودوروف – لا أبتر – مرجعا، وأساسا، لا سبيل إلى تجاوزه، وتناسيه، في سياق التنظير، أو التطبيق لموضوع العجائبيّة، وتجلّيها في القصة، أو الرواية، أو حتى الشعر العربيّ. وقبل التعرّض إلى آراء هؤلاء، فإنّ السؤال المطروح هو عن مدى حضور مصطلح العجائبيّة في التراث العربيّ: هل لهذا المصطلح، وهذه النظريّة من صدى في ذاك التراث؟ أم أنها وليدة الفكر الغربيّ، وأحد نتاجاته الكثيرة، التي امتصصناها منه، وتمثلناها، دون أيّة محاولة للإضافة، والتجديد؟ ولمناقشة هذا الإشكال، لا بدّ من التعرّض إلى المستوى المعجميّ الأوّليّ، الذي خير ما يمثله معجم "لسان العرب" لابن منظور، الذي نجد فيه من معاني مادة: ع ج ب: العُجْب، والعَجَب: إنكار ما يرد عليك لقلّة اعتياده، وجمع العجَب: أعْجابٌ. قال [الشاعر]:<br />
<br />
<br />
<br />
يا عجَبا للدّهر ذي الأعْجابِ الأحدب البرغوث ذي الأنياب<br />
<br />
<br />
<br />
والاسم: العجيبة، والأعْجوبة. والتعاجيب: العجائب، لا واحد لها من لفظها. [...] العجيب: الأمر يُتعجّب منه. وأمرٌ عجيبٌ: معجِبٌ، وقولهم: عجَبٌ عاجبٌ كقولهم: ليلٌ لائلٌ، يُؤكّد به. والعجَب: النظر إلى شيء غير مألوف، ولا معتاد. (15)<br />
<br />
<br />
<br />
ونجد في مادة غ ر ب: الخبر المُغرِب: الذي جاء غريبا، حادثا، طريفا. [...] وأغرب الرّجل: جاء بشيء غريب، وأغرب عليه، وأغرب به: صنع به صنعا قبيحا. الأصمعي: أغرب الرجل في منطقه: إذا لم يبق شيئا إلا تكلّم به. (16)<br />
<br />
<br />
<br />
ونلاحظ أنّ المعنى العام الذي أرساه لسان العرب، لا يكاد يختلف عن المعنى الأجنبيّ العام، الذي لمسناه في بعض قواميس اللغة الفرنسيّة؛ حيث لا يتجاوز معنى العجيب الاصطدامَ بكلِّ ما هو غير مألوف، وغير دارج الحدوث. ولا يتنزّه الغريب عن بعض المعاني السلبيّة المعتمة. ونلمس تعريفا آخر أكثر تخصيصا في كتاب "عجائب المخلوقات" للقزويني (ت682هـ)، الذي يذكر في مقدمته أنّ العجب هو "الحيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء، أو عن معرفة كيفيّة تأثيره فيه، مثاله أنّ الإنسان إذا رأى خليّة النحل، ولم يكن شاهده من قبل لكثرت حيرته، لعدم معرفة فاعله، فلو علم أنّه من عمل النحل، لتحيّر أيضا من حيث أنّ ذلك الحيوان الضعيف كيف أحدث هذه المسدّسات المتساوية الأضلاع" (17) وفي سياق تعريفه للغريب يقول: "الغريب كلّ أمر عجيب، قليل الوقوع، مخالف للعادات المعهودة، والمشاهدات المألوفة، وذلك إمّا من تأثير نفوس قويّة، وتأثير أمور فلكيّة، أو أجرام عنصريّة. كلّ ذلك بقدرة الله تعالى، وإرادته." (18)<br />
<br />
<br />
<br />
وفضلا عن التباس معنييْ: العجيب، والغريب، وتداخل مدلولاتهما، فيما أورده ابن منظور، والقزويني، فإننا نلاحظ غياب صيغة "العجائبي" لديهما معا، ممّا يرجّح أنّها من اجتهاد بعض النقاد المعاصرين، الذين لجأوا إليها إمعانا في مجاراة تودوروف، وتمييزا لهذا المصطلح عن صنوه الآخر: "العجيب". وممّا يؤكد هذا أننا لا نجد هذه الصيغة أيضا في القرآن الكريم، حيث يتراوح حضور مادة "ع ج ب" بين الفعل في مختلف أزمنته، كقوله تعالى: «أوَعَجِبْتم أنْ جاءَكمْ ذكرٌ من ربِّكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم تـُرحمون»(19) وقوله أيضا: «قلْ لا يستوي الخبيثُ والطيِّبُ ولو أعْجَبَكَ كثرةُ الخبيث»(20) أمّا الصيغة الاسميّة، فنلمسها مثلا في قوله:<br />
<br />
<br />
<br />
«أمْ حسِبْتَ أنَّ أصحابَ الكهف والرَّقيم كانوا مِنْ آياتنا عَجَبا»(21) وقوله أيضا: «بل عجبوا أنْ جاءهمْ منذرٌ منهمْ فقالَ الكافرون هذا شيءٌ عجيبٌ»(22)<br />
<br />
<br />
<br />
وعليه يمكن القول بأنّ مصطلح "العجائبيّة"، أو "العجائبيّ" بصيغته هذه، ما هو إلا محاولةٌ لخلق تواطؤٍ منهجيّ بين المفهوم الأجنبيّ، الذي أرسى معالمَه تودوروف، والمفهوم العربيّ، الذي برغم تملّصه النظريّ من التحديدات التودوروفية، فإنه بما يمتلكه من ثراء، وشساعة، وتنوّع في الرّؤى والمصادر، يستوعب النظريّة الغربيّة، ويفيض عنها. وبعيدا عن التراث القديم، المليء بما لا يمكن حصرُه من الصّور، والأخيلة، والمشاهد العجائبيّة الطافحة، فإنّ الرواية العربيّة المعاصرة، تعجّ بدورها بكثير من تلك الصور، والأخيلة، والمشاهد، وإن أتت معها بعيدةً عن عفويّتها الأولى، وتلقائيّتها، التي نلمسها من خلال التراث؛ بسِيَره الشعبيّة، ولياليه، وأساطيره، وخرافاته، حيث يميل الروائيّ المعاصر في سياق نزوعه التجريبيّ، ورغبته الجامحة في اختراق جميع الأطر، والمعايير، إلى الاستئناس بعجائب الموروث العربيّ – والإنسانيّ عامّةً – ونفض الغبار عنها، بغية إعادة توظيفها، واستلهام أبعادها اللانهائيّة الفيض، والإيحاء.<br />
<br />
<br />
<br />
وبالاطلاع على أكثر الدراسات النقديّة، المهتمّة بموضوع التجريب الرّوائي، ونزعات تحديث الشكل، والمضمون كليْهما، نجد أنّ "العجائبيّة" تقع منها موقعا مفصليّا، من إيجابيّاته الكثيرة محاولةُ البحث، والسعي نحو تأصيل، وتثبيت هذا النزوع الإبداعيّ الجديد/ القديم، بالعودة إلى التراث من جهة، والانفتاح على أحدث النظريّات الغربيّة من جهة ثانية. ومن سلبيّاتها الكثيرة أيضا – وهي من سلبيات صناعة المصطلح النقديّ العربيّ بعامة – اختلافُ أو عدم توحيد المصطلح فيما بين المنظرين، على عدم استحالة ذلك، بل إمكانه، إلى جانب ضبابيّة المفهوم، والتخبّط، والضياع بين رصانة التراث من جهة، وإغراءات الحداثة من جهة ثانية، ممّا لا ضرورة أبدا إلى التورّط فيه.<br />
<br />
<br />
<br />
وأوّل ملاحظة يمكن تسجيلها في هذا الصّدَد اختلافٌ كبيرٌ، وتبايُنٌ شديد بين الدّارسين حول تكوين المصطلح، بغضّ النظر عن المفهوم المتفق عليه، والذي غالبا ما يكون مجرّد نقل، وإعادة إنتاج لمفهوم تودوروف. ومن أمثلة ذلك ما نجده في "معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة" للدكتور "سعيد علوش"، الذي من بين ما جاء فيه ما يلي: الفانتاستيك: Fantastique<br />
<br />
<br />
<br />
1. نوعٌ أدبيّ، يوجد في لحظة تردّد القارئ بين انتماء القصة إلى الغرائبيّ، أو العجائبيّ.<br />
<br />
<br />
<br />
2. و(القصة الفانتاستيكيّة) هي قصةٌ تضخّم عالمَ الأشياء، وتحوّلها عبر عمليّات مسخيّة.<br />
<br />
<br />
<br />
3. ويُعدّ (هوفمان) من بين كتاب هذا النوع القصصيّ." (23)<br />
<br />
<br />
<br />
حيث نلاحظ أنه اعتمد كلَّ الاعتماد على تعريف تودوروف، وعمد إلى تعريب المصطلح بالفانتاستيك، مصطلحا في الوقت نفسه على العجيب – وبالمعنى نفسه الذي أرساه تودوروف – بالعجائبيّ، وعلى الغريب بالغرائبيّ. ولعلّه فعل هذا اجتنابا لما يمكن أن يحدثه التشابه الصوتيّ والاشتقاقيّ بين "العجائبيّ" و"العجيب" من تداخل، والتباس، قد لا ينجو منهما القارئ غير المتخصّص، وغير الملمّ بخبايا تلك النظريّة.<br />
<br />
<br />
<br />
ومثله يفعل الدكتور "شعيب حليفي" في كتابه "شعريّة الرواية الفانتاستيكيّة"، حيث يتبع هو أيضا طريقة التعريب، معرِّفا الفانتاستيكيّ بأنّه "يتموضع بين ما هو عجائبي وغرائبي، ويجعل القارئ كما يجعل الحدث ونهايته عاملين في تحديد فانتاستيكية العمل الروائي، فإذا انتهت الرواية إلى تفسير طبيعي فإنها تنتمي إلى الأدب الغرائبي [...] أما العجائبي فهو حدوث أحداث، وبروز ظواهر غير طبيعية؛ مثل تكلم الحيوانات، ونوم أهل الكهف لزمن طويل، والطيران في السماء، أو المشي فوق الماء."(24) ويجاريهما "المصطفى مويڤن في كتابه "بنية المتخيل في نص ألف ليلة وليلة"، الذي يقول فيه: "يتموقع الفانتاستيك بين العجائبي والغرائبي، حينما يكون المتلقي والحدَث عنصريْن أساسيْن في تحديد فانتاستيك العمل برمّته؛ فإذا ما انتهينا مع العمل الإبداعيّ إلى تفسير، ونتيجة طبيعيّتيْن، كنّا إزاء أدب غرائبي، بعدما نكون قد صادفنا أحداثا ذات بُعْد فوق طبيعيّ، غير أنها تجد لها حلا طبيعيّا. أمّا العجائبيّ فيكون مع حدوث أحداث ووقائع غير طبيعيّة، تنتهي بتفسير فوق طبيعيّ."(25) وإن كان بعكسهما – علوش وحليفي – لم يلتزم بهذه الصيغ، ولم يوحّد رؤيته، وموقفه من اشتقاقاتها؛ فنجده تارةً يعمد إلى التعريب: "الفانتاستيك"، وأخرى يترجم ترجمات متباينة: "العجيب"، "العجائبيّ"، ممّا يشكل أكبر مأخذ يمكن أن يؤخذ عليه.(26)<br />
<br />
<br />
<br />
ونجد الدكتور "لطيف زيتوني" في "معجم مصطلحات نقد الرواية" يتنبّه كذلك – وإن لم يذكر هذا – إلى مزالق التداخل الذي يستجلبه تجاور مصطلحَيْ: العجائبي، والعجيب، فيعمد إلى تفادي ذلك، لا بالاعتماد على التعريب، بل باتباع طريق الترجمة، واختيار مصطلح: "الخارق" مقابلا لـ: Fantastique «يقوم الخارق على تقاطع نقيضيْن: العقلانيّة، التي ترفض كلَّ ما لا يقبل التفسير، واللاعقلانيّة، التي تقبل بوجود عالم غير عالمنا، له نظامه، ومقاييسه المخالفان لتجربتنا البشريّة، ومبادئنا العقلانيّة.»(27)<br />
<br />
<br />
<br />
وبالموازاة مع هؤلاء الدّارسين، نجد آخرين يستعملون مصطلح العجائبية، أو العجائبيّ، مع العناية اللازمة بشرح المصطلحيْن الآخريْن الملازميْن له: العجيب، والغريب. ومن أبرز هؤلاء الدكتور محمد الباردي، في كتابه: "الرواية العربيّة والحداثة"، الذي يقف في كثير من صفحاته وقفة متأنية أمام المصطلح، وأمام كثير من إشكالاته: «لقد استعملنا مصطلح العجائبي بالمعنى نفسه الذي يؤدّيه المصطلح الفرنسيّ Le Fantastiqueونحن نميّز بينه وبين المصطلحيْن القريبيْن منه، وهما: حكاية الخوارق Le merveilleux والحكاية الغريبة L'étrange» (28)ونلاحظ رغم اجتهاده في ترجمة العجيب بحكاية الخوارق، أنه يحتذي خطوات تودوروف احتذاءً شبه حرفيّ، لعلّ من أبرز ملامحه ما جاء في كتابه الآخر: "إنشائيّة الخطاب في الرواية العربية الحديثة"، الذي يتمثل فيه أهمَّ شروط تودوروف لتحقق العجائبي – شرط التردّد والشكّ بين التفسير الطبيعيّ، أو التفسير الخرافيّ – فينفي عجائبيّة رواية "أبواب المدينة" لإلياس خوري (29): «إنّ الفنَّ العجائبيّ يعرف كيف يبقى في الالتباس. اعتمادا على هذا المفهوم، لا نجد في رواية "أبواب المدينة" أيَّ إشارة سرديّة تضع حدّا فاصلا للأحداث التي تخرق الطبيعة، فالسارد ينهي أحداثه وهو يوهم القارئ بأنها وقعت فعلا. ولذلك هي أقرب إلى حكاية الخوارق منها إلى الحكاية العجيبة، رغم توفر شرط يعتبره جلُّ النقاد أساسيّا في الحكاية العجائبيّة، وهو معنى الخوف.»(30)<br />
<br />
<br />
<br />
ونجد الدكتور "لؤي علي خليل" في كتابه: "عجائبية النثر الحكائي؛ أدب المعراج والمناقب" يحاكي بدوره وبدقة شديدة ما جاء في نظرية تودوروف، لا على مستوى التنظير فحسب، بل على مستوى التطبيق أيضا، حيث عمد إلى تقسيم موضوعات العجائبيّ في نصوص المعراج والمناقب على الغرار نفسه اتبعه تودوروف في كتابه، وكذلك فعل لدى حديثه عن "الوظائف".(31) ويُعَدّ كتابه: "تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث؛ المصطلح والمفهوم" من أبرز الدراسات العربيّة المهتمّة بموضوع تلقي العجائبية لدى النقاد العرب، وعلى حدِّ تعبير الدكتور "علي أبو زيد" في تقديمه للدراسة، فإنّ هذا الكتاب يُعدّ "أوّلَ دراسة عربيّة تبحث في مفهوم العجائبي، وتلقيه عند الدارسين والنقاد العرب، على الرغم من وجود بعض الدراسات التي تناولت جانبا منه، أو طبّقته في جانب، إلا أنها لم تكن على مستوى شموليّة هذا الكتاب."(32)<br />
<br />
<br />
<br />
ونلمس في هذه الدراسة تتبّعا دقيقا لتلقي المصطلح والمفهوم كليْهما لدى النقاد العرب، مع محاولة شرح، وتحليل أهمّ خفايا النظرية التودوروفيّة، ومناقشة أبرز إشكالاتها. وإلى جانبه نجد الدكتور "سعيد يقطين" يتبنى الرؤية التودوروفيّة أيضا في كتابه: "السرد العربي؛ مفاهيم وتجليات" – وإن لم يكن مقتصرا على موضوع العجائبية فحسب – حيث يشرح لنا تعريف العجائبي حسبها، ويؤكد تماما مثلما فعل تودوروف على ضرورة توافر عنصر الشك، أو الحيرة في صميم السرد والوصف كليْهما، كي تتحقق صفة العجائبية: «إنّ حصول هذه "الحيرة"، أو "العجز" عن معرفة كيفيّة وقوع الفعل "العجيب" هو الذي يولّد، ويحدّد "العجائبيّ" كما تقدّمه لنا مختلف "الحكايات" أو "الأخبار" التي تزخر بها كتب العجائب العربيّة.»(33)<br />
<br />
<br />
<br />
وغير بعيد عنه نجد الدكتور "فوزي الزمرلي" في كتابه: "شعرية الرواية العربية"، الذي يتبنى فيه مصطلح العجائبية وفق رؤية تودوروف، ويتعمّق في شرح أبعاد نظريّته، وحدودها، فيشير كما فعل سابقوه إلى الفرق بينه وبين العجيب والغريب من جهة، ويؤكد على ضرورة توافر عنصر الشك والحيرة من جهة ثانية، ويلمح كذلك – واقتداءً بتودوروف – إلى أنّ العجائبيّ ليس بالجنس الأدبيّ المستقلّ بنفسه، "بما أنه يقيم في واقع الأمر على تخوم جنسيْن أدبيّيْن مجاوريْن له: وهما الغريب، والعجيب."(34) وهو ما أشار إليه قبله د. شعيب حليفي في "أنه ليس جنسا أدبيا قائما بذاته، ولكنه صيغة،[...] والحقيقة أنه يسم كل الأجناس الأخرى، بل إنه يدخل في باب تشكيل النص في الشعر، والمسرحية، وفي الرواية الواقعية والرومانسية، ومعنى هذا أنه ليس هناك جنس الفانتاستيك، بل هناك تقنية الفانتاستيك."(35) وهذا هو عين ما ذهب إليه تودوروف حين أشار إلى أنّ اقتصار ديمومة العجائبي على زمن تردّد القارئ، وحيرته في تفسير الظواهر الخارقة للواقع هو ما يؤدي إلى نزع صفة الجنس أو النوع الأدبي عنه؛ فهو "يحيى حياة ملؤها المخاطر، وهو معرَّضٌ للتلاشي في كلِّ لحظة. يظهر أنه ينهض بالأحرى في الحدِّ بين نوعيْن؛ هما العجيب والغريب، أكثر ممّا هو جنسٌ مستقلٌّ بذاته."(36)<br />
<br />
<br />
<br />
أمّا الدكتور "نضال الصالح" في كتابه: "النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة"، فنجده يقف أمام مصطلحَيْ: العجائبي، والغرائبيّ – وإن لم تكن وقفته هذه مقصودة لذاتها بل أتت في سياق تنظيره لهاجس النزوع الأسطوريّ وحده – شارحا أولهما وفق رؤية تودوروف، وثانيهما وفق رؤية أبتر، ونجده يعنى بالتفريق بين الأسطوريّ والعجائبيّ، اللذين كثيرا ما يختلط مفهوماهما، وكثيرا ما تضيع الحدودُ الفاصلة بينهما، نظرا لتشابههما في تقديم عوالم فوق واقعيّة، ونظرا لتعدّد مستويات التأويل في كليْهما، ورغم كلّ هذا فإنّ القطيعة بينهما واضحة، ويمكن إرجاعها إلى شرط التردّد، أو المأزق الإدراكيّ – كما يصطلح عليه أبتر – الذي يعدّ أحد شروط العجائبي، في الوقت الذي تنبذه فيه الذهنيّة الأسطوريّة، القائمة على تلاشي الحدود بين ما هو واقعيّ وفوق واقعيّ، بل اعتبار هذا الأخير حقيقة لا مجال أبدا إلى الشكّ فيها.(37)<br />
<br />
<br />
<br />
وبهذا نكون قد عرضنا لبعض الآراء التي تمثلت رؤية تودوروف، واحتذت خطواته. وعلى الرغم من التباين الشديد بينهم في تلقي المصطلح، والتراوح بين ترجمته حينا، وتعريبه حينا آخر، فإنّ المفهوم يكاد يكون موحّدا فيما بينهم، وبعيدا عن أيِّ تفاوت، واختلاف. وغير بعيد عن هؤلاء نجد باحثين آخرين، يعملون على التنظير والتطبيق لبنية الخارق، والخياليّ، وما فوق الواقعيّ، في بعض الأعمال الأدبيّة العربيّة، من قصة قصيرة، ورواية، ومسرح، وغيرها، ولكنهم بعيدون كلَّ البعد عن مصطلحات تودوروف، وتحديداته المنهجيّة. فلا نجد مثلا في "معجم المصطلحات الأدبيّة" لإبراهيم فتحي أيّة إشارة إلى مصطلح "العجائبيّة"، وصنوَيْه: العجيب، والغريب، وفق ما حدّده تودوروف، وأقرب إشارة إليه نجدها لدى حديثه عن مصطلح: "الحكاية العجيبة Tall Tale" «سردٌ قصصيٌّ، يروي أحداثا ووقائع حافلة بالمبالغة، ويصعب تصديقها، ومن أشهر أمثلتها: "الضفدعة الشهيرة النطاطة من بلاد كالا فاريس.»(38)<br />
<br />
<br />
<br />
ونلاحظ هنا تركيزا مطلقا على عنصرَيْ المبالغة، وصعوبة التصديق، اللذيْن يشكلان مفصلَ هذا المصطلح، ويؤطران جميعَ تخومه، وحدوده؛ فما يصنع عجائبيّة هذا النوع من الحكايات هو خروجه عن ضوابط العقل، والمنطق، وعلوّ سمة التضخّم، والاختراق فيه؛ تضخم الأحداث أو الشخصيات، وبلوغها حدَّ الوهم، والخرافة، واختراق بلادة الواقع، وجموده. ونجد كذلك الباحثيْن: "أحمد جاسم الحميدي"، و"محمد جاسم الحميدي" في كتابهما المشترك: "الرواية ما فوق الواقع"، يعملان على إرساء حدود مصطلح جديد، هو "ما فوق الواقع"، ويحاولان من خلاله التحرّرَ من رؤية تودوروف، والتركيز على أهمية ذلك النوع من الروايات ما فوق الواقعيّة، التي "استطاعت أن تتجاوز عقدة (السرد الحكائيّ الأليف) وبناء معماريّة خاصة بها، كما أنها فصلت العالم الروائي عن العالم الفعليّ." (39) والتي يعلو فيها ويتزايد "تطلّع الفنان إلى ريادة أرض بكر، واكتشاف أشكال جديدة، أكثر اقترابا من المخيلة العربية، والمناخات العربية، بأجوائها، وميثولوجياتها، وأساطيرها."(40) ويبدو جليّا من خلال ما سبق، ابتعادُ الباحثيْن عن تنظيرات تودوروف، في مقابل ما يبدو من إصرارهما الشديد على ضرورة التمرّد على أطر الرواية التقليديّة الجامدة، التي تحاكي الواقعَ وأحداثه محاكاةً حرفيّة، تخلو من أيِّ بادرة توهّج، أو إدهاش، ممّا يمسخ خصوصيّة الفنِّ الروائيّ من فنٍّ تخييليّ، يتراوح حضوره بين الإحالة إلى الواقع من جهة، وتجاوزه واستباقه من جهة ثانية، إلى عمليّة نسخيّة باهتة، تتكرّر فيها إلى حدِّ السأم، والابتذال رتابة الواقع، ونشازاته.<br />
<br />
<br />
<br />
ونجد الأستاذ "فاضل ثامر" في كتابه: "المقموع والمسكوت عنه في السرد العربيّ"، يراوح بين مصطلحيْ: "الغرائبيّة"، و"الفنطازيّة" في سياق تحليله لتجلياتهما في نماذج من القصة القصيرة الأردنيّة، مؤكدا على ضرورة توافر البعد السحريّ في الأعمال الأدبيّة، لأنه السبيل الأوحد لتفادي نمطيّة التقليد، والنسج على منوالٍ واحد، أحاديِّ البعد، مسطح الإيحاءات: «فبدلا من الامتثال لتقديم لوحة سوداء، مليئة بمظاهر الاختناق، والاستلاب، [...] وبدلا من التمسّك برومانسيّة ثوريّة، قد تصبح ساذجة في تفاؤليّتها أحيانا، تتحدّى البنية الواقعيّة/ الغرائبيّة الجديدة الواقعَ الضاغط، المهيمن بامتداداته الخارجيّة، المرتبطة بالآخر، وجذوره الدّاخليّة المقيّدة لحريّة الإنسان، وتسخر منه، وتنزله من عرشه، وتقيم بدلا منه نظاما فنطازيّا، وسحريّا بديلا، هو الآخر مرتبط بمثال متجذر في الوعي الشعبيّ، وبإمكانات تحوّل هذا الوعي من سكونيّة "الوعي القائم" إلى ديناميّة "الوعي الممكن.»(41)<br />
<br />
<br />
<br />
ويجتهد كثيرا الأستاذ ثامر في تبيان أهمية هذا البعد "الغرائبيّ" في إثراء المعنى، وتعميقه، وإضفاء سمة تأويليّة، تتضاعف من خلالها قوته، ويتزايد تأثيره. ونلاحظ أنه على الرغم من إشارته مرات كثيرة إلى نظرية تودوروف، يتحرّر منها، ولا يلزم نفسه بشيء من مقولاتها، سواء كان هذا على مستوى التنظير، أم على مستوى ما طبّقه على ما انتقاه من نماذج. وهو الأمر الذي عابه عليه د. لؤي خليل، وعدَّه اضطرابا منهجيّا في الوعي بنظرية تودوروف. (42) ويبدو انتقادُ د. خليل من باب المغالاة في تطبيق نظرية تودوروف، والمبالغة في تتبّع جميع خطواته، وتوصياته، واجتناب تحذيراته كلّها، وتحفظاته، وهو ما لا نوافقه على جزء كبير منه؛ ذلك أنه من العبث، ومن غير العمَليّ تتبّعُ جميع ما أرساه اجتهاد فرد واحد – أيّا كان علمه، وأيّا كانت ريادته، وبراعته – وتطبيقه على جميع النتاج الإبداعيّ العربيّ الضخم، والممتدّ على مدى عقود طويلة، عرفت فيها البلدانُ العربيّة من التغيّرات الاجتماعيّة، والسياسيّة ما يمنحها خصوصيّة، وثراءً يستعصي على محاولة حصره ضمن نظرية فرديّة واحدة، أيّا بلغت درجة دقتها، وشمولها، ورصانتها. وإذا أضفنا إلى هذا أنّها وليدة بيئة، وسياقات أدبيّة، واجتماعيّة مختلفة كلَّ الاختلاف عن خصوصيّات، وسياقات البيئة العربيّة، لبدا بجلاء حجمُ الإجحاف الذي يقع فيه كلُّ مَن يحاول المبالغة في تمثل، وتقليد النظريّة الغربيّة، ومحاسبة مَنْ لا يجاريه في ذلك.<br />
<br />
<br />
<br />
وهذا هو ما يراه "كمال أبو ديب" في كتابه: "الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ"، الذي على الرغم من أنه استعمل فيه المصطلح التودوروفيّ: "العجائبيّ" إلا أنه يثور – في مقدمة كتابه – على تلك النظريّة ثورة عارمة، وينعى على الباحثين العرب تهافتهم عليها، ومبالغتهم في تقليد صاحبها، والافتتان بكلِّ ما يقرّره، وينفيه، متناسين روعة التراث العربيّ الأصيل، الثريّ، والحافل بما لا تستطيع أيّة نظريّة غربيّة استيعابه. "يحقّ للإبداعيّة العربيّة أن تنسب لنفسها في سياق التاريخ الأدبيّ، الذي كانت تعيه ابتكارَ فنّ أدبيّ جديد؛ هو فنّ العجائبيّ، والخوارقيّ: فنّ اللامحدود، واللامألوف؛ فنّ الخيال المتجاوز، الطليق، وابتكار المتخيّل الذي لا تحدّه حدود، ويجلو ذلك عبثيّة الادّعاءات الصّريحة أو المتضمّنة، التي يقوم عليها عملُ باحثين مثل تزيفتان تودوروف، ينسبون إلى الغرب حصرا ابتكارَ ما أسموه الآن: "الفانتاستيك"، وعبثيّة مَنْ يتعقبهم من الباحثين، وهواة البحث من العرب، الذين يفتنهم كلُّ غربيّ بما يزعمه لنفسه، لمجرد أنه زعمَه لنفسه."(43)<br />
<br />
<br />
<br />
بل إنّ نظريّة تودوروف نفسها لم تسلم من انتقاد الدارسين الغربيّين أنفسهم لكثيرٍ ممّا جاء فيها جملة، وتفصيلا؛ فهي كما يرى دنيس لابيه Denis Labbé وجيلبير ميليه Gilbert Millet إن كانت صالحة لبعض القصص العجائبيّة في القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر (موباسان Maupassant وغوتييه Gautierوبو) إلا أنها لا تبدو أبدا ملائمة لرواية الرعب الحديثة."(44) وقبلهما يذهب مارسيل شنايدر Marcel Schneider في تأريخه للأدب العجائبيّ في فرنسا إلى ضرورة توسيع نظريّة العجائبيّة، وعدم حصرها ضمن ما اجتهد فيه كايوا، أو حتى تودوروف؛ فالعجائبيّة حسبه "ليست لعبا بما هو مرعب (كما يرى كايوا) ولا هي تلك اللحظة الملتبسة، التي يُتردّد معها بين الحلّ المعقول، والحلّ اللامعقول (كما يرى تودوروف) ولا هي تشكّلٌ خفيّ، ولا مجرّد تجلٍّ لما فوق الواقع: إنها نتاجُ انشقاق، وتصدّع مفاجئ في التجربة المعاشة يوميّا."(45) وتبدو من خلال هذا القول دعوةٌ صريحةٌ إلى ضرورة توسيع مفهوم العجائبي، وعدم سجنه داخل جدران نظريّة أحاديّة ضيقة، لأنه فنٌّ متعلّقٌ بالحياة نفسها، بكلِّ ما يسودها من مفارقات، وتناقضات، وعبث، وألغاز، لا يجد كثيرٌ منها لنفسه أيَّ حلّ، أو يجد حلولا كثيرة متناقضة بدورها هي الأخرى، وغامضة.<br />
<br />
<br />
<br />
وهو عين ما ذهب إليه – وإن اختلفت طرق التعبير – ألبيريس (Alberes) في تأريخه للرواية الحديثة، حين افترض عدمَ خلوّ أيّة رواية مهما كانت واقعيّة من جانبٍ سحريّ هنا، أو خياليّ – مغرق في الخيال – هناك، يقول: «إنّ في كلِّ رواية إناءً مقدّسا ينبغي اكتشافه، لأنَّ كلَّ رواية تشتمل على سرّ، وبحث، ومغامرة، ودلالة تكون خافية أول الأمر، وهكذا فإنّ كلَّ رواية هي شيءٌ "عجيبٌ" بمعنى ما، ولكنّ هذا العجيب قد يكون ضعيفا، أو عجيبا اجتماعيّا، أو سايكولوجيّا، وقد يكون في بعض المرّات بوليسيّا بكلِّ يسر... أمّا في الرواية الصوفيّة فيظلّ العجيب معنى فلسفيّا، باطنيّا للوجود.»(4)<br />
<br />
<br />
<br />
وعليه فإنّ من الضروريّ جدّا العمل على توسيع مفهوم العجائبيّة، وعدم حصره ضمن أطر ضيّقة، كثيرا ما تكون قاصرة عن استيعاب تجلياته الكثيرة في العمل الإبداعيّ، وكثيرا ما لا تكون قادرة على مجاراة شطحات المبدع، وهواجسه، وخيالاته البالغة التعقيد، والاشتباك؛ ذلك أنّ لكلّ عمل أدبيّ خصوصيّاته، وأسراره، وطاقاته المتجدّدة على السحر، والإدهاش؛ ذلك الإدهاش الذي تزداد قوته كلما ازداد غموضه، وكلما كثرت تأويلاته، وتعدّدت أسئلته، وإشكالاته. وهي الإشكالات التي نجدها متزاحمة جدّا لدى تأمّلنا ما وصلت إليه الرواية العربية اليوم من نزعات تجديديّة، وهواجس تجريبيّة، كثيرا ما تكون متضخمة، وفي غير محلها أحيانا، ولكنها إن عكست شيئا فإنما تعكس لنا مدى حاجة المبدع العربيّ إلى الانفتاح، والمغامرة، والبحث المستميت عن أطر جديدة تستوعب انشغالاته الكثيرة، وترتـّق فجواته الذهنيّة المتورّمة تورّمَ اضطرابات هذا العصر، والمتزايدة بتزايد أسئلته، واحتداماته.<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
الهوامش:<br />
<br />
: (1) La littérature fantastique, Denis Mellier, Ed Seuil, Paris, 2000, p4.<br />
<br />
<br />
<br />
(2) Dictionnaire étymologique et historique de la langue française, Emmanuèle Baumgartner et Philippe Ménard, Librairie générale française, 1996, p317.<br />
<br />
<br />
<br />
(3) Dictionnaire de français classique la langue de XXVIIIºs, Gaston Cayrou, Klincksieck, Paris, p355.<br />
<br />
<br />
<br />
(4) Dictionnaire de critique littéraire, Joëlle Gardes- Tamine et Marie Claude Hubert, Armand Colin, paris, p81.<br />
<br />
<br />
<br />
(5) Le fantastique, Denis Labbé et Gilbert Millet, Ellipses Édition, Paris, 2000, p6.<br />
<br />
<br />
<br />
(6) مدخل إلى الأدب العجائبيّ، تزفيتن تودوروف، ترجمة: الصديق بوعلام، دار شرقيات: القاهرة، ط1، 1994، ص: 44.<br />
<br />
<br />
<br />
(7) المرجع نفسه، ص: 59.<br />
<br />
<br />
<br />
(8) المرجع نفسه، ص: 63.<br />
<br />
<br />
<br />
(9) p 301. Dictionnaire étymologique et historique de la langue française,<br />
<br />
<br />
<br />
(10) Ibid, p 494.<br />
<br />
<br />
<br />
(11) Dictionnaire de français classique la langue de XVIII's, p337.<br />
<br />
<br />
<br />
(12) Ibid, p 503.<br />
<br />
<br />
<br />
(13) أدب الفنتازيا؛ مدخل إلى الواقع، ت. ي. أبتر، ترجمة: صبّار سعدون السعدون، دار المأمون: بغداد،1989، ص: 13.<br />
<br />
<br />
<br />
(14) المرجع نفسه، ص: 41.<br />
<br />
<br />
<br />
(15) لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين بن منظور، دار صادر: بيروت، ط1، (د.ت)، مج: 10، ص: 38.<br />
<br />
<br />
<br />
(16) المرجع نفسه، مج11، ص: 23- 24.<br />
<br />
<br />
<br />
(17) عجائب المخلوقات، والحيوانات، وغرائب الموجودات، زكريا بن محمد القزويني، منشورات مؤسسة الأعلمي: بيروت، ط1، 2000، ص: 10.<br />
<br />
<br />
<br />
(18) المرجع نفسه، ص: 15.<br />
<br />
<br />
<br />
(19) سورة الأعراف، الآية: 63.<br />
<br />
<br />
<br />
(20) سورة المائدة، الآية 100.<br />
<br />
<br />
<br />
(21) سورة الكهف، الآية: 9.<br />
<br />
<br />
<br />
(22) سورة ق، الآية: 2.<br />
<br />
<br />
<br />
(23) معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني: بيروت، ودار سوشبريس: الدار البيضاء، ط1، 1985، ص: 170.<br />
<br />
<br />
<br />
(24) شعريّة الرواية الفانتاستيكيّة، د. شعيب حليفي، دار الحرف: القنيطرة، المغرب، ط2، 2007، ص: 50.<br />
<br />
<br />
<br />
(25) بنية المتخيل في نص ألف ليلة وليلة، المصطفى مويڤن، دار الحوار: اللاذقية، ط1، 2005، ص: 237- 238.<br />
<br />
<br />
<br />
(26) ينظر المبحث الثاني من الفصل الثالث من الكتاب: من الصفحة 229 إلى 246.<br />
<br />
<br />
<br />
(27) معجم مصطلحات نقد الرواية (عربي، إنكليزي، فرنسي)، د. لطيف زيتوني، مكتبة لبنان ناشرون: بيروت، ودار النهار: بيروت، ط1، 2002، ص: 86.<br />
<br />
<br />
<br />
(28) الرواية العربية والحداثة، د. محمد الباردي، دار الحوار: اللاذقية، ط1، 1993، ص: 187.<br />
<br />
<br />
<br />
(29) يشعر قارئ هذه الرواية فعلا بامّحاء الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، وبغموض أجوائها غموضا لا نجد له أيَّ تفسير، لا في بداية الأحداث، ولا في نهايتها، حيث تمتدّ فيه الوقائع امتدادا حلزونيّا متداخلا، ربما يكفي لتلمّسه ما جاء في أولى صفحات العمل: "كان رجلا غريبا، لم يروِ قصّته لأحد، لم يكن يعرف أنها قصّةٌ تُروى [...] رأى نفسه وسط الحكاية، ولم يسأل كيف بدأت، كان مشغولا بنهايتها، وحين أتت النهاية وجد أنه لا يعرف النهاية أيضا..." أبواب المدينة، إلياس خوري، دار الآداب: بيروت، ط2، 1990، ص: 6.<br />
<br />
<br />
<br />
(30) إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، د. محمد الباردي، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2000، ص: 251.<br />
<br />
<br />
<br />
(31) ينظر عجائبية النثر الحكائي؛ أدب المعراج والمناقب، د. لؤي علي خليل، دار التكوين: دمشق، ط1، 2007، ص: 66، وما بعدها.<br />
<br />
<br />
<br />
(32) تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث؛ المفهوم والمصطلح، د. لؤي علي خليل، هيئة الموسوعات العربية: دمشق، ط1، 2005، ص: 13.<br />
<br />
<br />
<br />
(33) السرد العربي؛ مفاهيم وتجليات، د. سعيد يقطين، دار رؤية: القاهرة، ط1، 2006، ص: 267.<br />
<br />
<br />
<br />
(34) شعرية الرواية العربية؛ بحث في أشكال تأصيل الرواية العربية ودلالاتها، د. فوزي الزمرلي، مؤسسة القدموس الثقافية: دمشق، 2007، ص: 108.<br />
<br />
<br />
<br />
(35) شعرية الرواية الفانتاستيكيّة، ص: 44.<br />
<br />
<br />
<br />
(36) مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 57.<br />
<br />
<br />
<br />
(37) النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، د. نضال الصالح، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2001، ص: 21- 22.<br />
<br />
<br />
<br />
(38) معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين: تونس، ط1، 1986، ص: 143.<br />
<br />
<br />
<br />
(39) الرواية ما فوق الواقع، ص: 31.<br />
<br />
<br />
<br />
(40) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.<br />
<br />
<br />
<br />
(41) المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي، فاضل ثامر، دار المدى: دمشق، ط1، 2004، ص: 92.<br />
<br />
<br />
<br />
(42) ينظر تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث، ص: 33.<br />
<br />
<br />
<br />
(43) الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ، ص: 9.<br />
<br />
<br />
<br />
(44) Le Fantastique, p 7.<br />
<br />
<br />
<br />
(45) Histoire de la littérature fantastique en France, Marcel Schneider, Fayard, 1985, p8.<br />
<br />
<br />
<br />
(46) تاريخ الرواية الحديثة، ر. م. ألبيريس، ترجمة: جورج سالم، منشورات بحر المتوسط: بيروت، باريس، ومنشورات عويدات: بيروت، باريس، ط2، 1982، ص: 421.<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
http://www.alkalimah.net/article.aspx?aid=6853</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-71482181174333853912015-08-05T02:34:00.002-07:002015-08-05T02:34:57.516-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
إشكال المصطلح في القصص الشعبي<br />
<br />
الخميس ١٨ آذار (مارس) ٢٠١٠، بقلم مصطفى يعلى<br />
<br />
مثلما هو الحال في معظم الحقول البحثية والنقدية العربية، لم تسلم الدراسات الأدبية الشعبية في العالم العربي أيضا، من ظاهرة التشويش السلبي في تداول المصطلحات الواصفة لمختلف أنواع السرد الشعبي، حيث يجد الباحث في هذا المجال نفسه في مواجهة ما يشبه فوضى المصطلح، بسبب ما يلقاه من بلبلة واضطراب في توظيفه لدى معظم الباحثين العرب في الأدب الشعبي. وها هي بعض مظاهر ذلك:<br />
مظاهر الاضطراب:<br />
<br />
اختزال كل الأنواع القصصية الشعبية جميعا في مصطلح واحد هو (الحكاية الشعبية) أو (القصص الشعبي)، دونما تمييز لبعضها عن بعض.<br />
استعمال مصطلحات (الحكايات) (الحكاية الشعبية) (القصص الشعبي) (القصص الشعبية) (القصة الشعبية) (الأساطير) (الأسطورة) و(الخرافة) ، للدلالة على السرد الشعبي عامة.<br />
إطلاق مصطلحات (الحكاية الخرافية) (الحكاية الخارقة) (حكاية الخوارق) (الخارقة) (حكاية الجان الخارقة) (حكاية الجان) (حكايات السحر) (الحكاية العجيبة) (القصة العجيبة) (القصة الخرافية) (القصص الخرافي) (الخرافة) (خرافات الجنيات) (حكايات خرافية) (الحكاية الخرافية الشعبية) (الحكاية الشعبية) (حكاية العفاريت) (الحكاية الفولكلورية)؛ على نوع قصص شعبي واحد عينه هو (الحكاية العجيبة).<br />
تداول مصطلحات (حكايات الواقع الاجتماعي) (الحكاية الاجتماعية) (حكايات الحياة اليومية) (حكايات الحياة المعاشة) (الأسطورة الاجتماعية) (الحـكـاية الواقعية) (القصص الشعبي الواقعي) (الحكاية الشعبية)؛ للدلالة على نوع سردي شعبي آخر هو (الحكاية الشعبية) باعتبارها نوعا مخصوصا مثل غيره من الأنواع الأخرى.<br />
تخصيص مصطلحات (القصص الخرافي) (الخرافة) (حكايات الحيوان الخرافية) (خرافات الحيوان) (المثل الخرافي) (حكايات الحيوان) (حكايات الحيوانات) (حكاية الحيوان) (حكايات حول الحيوان) (القصص الحيواني) (المثل) (المثل الحيواني) (فابولات الحيوان) (أساطير الأطفال) ؛ بنوع قصصي شعبي مختلف عن سابقيه هو ما عرف في تراثنا العربي ب (الخرافة).<br />
نعت (الحكاية المرحة) بمصطلحات (النادرة) (الحكايات الهزلية) (الخرافات الهزلية) (القصص الفكاهية) (الحكاية المرحة). وحبذا لو التزم هؤلاء الباحثون مصطلحات سردية شعبية معينة مما عرضناه ، وتداولوها وحدها بعيدا عن التعدد والخلط ، إذن لكان الأمر أهون . لكن ما حصل هو أنهم يستعملون مصطلحا هنا ومصطلحا هناك وآخر هنالك ، وهم يقصدون نوعا قصصيا شعبيا واحدا، الأمر الذي ضاعف من بلبلة المصطلحات القصصية الشعبية عندنا.<br />
ولنستشهد بالحالتين الدالتين المواليتين:<br />
<br />
الحالة الأولى: تختلط المصطلحات المخصوصة بـ (الحكاية العجيبة)، على د. عبد الملك مرتاض ، فيضطرب بين مصطلحات (الحكـأيـة الخرافية) و(الحكاية الخارقة) و(حكايات الخوارق) و(الخارقة)، على الوجه الذي توضحه هذه الفقرة :<br />
«ولعل أشهر هذه المناهج الخاصة بدراسة الحكاية الخرافية ∗ إطلاقا ، منهج العالم الفولكلوري الروسي فلاديمير بروب المعروف بالمنهج المورفولوجي.<br />
وهذا المنهج يقوم على اعتبار العناصر الثابتة والدائمة في الحكاية الخرافية إنما هي في الحقيقة وظائف الشخصيات ذاتها، كيفما كانت هذه الشخصيات داخل الحكاية الخارقة، وكيفما كانت الكيفية التي يتم بمقتضاها القيام بهذه الوظائف. وفلاديمير يرى أن الوظائف هي الأجزاء المشكلة أساسا لحكاية الخوارق. والعناصر الثابتة المشكلة للخرافة تبلغ عنده زهاء خمسين ومائة عنصر. وقد اهتدى إلى هذا العدد بناء على دراسة أقامها على مجموعة من النصوص الحكائية الروسية. أما عدد الوظائف التي تطرد في جميع الحكايات الخرافية جملة، حسب رأيه، لا تتجاوز إحدى وثلاثين وظيفة» [1]<br />
<br />
والأمر نفسه يحدث له بالنسبة لنمط قصصي شعبي ثان ، حيث يطلق عليه (حكايات حول الحيوان) و (حكايات الحيوان). ثم يعود فيسميه (خـرافات الحيوان) [2].<br />
<br />
ويقع في الارتباك ذاته ، عندما يستعمل في حق (النادرة) مصطلحي (الحكايات الهزلية) و(الخرافات الهزلية) [3] .<br />
<br />
الحالة الثانية: يقع نمر سرحان ، في اضطراب بيّن، حين يسمي (الحكاية العجيبة) تسمية تتعلق بجزء واحد منها فقط، نقصد (حكاية الخوارق)، وفق ما يبدو من تعريفه للحكاية العجيبة بقوله :<br />
<br />
«نعني بحكايات الخوارق تلك الحكايات التي تتضمن جزئيات ذات مضمون خارق للعادة . ومثل ذلك تلك الجزئية المتكررة في الكثير من حكايات الخوارق عن قدرة الغول على حمل الإنسان، آمادا بعيدة قبل أن يرتد إليه بصره أو في غمضة عين.» [4] .<br />
<br />
لكنه يعود فيفرعها إلى أنواع ذات مصطلحات خاصة : (حكاية الغيلان) (حكاية الجن)، (حكايات السحر). وينسى أن الغول ومعه عنصرا الجن والسحر، ما هي إلا عناصر خارقة في الحكاية العجيبة. والحقيقة أنه هنا لا يزال في صميم استعمال تعريفه للحكاية العجيبة، على اعتبار أن ما ذكره عن (حكاية الخوارق) لا يعدو أن يكون عنصرا واحدا من عناصر الحكاية العجيبة التي تتوالى في تفريعاته تلك، كما يتبين من قوله مثلا معرفا بما سماه (حكاية الغيلان) : «حكاية الغيلان حكاية متواترة بالرواية الشفوية جادة غالبا. وتتركز الأحداث حول بطل أو بطلة ، وغالبا ما يكون البطل فقيرا أو مضطهدا أو يتعرض لامتحان عسير تتوقف عليه حياته أو حصوله على فتاة أحلامه أو على دواء غريب لعزيز لديه. وبعد سلسلة من المخاطرات يقوم بها ذلك البطل بشجاعة أو يمر بها بهدوء نتيجة لطيبة نواياه أو حسن حظه فإنه وبعد أن تلعب(الخوارق) دورا ملموسا يستطيع أن يصل إلى غرضه فيحضر الدواء أو يجتاز الامتحان، وبعد ذلك وفي الغالب فإنه يحصل على كنز أو فتاة رائعة الجمال أو الاثنين معا ويعيش حياة سعيدة الى النهاية. وفي العادة فإننا نلاحظ الغول شخصية أساسية في هذه الحكايات وهو يؤثر بالإيجاب أو السلب على أحداث القصة ويساعد على تطويرها سواء كان في جانب البطل يعاونه ويسهل له الصعاب أم في المعسكر المعادي يهدد حياة ذلك البطل أو يحول دون حصوله على مبتغاه» [5] .<br />
<br />
ولا يحتاج الأمر هنا، الى كثير عناء لتبين مدى الخلط الذي وقع فيه الباحث. لكون جميع العناصر الواردة في هذا التعريف تتعلق بنوع قصص شعبي معين هو (الحكاية العجيبة). ولهذا فإن التعاريف التي ساقها لـ (حكاية الغيلان) و (حكاية الجن) و (حكاية السحر)، ليست في حقيقة الأمر إلا تعريفا متكاملا للحكاية العجيبة، سيما وأننا يمكننا أن نستبدل عنصر الغول والجن بغيرهما ، دون أن يحدث أي اضطراب فيما أطلق عليه الباحث (حكاية الغيلان) و (حكاية الجن). أما السحر فهو في أساس الحكاية العجيبة. والأدهـى أنه يستعمل مصطلحات أخرى في السياق نفسه هي (القصص الخرافي) و (الحكاية الخرافية الشعبية) و (الحكاية الخرافية) [6].<br />
<br />
أسباب الاضطراب:<br />
<br />
أكيد أن لهذه الظاهرة أسبابها الخاصة. ويمكن أن نبرز من بينها أهمها كالتالي:<br />
<br />
ـ طبيعة الاختلاف المميزة لحقل العلوم الإنسانية، التي يصعب مع صفة النسبية التي تميزها، ادعاء الحقيقة من منظور أحدي، لاسيما إذا تعلق الأمر بعملية استنبات لمفاهيم ومصطلحات توصيفية منقولة عن لغات أجنبية مختلفة في طبيعتها وخصوصيتها عن اللغة العربية.<br />
ـ عدم استجابة الإبداع الشعبي للحرفية والإحكام ولا الخضوع للاتجاه وفق ما رسمه د. عبد الحميد يونس في كتابه الرائد (الحكاية الشعبية) [7]، مما يسلب الباحث إمكانية الضبط الدقيق لثوابته والقدرة على حصر محدداته أو تعليل اختيار مصطلحاته.<br />
ـ مرور الدراسة الأدبية الشعبية بمرحلة التأسيس عربيا. إذ أنها لم تجد تراكما مهما تسترفده. الأمر الذي يترك الباب مشرعا للاجتهادات الشخصية المتضاربة، وكذا الاكتفاء بتلقف اجتهادات الآخرين من غير ما تمحيص. فالدكتورعبد الحميد بورايو مثلا يبرر تفضيله لمصطلح (الحكاية الخرافية) بقوله: «نقصد بالحكاية الخرافية ذلك الشكل القصصي ذا الطابع العالمي، الذي يطلق عليه دارسو الفولكلور في العالم مصطلح [8]. وقد استخدم الباحثون العرب لتعيينه مجموعة من التسميات، من بينها: الحكاية العجيبة، الخرافة، الحكاية السحرية. وقد فضلنا استخدام مصطلح الحكاية الخرافية نظرا لشيوعه في الأبحاث الجامعية الرائدة في ميدان الدراسات الشعبية العربية.» [9] .<br />
<br />
ومع هذا وذاك، فقد تحسس بعض الباحثين أحيانا صعوبة تحديد المصطلحات وضبط المفاهيم، واستطاعوا أن يعوا جيدا حتمية تجاوز ذلك الخلط في المصطلح القصصي الشعبي ، وضرورة تخصيص كل نوع من الأنواع القصصية الشعبية المتعددة بمصطلح معين دقيق التحديد والدلالة ، مادام كل منها يرتبط بعوالم وعناصر ووظائف خاصة به ، تتولد عنها فروق نوعية مميزة ، تسهل عملية تصنيف أضرب القصص الشعبي إلى أصناف محددة بأشكال ومضامين خاصة .<br />
<br />
فهذه دة. نبيلة إبراهيم تستشعر، بسبب الخلط الحاصل بين مصطلح (الحكاية الشعبية) الذي يقصد به القصص الشعبي إطلاقا ، ومصطلح (الحكاية الشعبية) الدال على نوع سردي شعبي محدد، ضرورة تسمية كل نوع من أنواع هذا السرد بمصطلح يختص به ويميزه عن سائر الأنواع الأخرى، اعتبارا لانفراد كل منها بتحديد خاص لا يختلط بغيره [10]. وهذا عبد الحميد يونس يقر بأن الباحث عندما يحاول تمييز الأشكال المتعددة للقصص الشعبي ، يواجه بعض العناء في دلالات المصطلحات الخاصة بها [11]، لاسيما وأن الحكاية الشعبية ((تستوعب أنماطا وأنواعا متفاوتة وتستهدف وظائف منوعة وهي عبارة يغلب عليها الشمول وتعوزها باعتراف العلماء المتخصصين في المأثورات الشعبية،الدقة والتحديد)) [12]. وبذلك كان هذا المصطلح في رأيه ((فضفاضا يستوعب ذلك الحشد الهائل من السرد القصصي الذي تراكم على الأجيال)) [13]، اعتبارا لجدته بالقياس الى الأدب العربي الرسمي، بل والآداب العالمية . وهذا داود سلمان الشويلي، يلح على ضرورة أخذ الحذر وتوخي الـدقـة في تحديد المصطلحات القصصية الشعبية ، تبعا للاختلافات القائمة بين الأنواع السردية الشعبية، كما هو الحال بين الحكايـة الـعـجـيـبة والحكاية الشعبية [14] أما أحمد مرسي، فإنه يعي بحق نسبية المصطلحات السردية الشعبية، ويذهب إلى أن سبيل التغلب عليها هو تضافر جهود الدارسين، التي قد توصل الى التحديد الدقيق للمصطلح وقد لا توصل، لكن المهم أن يكون تحري الدقة العلمية هو أس هذه العملية [15]. وأما عز الدين إسماعيل، فيعترف خلال حديثه عن الناحية الشكلية في القصص الشعبي، بأن ((مشكلة المصطلح ما تزال هي مشكلة الـعلوم الإنسانية التي تتسع مجالاتها مع الزمن وتتداخل)) [16]، ثم يقرر أن المصطلح السليم هو الذي يرتبط عادة بالموضوع ومنهج البحث [17].<br />
<br />
اقتراح البدائل:<br />
<br />
مساهمة في تطويق هذه الأزمة المصطلحية في مجال الدراسة الأدبية الشعبية العربية، سنحاول فيما يلي طرح بدائل من شأنها أن تساعد على وضوح المصطلحات ودقة دلالتها على كل نوع من أنواع السرد الشعبي الرئيسية، وذلك انظلاقا من خصوصية كل منها، ومراعاة للتداول الواسع لتلك المصطلحات بين الباحثين، واستئناسا بمرادفات بعضها في الغرب.<br />
<br />
أ ـ اعتماد مصطلح (القصص الشعبي) بدل مصطلح (الحكاية الشعبية) الملتبس، وذلك لازدواجية الدلالة في المصطلح الثاني، وتوقا لتقريب الشقة بين القصص الرسمي والقصص الشعبية من حيث الاشتراك في مصطلح (القصص) الموحي بما يتوفر عليه النمطان من عناصر تخييلية وجمالية عالية. إضافة إلى مبرر شيوع مصطلح (القصص الشعبي) بين معظم الباحثين العرب. ناهيك عن معيار المقارنة مع المصطلح اللاتيني [18] الذي يعني (القصة الشعبية) تحديدا.<br />
<br />
ب ـ تعويض مصطلح (الحكاية العجيبة) لمصطلح (الحكاية الخرافية)، نظرا لانبناء هذا النوع من السرد الشعبي في جوهره على ما هو عجيب ومدهش (بطولات خارقة، أحداث فوق طبيعية، شخصيات غير مرئية أو مسحورة، فضاءات غريبة مؤسطرة، أزمنة غير منطقية إلخ..). علما بأن مصطلح (الحكاية الخرافية) يحيل على نوع سردي شعبي آخر مختلف هو (الخرافة) حيث الاهتمام بترميز الطبيعة بكل مكوناتها. من غير أن نهمل مبرر المرادف اللاتيني [19] الذي يعني (الحكاية العجيبة) حصرا، إذ أن الوصف الفرنسي [20] معناه اللغوي هو : العجيب، المدهش، المذهل.<br />
<br />
ج ـ يحل مصطلح (الحكاية الشعبية) محل مصطلح (الحكاية الواقعية) وما شابهه، لكون مدار هذا النوع السردي الشعبي هو مدار واقعي اجتماعي أخلاقي تاريخي داخل المجتمع الشعبي. فصفة (الشعبية) تستوعب كل هذه العناصر.<br />
د ـ يكرس مصطلح ((الحكاية الخرافية) المستقى من المصطلح التراثي (خرافة)، للدلالة على ما يسميه البعض (حكاية الحيوان) وما إلى ذلك. بسبب عدم شمولية مصطلح (حكاية الحيوان) المنحصر في عالم الحيوان، بينما يشمل هذا النوع كل مظاهر الطبيعة ومكوناتها من حيوان وغير حيوان.<br />
<br />
هـ ـ ويقترح مصطلح (الحكاية المرحة) بدل (الحكاية الفكاهية) وغيرها، على اعتبار أن هذا المصطلح يستوعب أهم ما في المصطلحات الأخرى، وهو صفة المرح، سيما وأن مصطلح (الحكاية المرحة) يدل على المرح بشكل صريح ومباشر بلا لبس أو غموض.<br />
وهكذا، تتوفر لدبنا من كل ما سبق، خمسة مصطلحات محددة ودالة، لتمييز أهم الأنواع السردية الشعبية كالتالي:<br />
القصص الشعبي : جميع الأنواع السردية الشعبية بلا استثناء .<br />
<br />
- الحكاية العجيبة : النوع السردي الشعبي ذو العوالم العجائبية .<br />
- الحكاية الشعبية : النوع السردي الشعبي القائم على مفارقات الحياة اليومية الواقعية، بأسلوب جاد، ولغاية أخلاقية.<br />
- الحكاية الخرافية : النوع السردي الشعبي الدائر في عالم الطبيعة بأسلوب رمزي ، لغاية تعليمية محض .<br />
- الحكاية المرحة : النوع السردي الشعبي القائم على مفارقات الحياة الاجتماعية الواقعية، لكن بأسلوب مرح يسلي وينتقد.<br />
<br />
الحكاية العجيبة نموذجا<br />
<br />
ويهمنا أن نشير إلى أن هذه الاقتراحات، تستند في صياغتها إلى إجراءين علميين؛ يرتكز الأول على مناقشة المفاهيم، بينما يستند الثاني إلى السمات المهيمنة والطبيعة النوعية للحكاية كمصدر دلالي للاقتناع بالاختيار الاصطلاحي. ولما كان المجال لا يسمح هنا بالنمذجة إجرائيا لكل الأنواع الحكائية الشعبية المذكورة، ارتأينا أن نكتفي بالتمثيل لذلك بأهمها، نعني (الحكاية العجيبة).<br />
وليكن منطلقنا من حكاية محددة. وقد اخترنا لهذه المهمة حكاية (الغولة والإخوة الثلاثة) التالية :<br />
<br />
«يحكي أن غولة سكنت في مغارة قريبة من إحدى القرى، فأخذت تغير كل يوم على بيت، فتهدد صاحبه إذا هو لم يخرج لها بأنها سوف تنفخ على بيته فتهدمه، وتلتهمه هو وزوجته وأولاده، وكانت بيوت القرية كلها مبنية من الطين، فكان صاحب البيت يخاف، فيخرج إلى الغولة، فداء زوجته وأولاده، فتلتهمه، حتى إنها أتت على بيوت القرية كلها، والتهمت كل رجالها، ولم يبق سوى الأطفال والنساء.<br />
وكان يسكن في طرف من أطراف القرية ثلاثة إخوة، أحدهم يعمل صانع منا خل، واسمه منيخلان، والثاني يعمل قزازاً، واسمه قزيزان، والثالث يعمل حداداً، واسمه حديدان، وكانت الغولة قد بدأت بهم أول الأمر، ولكن أحداً منهم لم يخرج، لأنهم كانوا واثقين أن بيوتهم لن تتهدم.<br />
ولما لم يبق في القرية بيت إلا مرت به، والتهمت صاحبه، عادت ثانية إلى بيوت الإخوة الثلاثة، وقررت أن تلجأ إلى الحيلة، كي تلتهمهم واحداً واحداً.<br />
<br />
وفي اليوم الأول قرعت الباب على أصغرهم، وهو منيخلان، ودعته للخروج إلى كرم التين، ليشاركها في قطافه، فأدرك أنها تتوى التهامه، فوافق على الدعوة، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.<br />
وأسرع منيخلان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، فمضى الثلاثة إلى الكرم، وقد هيؤوا كتلاً صغيرة من الطين، جعلوها على هيئة التين، ثم بحثوا عن أكبر شجرة في الكرم، وعلقوا تلك الكتل على أغصانها، ورجعوا إلى بيوتهم.<br />
وجاءت الغولة إلى الكرم، وأخذت تنتظر وصول منيخلان، ولما تأخر عليها، ويئست من مجيئه، قامت، فبحثت عن أكبر شجرة في الكرم، وأخذت تلتهم ما تجده على أغصانها من طين، وهي تظنه تيناً، حتى أتت عليه كله.<br />
<br />
ورجعت إلى منيخلان، وأخذت تقرع عليه الباب، فلما أطل عليها من نافذة بيته، بدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له ظفرها بالتين وحدها، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أن ما التهمته طين، وما هو بالتين، فتنبهت إلى حماقتها وغفلتها، وأخذت تهدده وتوعده، وتطلب منه النزول إليها، وإلاّ، فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".<br />
وأخذت تنفخ على بيته، ولكنه بيته لم يتهدم، لأنه مبني من النسيج الذي يصنع به المنخل، وكله ثقوب وثغرات، الريح تنفذ من خلاله، ولا تؤثر فيه.<br />
<br />
وفي يوم آخر قرعت الباب على الأخ الأوسط، وهو قزيزان، فخرج لها، فدعته إلى الحقل، لالتهام الخيار، فوافقها على الدعوة وطلب منها أن تسبقه، ثم أسرع إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة إلى الحقل، فقطفوا الخيار كله، ووضعوا بدلاً منه الكوسا، ثم رجعوا إلى بيوتهم.<br />
وقدمت إلى الحقل، وأخذت تنتظر، ولما تأخر عليها قزيزان، ويئست من حضوره، قامت، فالتهمت كل ما في الحقل من كوسا، وهي تحسبه خياراً، ثم مضت إلى قزيزان وأخذت تقرع عليه الباب، فأطل عليها، من نافذته، فبدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له أنه خسر كثيراً، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أنه جنى الخيار كله، وأن ما أكلته ليس خياراً، وإنما كوسا.<br />
<br />
وثار الغضب في نفس الغولة، وطلبت من قزيزان أن ينزل إليها، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها قزيزان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".<br />
<br />
وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من القزاز، يصد الريح، ولا تستطيع أن تؤثر فيه شيئاً.<br />
وفي يوم ثالث قرعت الباب الأخ الثالث، وهو حديدان، ودعته إلى الغابة، لقطع الأشجار، وصنع الحطب، فوافقها، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.<br />
<br />
وأسرع حديدان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة الثلاثة إلى الغابة، اقتطعوا بعض الأشجار، وصنعوا كومة من الحطب، قعد حديدان في داخلها، وقام الأخوان بحزمها بالحبال، ثم رجعا إلى البيت.<br />
وقدمت الغولة إلى الغابة، فرأت كومة الحطب، جاهزة محزومة، ففرحت بظفرها بها دون حديدان، فحملتها على ظهرها، ومضت بها نحو بيتها، وفي الطريق أحست بثقلها، ولكنها عللت ذلك بكبر الكومة وكثرة ما فيها من حطب، ثم أخذ حديدان يخزها بمسلة في يده، فتتحمل الوخز، متوهمة أن أعواد الحطب هي التي تخزها، ومضت على الفور إلى بيت حديدان.<br />
وكان حديدان قد قطع الحبل الذي حزمت به كومة الحطب، وأسرع إلى بيته، فلما قرعت عليه الغولة الباب، وأطل عليها من نافذته، فأخذت تلومه لأنه لم يحضر إلى الغابة، وتذكر له ظفرها بكومة حطب، وتؤكد خسارته، فأخذ يضحك منها، ويذكرها بالوخز وثقل الحمل، ويؤكد لها أنه كان مختبئاً في كومة الحطب.<br />
<br />
وعندئذ غضبت الغولة غضباً شديداً، وطلبت إليه النزول، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته، لتهدمه، فسخر منها حديدان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".<br />
<br />
وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من الحديد، والريح لا تؤثر فيه، وكانت الغولة في غضب شديد، فظلت تنفخ طويلاً طويلاً، إلى أن انفجرت وماتت.» [21]<br />
<br />
هذه الحكاية نموذج دال على العوالم والتقنيات الجمالية المخصوصة بالحكاية العجيبة. فهي منذ الكلمة الأولى في مطلعها تحيلنا على الزمن المطلق غير المحدد، انطلاقا من صيغة بناء المجهول للفعل (يحكى)، التي لا تحيل على حقبة زمنية معينة. وإنما تلقي بمسؤولية ما سيحكى من عجائب على الماضي وعلى رواة مجهولين هم الآخرون، من غير ما عنعنة توثيقية تصل في النهاية إلى مصدر الحكاية الأصلي.<br />
كما تدخلنا هذه الحكاية من حيث فضاؤها، إلى مغارة بإحدى القرى. وإذا سألنا أية مغارة هذه؟ وأية قرية تلك؟ فلن نستطيع الظفر بحقيقتهما وموقعهما في الواقع العيني، وإنما هو غموض في غموض. والواقع أنهما تنتميان إلى فضاء تخييلي لا غير، هو من صنع الذاكرة الشعبية المبدعة. فالذي يهم هنا هو الحدث العجيب في حد ذاته، وليس مسرحه، وإن كان تأثيث المكان بمغارة مخيفة، وقرية معزولة مهددة، وبيوت طينية واهية، وأخرى مبنية من مواد لا تبنى بها عادة البيوت (نسيج المنخل، الزجاج، الحديد)، ومع ذلك فهي في الحكاية غير قابلة للهدم؛ تزيد في تعميق الإحساس بالعجب والغرابة، وتساهم في رسم مناخها داخل فضاء هذه الحكاية.<br />
<br />
ولعل ما يضفي مزيدا من العجائبية على هذه الحكاية، هو هذا الحدث الغريب الممعن في لاواقعيته. فهذا الكائن الأسطوري (الغولة) يغير على القرية يوميا، ويلتهم الأزواج بعد تهديد لا يرحم من أجل إشباع نهم الجوع الوحشي الذي لا يشبع أبدا، إلى حد خلت معه القرية من كل الرجال، حيث لم يعد هناك سوى الأطفال والنساء. ولم توقفه عند حده وتنتقم منه سوى شجاعة الإخوة الثلاثة، المسلحة بحسن الاحتيال وبراعة الخداع، نظرا لتفوق ذكائهم وفطنتهم. إلى درجة أنهم استطاعوا إجازة خداعهم على الغولة كل مرة يتكرر فيها الحدث نفسه. ففي المحاولات الثلاث التي جربتها مع كل واحد منهم خلال ثلاثة أيام، لم تظفر سوى بالسخرية والإساءة والهزيمة في الحرب غير المعلنة بين الطرفين. مما يدفع المتلقي إلى التساؤل متعجبا، كيف أمكن لبشر ضعاف أن ينالوا من هيبة هذا الكائن الخرافي، ساخرين من بلادته، وموقعين به أشد الأذى إلى حد الموت؟!. إن في هذا قلبا للمعادلة الواقعية، القائلة بحتمية تغلب القوي على الضعيف. وفي مثل هذا يكمن مصدر العجب بالحكاية، فضلا عن شحنة الطاقة الرمزية التي تحبل بها.<br />
<br />
وطبعا، لا يمكن في هذا السياق، إهمال ما تضفيه طبيعة الشخوص من مظاهر العجب على عالم هذه الحكاية، ابتداء من نعوت الأبطال الثلاثة المسجوعة المشتقة من حرفهم (منيخلان، قزيزان، حديدان). وإذا كان عدد شخوص النص السردي العجيب يصلون غالبا في النصوص المكتملة إلى سبعة، حسب تحديد فلاديمير بروب لمستويات فعل شخوص الحكاية العجيبة، فمن الملاحظ أن النص المستشهد به هنا، لا يصل شخوصه إلى هذا العدد. ذلك أن الأمر لا يتجاوز ثلاثة أنماط وظيفية رغم التعدد الظاهر على السطح. ولئن كانت الغولة تمارس وحدها بسبب اكتفائها الذاتي بقوتها وجبروتها، أفعال الأمر والتهديد والافتراس، منفردة ب(مستوى فعل الشر والاعتداء والإساءة)، فإن كل سكان القرية أزواجا ونساء وأطفالا، يضطلعون بمستوى فعل واحد، محدد في دور (الضحية). كما تجزأ مستوى فعل البطل المنتقم المخلّص بين الإخوة الثلاثة. وبذلك وضع أبطال هذه الحكاية في مواجهة ثنائية غير معقولة:<br />
<br />
(قوى الشر والجبروت المرموز لها بالغولة / سكان القرية المستسلمين + الإخوة الثلاثة الشجعان الأذكياء)<br />
وهي معادلة لا شك أنها تثير كثيرا من العجب في نفس المتلقي، لاسيما لدى انتهائها بالخاتمة القاضية على قوى القهر التي لا تغلب، بتلك الصورة الساخرة الشامتة من طرف بشر لا حول ولا قوة لهم أمام الغولة الرامزة إلى غطرسة القوة المتسلطة المتعالية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد زياد محبك في سياق تعليقه على هذه الحكاية :<br />
<br />
«ويمكن أن تعد الغولة رمزاً مطلقاً لأي شكل من أشكال القهر والظلم والقمع والإرهاب.<br />
وعلى كل حال، يمكن أن تقرأ الحكاية كما هي في الظاهر من غير أن تحمل أي قدر من الرمز أو الإيحاء، وتظل محتفظة بجمالها وجاذبيتها وقوة تأثيرها.<br />
ومرجع جمال الحكاية عفويتها، وذكاء الإخوة في مواجهة الغولة، وقدرتهم على تحديها والانتصار عليها، كما تلاحظ البنية الثلاثية واضحة في الحكاية.» [22].<br />
<br />
وبعد أن أخذنا جماليا فكرة تطبيقية عن طبيعة الحكاية العجيبة، من منطلق هذه النمذجة، نود الآن أن نعود إلى مزيد من تعميق الوعي بتفاصيل مفهومها، قبل الخوض في الإشكال المصطلحي المرتبط بها.<br />
<br />
وتدعونا هذه المقاربة إلى ضرورة تحديد مصطلح العجيب أولا. فمن معاني العجيب القاموسية، الدلالة على ما جاوز حد العجب، علما أن مادة العجب تعني إنكار ما يرد عليك. والأصل في ذلك أن الإنسان إذا رأى ما ينكره من الأشياء غير المألوفة قال : قد عجبت من كذا [23]. ومن ثم تمدنا هذه الدلالة اللغوية نفسها بالمعنى المباشر للعجيب صفة لهذا النوع السردي. فالحكاية العجيبة لا تبتعد عن هذا المعنى بمحمولاته المشحونة غرابة وإثارة وإدهاشا. لكونها مثقلة بما هو بعيد عن المعقول ومنطق الواقع، مما يشذ انتباه المتلقي.<br />
وبالمناسبة، فإن تزفيتان تودروف Tzvetan Todorov يميز بين العجيب والغريب والفانتزي، باعتبار العجيب يتعلق بظاهرة مجهولة، لم تر أبدا وتحيل على المستقبل، ولا تفسر إلا بقوانين طبيعية جديدة. عكس الغريب الذي يتعلق بظاهرة تحترم فيها قوانين الواقع بشكل سليم تسمح بتفسير الظواهر الغريبة، حيث يقود ما هو مجهول إلى ما هو معلوم، أي إلى تجربة سابقة، إلى الماضي. بينما لا تستطيع مدة الحيرة التي يثيرها الفانتزي في القارئ إلا أن تقع بوضوح تام في الحاضر. [24] .<br />
<br />
كما أن د. نبيلة إبراهيم، قد عرفتها بناء على شخوصها السبعة الذين حددهم فلاديمير بروب في كتابه (مورفولوجية الحكاية العجيبة)، بقولها: ((ويمكننا ...أن نعرف الحكاية الخرافية، بأنها الحكاية التي تستخدم الشخوص السبعة، بحيث يقوم كل منها بحركة أساسية في حياة البطل من أجل الوصول إلى الفتاة التي يرغب في الزواج منها. (وكثيرا ما تكون هذه الفتاة بنت ملك أو سلطان)، أو من أجل الوصول إلى شيء يسعى للحصول عليه)) [25].<br />
<br />
وسوف نعمد هنا إلى التعرف إلى مكونات هذه الحكاية، مما سيمكن من تقريب تعريف ملائم لها نسبيا. ولنبدأ ببنائها. فعادة ما يمتد الحدث العجيب غير التاريخي، بالحكاية العجيبة متسلسلا من خلال الشكل الهرمي المعروف: مقدمة ـ عقدة ـ خاتمة)، مثلما هو الأمر في القصص الرسمي. لكن الحكاية العجيبة تنحبك داخل هذا الإطار الشكلي التقليدي، من خلال نسيج وظيفي يقوم على وحدات معينة حددها بروب في إحدى وثلاثين وحدة وظيفية، تبدأ بالإساءة، وتنتهي بالإصلاح.<br />
<br />
مع ملاحظة أن بلاغة التكرار كثيرا ما ساعدت على تماسك وتبنين الحكاية العجيبة، في غفلة من انتباه السامع والقارئ. وغالبا ما يحدث التكرار ثلاث مرات قبل أن ينجح البطل الحقيقي في إنجاز المهمة الصعبة، فالتكرار يكوّن ظاهرة مـمـيـزة للحكاية العجيبة إجمالا، «فإن تكرار الفعل ثلاث مرات يكسب الحكايات الخرافية سرها. فإذا تساءلنا عن سبب هذا فإننا نقول إن العدد واحد يدل على الشيء الذي لم يتطور بعد، والعدد اثنين الذي يساوي العدد واحد مزدوجا، يرمز إلى التضاد : النور والظلمة، والسماء والأرض، والليل والنهار، ولكنه لا يدل على النهاية ولا الاكتمال. وهو في ذلك يشبه الخط الذي يصل بين نقطتين. فمن الممكن لهذا الخط أن يمتد إلى ما لا نهاية، ويظل مع ذلك محصورا بين نقطتين .<br />
<br />
أما العدد ثلاثة فهو يعطي للشكل سحره واكتماله .» [26].<br />
<br />
وبالانتقال إلى شخوص الحكاية العجيبة، نتبين أن تلك الوظائف تتوزع بمختلف مستويات أفعالها، على شخوص معينين ذوي بعد واحد، حيث يضطلع كل منهم بوظيفة مخصوصة به معينة قبليا. علما بأن شخوص هذه الحكاية، هم شخوص نمطيون، غير موصوفين، ودون أسماء خاصة كما مر بنا بحكاية (الغولة والإخوة الثلاثة). وإنما هم ذوو نعوت عامة (الملك ـ الأميرة ـ الإخوة ـ الثعلب ...). وهم يتكررون وظيفيا في معظم الحكايات العجيبة، مع اختلاف نعوتهم، ويحكمهم قانون التناقض (الكبير والصغير، الغني والفقير، الشاب والسيخ، الغول والإنسان). ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هؤلاء الشخوص يتحركون عادة في عوالم تتسم بالغرابة والمناخ العجائبي المشحون بالسحر والخوارق، ويندمجون في مداره كما لو كان عالمهم الحقيقي، وربما لهذا السبب تعتبر دة. نبيلة إبراهيم ((هذا العالم السحري المجهول من أهم الخصائص الشكلية للحكاية الخرافية)) [27]. فمعروف أن هذه الحكاية تقدم المواقف والشخوص والأدوات السحرية، داخل إطار ملغز؛ ذلك أن الأجواء المخيفة، والمناخ السحري، والحصار المطلسم المـضروب حول موضوع البحث، كلها تحتل مكان القلب في الحكاية العجيبة عادة، مما يضفي عليها سحر العجائبية الشيقة.<br />
<br />
ولنلتفت في هذا السياق، إلى عنصري الزمن والمكان، لما لهما من أهمية ملحوظة في بناء النص الإبداعي إطلاقا. فقد تعاملت الحكاية العجيبة معهما تعاملا خاصا مطردا ، مبنيا على التعميم والاختزال واللامنطقية، مما ساهم بفعالية في عملية التغيير من نظام الأشياء، والدفع بها إلى منطقة التجريد .<br />
<br />
فعلى مستوى الزمن، تواجهنا أول حقيقة جوهرية تطبع وظيفته في الحكاية، ألا وهي دوران أحداث الحكاية العجيبة في عالم لازمني، أو في زمن مطلق غير محدد، يميل إلى التعميم وإذابة التخصيص منذ الجملة الأولى في الحكاية، كما لاحظنا في الحكاية السابقة، حيث تنفتح بمثل بدايات حكايات الأخوين جريم (ذات زمان ـ في الزمن الذي كانت تتحقق فيه الأماني ـ ذات يوم ـ ذات مساء ـ ذات صباح صيفي ـ في يوم شتائي الخ..). وهي صيغ تقابل البداية المعتادة في الحكايات العربية (كان يا ما كان). فالحكاية العجيبة ((تبدأ أحداثها في زمان ما بمجرد أنها لا بد أن تبدأ في زمان محدد. وهذا يؤكد لنا الرغبة في التعميم الذي يجعلنا جاهلين بالحدود التاريخية للأحداث، حيث يزيل من الذهن كل الأبعاد الزمانية، ويجعل الحكاية كأنها حدثت في اللا زمان، أي كأنها ـ بنفس القدرـ لم تحدث)) [28]، وإنما هي واقعة نفسية [29]. ومن هنا ربط كثير من الباحثين بين الحكاية العجيبة والحلم [30]. إذ أن هذا الزمن كثيرا ما يتحول إلى زمن لامنطقي متداخل ومهوش، يخرج عن الصرامة والمعقولية اللتين يضبط وفق معياريهما الزمن التاريخي، فتتداخل فيه الأشياء وتنجز المهمات الضخمة في وقت وجيز خاطف. كما يتصف الزمن في الحكاية العجيبة بكثرة الاختزال والحذف والاستباق.<br />
أما على مستوى المكان، فتواجهنا الحكاية العجيبة بمجموعة من الفضاءات المبهمة المجهولة المتميزة بعجائبية مفرطة من غابات مجهولة وبحار يحكمها الجن وجبال يقطنها الغيلان والمردة وقصور شامخة وأكواخ بئيسة وحدائق ذات أشجار مسحورة إلخ.. فهي لا تحدد جغرافية واقعية، وإنما تدور في عوالم خيالية، مثل المغارة والقرية المجهولة في حكاية (الغولة والإخوة الثلاثة).<br />
<br />
والمحصلة، إنه رغم ما قيل من أقوال مردها الجهل بفنية القصص الشعبي وأبعاده، متهمة هذا القصص بالسذاجة والاعتباطية، فإن شبكة النسيج التي حبكت في إطارها الحكايات العجيبة عموما، وما احتوت عليه من تقنية فنية مدهشة، يكذب ذلك الاتهام المجاني. إذ لا هلهلة، ولا تخبط، ولا فجاجة في معظم الحكايات العجيبة. بل إن السائد بينها هو الدقة والتماسك واكتمال البناء، على أساس خطوات منظمة ثابتة ومضبوطة بعناصر شكلية محددة، وبحس جمالي رفيع يمكٌن من الاستخدام الجيد لمختلف المكونات السردية في الحكاية العجيبة، وذلك سر بهائها وروعتها وشدة تأثيرها. ولعل هذا هو ما جعل ماكس لوتي Max Lùthi يخصها بصفة الأدب دون غيرها من أنواع السرد الشعبي الأخرى. [31].<br />
<br />
بعد كل ما سبق، نستطيع أن نركز تعريفا تقريبيا للحكاية العجيبة في الفقرة الموالية:<br />
<br />
إن الحكاية العجيبة نوع سردي شعبي مشروط بعناصر ثابتة محددة رائعة، تهيمن عليها الخوارق من سحر وجن وفعل غير معقول، متحررة من المنطق الصارم للزمكان ، ودون أن تتغيى أي مغزى وعظي أو أخلاقي مباشر. وهي تقدم كل هذا العالم العجائبي بوصفه أمرا طبيعيا على رأي أندريه يولس [32].<br />
إنها ذات بناء واحد يتكرر في معظم النصوص المنتمية إليها أجناسيا، مع اختلاف في بعض التشكلات أحيانا. وبالإضافة إلى الشكل الهرمي المعروف (بداية، عقدة، خاتمة)، والاعتماد بنيويا على التكرار الثلاثي للفعل غالبا، فعادة ما تتراوح وحداتها الوظيفية الكثيرة ـ وفق تحديد ف. بروب ـ بين خروج البطل بسبب إساءة أو نقص، والوصول إلى الفتاة التي يتزوجها، أو إلى الشيء الذي يفتقده هو أو أحد أقربائه. فيحصل على هدفه في خاتمة الحكاية بمساعدة قوى خارقة تتغلب على كل المخاطر التي تعترضه. وهي ذات بعد تنفيسي، لذلك تنتهي غالبا بالنهاية السعيدة للأخيار والخاتمة المؤلمة للأشرار .<br />
ومن هنا كان حظ الحكاية العجيبة لدى الباحثين أفضل من حظ غيرها من أنواع السرد الشعبي الأخرى، فقد اهتموا بها اهـتمـاما خاصا، فعانوا في جمعها، واجتهدوا في تصنيفها، وقاموا بدراسة أصولها وأشكالها ووظائفها. كما رعاها المبدعون واستوحوها في مبدعاتهم المختلفة.<br />
<br />
وبعد، لعل كل ما سبق يساعدنا على تأكيد اختيار مصطلح (الحكاية العجيبة) للدلالة على هذا النوع من السرد الشعبي، واستبعاد باقي المصطلحات الأخرى المبلبلة. ذلك أن (العجب) هو السمة الثابتة، المتغلغلة في كل جنبات وأعماق ومكونات وإواليات هذه الحكاية، وهو العنصر المعياري لتمييزها عن غيرها من الأنواع الأخرى.<br />
<br />
وهكذا، يمكن بمثل هذه المقاربة النصية لكل نوع من أنواع السرد الشعبي، الاهتداء إلى المصطلحات الدقيقة المناسبة لها.<br />
<br />
Share on facebookShare on favoritesShare on googleShare on twitterMore Sharing Services<br />
0<br />
حواشي<br />
<br />
[1] مناهج البحث في الحكاية الخرافية، مجلة (التراث الشعبي) العراقية، ع. 8، س.8، 1977، ص. 5.<br />
<br />
[2] المرجع نفسه، ص. 16 ـ 17.<br />
<br />
[3] نفسه، ص.17<br />
<br />
[4] الحكاية الشعبية في فلسطين، مركز الأبحاث بمنظمة التحرير الفلسطينية والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، ع. 52، بيروت، 1974، ص. 59.<br />
<br />
[5] المصدر السابق<br />
<br />
[6] نفسه، ص. 26، 44، 48<br />
<br />
[7] الحكاية الشعبية، سل. المكتبة الثقافية، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 15 يونيه 1968، ص. 11.<br />
<br />
[8] Conte merveilleux<br />
<br />
[9] الحكايات الخرافية للمغرب العربي، دار الطليعة، بيروت ، ط. 1/1992، ص.5.<br />
<br />
[10] أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار المعارف، القاهرة، ط.3، [ د. ت. ] ، ص.113.<br />
<br />
[11] الحكاية الشعبية، ص. 43<br />
<br />
[12] المرجع نفسه، ص. 10<br />
<br />
[13] نفسه، ص. 11.<br />
<br />
[14] المفهوم العام للقصص الشعبي، مجلة (التراث الشعبي)، ع. 1، شتاء 1987، ص.72.<br />
<br />
[15] مقدمة في الفولكلور، دار الثقافة، القاهرة، ط. 2 / 1981، ص.59.<br />
<br />
[16] القصص الشعبي في السودان، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام،بغداد، [د. ت.]، ص.122.<br />
<br />
[17] القصص الشعبي في السودان، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام،بغداد، [د. ت.]، ص.122.<br />
<br />
[18] Conte populaire<br />
<br />
[19] Conte merveilleux<br />
<br />
[20] Mervelleux<br />
<br />
[21] (حكايات شعبية)، للدكتور أحمد زياد محبك، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1999، صص.229ـ 233.<br />
<br />
[22] نفسه، ص. 234<br />
<br />
[23] راجع مادة (العجب) في : الفيروزباذي: القاموس المحيط. ومادة (عجب) في : ابن منظور : لسان العرب.<br />
<br />
[24] Voir:Introduction à la litterature [[fantastique, Ed. Seuil, Cl. Point,№ 73,1970, P.46 – 47 .<br />
<br />
وقد حاول كثير من الباحثين تعريف الحكاية العجيبة. إلا أن ذلك كثيرا ما أتى على صورة يقع فيها الاهتمام بالبنية المركبة للحكاية العجيبة، واستعراض قوانينها الشكلية أو مقارنتها بالحكاية الشعبية، على غرار ما فعله فريدرس فون دير لاين في معظم فصول كتابه (الحكاية الخرافية)، أو حسب وحداتها الوظيفية كما عند بروب في (مورفولوجية الحكاية)، حيث يعرفها بقوله ((يمكن من وجهة نظر مورفولوجية إطلاق اسم حكاية عجيبة على كل تصور منطلق من إساءة (A) أو نقص (α) ، مرورا بالوظائف الوسيطة ، ليتوج بالزواج (W) ، أو بوظائف أخرى مستعملة للنهاية. ويـمكن أن تكون الوظيفة النهائية الجزاء(F) ، اغتنام الشيء موضوع البحث ، أو بشكل عام إصلاح الإسـاءة (K) ، المساعدات والـنـجـاة خلال الـمطاردة (Rs) الخ ..)) [[<br />
Vladimir Propp:Morfologia del cuento, Tr.Laurdes Orte, Ed.Fundamentos, Madrid, 1981, P158.<br />
<br />
[25] قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية، دار العودة / بيروت ودار الكتاب العربي / طرابلس، 1974، ص. 43.<br />
<br />
[26] نفسه، ص. 39 ـ 40.<br />
<br />
[27] أشكال التعبير ف] الأدب الشعبي، دار المعارف، القاهرة، ط. 3/1981، ص.99.<br />
<br />
[28] د. عز الدين إسماعيل: القصص الشعبي في السودان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، [ د. ت. ]، ص. 13.<br />
<br />
[29] نفسه، ص. 14.<br />
<br />
[30] راجع مثلا فريدرس فون دير لاين:الحكاية الخرافية، تر.د.نبيلة إبراهيم، سل.الألف كتاب، دار نهضة مصر،القاهرة،1961، ص.90 و98.<br />
<br />
[31] نفسه، ص. 126.<br />
<br />
[32] رأي أورده فريدرس فون دير لاين في المرجع نفسه، ص. 57.</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-5302231469142786442015-08-03T02:06:00.000-07:002015-08-05T02:35:28.090-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<b style="text-align: -webkit-center;"></b><br />
<div align="center">
<div align="center">
<div align="center">
<div align="center">
<div align="center">
<div align="center">
<span style="color: #fff3e3; font-family: Times New Roman; font-size: x-small;"></span><br />
<div align="center">
<span style="color: #fff3e3; font-family: Times New Roman; font-size: x-small;"><span style="color: #fff3e3; font-family: comic sans ms; font-size: x-small;"><table border="0" style="width: 753px;"><tbody>
<tr><td height="350" width="739"><div align="center">
<div align="center">
<div align="center">
<div align="center">
<div align="center">
<b></b><br />
<div align="center">
<b><span style="color: #fff3e3; font-family: Times New Roman; font-size: x-small;"><table border="0" id="table276" style="width: 100%px;"><tbody>
<tr><td><span style="font-family: Times New Roman; font-size: x-small;"></span><br />
<div class="separator" style="clear: both; text-align: center;">
<span style="font-family: Times New Roman; font-size: x-small;"></span></div>
<span style="font-family: Times New Roman; font-size: x-small;">
<div align="right" class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin: 0px;">
<span style="color: #fff3e3; font-family: Times New Roman; font-size: x-small;"><u><a href="http://www.arabicnadwah.com/writers-hamadaoui.htm" style="text-decoration: none;"><span style="color: #fff3e3; font-family: Times New Roman; font-size: large;"></span></a></u></span><b><span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: large;">الرواية العربــية الفانطاستيكية</span></span></b></div>
<div align="right" class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin: 0px;">
<b><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: 14pt;"><span lang="AR-SA">د. جميل حمدا</span>وي - المغرب</span></b></div>
<div align="right" class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin: 0px;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin: 0px;">
<b><u><span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تمهيــــــــد:</span></span></u></b></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin: 0px;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin: 0px; text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">إذا كانت الرواية الواقعية والطبيعية تحاكيان الواقع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال التشخيص الفني والتخييل البلاغي، فإن الرواية الفانطاستيكية/ العجائبية</span> </span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">roman fantastique/fantastic novel</span></span><span lang="FR"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">تتجاوز الواقع والمنطق إلى اللاواقع واللاعقل عبر خاصيتي التعجيب والتغريب. وصارت هاتان الخاصيتان من تجليات التحديث في الرواية الغربية والعربية و من مظاهر الإبداع الفني الروائي والقصصي، بعد أن انتقل العالم من العقل إلى اللاعقل مع مجموعة من الفلسفات التي بدأت تشكك في اللوغوس اليوناني والمنطق الغربي، وتعوضهما بمنازع الذات والروح والتصوف والإشراق الديني والتحرر من الاستلاب الرقمي والتقني الرأسمالي والاشتراكي على حد سواء. إذاً، ماهي الرواية الفانطاستيكية لغة واصطلاحا؟ وماهي تصوراتها النظرية والتاريخية؟ وماهي مقوماتها الدلالية والفنية والوظيفية؟ وكيف يتم مقاربة النص الروائي العجائبي وتأويله ؟ وماهي أهم النماذج الروائية الفانطاستيكية في الغرب والعالم العربي؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نكشف عنها القناع في تحليلنا المتواضع هذا.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 45.75pt; text-align: justify; text-indent: -27.75pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">1-</span><span style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الدلالة اللغوية والاصطلاحية:</span></span></u></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">لم نجد في المعاجم العربية مايقابل مصطلح </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">fantastique/fantastic</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> المعروف في النقد الغربي، لذلك آثرنا استعمال مصطلح العجائبي لقربه منه نظرا لاشتراكهما في الدلالات كالروعة والعظمة والعجب والاندهاش والخيال الوهمي والخارق غير الواقعي. ونحن أيضا نميز بينه وبين المصطلحين القريبين منه وهما: حكاية الخوارق</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">contes merveilleux</span></span><span lang="FR"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">والحكاية الغريبة </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">conte étrange </span></span><span lang="AR-MA"><span style="font-size: medium;"> لما لهما من خصوصيات دلالية وبنيوية وتداولية.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-MA"><span style="font-size: medium;">ه</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">ذا، ويستند الأدب الفانطاستيكي/ العجائبي إلى تداخل الواقع والخيال، وتجاوز السببية وتوظيف الامتساخ والتحويل والتشويه ولعبة المرئي واللامرئي، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والوهم والتخييل. فهذه الحيرة هي التي توقع المتقبل بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة لايخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">و من خلال هذا ، ينقسم الأدب الفانطاستيكي العجائبي إلى لحظتين تخيليتين:</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.5in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">أ-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">التعجيب( حالة إيجابية):</span></span></u></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.25in; text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"> ويتم حينما نكون أمام حدث يترك أثرا إيجابيا على نفسية المتلقي؛ لأن المتعجب منه مستحسن يثير الاندهاش، والإعجاب لروعته وخروجه عن المألوف الذي لا يثير فضوله، كتحول البطل إلى سوبرمان لإنقاذ شاحنة تكاد تسقط في النهر.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.5in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ب-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">الغريب:(حالة سلبية</span></span></u></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">):</span></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.25in; text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويتم التغريب حينما نكون أمام حدث يترك أثرا سلبيا على نفسية المتلقي؛ لأن الحدث مستهجن إما لغرابته وإما لشذوذه وإما لما يبثه من هلع وخوف ورعب إلى درجة القلق مثل: تحول الشخصية العدائية إلى شيطان أمرد أو قرد ممسوخ.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">وبناء على ماسبق، فلقد فضلنا استخدام مصطلح العجائبي ترجمة لمفهوم "الفانطاستيك" الغربي، علما بقصور هذا المصطلح العربي بالمقارنة بنظيره الأجنبي. فالعجيب يختلف إلى حد ما عن الغريب. فالعجائبي هو" حالة التردد التي يشعر بها القارئ تجاه الأحداث والأفعال، فحالما يحسم أمره ويهتدي إلى الحل الذي يرى أن الأمر لايعدو أن يكون وهم الحواس ونتيجة الخيال وأن قوانين العالم لم تتغير، يدخل حينئذ مجال الغريب الذي يخضع دائما إلى تفسير عقلي ومنطقي".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn1" name="_ednref1" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[1]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 45.75pt; text-align: justify; text-indent: -27.75pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">2-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">مقاربات وتصورات نظرية حول الإبداع الفانطاستيكي:</span></span></u></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.25in; text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">يمكن الحديث عن العديد من المقاربات والتصورات النظرية حول الإبداع الفانطاستيكي/ العجائبي في الحقل الثقافي الغربي ، ويمكن حصر هذه المقاربات فيما يلي:</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.5in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">أ-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">المقاربة التاريخية</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> كالأنطولوجيات الكبرى الخاصة بالفانطاستيك؛</span></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.5in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ب-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">المقاربة الدلالية أو الموضوعاتية</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> التي تهتم برصد التيمات المتواترة؛</span></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.5in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ت-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">المقاربة البنيوية</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> التي تركز على إنشائية الأدب العجائبي وتحاول رصد بنياته الهيكلية.</span></span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn2" name="_ednref2" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[2]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.5in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ث-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">المقاربة السيكولوجية</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> التي تسعى بدورها إلى فهم وتفسير غرابة الأدب العجائبي.</span></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.5in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">ج-</span></span><span dir="RTL" lang="FR"><span style="font-size: medium;"></span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">المقاربة السيميوطيقية</span></span></span><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn3" name="_ednref3" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[3]</span></span></span></a><span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"> التي تنبني على رصد شكل المضمون من خلال البنيتين: السطحية والعميقة بحثا عن دلالات القصة بواسطة تفكيك منطق لعبة الاختلاف والتعارض.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.25in; text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">وعليه، ففي النقد الأنگلوسكسوني، يتخذ العجائبي بعدا تاريخيا وأنطروبولوجيا، ويدرج ضمن تراث الأساطير والفلكلور لمختلف الثقافات. ويتم التركيز فيه على الثوابت والمتغيرات على مستوى التخيل الكوني. ويذهب في هذا المنحى( ج. دوران </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">G/ Durant</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">) الذي أثبت في كتابه ( بنيات الخيال الأنطروبولوجية) أن المعنى المجازي أسبق من المعنى الحقيقي، وأن النشاط الإنساني الإبداعي مشبع بالعجائبي والاستعاري الذي بدونه لايمكن أن يكون نشاطا إبداعيا.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">وقد تعددت تصورات الباحثين حول الفانطاستيك أو التخييل العجائبي. فروجي كايوا</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">CAILLOIS</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> مثلا يرى أن العجائبي هو تخييل غير طبيعي لما هو طبيعي ومألوف. يقول كايوا في كتابه "في قلب العجائبي"" إنما العجائبي كله قطيعة أو تصدع للنظام المعترف به، واقتحام من اللامقبول لصميم الشعرية اليومية التي لاتتبدل"</span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn4" name="_ednref4" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[4]</span></span></span></a></span><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">أما تصور إريڤ بيرسيير</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">IREVE BERSIERE</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> في كتابه "المحكي العجائبي: شعرية الوهم"، فالعجائبي في نظره " شكل مزدوج يولد من تناقض فعلي مادام الفانطاستيك ليس نوعا عقليا، ولكنه خاصية سردية".</span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn5" name="_ednref5" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[5]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">ويقول لويس فاكس(</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">VAX</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA">) في " الفن والأدب العجائبيان" : "يحب القص العجائبي ...أن يقدم لنا بشرا مثلنا، فيما يقطنون العالم الذي نوجد فيه، إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير".</span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn6" name="_ednref6" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[6]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">أما تزتيڤان تودوروف </span></span><span dir="LTR" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Todorov</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA">فيعرف العجائبي بأنه يقوم "أساسا على تردد للقارئ- قارىء يتوحد بالشخصية الرئيسية- أمام طبيعة حدث غريب".</span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn7" name="_ednref7" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[7]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ونستنتج من هذا التعريف، أن للأدب العجائبي مقومات أساسية منها:</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">أ-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">التردد والحيرة والشك على مستوى التأثر والتقبل والاستجابة؛</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ب-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الصراع بين القوانين الطبيعية( الواقع- العقل- المنطق- المألوف-...) وغير الطبيعية( الخيال- الوهم- اللامنطق- الغريب والعجيب ...)؛</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ت-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">وجود حدث خارق للعادة يثير الاندهاش والاستغراب؛</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ث-</span></span><span lang="AR-SA" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الانزياح عن عالم المواضعات والأعراف والقوانين الطبيعية والعقلية والمنطقية.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">ولقد حاول تزتيفان تودوروف</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">TODOROV</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> قراءة الأدب العجائبي من وجهة بنيوية وموضوعاتية في كتابه" مدخل إلى الأدب العجائبي" الصادر سنة 1970م، وتوصل إلى أنه أدب خارق للعادة ويثير الغرابة شكلا ودلالة انطلاقا من تردد القارىء أمام عوالم الحكاية المدهشة. " ومن النتائج التي توصل إليها تودوروف أن الأدب الفانطاستيكي لم يعمر أكثر من قرنين لينسحب مع مطلع هذا القرن( يقصد القرن العشرين) مفسحا المجال أمام أدب جديد لايمايز بين الواقع واللاواقع، ولا يتقيد بالثنائية الميتافيزيقية التي طبعت الأدب طوال القرن التاسع عشر. من ثم، فإن النصوص التي تبدو لنا فانطاستيكية مثل: نصوص كافكا هي في نظر الدارس مغايرة للجنس الفانطاستيكي كما حدده ولا تترك نفس التأثير لدى القارىء (الشعور بالتردد فيما يرجع لتصنيف النص وموضعته ضمن العجيب أو الغريب...)، إن نصوصا مثل نصوص كافكا غيرت الاتجاه فأصبح الفانتاستيكي هو القاعدة وليس الاستثناء كما كان عليه الأمر من قبل".</span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn8" name="_ednref8" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[8]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">وتعد محاولة تودوروف بمثابة تجنيس بنيوي للأدب العجائبي بعد أن كان متخيلا سائبا اعتمادا على المشروع البنيوي المركز على البنية والدلالة والوظيفة أو مظاهر النثر الأدبي الثلاثة: لفظي وتركيبي ودلالي أو موضوعاتي.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">وهكذا تأتي محاولة تودوروف لتخرج نصوصا كثيرة من منطقة التناول التعميمي إلى مستوى الصياغة الإشكالية المدققة المتطلعة إلى ضبط علمي للتحديدات والمصطلحات. وبالفعل، لايكفي القول بأن نصوصا ذات طابع فانطاستيكي قد وجدت منذ القديم في جميع الآداب؛ لأن ما يدرج ضمن العجيب والغريب والخوارق يختلف عن النصوص التي تبلورت منذ القرن الثامن عشر على يد كتاب يوظفون عناصر هذا النوع من الحكي للتعبير عن رؤية مغايرة تقدم تحولا في العلائق مع الطبيعة وما فوق الطبيعة، مع الذات الخفية ومع الآخرين، مع الواقع واللاواقع، ومثل هذا التحول على مستوى بنيات المجتمع، هو الذي يبرر التحول من متخيل "سائب" إلى جنس تخييلي يسنده وعي ولغة متميزة وتيمات تستكشف المجهول وتوسع من دائرة الأدب".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn9" name="_ednref9" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[9]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">وقد سبق الشكلانيون الروس تودوروف في دراسة الخارق العجائبي، ولاسيما فلاديمير ﯧروب</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">V.PROPP</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> في كتابه عن "الحكايات الروسية العجيبة"،</span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn10" name="_ednref10" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[10]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="font-size: medium;"> وكلود ليفي شتراوس </span></span></span></span><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">C.Lévi –Strauss</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> في دراسته عن" بنية الشكل: أفكار حول أعمال فلاديمير بروب" باعتباره مؤسسا للتيار البنيوي الفرنسي في مجال الأدب والأنتروبولوجيا، وكذلك لوف كرافت</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">LoveGravt</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> مؤسس الأدب العجائبي في الثقافة الانگلوسوكسونية إلى جانب ﯧينزولت</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Penzoldt</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">. وثمة دراسات أخرى ترصد التخييل العجائبي سواء في الأدب الإنجليزي أم في الأدب الفرنسي مثل: دراسة سكاربو روش</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;"> Scarbo Rouch</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ،" الفوق طبيعي في التخييل الانجليزي المعاصر"، ودراسة شنايدر</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Schneider</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">:"الأدب العجائبي في فرنسا".</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 45.75pt; text-align: justify; text-indent: -27.75pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">3-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">مقومات الأدب الفانطاستيكي وخصائصه</span></span></u></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">:</span></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">يعمد الخطاب الفانطاستيكي /العجائبي إلى استعمال مفردات وعبارات دالة على التحول والمسخ تزيينا وتقبيحا وتوظيف خاصيات التعجيب والتغريب تصريحا وتلميحا. وينسج هذا الخطاب خيوطه الجمالية حول تيمة الامتساخ والخرق الخيالي والمنطفي والطبيعي. ويستمد هذا الأدب ألفاظه من معجم العجيب تارة، ومن معجم الغرابة تارة أخرى، ناهيك عن انزياحه عن قاموس الطبيعة والألفة والأفعال اليومية العادية. ويعتمد لغة تتخطى الواقع إلى المتخيل؛ لتكتب سردا مترددا بين عوالم الحقيقة والمجاز يندهش أمامها العقل والمنطق، ويقفان أمامها مشدوهين حائرين. وهذه الخاصية هي التي تجعل الأدب العجائبي يتفرد كلياعن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، ويصبح جنسا وسيطا بين جنسين أدبيين في نظر تودوروف هما الغريب والعجيب . فإذا كان المفهوم الأول مرتبطا بالماضي، فإن الثاني مقترن بالمستقبل" إن العجيب- يقول تودوروف- يطابق ظاهرة مجهولة، لم تر بعد أبدا وآتية: أي إنه يطابق مستقبلا، ومقابل ذلك في الغريب، حيث يرجع بمالا يقبل التفسير على وقائع معروفة، إلى تجربة موجودة قبلا، ومن ثمة على الماضي. أما العجائبي بالذات فالتردد الذي يطبعه لايمكنه أن ينهض بداهة إلا في الحاضر".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn11" name="_ednref11" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[11]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويحضر العجائبي في الرواية كليا وتسمى الرواية لذلك رواية عجائبية ؛لأن التعجيب سمة غالبة في النثر تشكيلا ودلالة ووظيفة، أو يحضر جزئيا في شكل ملامح وسجلات أسلوبية لم تصل بعد إلى درجة القيمة المهيمنة أو المميزة في النص الإبداعي الروائي، وهنا نكون بصدد الحديث عن المستنسخات النصية أو الخطاب التناصي من خلال استدعاء الصورة العجائبية لإثراء النص وإغنائه دلاليا.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">وعلى هذا، فالعجائبي" يتحدد بالنسبة إلى مفاهيم أخرى هي: الواقع والمتخيل والوهم، وهو ليس سوى ذلك السر أو الشيء الغريب الخفي الذي يقتحم الحياة الواقعية ويثير في نفس المتلقي الرعب أو الشك أو التردد".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn12" name="_ednref12" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[12]</span></span></span></a></span><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> وهذا جدول يبين التعارض بين الإبداع الواقعي والإبداع العجائبي:</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div align="right" dir="rtl">
<table border="1" cellpadding="0" cellspacing="0" class="MsoTableGrid" dir="rtl" id="table282" style="border-collapse: collapse; border: medium none;"><tbody>
<tr><td colspan="2" style="border: 1pt solid windowtext; padding: 0in 5.4pt; width: 426.1pt;" valign="top" width="568"><div align="center" class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: center;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">مميزات الإبـــداع الروائي</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 213.05pt;" valign="top" width="284"><div align="center" class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: center;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">- العجائبي</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 213.05pt;" valign="top" width="284"><div align="center" class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: center;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">- الواقعي</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 213.05pt;" valign="top" width="284"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الخيال</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الوهم والخارق</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">قوانين فوق الطبيعة</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">التخييل</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">المحتمل</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">التردد والشك</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">زمن متعال</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">أفعال عجيبة وغريبة</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.75in; text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">غير المرئي</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">التصور/الافتراض</span></span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 213.05pt;" valign="top" width="284"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الواقع</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الحقيقة</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">قوانين طبيعية</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الواقعية</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الممكن</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">التكيف</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">زمن واقعي محدد</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">أفعال يومية عادية مألوفة</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">المرئي</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 1in; text-align: justify; text-indent: -0.25in;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">العقل/ المنطلق</span></span></span></div>
</td></tr>
</tbody></table>
</div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">إن الخطابات الروائية العجائبية نصوص تخييلية تتراوح بين العجيب والغريب، وبين الوهم والواقع، وبين المنطق واللامعقول،وبين الانسجام وللانسجام، وتعتمد أحداثا غريبة ومدهشة تحدث التردد الذي" يطال الشخصية الرئيسة [ في القصة أو الرواية] أو أي شخصية أخرى من شخصياتها. كما يشمل القارىء الذي يقف حائرا أمام غموض الأحداث وغرابتها ويحاول أن يجد لها تفسيرا طبيعيا أو غير طبيعي، وهذا التفسير هو الذي ينهي ظاهرة الغرابة ويخرج النص من الفانتاستيك ".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn13" name="_ednref13" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[13]</span></span></span></a></span><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> وهكذا نلاحظ في النصوص العجائبية" أن الذي يشعر بالدهشة ويعتريه التردد هو البطل في أغلب الأحيان،. وإن كانت نصوص أخرى تذكر أن التردد يعم شخصيات أخرى".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn14" name="_ednref14" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[14]</span></span></span></a></span><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> وقد تقوم الشخصية الرئيسية في هذه النصوص بوظيفة مزدوجة: فهي تمثل بطل الحكاية وراويا في آن</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn15" name="_ednref15" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[15]</span></span></span></a></span><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">واحد.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ويتم التعبير عن العجائبي بعدة وسائط فنية وجمالية كالمفارقة والمعارضة والمحاكاة الساخرة والتشخيص والتشويه والتصوير الكاريكاتوري والمسخ والتحول والتهويل والمبالغة والمقايضة والاعتداء والقتل. أي إن الظاهرة الفانطاستيكية تدور حول ظاهرتين أساسيتين هما : التحول والتشويه المسخي.</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn16" name="_ednref16" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[16]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> ويتبين من خلال هذه الوسائط أن من أهم الميكانيزمات التي يعتمد عليها الخطاب العجائبي السخرية أو الباروديا أو المحاكاة الساخرة،ولايمكن فصل العجائبي- بالتالي- فنيا وإيديولوجيا عن فن السخرية الذي يدل على " الانقسام الذي يشعر به البطل وهو يواجه تحديات الواقع، فلا يجد مندوحة من مقاومته غير السخرية التي تصبح في هذه الحالة سلاحا يحصن البطل ضد عنف العالم وغرابته، إنها بمعنى ما وسيلة للتغلب على واقع التجربة وعلى تجاوزه".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn17" name="_ednref17" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[17]</span></span></span></a></span><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA"></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">وعندما يتداخل الفنان: أدب الغرابة وأدب السخرية فينبغي أن يوظف هذا التداخل بطريقة فنية لخدمة مضمون النص الفكري ولإضفاء صفة الواقعية عليه، وهي تتضافر مع الفانتاستيك والحوار العامي لنقد الواقع وتأسيس عالم فني مواز تسهم في بنائه عناصر متنوعة:سرد- حكي وشخصيات وحدث وضمائر وفضاء زماني ومكاني، لكنها لاتخلو في كثير من الحالات من عنصر ذاتي يعكس ذات الفرد المبدع وبعض خصائصه الشخصية".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn18" name="_ednref18" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[18]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">وقد يرتكز الخطاب العجائبي على التناص باعتباره خطابا إحاليا شعوريا أو لاشعوريا ، وقد يعضد بالمفارقة والتهجين والأسلبة،والهدف من توظيف التناص الامتساخي هو قراءة الواقع ومحاولة فهمه وتفسيره وتعريته من جميع جوانبه قصد بنائه من جديد. إن التناص هو استغلال لنصوص سابقة أو حديثة بطريقة متداخلة قائمة على التفاعل الامتصاصي والحواري. وهو يطرح "عدة قضايا فنية وفكرية، يتضمن بعضها جوانب سلبية مثل تهجين مفهوم الجنس الأدبي، ولكن مساهمته في إغناء وتطوير الأدب أكبر وأعمق".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn19" name="_ednref19" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[19]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويروم الخطاب العجائبي التقبيح والتنفير تارة وذلك عندما تتحول الشخصية مثلا إلى قرد أو شيطان أو ثعلب ماكر أو ثعبان...، والتزيين والتحبيب تارة أخرى وذلك عندما تتحول الشخصية المحببة مثلا إلى غزال أو تتحول المظلة الوهمية إلى مظلة حقيقية لإنقاذ البطل المحاصر في برج القلعة كما في رواية" سماسرة السراب" لبنسالم حميش. ولابد من الإحالة على مجموعة من العناصر أثناء االحديث عن بنية التحول العجائبي كالمحول والمحول إليه وأفعال التحويل وصوره البلاغية وسياق التحويل ووظائفه.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">وتستحضر ظاهرة التحول كائنات طبيعية تتحول أو تمتسخ إلى كائنات فوق طبيعية حيوانية أو جنية أو شيئية أو العكس صحيح أيضا. فقد تتحول الكائنات العجائبية إلى كائنات بشرية واقعية، مما قد يبلبل ذهن القارىء ويعرضه للحيرة والتردد والشك. ففي النصوص العجائبية مثلا يتحول الرجل- حسب تودوروف- إلى قرد " والقرد إلى رجل ويتحول الجني إلى عجوز منذ البدء. أما في أثناء مشهد العراك، فتتلاحق التحولات أولا، يصير الجني أسدا، فتفرقه الأميرة بحسام إلى شقين. على أن رأس الأسد يصبح عقربا ضخما.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">فتتحول الأميرة إلى ثعبان يدخل في عراك جلف مع العقرب، الذي لم يحالفه التغلب فينقلب إلى صورة نسر يطير، لكن الثعبان يتقمص شكل نسر أقوى ويتبعه."</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn20" name="_ednref20" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[20]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">وفي رأينا ثمة مجموعة من الإمكانيات والتحويلات العجائبية الكائنة والممكنة والمحتملة المستخلصة من القصة والرواية والفنون الإبداعية الجميلة الأخرى عبر استحضار المكونات التالية في تحديد الاحتمالات:1- الجن2- الإنسان3- الحيوان4- الأشياء.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويتم خلط هذه المكونات مع بعضها البعض لاستخلاص مجموعة من التحولات المحتملة:</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div align="right" dir="rtl">
<table border="1" cellpadding="0" cellspacing="0" class="MsoTableGrid" dir="rtl" id="table283" style="border-collapse: collapse; border: medium none;"><tbody>
<tr><td style="border: 1pt solid windowtext; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">عدد الاحتمالات</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: solid none solid solid; border-top-color: windowtext; border-width: 1pt medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">أنواع التحولات المحتملة</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: solid none solid solid; border-top-color: windowtext; border-width: 1pt medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الأمثلة المحتملة</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">1</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات بشرية تتحول إلى كائنات جنية</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول المرأة إلى جنية</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">2</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات بشرية تتحول إلى كائنات حيوانية</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الإنسان إلى قرد ممسوخ</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">3</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات بشرية تتحول إلى أشياء وجمادات</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الإنسان إلى صخرة أو حجارة</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">4</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات بشرية تتحول إلى كائنات بشرية أخرى</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول البطل إلى سوبرمان مثلا</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">5</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات جنية تتحول إلى كائنات بشرية</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الجني إلى عجوز</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">6</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات جنية تتحول إلى كائنات حيوانية</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الجني إلى ثعبان</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">7</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات جنية تتحول إلى كائنات جنية أخرى</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الجني إلى عفريت</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">8</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">كائنات جنية تتحول إلى أشياء وجمادات</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"> تحول الجني إلى ريح أو صخر</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">9</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">أشياء وجمادات تتحول إلى كائنات بشرية</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الصخرة إلى إنسان</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">10</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">أشياء وجمادات تتحول إلى كائنات جنية</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الريح إلى عفريت أو جن</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">11</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">أشياء وجمادات تتحول إلى أشياء وجمادات أخرى</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الشجرة إلى بساط الريح</span></span></div>
</td></tr>
<tr><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-right-color: windowtext; border-style: none solid solid; border-width: medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">12</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">اشياء وجمادات تتحول إلى كائنات حيوانية</span></span></div>
</td><td style="border-bottom-color: windowtext; border-left-color: windowtext; border-style: none none solid solid; border-width: medium medium 1pt 1pt; padding: 0in 5.4pt; width: 142.05pt;" valign="top" width="189"><div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تحول الجن إلى ثعبان</span></span></div>
</td></tr>
</tbody></table>
</div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ويلاحظ أن التحول في الوظائف يقترن بتحول في الفواعل أو الكائنات فوق الطبيعية مثل " الجني والأميرة الساحرة، وقدرتهما على التحكم بالقدر البشري، فكل منهما يستطيع أن يحول ويتحول، أن يطير أو أن يحلق بالكائنات أو الأشياء في الفضاء، الخ، فنحن هاهنا- يقول تودوروف- بإزاء أحد ثوابت الأدب العجائبي: وجود الكائنات فوق الطبيعية الأقوى من الجنس البشري. ومع ذلك، فملاحظة هذه النقطة لاتكفي، لكن ينبغي التساؤل عن دلالتها كذلك. بديهي أن يقال: إن هذه الكائنات ترمز إلى حلم بالقوة، غير أن هناك أكثر من ذلك".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn21" name="_ednref21" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[21]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ويصيب التحول مقولات الموضوع والفضاء والسببية والزمن ليخلق لعبة الحلم والواقع والروح والمادة. كما ينبني التحول على تشويه الفواعل والكائنات ومسخ أفعالها لبلورة عالم كابوسي مصنوع بإسمنت الغرابة ورمال التعجيب وأجواء التخريف وضباب الخوف ورعب المناظر والمشاهد غير المتخيلة" ويحتل الفانطاستيك وسطا بين الشك واليقين، وقتا يلعب فيه التردد دورا أساسيا سببه غرابة الأحداث في النص الإبداعي، لذلك اعتبرت هذه العناصر الغريبة شرطا لازما في الفانتاستيك لايمكن أن يوجد ويتحقق بدونها".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn22" name="_ednref22" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[22]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ومن شروطه كذلك انتقال الشخصيات بين عالمين: عالم فيزيائي بفضاءاته المكانية الحسية والجغرافية، وعالم عجائبي خيالي بفضاءاته غير المحددة بمقاييس الهندسة والعقل الممنطق للمكان، أي إنه فضاء مجازي يتخطى الطبيعة إلى أجواء ميتافيزيقية لايمكن تصورها أو تحيينها بقواعد المرئي والإدراك البصري.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 45.75pt; text-align: justify; text-indent: -27.75pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">4-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">وظائف الإبداع الفانطاستيكي</span></span></u></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> :</span></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ومن وظائف العجائبي أنه أداة فنية لنقل الواقع المرئي بطريقة لامعقولة ومشوهة تأكيدا على الواقع المرعب والغريب ونثريته الفظة ومرارته التراجيدية وغرابته كماهو مألوف وإنساني. ومن ثم، فهذا الواقع المأساوي لايستحق أن يعاش بهذه البشاعة اللا أخلاقية وحتى التصرفات الصادرة من الإنسان بطريقة غير شرعية وغير مقبولة إنسانيا. ولا ننسى أن للعجائبي وظائف أخرى كالوظيفة الاجتماعية التي تتمثل في التمرد عن قوانين الواقع وغرابة شرائعه والتنديد بلاعقلانية الموضوع المادي وعدم منطقيته، والوظيفة النفسية التي تبرز في التعبير الموضوعي في التعبير عن الرغبات خاصة الجنسية ووصفها بطريقة مباشرة تحت قناع التعجيب أو الترغيب. وقد أثرى الأدب العجائبي التحليل النفسي بكثير من التصورات حول الأنا في علاقتها مع الموضوع مرورا بدراسة الشعور واللاشعور. يقول فرويد ساخرا" كان العصر الوسيط مع كثير من المنطق، وبصورة صحيحة تقريبا سيكولوجيا، قد نسب إلى تأثير العفاريت جميع هذه التجليات المرضانية، ولن أندهش أنا بدوري، عندما أدرك أن التحليل النفسي الذي يهتم بكشف هذه القوى السرية، لم يكن هو نفسه، من هنا مخيفا بغرابة في نظر كثير من الناس."</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn23" name="_ednref23" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[23]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويحدد تودوروف للعجائببي ثلاث وظائف أساسية هي:</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">" <u>وظيفة تداولية</u> إذ إن فوق الطبيعي بثير ويرعب ، أو على الأقل يعلق القارئ بقلق ، <u>ووظيفة دلالية</u> حيث يشكل فوق الطبيعي تجليه الخاص، إنها إشارة تعيين آلي. وأخيرا، <u>وظيفة تركيبية</u> إذ يدخل كما قلنا في المحكي."</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn24" name="_ednref24" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[24]</span></span></span></a></span><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> كما يخدم العجائبي" السرد وينمي التماطل ويحدث التوتر. لذلك فهو يساعد- بفضل العناصر الغريبة -على تنظيم الحبكة وتطويرها، علاوة على وظيفة الخوف أو الدهشة، أو ببساطة الفضول أو غير ذلك من المشاعر التي قد لاتثيرها في ذات القارىء أجناس أدبية أخرى. كما أنه يقوم بوظيفة تكرارية وخيالية لأنه يساهم في تصوير عالم غريب ليس له في الحقيقة وجود واقعي خارج اللغة. وعن طريق العجائب، يصبح التصوير والمصور من طبيعة واحدة و ليس من طبيعة مختلفة. وتسخر النصوص الغريبة لأغراض فنية ترتبط بالمضمون الفكري من جهة، وتؤكد علاقة القصص الوثيقة بواقعها من جهة ثانية. وما يجعل منها نصوصا واقعية، على الرغم من توسلها بأدوات فنية تبدو غير واقعية."</span></span><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn25" name="_ednref25" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[25]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">لكن من الأسباب التي تدفع المبدعين إلى استخدام الخطاب العجائبي في نصوصهم التأليفية، كما يلاحظ يتر ﯧنزولد</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">PETER PENZOLD</span></span><span style="font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> " أن الخارق عند الكثير من الكتاب يشكل وسيلة لوصف الأشياء التي لايمكن له أن يتناولها بشكل واقعي؛ لأن الخارق يسمح بتجاوز الحدود المغلقة واختراق المحرم أو الطابو الاجتماعي والرقابة الذاتية، فيصبح العجائبي وسيلة لخوض الصراع ضد الرقابة بمختلف أشكالها سوا أكانت ذاتية أم اجتماعية. ولكن هذا لايعني مطلقا كما ذكرنا سابقا، تحويل الكتابة إلى وسيلة إفراغية، ولكن الأمر يتجاوز ذلك باتجاه تشييد نص إبداعي، يملك حياته الخاصة، وخصوصيته وحميميته التي يصعب في أحيان كثيرة حتى على التأويل أن يخترقها".</span></span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn26" name="_ednref26" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[26]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 45.75pt; text-align: justify; text-indent: -27.75pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">5-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">منهجية مقاربة النصوص الفانطاستيكية وتأويلها</span></span></u></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">:</span></span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"> على المستوى المنهجي، لابد أن نستحضر عند مقاربة النصوص العجائبية بنية الأحداث والعوامل والفضاء الزمكاني والخطاب من رؤية وصيغة أسلوبية وزمن السرد؛ إذ إن للعجائبي كما قلنا سالفا زمنا خاصا به هو زمن الحاضر في تشابكه مع الزمن الواقعي والزمن الخيالي. فبينما يميل العجيب إلى استشراف لحظات المستقبل، نجد الغريب يعود إلى الماضي للاحتكام إلى تجاربه وأحداثه الواقعية.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ويدرس النص الروائي العجائبي في " بنيته الكلية التي تستقطب جماع عناصره ومكوناته. والحاضر هنا ليس اللحظة الزمنية التي تتوسط الزمنين الآخرين، وإنما لحظة كتابة النص، لحظة واقعيته"</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn27" name="_ednref27" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[27]</span></span></span></a></span><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">وبناء على ما سبق، فإن النص الروائي العجائبي يطرح صعوبة كبيرة على مستوى التأويل وغموضا إشكاليا لدى القارئ. فإذا كان النص الروائي الكلاسيكي يخلق رموزه من أجل القراءة المباشرة ويشي بها منذ الملامسة الأولى ويطورها مع مسار الرواية، فالنص الحداثي ، بشكل عام ، والعجائبي بشكل خاص، مايزال يبحث عن قارئه المتخصص. لأن الرواية لاتفصح عن أدواتها وعن ميكانيزم اشتغالها إلا من خلال التأويل، ليس تأويل الحياة العامة، ولكن تأويل الحياة ذاتها التي ينشئها النص. والإشكال يطرح من زاويتي القراءة والكتابة ذاتها التي تعني أحيانا البحث عن أدوات خارج نصية للتفسير."</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn28" name="_ednref28" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[28]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ومن بين القضايا التي يثيرها الأدب العجائبي أولا " سيطرة القراءة النموذجية الكلاسيكية، بحيث إن القارئ استقر على مجموعة من الأدوات (للتصور والنقد)ولا يمكنه أن يزن الأشياء إلا من خلالها. وكل ماخرج عن ذلك يتحمله إما الكاتب وإما النص( اتهامه بالضعف)".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn29" name="_ednref29" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[29]</span></span></span></a></span><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA"> والقضية الثانية تتمثل في حداثة النص العجائبي الذي يبحث عن قارئ لايسمح التكوين التربوي الكلاسيكي بنشوئه بسهولة، كثيرا مايغيب ولا يحضر إلا في ذهنية الكاتب كقارئ ضمني. وإذا كنا نعتبر أن القارئ جزء من فاعلية الكتابة. نحن- كما يقول واسيني الأعرج- في حاجة ماسة للتفكير في هذه العلاقة التي تحتم وجودها بشكل خاص النصوص التي رهنت بناءها الداخلي على مجموعة من الصيغ والأدوات العجائبية التي لا تستحضر أسرارها منذ القراءات الأولى. فالقراءة تبدأ بالاصطدام منذ السطر الأول أحيانا، والمسألة لاتطرح فقط على الصعيد اللفظي والجملي، ولكنها تتعدى ذلك باتجاه تقنيات الكتابة، والدلالات التي تفترض من إعادة تركيب دقيق للنص من أجل التأويل الأقرب إلى خدمة القراءة والنص من منظور القارئ طبعا، لأن كل تأويل في الجوهر له علاقة حميمية مع صاحبه وأشواقه".</span></span><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn30" name="_ednref30" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[30]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">6</span><u><span style="font-size: medium;">- الرواية الفانطاستيكية في الأدب الغربي:</span></u></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">من المعروف أن الأدب الغربي زاخر بالروايات ذات الطابع العجائبي بدءا من النصوص اليونانية وصولا إلى الرويات الحديثة في الغرب. وهناك من يربط ظهور الخطاب العجائبي بسنة 1770م، لأن الفانطاستيك جاء كرد فعل على الخطاب التنويري العقلاني الذي يمجد العقل والمنطق والعلم والطبيعة.</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn31" name="_ednref31" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[31]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA" style="font-size: 20pt;"><span style="font-size: medium;"> ومن رواده الأوائل كازوت</span></span></span></span><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Cazotte</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> وبيكفورد</span> </span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Beckford</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ووالبول</span></span><span dir="LTR" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"></span> </span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Walpole</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> . وبعد ذلك تطور الخطاب العجائبي مع الرواية السوداء في انجلترا مع آن راد كليف</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Ann Radcliffe</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ولويس </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">M.G.Lewis</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، وفي ألمانيا وخاصة مع هوفمان </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">E.T.A. Hoffmann</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">وفي فرنسا، سنجد كثيرا من كتاب الخطاب العجائبي وخاصة نودييه</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Nodier</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، وفيكتور هيجو</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Hugo</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، وبلزاك</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Balzac</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">،وكوتييه</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Gautier</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، ومريميه</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Mérimée </span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، وفلوبير</span> </span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Flaubert</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، وموباسان</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Maupassant</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، ودوديه </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Daudet</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، وجول فيرن</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Verne</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ، وإدغار ألان ﯧو</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Poe</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، والروسي گوگول</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Gogol</span></span><span lang="AR-MA"><span style="font-size: medium;">. ولا ننسى كذلك كلا من هاوثورن</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">،</span></span><span dir="LTR" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"></span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Hawthorne </span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> وأوسكار وايلد</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Wilde</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، وبرام ستوكر</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Stoker</span></span><span lang="FR"><span style="font-size: medium;"></span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ، وهنري جيمس </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Henry James</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ، وگوستاف ميرينك</span> </span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Gustave Meyrink</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">، ولوڤگرافت</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Lovecraft</span></span><span lang="AR-MA"><span style="font-size: medium;">، وكافكا </span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;"> Kafka</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ، </span></span><span lang="AR-MA"><span style="font-size: medium;">وبورخيس </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Borges</span></span><span lang="AR-MA"><span style="font-size: medium;"> ، وكورتزار</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Cortàzar</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> .</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;"> </span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">وقد اهتمت الرواية الفرنسية الجديدة الفرنسية بالعجائبي مثل: ألان روب گرييه</span> </span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Grillet</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> في روايته "تبولوجيا مدينة شبح"، وكلود أولييه</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Claude Ollier</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> في روايته " أور أو بعد عشرين سنة". وقد اهتم كثير من الكتاب الفرنسيين بالغريب </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">L'étrange</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> على مستوى الوظائف السردية وتفعيله على المستوى الحدثي مثل: ميشال بوتور</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Botur</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> في رواية " درجات" و" مرور الحدأة"، وگرييه في" الممحاوات" و"الرائي </span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">le voyeur</span></span><span lang="FR"><span style="font-size: medium;"></span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">" ، وكلود سيمون في "العشب" و"الأجسام الناقلة"، وروبير بانجي</span></span><span dir="LTR" lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"></span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">Robert Pinget</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> في "الولد" .</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويمكن التمييز بين نمطين من الرواية العجائبية: فهناك الرواية العجائبية التقليدية كما نجدها عند بلزاك وميريمي وهوغو وفلوبير وموباسان في القرن التاسع عشر الميلادي. وهناك الرواية العجائبية الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين مع رواية المسخ لكافكا والأنف لگوگول حيث ينعدم التردد والدهشة وتصبح الأمور فوق طبيعية عادية لا تثير فينا الاستغراب.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 45.75pt; text-align: justify; text-indent: -27.75pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">6-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span dir="RTL"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">الرواية الفانطاستيكية في الأدب العربي:</span></span></u></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 0.25in; text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">أما في أدبنا العربي، فقد عرف السرد العربي القديم محاولات إبداعية عديدة تنهل من معين الخيال العجائبي مثل: كتاب ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والسير الشعبية كسيرة فارس اليمن ملك سيف بن ذي يزن وقصة الأمير حمزة البهلوان وسيرة الأميرة ذات الهمة وسيرة بني هلال الكبرى وسيرة الزير سالم وسيرة عنترة بن شداد...الخ.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ولم يستثمر الأدب العجائبي بشكل فعال ووظيفي في الرواية العربية إلا مع الرواية الجديدة التي حاولت التجريب لتكسير النمط السردي القديم وتأصيل الرواية العربية وربطها بتراثها العربي القديم والمشاركة في ارتياد آفاق العالمية عن طريق تمويه الواقع والسمو بالخيال وتغريبه بشكل عجائبي واستلهام النصوص العجائبية الموروثة عن طريق التناص.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">هذا، وإن أهم عامل كان وراء ظهور هذا الأدب العجائبي في الحقل العربي يتمثل في طبيعة الواقع الموضوعي: التاريخي والسياسي.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">وقد ظهرت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين عدة نصوص عكست طبيعة هذا الواقع الغريب، وحاولت التعبير عن ظواهره بطرائق إبداعية مختلفة، تستند إلى المفارقة والباروديا والسخرية والتحول الممسوخ.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">وتندرج الرواية العجائبية المكتوبة باللغة العربية في إطار الرواية الجديدة التي انطلقت مع بداية الستينيات وهي تروم التحديث والتجريب من أجل تأصيل الرواية العربية. ومن النصوص ذات الطابع العجائبي روايات جمال الغيطاني وهي: وقائع حارة الزعفراني وكتاب التجليات وخطط الغيطاني والزيني بركات والزويل...، وصنع الله إبراهيم في اللجنة وتلك الرائحة، ويوسف القعيد في شكاوي المصري الفصيح ويحدث في مصر الآن والحرب في بر مصر وأيام الجفاف وبلد المحبوب... ونجد كذلك رواية الحوات والقصر للطاهر وطار، وحمائم الشفق لخلاصي الجيلالي، وألف ليلة وليلتان لهاني الراهب، وروايات سليم بركات كفقهاء الظلام وأرواح هندسية والريش ومعسكرات الأبد والفلكيون في ثلاثاء الموت والفلكيون في أربعاء الموت ورواية مدينة الرياح ، وأبواب المدينة لإلياس خوري...</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"> و في الرواية المغربية، نستحضر بعض النماذج كرواية عين الفرس والضلع والجزيرة للميلودي شغموم، وبدر زمانه لمبارك ربيع، ورحيل البحر ومهاوي الحلم لمحمد عزالدين التازي، وأحلام بقرة لمحمد الهرادي، وجنوب الروح لمحمد الأشعري، وأوراق لعبد الله العروي.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويلاحظ أن هناك من الكتاب من لجأ إلى التلوين بالعجائبي ضمن تأليفهم الروائي نظرا لرغبتهم في التجريب والتنويع كما هو الشأن عند نجيب محفوظ والطاهر وطار والميلودي شغموم...وهناك من اختار الخطاب العجائبي خطابا فنيا لرؤية العالم ورسمه بالتحولات والمسوخ كما عند سليم بركات وبنسالم حميش في "سماسرة السراب" ويحي بزغود في روايتيه "الجرذان" و"طوق السراب".</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ونستنتج أن هناك ثلاثة أنواع من المراجع التي استند إليها الخطاب العجائبي العربي، وهي:</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 37.5pt; text-align: justify; text-indent: -19.5pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">1-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"></span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">مرجع التراث العربي في جانبيه السردي و التاريخي كما هو الحال لدى نجيب محفوظ في" رحلة ابن فطومة" والطاهر وطار في" عرس بغل".</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 37.5pt; text-align: justify; text-indent: -19.5pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">2-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"></span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">مرجع التراث المحلي والاشتغال على اللغة كماهو الشأن لدى سليم بركات في كل رواياته.</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="margin-right: 37.5pt; text-align: justify; text-indent: -19.5pt;">
<span style="color: navy;"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="FR">3-</span></span><span lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic'; font-style: normal; font-variant: normal;"><span style="font-size: medium;"></span></span><span dir="RTL" lang="AR-SA"><span style="font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">مرجع التراث العالمي والواقع العربي كما عند صنع الله إبراهيم في" اللجنة" ومحمد الهرادي في" أحلام بقرة".</span></span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">وترتبط" بنية العجائبي في الرواية العربية بالذات والتاريخ واللاشعور. وتحتل اللغة موقعا بؤريا في بناء العجيب وتوجيهه انطلاقا من نسق الحوار أو المنولوج الاستيهامي، عبرهما يتنامى العجائبي ويحدد موقع الواقعي. فهو بناء لغوي ولقاء بين المألوف واللامألوف ، بين أدوات طبيعية وأخرى فوق طبيعية غيبية لإيجاد حالة من الزج بالواقعي ، بكل وضوحه الكاذب وأوهامه المغلقة، في المأزق".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn32" name="_ednref32" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[32]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">إذاً، يستمد العجائبي وجوده الفني في الرواية العربية من التراث العربي والإسلامي في جانبه السردي من حكايات وتصوف وأخبار... ومن الملل والنحل والمعتقدات الشعبية، ومن عنف الواقع وإكراهاته، فضلا عن تأثيرات المثاقفة، وهضم كل هذه المعطيات في رؤية فنية حداثية وبنية انتقادية للظواهر الاجتماعية والفكرية والعربية".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn33" name="_ednref33" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[33]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">ويتضح كذلك أن الروايات التي توظف العجائبي باعتبارها تيمة أساسية ومهيمنة شكلا ومضمونا ووظيفة قليلة كما عند بنسالم حميش وسليم بركات ومحمد الهرادي ويحيى بزغود...بخلاف الروايات التي توظفه باعتباره خطابا تناصيا وجزئيا فهي كثيرة إلى حد ما؛ مما يجعلنا نقول مع الباحث المغربي الدكتور شعيب حليفي"يمكن اعتبار العجائبي خصيصة تمييزية في الرواية العربية، لم يتم استثمارها بشكل موسع وكامل، وأيضا لم يتم تطويرها حتى تصبح علامة مرجعية، وذلك نظرا لغياب كم روائي في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى غياب نقاش نقدي يضع العجائبي ضمن الأسئلة المطروحة على الإبداع العربي".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn34" name="_ednref34" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[34]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">وعليه، فإن توظيف الخطاب العجائبي القائم على الغرابة والتردد بين الواقع والخيال المموه والصور المجازية المفارقة من أهم مظاهر تجديد الرواية العربية الجديدة ومن أهم تجليات تأصيلها . والهدف من هذا الخطاب هو تجريب التقنيات الغربية الحديثة واستعارة القوالب التراثية في السرد والحكي من قصص ألف ليلة وليلة والحكايات العجائبية الغربية وكذا من القرآن والحديث النبوي الشريف والنصوص التي تحوم حول المحشر الأخروي بطريقة عجائبية، ولكن مع ذلك، فإن الرواية المغربية لم تستثمر الفانطاستيك إلا مع أواسط السبعينيات وبداية الثمانينيات أثناء لجوئها إلى التجريب والتأصيل مع روايات أحمد المديني وعز الدين التازي ومبارك ربيع وغيرهم.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويلاحظ محمد برادة أن مصطلح الفانطاستيك بالنسبة للأدب والنقد العربيين أصبح متداولا ورائجا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي ، كما صار يشكل محورا بارزا في استراتيجية الكتابة القصصية والروائية، ولاسيما بعد ترجمة كتاب تودوروف" مدخل إلى الأدب العجائبي" وتلخيصه والتعريف به من قبل الدارسين والباحثين في الأدب الفرنسي والأدب العربي. وقد يفسر هذا الاهتمام بالنزوع إلى تكسير قالب الواقعية الضيقة والبحث عن طرائق الترميز وتمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية .</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ويخلص الأستاذ الدكتور شعيب حليفي في كتابه( شعرية الرواية الفانطاستيكية) إلى أن " مكونات الخطاب الفانطاستيكي في الرواية العربية استطاعت أن تخلق التوازن الذي يجعل من الحكي التجريبي سؤالا أساسيا في الثقافة العربية، مما جعل مداخل البحث في سردية التعجيب في هذا النوع التعبيري مفتوحة على نسق نوعي من العلامات، ومرصدا دائما للمفارقات بين الطبيعي- العقلي وفوق الطبيعي- اللاعقلي، بين المتناقضات والكوابيس والاستيهامات المتصدعة...</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><span lang="AR-SA">إن الرواية الفانطاستيكية تطمح لأن تكون أكثر من مرآة تنعكس على صفحتها تبدلات الواقع المختلفة، فتهتك حجب الزمني والآني المألوف والمباشر، وتستشرف آفاق المطلق والمحتمل الغريب عبر هذا السياق تؤسس الرواية العربية لشعرية مفارقة هي شعرية الرواية الفانطاستيكية".</span></span><span lang="AR-SA"><a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_edn35" name="_ednref35" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" lang="FR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[35]</span></span></span></a></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<u><span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">خاتمــــــــــة:</span></span></u></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">تلكم- إذاً - نظرة موجزة ومختصرة عن الخطاب الفانطاستيكي/ العجائبي تعريفا ودلالة ووظيفة وبناء. وتلكم كذلك لمحة مقتضبة عن كيفية استثماره في الخطابات القصصية والروائية قديما وحديثا في الآداب الغربية والعربية موروثا وتجنيسا وتجريبا وتأصيلا.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<u><span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">ملاحظـــــــة:</span></span></u></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<br /></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span lang="AR-SA"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">جميل حمداوي، صندوق البريد :5021 أولاد ميمون، الناظور62002ن المغرب.</span></span></div>
<div class="MsoNormal" dir="RTL" style="text-align: justify;">
<span dir="LTR" lang="FR"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">JAMILHAMDAOUI@YAHOO.FR</span></span></div>
<div>
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;"><br clear="all" /> </span><br />
<hr align="right" size="1" width="33%" />
<div id="edn1">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<br /></div>
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><u><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">المراجع والمصادر</span></span></u><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">:</span></span></span></div>
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<br /></div>
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<span style="color: navy;"><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="font-size: medium;">[1]</span></span></span><span style="font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- الدكتور محمد الباردي: <u>الرواية العربية والحداثة</u>، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سورية، ط1،1993،ص:194؛</span></span></span></span></div>
</div>
<div id="edn2">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">2</span></span><span dir="LTR"><span style="font-size: medium;">-</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> تعتبر محاولة تزيتيڤان تودوروف نموذجا لهذه المقاربة:</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;"> T.TODOROV: <u>INTRODUCTION A LA LITTERATURE FANTASTIQUE. </u>ED1970,</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn3">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref3" name="_edn3" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[3]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- كتاب جماعة أنتروڤيرن خير دليل على هذه المقاربة السيميائية، إذ تم تطبيق المقاربة على قصة دوديه(</span></span><span dir="LTR" lang="FR"><span style="font-size: medium;">A.DAUDET</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">):" الرجل ذو الدماغ الذهبي"، انظر إذاً:</span></span></span></div>
<div align="right" class="MsoEndnoteText" dir="RTL" style="text-align: left;">
<span dir="LTR" lang="FR"><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic; font-size: medium;">Groupe D'entrovernes<u>:Analyse sémiotique des textes</u>.Ed Toubkal Casa1er ed1987;</span></span></div>
</div>
<div id="edn4">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref4" name="_edn4" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[4]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نقلا عن تزيتيڤان تودوروف: <u>مدخل إلى الأدب العجائبي</u>، ترجمة الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، الطبعة1، 1993، ص:50؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn5">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref5" name="_edn5" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[5]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- سعيد غصان</span></span><span dir="LTR"><span style="font-size: medium;">):</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> ملاحظات حول مؤلف شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانطاستيكية)،<u>جريدة الاتحاد الاشتراكي</u> ،المغرب، 21 نونبر 1997، ص:6؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn6">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref6" name="_edn6" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[6]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- عن تزتيڤان تودوروف: <u>مدخل إلى الأدب العجائبي</u>، ص:49؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn7">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref7" name="_edn7" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[7]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفس المصدر، ص: 199؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn8">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref8" name="_edn8" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[8]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- محمد برادة: (تقديم)، <u>مدخل إلى الأدب العجائبي</u> لتزتيفان تودوروف، ص:5؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn9">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref9" name="_edn9" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[9]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- محمد برادة : نفس التقديم، ص:4-5؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn10">
<div class="MsoEndnoteText" dir="LTR" style="direction: ltr; text-align: left; unicode-bidi: embed;">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref10" name="_edn10" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[10]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span lang="FR"><span style="font-size: medium;">- V.Propp. : </span><u><span style="font-size: medium;">Morphologie du</span></u></span></span></div>
<div class="MsoEndnoteText" dir="LTR" style="direction: ltr; text-align: left; unicode-bidi: embed;">
<span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><u><span lang="FR"><span style="font-size: medium;">conte</span></span></u><span lang="FR"><span style="font-size: medium;">.Coll.Points.Ed Seuilm1965-1970</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn11">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref11" name="_edn11" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[11]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- تودوروف: <u>مدخل إلى الأدب العجائبي</u>، ص:66؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn12">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref12" name="_edn12" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[12]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- د. إدريس الناقوري</span></span><span dir="LTR"><span style="font-size: medium;">):</span></span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;"> الواقعية الرمزية في القصة المغربية في القصة المغربية)،<u>دراسات في القصة العربية</u>، وقائع ندوة مكناس، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط1 ، 1986، ص:236؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn13">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref13" name="_edn13" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[13]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- الدكتور إدريس الناقوري:نفسه، ص:237؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn14">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref14" name="_edn14" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[14]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفس المرجع السابق، ص: 237؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn15">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref15" name="_edn15" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[15]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:237؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn16">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref16" name="_edn16" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[16]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:238؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn17">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref17" name="_edn17" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[17]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:241؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn18">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref18" name="_edn18" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[18]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:242؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn19">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref19" name="_edn19" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[19]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه: ص:246؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn20">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref20" name="_edn20" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[20]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- تودوروف: <u>مدخل إلى الأدب العجائبي</u>، ص:139؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn21">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref21" name="_edn21" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[21]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:139؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn22">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref22" name="_edn22" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[22]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- إدريس الناقوري: نفسه، ص:239؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn23">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref23" name="_edn23" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[23]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- تودوروف: نفسه، ص:198؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn24">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref24" name="_edn24" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[24]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:198؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn25">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref25" name="_edn25" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[25]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">-- إدريس الناقوري: نفسه، ص: 239؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn26">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref26" name="_edn26" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[26]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- عن واسيني الأعرج: نفسهن ص:55؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn27">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref27" name="_edn27" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[27]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:240؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn28">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref28" name="_edn28" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[28]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- واسيني الأعرج: ( أحلام بقرة: العجائبية- التأويل- التناص)، <u>آفاق</u>، مجلة اتحاد كتاب المغرب، العدد 1 ، السنة 1990، ص:53؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn29">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref29" name="_edn29" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[29]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسهن ص:53؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn30">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref30" name="_edn30" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[30]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:53؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn31">
<div class="MsoEndnoteText" dir="LTR" style="direction: ltr; text-align: left; unicode-bidi: embed;">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref31" name="_edn31" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[31]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span dir="RTL"><span style="font-size: medium;"> </span></span><span lang="FR"><span style="font-size: medium;">-A regarder. <u>Dictionnaire encyclopédique,</u> LAROUSSE BORDAS, 1998, p.607;</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn32">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref32" name="_edn32" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[32]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- د.شعيب حليفي: ( بنيات العجائبي في الرواية العربية)،<u>فصول</u>، مصر، الجزء 1، المجلد16،، العدد 3، السنة 1997، ص:117-118؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn33">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref33" name="_edn33" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[33]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفس المقال السابق، ص:118؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn34">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref34" name="_edn34" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[34]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- نفسه، ص:118؛</span></span></span></div>
</div>
<div id="edn35">
<div class="MsoEndnoteText" dir="RTL">
<a href="http://www.arabicnadwah.com/articles/fantasia-hamadaoui.htm#_ednref35" name="_edn35" style="text-decoration: none;" title=""><span class="MsoEndnoteReference"><span dir="LTR" style="font-family: 'Simplified Arabic';"><span style="color: navy; font-size: medium;">[35]</span></span></span></a><span style="color: navy; font-family: Simplified Arabic;"><span style="font-size: medium;"> </span><span lang="AR-SA"><span style="font-size: medium;">- سعيد غصان: نفس المقال السابق، ص:6.</span></span></span></div>
</div>
</div>
</span></td></tr>
</tbody></table>
</span></b></div>
<b>
</b></div>
</div>
</div>
</div>
</div>
</td></tr>
</tbody></table>
</span></span></div>
<span style="color: #fff3e3; font-family: Times New Roman; font-size: x-small;">
</span></div>
</div>
</div>
</div>
</div>
</div>
</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-91708913928206502062015-05-03T22:58:00.001-07:002015-06-01T19:06:01.339-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
نشأة البنيوية :<br />
<br />
نشأت البنيوية في فرنسا، في منتصف الستينيات من القرن العشرين عندما ترجم (تودوروف) أعمال الشكليين الروس إلى الفرنسية. فأصبحت أحد مصادر البنيوية.<br />
<br />
ومن المعلوم أن مدرسة (الشكليين الروس) ظهرت في روسيا بين عامي 1915 و1930، ودعت إلى الاهتمام بالعلاقات الداخلية للنص الأدبي، واعتبرت الأدب نظاماً ألسنياً ذا وسائط إشارية (سيميولوجية) للواقع، وليس انعكاساً للواقع. واستبعدت علاقة الأدب بالأفكار والفلسفة والمجتمع. وقد طورت البنيوية بعض الفروض التي جاء بها الشكليون الروس.<br />
<br />
المصدر الثاني الذي استمدت منه البنيوية هو (النقد الجديد) الذي ظهر في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين في أمريكا، فقد رأى أعلامه "أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنية" (عزرا باوند)، وأنه لا حاجة فيه للمضمون، وإنما المهم هو القالب الشعري (هيوم)، وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاته (جون كرو رانسوم).<br />
<br />
والألسنية هي المصدر الثالث الذي استمدت منه البنيوية، ولعلها أهم هذه المصادر، وعلى الخصوص ألسنية فرديناند دي سوسير (1857-1913) الذي يُعد أبا الألسنية البنيوية، لمحاضراته (دروس في الألسنية العامة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بنية) فإن الاتجاهات البنيوية كلها قد خرجت من ألسنيته، فقد مهد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظاماً لغوياً خاصاً. وفرق بين اللغة والكلام: (فاللغة) عنده هي نتاج المجتمع للملكة الكلامية، أما (الكلام) فهو حدث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتية للمتكلم.[1]<br />
<br />
<br />
<br />
و كما أسلفنا ؛ ففي نهاية العقد الثاني من القرن العشرين التقت آراء العالم السويسري (فردنياند سوسور) بالتيارات النقدية السائدة في اوربا ليبرز تيار الفكر البنيوي في الدرس النقدي المعاصر والحديث . والحقيقة ان “الجذور البنيوية تضرب بعيداً في القدم منذ ارسطو والجاحظ والعسكري والجرجاني وقدامة وابن طباطبا وهيغل وماركس ، حتى اشتهر قال بعضهم :”لنقل صريحاً: البينوية ليفي شتراوس” علماً عليها ليفي شتراوس وعرف بها فوكوهو ولاكان والتوسير وجان بياجيه وغيرهم. [2]<br />
<br />
ففي القرن التاسع عشر نادى الباحث الاجتماعي اليهودي دوركايم بالنظرية المسماة "العقل الجمعي"، ودعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها "أشياء مستقلة"، وتبعاً لذلك ظهر الباحث اللغوي السويسري "فرديناد دي سوسيور " بنظريته في "ظاهرة اللغة"، حيث جرد اللغة من دلالاتها الإشارية المألوفة وعدها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية، ومن هنا ظهرت فكرة "البنية".[3]<br />
<br />
مفهوم البنيوية و مدارسها :<br />
<br />
ومن أبرز ما قرره سوسيور بقوة مبدأ "اعتباطية الرمز اللغوي" وهو ما يعني أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة من العلاقات التعسفية أي: العلاقات التي لا ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً بمدلولات العالم الطبيعي" وأن "كل نظام لغوي يعتمد على مبدأ لا معقول من اعتباطية الرمز وتعسفه" أي: تماماً كما يعتبط العقل الجمعي عند "دوركايم " ويتعسف فيفرض على الناس ما هو خارج عن ذواتهم، ومن هنا انبعثت فكرة "السيمولوجيا" أي علم الدلالة، أو العلامة والإيحاء، وتطورت فيما بعد .<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
, و يعد( جاكبسون ) من المدرسة الروسية الشكلية التي من أهم آرائها "تحرير الكلمة الشعرية من الاتجاهات الفلسفية والدينية والانطلاق من "دراسة العمل الأدبي في ذاته"، فهي تؤكد "أن العمل الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال عملية الموضعة الفنية وجوده الخاص المستقل" .<br />
<br />
وتؤكد أن "العمل الفني لا يتطابق بشكل كامل مع الهيكل العقلي للمؤلف ولا المتلقي"، أو كما يقول: "موخارو فسكي : "فإن الأنا الشاعر لا ينطبق على أية شخصية فعلية ملموسة، ولا حتى شخصية المؤلف نفسه، إنه محور تركيب القصيدة الموضوع.<br />
<br />
و تعني البنيوية عند جورج لوكاش : استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة .<br />
<br />
و قد حدد لوسيان جولدمان (1913-1970) وهو فرنسي من أصل روماني البنوية التوليدية على أنها المنهج الذي يحلل النص الأدبي بوصفه بنية إبداعية تخبئ تحتها بنية اجتماعية،. وقد أصدر جولدمان عدداً من الكتب المتصلة بقناعاته البنيوية منها: الإله الخفي وعلم اجتماع الإبداع الأدبي ومن أجل علم اجتماع الرواية .[4]<br />
<br />
و نرى أن ثمة علاقة بين العلوم المختلفة و البنيوية , خاصة الاجتماع و النفس و اللسانيات ,<br />
<br />
بالإمكان اختصار مفهوم البنيوية في مقولة ميشيل بريكس : أما المنهجية البنيوية الشكلانية فتهتم فقط بالنسيج اللغوي للنص وتدرسه بذاته ولذاته مهملة صاحبه أو مؤلفه. وهي تنطلق من القناعة التالية: النص هو وحده المهم ولا يفيد في شيء أن نتعرف على حياة مؤلفه لكي نفهمه. وهذا الموقف المتطرف في النقد الأدبي ساد في فرنسا لفترة ولكنه تراجع وانحسر الآن. [5]<br />
<br />
و يرى جميل حمداوي أن البنيوية طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين أساسيتين وهما: التفكيك والتركيب ، كما أنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز على شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقية النص في اختلافاته وتآلفاته. ويعني هذا أن النص عبارة عن لعبة الاختلافات ونسق من العناصر البنيوية التي تتفاعل فيما بينها وظيفيا داخل نظام ثابت من العلاقات والظواهر التي تتطلب الرصد المحايث والتحليل السانكروني الواصف من خلال الهدم والبناء أو تفكيك النص الأدبي إلى تمفصلاته الشكلية وإعادة تركيبها من أجل معرفة ميكانيزمات النص ومولداته البنيوية العميقة قصد فهم طريقة بناء النص الأدبي. ومن هنا، يمكن القول : إن البنيوية منهجية ونشاط وقراءة وتصور فلسفي يقصي الخارج والتاريخ والإنسان وكل ماهو مرجعي وواقعي ، ويركز فقط على ماهو لغوي و يستقرىء الدوال الداخلية للنص دون الانفتاح على الظروف السياقية الخارجية التي قد تكون قد أفرزت هذا النص من قريب أو من بعيد. و يعني هذا أن المنهجية البنيوية تتعارض مع المناهج الخارجية كالمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي والمنهج البنيوي التكويني الذي ينفتح على المرجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي من خلال ثنائية الفهم والتفسير قصد تحديد البنية الدالة والرؤية للعالم [6]<br />
<br />
و تقوم البنيوية على فكرة إعادة انتاج الواقع من خلال إقامة الأنموذج الذي يحدده المحلل نفسه، وهذا الأنموذج سيكون قابلاً للمقارنة مع الشيء الخاضع للدراسة، وإذا مضينا أكثر لتفهم البنائية فعلينا أن نلجأ إلى واحدة من الآليات التي تستخدمها وهي المقابلات الضدية.<br />
<br />
يقرر صلاح فضل أن التعريف الأول للبنائية: "يعتمد على مقابلتها بالجزئية الذرية التي تعزل العناصر وتعتبر تجمّعها مجرد تراكب وتراكم، فالبنائية تتمثل في البحث عن العلاقات التي تعطي للعناصر المتحدة قيمة وضعها في مجموع منتظم [7]<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
أدبية الأدب : المبدأ الرئيس في البنيوية :<br />
<br />
إن حركة الشعراء المستقبلين في روسيا، وكتابات الرومانسيين الألمان ستوجه اهتمام النظرية الأدبية نحو التركيز على جانب الانسجام الداخلي للنصوص الأدبية، وستفسح المجال للإعلان عن ميلاد علم للأدب، منذ أن طلق جاكبسون عام 1919 قولته التي أصبحت فيما بعد كبيان يختزل عمل الشكلانين والشعرين والبنيويين حيث قال " ليس موضوع علم الأدب هو الأدب وإنما الأدبية أي ما يجعل من عمل ما عملاً أدبياً . فما المقصود بالأدبية ؟ يجيب تودوروف في كتابه- الشعرية -عن تحديد هذا المفهوم المركزي بقوله " ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي، وكل عمل عندئذ لا يعتبر إلا تجليا لبنية محددة وعامة، ليس العمل إلا إنجازاتها الممكنة ولكل ذلك فان هذا العلم لا يعنى بالأدب الحقيقي بل بالأدب الممكن،<br />
<br />
وبعبارة أخرى يعنى بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية .<br />
<br />
يعد للمؤلف نفس الدور الذي كان يلعبه في النقد السيري، لأن ما يشكل موضوع الدراسة الأدبية ليس الأعمال الأدبية المفردة وإنما الأدبية، بحيث أن العمل الأدبي يرتبط بالنسق الأدبي بصورة عامة وليس بشخصية مؤلفة، فالشاعر في النظرية الشكلانية لم يعد ينظر إليه كصاحب رؤى أو عبقرية وإنما نظر إليه " كعامل ماهر يرتب، أو بالأحرى يعيد ترتيب المادة التي يصادق وجودها في متناوله، إن وظيفة المؤلف هي أن يكون على معرفة بالأدب، أما ما يعرفه عن الحياة أو ما لا يعرفه، فأمر غير ذي أهمية لوظيفته تلك ، إن هذا التصور يذكرنا بالمنجز النقدي العربي القديم خصوصا عند نقادنا الذين قالوا بأن الشعر صناعة وأن الشاعر يقوم بوظيفة السبك والصوغ ولا اعتبار بالمادة التي يصوغ فيها.[8]<br />
<br />
و حول نظرية ( موت المؤلف ) التي تعوّل عليها البنيوية كثيرا ذلك في أن المنهج البنيوي يرفض النظرة التي ترى أن المؤلف هو منبع المعنى في النص ، وصاحب النفوذ فيه ، يرفض ذلك ويؤكد أن الكاتب لا دور له يذكر ؛ فلم يقم بعمل يستحق الثناء والمدح ، وكل ما قام به هو استخدام اللغة التي هي حق مشاع ، وأنه عندما أنشأ النص أنشأه على طريقة من سبقه ، فلم يأت بجديد بل قلد من سبقه في هذا الفن فهو اتجاه يركز على اللغة وكيفية عملها ودلالاتها ، وبذلك يخرج المؤلف خاوي الوفاض ، لا هو مبدع ولا هو عبقري ، وإنما هو مستخدم للغة لم يبتدعها ، وإنما ورثها مثلما ورثها غيره .<br />
<br />
<br />
فمع انتشار الاتجاهات النقدية الجديدة مثل " البنيوية وما بعدها " لم يعد ينظر إلى المؤلف بوصفه منشئ النص ومصدره ، كما لم يعد هو الصوت المتفرد الذي يعطي النص مميزاته ، فالذي تتحدث وتنطق هي اللغة وليس المؤلف أو صوته .<br />
<br />
<br />
<br />
من مناهج النقد البنيوي :<br />
<br />
اهتمت الناقدة سيزا أحمد قاسم بالمنهج البنيوي كوسيلة لتحليل النص الروائي ،و تصرح في كتابها "بناء الرواية "منذ البداية بأنها تتبنى هذا المنهج في دراستها المقارنة" لثلاثية نجيب محفوظ " فتقول :"وفي ضوء التزامنا بالدراسة النقدية التطبيقية ،كان لابد لنا أن نستند إلى المنهج البنائي حيث أن السمات التي نريد أن نرصدها بين الأعمال موضوع الدراسة هي سمات تتعلق بالشكل والبناء وهذا المنهج سماه"رينيه ويلك"في كتابه نظرية الأدب المنهج الداخلي"<br />
<br />
وتحدد المنهج الداخلي بالمنهج الذي يتعامل مع النص الأدبي مباشرة كبنية واحدة معزولة عن مؤلفها وبيئتها التي كتبت باعتبارها كيانا له عناصره الخاصة ،لابد للنقد التعامل معه على هذا الأساس.12وإذا اختارت المنهج البنيوي فلأنها لا تولي اهتماما لما سمته الناقدة يمنى العيد بالخارج وألحت على ضرورة دراسته،الخارج الذي يجعل من النص كائنا حيا متطورا بتعبير" سيزا قاسم" فرغم اعترافها بأهميته تبعده عن دراستها.<br />
<br />
بناء على هذا الهدف الذي تسعى لتحقيقه ،وهو مقارنة رواية نجيب محفوظ بالرواية الفرنسية الواقعية من أجل كشف أوجه الشبه والاختلاف الخاصة بالتقنيات والأساليب و باقي أشكال السرد هذا الهدف تنشده باعتمادها على المقولات النقدية البنيوية كما جاءت عند" جرار جينيت "،واللغوية عند الروسي" بوريس أزبنسكي" إلى جانب الشكلانيين الروس.<br />
<br />
وتختلف عن الناقدة" يمنى العيد " التي لم تكتف بتحليل العناصر البنائية للنص ورصد علاقاتها وراحت تربطها بالبنية الاجتماعية والثقافية ،محاولة كشفها داخل النص .بينما على العكس نجد "سيزا قاسم قد اختارت المنهج البنيوي توخيا منها الموضوعية وتجنبا الوقوع في الأحكام الجاهزة والانحراف بالتحليل إلى إطلاق الأحكام القيمية ،والتركيز على الوصف المقارن للرواية ،ليس من أجل قولبة نص نجيب محفوظ وجعله قالبا جاهزا استعاره الكاتب ثم أفرغ فيه حكاته، إنما الهدف كشف مدى تمثله الرواية الغربية وممارسة تقنياتها ،الأمر الذي يوضح علاقة الرواية العربية بالرواية الغربية عموما باعتبار نجيب محفوظ ممثلا للنص الروائي العربي خاصة الواقعي منه لهذه الأسباب تشرح رؤيتها المنهجية بقولها :"وقد استلزم ذلك البحث أدوات نقدية تساعدنا على تحليل العمل الروائي إلى عناصره الأولية وطبيعة العلاقات التي تقوم بين هذه العناصر،وبذلك يجمع بحثنا بين التحليل البنائي و النقد المقارن ".<br />
<br />
ونفهم من كلامها أنها ستتعامل مع ثلاثية نجيب محفوظ كوحدة مستقلة تحلل من الداخل دون الالتفات إلى ما هو إبعيدا عن الأحكام القيمية .<br />
<br />
و إذا كانت يمنى العيد تكشف عن المقولات البنائية التي ستنطلق منها في دراستها التي ذكرنا فإن الناقدة "سيز ا قاسم" تكتفي بالإشارة فقط إلى أنها ستعتمد "جيرار جينيت " و "أزبنسكي" ،دون توضيح كيفية ذلك أو تحديد المفاهيم التي تختارها كمنطلقات نقدية لعملها ،وقد لاحظ ذلك" حميد لحميداني " فراح يلومها متسائلا :"وقد كان على الناقدة أن تحدد بدقة ما هي الأطروحات البنائية التي تود تطبيقها ولا ينبغي الاكتفاء بالإشارة إليها ،بل تقديم الصورة الخاصة التي تمثلها بها ،ومما يجعل هذا الجانب ملحا هو أنها تقدم منهجا جديدا في العالم العربي خصوصا بالنسبة للقراء الذين ليس لهم القدرة دائما على الاتصال المباشر بالنقد الغربي بسبب عوائق اختلاف اللغة .<br />
<br />
لكن الشيء الملاحظ هو كون الناقدة تعترف أنها لن تلجأ إلى مناهج أخرى لتستفيد منها ،بل اكتفت بالمنهج البنيوي على أساس أتخادها الوصف وسيلة تحليلها ،ثم رؤيتها المبنية على معاملة النص كبنية تدرس من الداخل ،غير أننا نلاحظ أن هناك تفاوت بين هذا الطموح وممارستها النقدية ،إذ نجدها أثناء تفسيرها للثلاثية بنصوص غربية تسترسل في التأويل الفلسفي والاجتماعي وحتى الأيديولوجي ،فتبتعد عما خططت له متأثرة بوجهة نظرها الفكرية [9]<br />
<br />
<br />
<br />
البنيوية في العالم العربي :<br />
<br />
لم تظهر البنيوية في الساحة الثقافية العربية إلا في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات عبر المثاقفة والترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في جامعات أوربا. وكانت بداية تمظهر البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة ومؤلفات تعريفية للبنيوية ( صالح فضل، وفؤاد زكريا، وفؤاد أبو منصور، وريمون طحان ، ومحمد الحناش، وعبد السلام المسدي، وميشال زكريا، وتمام حسان، وحسين الواد، وكمال أبوديب....) ، لتصبح بعد ذلك منهجية تطبق في الدراسات النقدية والرسائل والأطاريح الجامعية.<br />
<br />
ويمكن اعتبار الدول العربية الفرانكوفونية هي السباقة إلى تطبيق البنيوية وخاصة دول المغرب العربي ولبنان وسوريا ، لتتبعها مصر ودول الخليج العربي.<br />
<br />
ومن أهم البنيويين العرب في مجال النقد بكل أنواعه: حسين الواد، وعبد السلام المسدي ، وجمال الدين بن الشيخ، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد بنيس، ومحمد مفتاح، ومحمد الحناش، وموريس أبو ناضر، وجميل شاكر، وسمير المرزوقي، وصلاح فضل، وفؤاد زكريا، وعبد الله الغذامي.[10]<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
ختاما :<br />
<br />
فالبنيوية كاتجاه نقدي , لم يكن إلا بعد توطئة معرفية علمية طويلة , كما أسلفنا , و كان يطبق في عصور ممتدة , حتى مضى عهده الزاهر , و أتت بعده مذاهب و اتجاهات أخرى , كالتشريحية أو التفكيكية , خاصة لما رأينا من جمود البنيوية في طبيعتها الصارمة و طريقتها التعسفية التي أبت إلا الأخذ بالداخل في النص دونما النظر إلى الخارج , في تجاهل صريح للمعطيات التاريخية و السياقية و المؤلف و ظروفه المؤثرة .. كل هذا أدى إلى البحث عن سبيل آخر لنقد النصوص , لكن مع كل هذا , إلا أن للبنيوية خطرها الكبير و أهميتها التي لا يمكن تجاهلها إذ كانت وليدة للفكر اللساني الذي يعد نقلة كبيرة في اللغويات العالمية ..<br />
<div>
<br /></div>
</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-64124136375359889482015-05-03T01:26:00.001-07:002015-05-03T01:26:20.949-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
تمظهر العجائبي في النصوص السردية التراثية<br />
<br />
الخامسة علاوي ـ الجزائر<br />
<br />
تسعى هذه الدراسة المقتضبة إلى البحث عن صور متفرّقة للظاهرة الفانتاستيكية ( fantastique ) في بعض النصوص العربية القديمة، على اختلاف أنواعها وغاياتها وأساليبها. رغبة في التأصيل التراثي للمفهوم العجائبي الذي نتصور أنّه يبتعد بقرون عن كتاب تزفيتان تودوروف (المدخل إلى الأدب العجائبي) 1970.<br />
<br />
وفي المستهل، لعله من الأهمية بمكان طرح السؤال الآتي: هل يمكن الحديث عن جينات مكتملة للعجائبي في النصوص السردية القديمة؟.<br />
<br />
إن الإجابة عن هذا السؤال تستلزم استقراء تلك النصوص لإدراك مدى تمثلها للعجائبي كشكل تقني يعمد إليه الراوي في حكيه لغرض المتعة والتشويق وخرق قوانين الواقع. وبالاطلاع على تلك النصوص القديمة، ولاسيما التاريخية والجغرافية منها، تبين أنها ملأى بذكر العجائب والغرائب "التي ما تزال موضع إدهاش حتى يومنا هذا"( [1] ).<br />
<br />
أجل ما تزال تطرح السؤال ذاته، الذي طُرح منذ قرون مضت، ما تزال تثير الحيرة والتردد، تبعث على الشك في كل ما يُروى، فتنهال الأسئلة على العقل: أكانت تلك العجائب المروية حقائق واقعية؟ أم أنها مجرد خيالات وصور ابتدعتها المخيلة المتعالية داخل محيط اجتماعي وسياسي، وخرافات عالقة بالأذهان توارثتها الأجيال؟ فأصبح ـ كما يقول الغرناطي ـ الذكي العاقل هو القادر على التصديق( [2] )، هو وحده الذي بوسعه أن يعرف "أين ينتهي الواقع؟ وأين يبدأ الخيال؟ فالخيال واقعي، والواقع خيالي، إنه خيال يستعمل الواقع ذريعة، ونقطة انطلاق، وتتداخل الغربة والغرابة ويصبح الغريب غير عادي أي عجيباً"( [3] )، عجيباً في ذاته وصفاته، عجيباً لأننا ـ كما يقول القزويني ـ أصبحنا عاجزين عن الوقوف على أسباب حدوثه، أو لم نأنس مشاهدته( [4] )، ومتى سقط السببان عدنا إلى المألوف.<br />
<br />
فهل يمكن عدُّ تلك العجائب والغرائب، بكل ما تحمله من معاني التهويل والخرق للعادات المألوفة، جينات مكتملة للأدب العجائبي عند العرب؟.<br />
<br />
ثمة كمٌ هائل من الخرافات والأساطير العربية القديمة التي عجت بها كتب الرحلات والجغرافيا والتاريخ وهي أساطير جميلة، يتجلى جمالها في أنها "تقرب البعيد، وتبعد القريب وتنفي الثابت وتثبت المنفي أي أنها ترفض بطبيعتها المستحيل، بل قصاراها التعامل معه والتمكين له"( [5] ).<br />
<br />
لكن، هل يمكن عدّها بهذه المواصفات أدباً عجائبياً؟! أم هل هي مجرد جينات غير مكتملة له على مستوى التكوين والتوظيف، خاصة إذا علمنا أن هناك من النقاد المحدثين من رد العجائبي إلى الذهنية البدائية وإلى التقاليد الشفوية والفلكلور. فهذا شارلز شيل " Charals Schee l" يقول: إن "العجائبي هو عرف في الحكايات يمتحُ من التقاليد الشفوية والفلكلور"( [6] )، وذاك روجيه كايوا ـ حسب تحليلات " Valerie tritter " لنظريته ـ يقدم الأدب ضمن نظرة خطية بحيث يغدو العجائبي فيها استمرار للحكاية السحرية (المدهشة) وهي حكايات الجن( [7] ) (من الموروث الشعبي القديم)، وذاك محمد برادة يصنف العجائبي "ضمن تراث الأساطير والفلكلور لمختلف الثقافات"( [8] ) ذلك أن العجائبي في أوربا وبظهوره في القرن الثامن عشر استعاد "تمثل العناصر التقليدية والعجيبة في الموروث الثقافي الشعبي، ثمَّ صياغة كل ذلك صياغة جديدة، وبرؤية فلسفية جديدة، ومحاولة صبّ ذلك في الحياة الفردية والجماعية"( [9] ).<br />
<br />
وبتقصي مراتع الكتاب العرب في الأدب العجائبي يظهر أنهم ينهلون من التراث العربي القديم؛ فهذا إبراهيم الغيطاني حين سئل عن مكونات خطابه الروائي في علم الأخرويات، ردها إلى الأجزاء المتخيلة في أسفار التاريخ العربي التي تحاول تسجيل الزمن الذي شهد خلق العالم والمسافات الزمنية التي كانت مجهولة لأولئك المؤرخين مضافاً إليها الأساطير العربية وحكايات الفلكلور والحكايات الشعبية، وكل عناصر ما يمكن تسميته بالثقافة التحتية( [10] )، والتي يشعر بعض المثقفين بالتعالي عليها ولا يلتفتون إليها في الوقت الذي ينبهرون فيه بكتاب من الدرجة الثانية لمجرد أنهم من الغرب( [11] )، دون أن ينسى كتب العجائب التي كانت في معظمها محاولة لتفسير بعض الظواهر الطبيعية التي كان الذهن البشري يعجز عن تفسيرها ككتاب "خريدة العجائب" لعمر بن الوردي و"مختصر العجائب" لإبراهيم بن مصيف شاه( [12] ) وغيرهما، إيماناً منه "بالذاكرة والماضي والأحلام، وهي تتلاقى مع الوعي، ذلك أن هناك اختزانات قديمة في أعماق الأديب أو الكاتب عندما تصعد من اللاوعي يمكن أن تتجلى في شكل رؤيوي جميل وعذب، لكنّها غير خارجة كلياً عن سيطرة الوعي..."( [13] )، كما يؤكد ذلك حيدر حيدر في حوار له مع مجلة المسيرة. فهذا الاعتراف من جمال الغيطاني الصريح يؤكد أنّ النصوص النثرية القديمة كانت ملأى بالعناصر العجائبية، أحداثاً وشخصيات وفضاءات...، على الأصعدة السردية الآتية:<br />
<br />
1 ـ القصص الشعبي:<br />
<br />
مما لا ريب فيه أن كتاب "ألف ليلة وليلة" يعد من أشهر الكتب ذات الطابع الشعبي والبنية التعجبية حيث يقوم على وصف عوالم فوق طبيعية داخل عالم طبيعي مألوف وشخوص يتخذون هيئات كثيرة، أي يطالهم الامتساخ والتحول، مما يدعو إلى الحيرة والتردد في نفس المتلقي، وتلك أهم خصائص الأدب العجائبي عند تودوروف ومن أمثلة هذا القصص أيضاً، سيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، الأميرة ذات الهمة... الخ، بالإضافة إلى العدد الذي لا يحصى من السير الأخرى والشخصيات الأسطورية التي أثرت الخيال العربي وميَّزت دروبه، ودلت على "عظمة هذا الأدب الذي تنتمي إليه وكذا إنسانيته"( [14] ).<br />
<br />
فالمبدع الشعبي لم يكترث لتوجيهات النقاد التي كثيراً ما كانت متسمة بالأبوية والتعليمية كما يشير إلى ذلك عبد الملك مرتاض، وظل يبتكر المزيد حتى اكتظ الأدب الشعبي بالخوارق والأعاجيب وامتلأ بالأساطير الجميلة، المغرقة في "عوالم جديدة لا مكانة فيها للعقل، ولا سلطان فيها للمنطق، وإنما السلطان كله للخيال المجنح يحلق إلى أقصى الحدود ولكن في فضاء دونما حدود"( [15] ).<br />
<br />
غير أن مجيء الإسلام أضفى على العقلية العربية نوعاً من الواقعية، إذ حاول وبشتى الطرق محو الكثير من المعتقدات التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية معتبراً إياها أباطيل وأساطير الأولين، ومما يشوش على العامة عقائدهم.<br />
<br />
2 ـ كتب الفتوح والمغازي:<br />
<br />
وقد استمدت مادتها من تاريخ المسلمين إبان الفتوحات الإسلامية، وهي عبارة عن حكايات شعبية ذات أصول تاريخية، "تجاور فيها الواقعي والعجائبي سواء على مستوى الحدث أو الشخصية، أو الزمان والمكان، الشيء الذي يعني أن المتخيل العربي الإسلامي ساهم بشكل كبير في صياغتها وإنتاجها"( [16] )، وإن كان هذا النوع من الكتابة لم يحظ بقبول السلف الذين اعتبروه من العلوم التي لا أصل لها معتمدين في ذلك على حديث رواه أحمد بن حنبل يقول فيه: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم والمغازي" كما يروي ذلك السيوطي في الإتقان( [17] ).<br />
<br />
ومن أمثلة هذا النوع السردي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ غزوة وادي السيسبان التي تحكي جانباً من سيرة علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ ومغامراته في وادي السيسبان؛ إذ على الرغم من كون النص "يستمد شرعيته من مادة إسلامية، فإنه يتحرر من مختلف سماتها ويتعامل معها بشكل طليق: فهناك العديد من المغالطات التاريخية والجغرافية التي يتنبه لها كل من له إلمام ولو بسيط جداً بتاريخ صدر الإسلام"، وتبدو هذه المغالطات التاريخية واضحة على صعيد الحدث والفضاء والشخصيات. فبعض الشخصيات الإسلامية (كحمزة) يعاصر خالد بن الوليد ويشارك معه في عدة معارك، كما أن حمزة يمتد العمر به طويلاً في الإسلام، كما تحضر بعض الأمكنة في شبه الجزيرة موصوفة كما لو أنّها بعض الجزر في كتب العجائب"( [18] ).<br />
<br />
ومما لا ريب فيه أنّ هذا النوع السردي الخاص الإنتاج؛ لتعدد أبعاده واختلافها من حيث طبيعة المادة الحكائية له متلقٍّ خاص، وهو "موجود دائماً، ويشهد بذلك استمرار مثل هذه النصوص، مطبوعة، أو مروية، والطبعات الشعبية كثيرة ومتداولة وفي مختلف البلاد العربية"( [19] ).<br />
<br />
3 ـ كتب الصوفية:<br />
<br />
من المحاور التي كان للمتصوفة الحديث فيها، التصرف في العوالم بأنواع الكرامات وهي بالنسبة إليهم مقابلة للمعجزات التي لا يختص بها إلا الأنبياء، وتقوم هذه الكرامات على مبدأ استعمال الخوارق من الأمور، إن على مستوى السفر إلى الله وما فيه من مقامات وأحوال لأن "الصوفي عند أهل التصوف هو الذي هو فانٍ بنفسه باقٍ بالله تعالى مستخلص من الطبائع متصل بحقيقة الحقائق"( [20] )، أو على مستوى زيارة العوالم العليا والحديث عن لقاءات عجائبية خاصة وغريبة، ثم صدور ألفاظ موهومة الظاهر عن هؤلاء المتصوفة والتي تعرف في اصطلاحهم بالشطحات( [21] ).<br />
<br />
وعموماً فقد "ارتبطت خوارقهم بالحلم والهذيان، وبقوة نفسانية يمكن القول بأنها كانت تتماس من بعيد أو قريب ـ مع الخصوصية ـ ( [22] ) مع ما كان يسلكه البوذيون، وجماعات هندية أخرى"( [23] ). وإن كنا نودّ التوقف عند المقطع الأخير من عبارة شعيب حليفي لأن ما يسلكه هؤلاء هو نوع من الشعوذة والدجل الذي لا يفتأ العقل البشري أن يضع له الحدود.<br />
<br />
4 ـ الخطابات الأليغورية الرمزية:<br />
<br />
وتسمى رمزية تجاوزاً كما يقول شعيب حليفي ذلك أن شخوصها اختيرت من الحيوانات ومن نموذجها "كلية ودمنة"، التي حاولت تصوير فضاء حيواني عجائبي، ولا يختلف كثيراً عن عجائبية بعض الأعمال الفنية التي ظهرت في القرن التاسع عشر.<br />
<br />
ومن هذه الخطابات الرمزية ما يعتمد على الحلم كرسالة الغفران؛ ذلك أن "الحلم شغل دوراً كبيراً في إخصاب المخيلة العربية، وإعطاء العمل الإبداعي بعداً موحياً وفريداً"،( [24] ) وقد تحمل هذه الخطابات معنى أخلاقياً أو دينياً غير المعنى الظاهري( [25] ).<br />
<br />
5 ـ كتب التاريخ والجغرافية والرِّحلات:<br />
<br />
تضمنت كتب التاريخ أخباراً وحكايات غريبة تعود في معظمها إلى مخيلة المؤرخ أو الجغرافي أو الذاكرة الشعبية، ولا أدل على ذلك مما ورد في مروج الذهب عند المسعودي، وما رواه كل من وهب بن منبه القرشي وكعب الأحبار من الأخبار والقصص والأساطير التي امتلأت بها كتب الجغرافيا والرحلات والعجائب، من هذه الأساطير التي سُوِّدت بها الكتب القديمة ما تعلق بالغول، وهو كائن خرافي ظل العرب يعتقدون بوجوده، ويدل على ذلك ما أورده المسعودي من أن الفلاسفة أنفسهم ظلوا يعتقدون بوجود الغول، وقد حكى بعضهم "أن الغول حيوان شاذ من جنس الحيوان مشوّه لم تحكمه طبيعة، وأنه لما خرج منفرداً في نفسه وهيئته توحش في مسكنه، فطلب القفار وهو يناسب الإنسان والحيوان البهيمي في الشكل"( [26] ) وقد ذكر جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه شاهد ذلك في بعض أسفاره إلى الشام، وأن الغول كانت تتغول له، وأنه ضربها بسيفه وذلك قبل ظهور الإسلام"( [27] )، كما زعم تأبط شراً أنه لقي الغول في مكان بالحجاز يدعى رحا بطان وجرى بينه وبينها محاربة، وأنه قتلها وحمل رأسها إلى الحي، وعرضها عليهم حتى يعرفوا شدة جأشه وقوة جنابه( [28] ).<br />
<br />
وقد تخرج الغول للمسافر فتعبث به إذا اعتزل ببيداء أو انفرد في مكان قفر، فلا يأمن أن تُضله الطريق، وتزعم العرب قبل الإسلام "أن الغيلان توقد بالليل النيران للعبث والتحيل واختلال السابلة، قال أبو المطراب:<br />
<br />
فلله در الغول أي رفيقة<br />
<br />
<br />
<br />
لصاحب قفر حالف وهو معبر<br />
<br />
أرنَّت بلحن بَعْد لحن وأوقدت<br />
<br />
<br />
<br />
حواليَّ نيراناً تلوح وتزهر"( [29] )<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
كما لا ننسى الأساطير المتعلقة بزواج السعالي( [30] ) بالرجال من الإنس ومن أشهر هذه الأساطير زواج عمر بن يربوع بن حنظلة بالسعلاة التي بقيت معه زمناً، وولدت منه حتى رأت ذات ليل برقاً على بلاد السعالي فطارت إلى أهلها الذين كانوا زعموا له أنّه سيجدها خير امرأة ما لم تر برقاً. وكانوا يزعمون أن السعالي تمقت البرق فتفرّ منه( [31] ).<br />
<br />
وقد تعرض عبد الملك مرتاض لهذه الأسطورة بالتحليل في كتابه (الميثولوجيا عند العرب) معتبراً إياها من الأساطير المغرقة في الخرافية، إن على مستوى الشخصية المعرّف بها، أو على مستوى الحدث في ذاته وهو زواج "امرأة قوية قادرة على التحليق والطيران (...) بأعرابي جلف قاصر ذهنياً إلى حد ما، بالقياس إليها، كان يجوب الفيافي ويضرب مغامراً في القفار"( [32] )، كما طرحت هذه الأسطورة أسئلة كثيرة حاول مرتاض الإجابة عنها في كتابه مؤكداً أن الرواة تعمدوا تقديم هذه الأسطورة "خاماً لتكون أبهر، ولتكون أدعى إلى التساؤل، ولتكون أدنى إلى الحيرة والاعتقاد جميعاً. فليس هناك خيط واحد يمكن التمسك به من أجل الوصول إلى حقيقة ما، إلا حقيقة الأسطورة"( [33] )، وهي بذلك تعد بأحداثها وشخصياتها، وفضاءاتها، بل وحتى لغتها مغرقة في التغريب والتعجيب( [34] ).<br />
<br />
كما لا ننسى الشق وهو الآخر كائن غير محكم الخلق يخرج للمسافر إذا كان وحده، يقول المسعودي: "وقد كانت العرب قبل ظهور الإسلام تقول: إن من الجن من هو على صورة نصف الإنسان، وأنه كان يظهر لها في أسفارها وحين خلواتها"( [35] ).<br />
<br />
ومما ترويه العرب أنّه وقع قتال بين علقمة بن صفوان بن أمية بن محرب الكناني جد مروان بن الحكم لأمه والشق، حيث إن علقمة خرج في بعض الليالي يريد مالاً له بمكة فانتهى إلى موضع يعرف بحائط حرمان، فإذا بشق قد ظهر له وأخذ ينشد له:<br />
<br />
علقم إني مقتول<br />
<br />
<br />
<br />
وإن لحمي مأكول<br />
<br />
اضربهم بالمسلول<br />
<br />
<br />
<br />
ضرْب غلامٍ مشمول<br />
<br />
<br />
رحب الذراع بهلول<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
فرد عليه علقمة:<br />
<br />
شقُّ، مالي ولك<br />
<br />
<br />
<br />
واغمد عني مُنْصُلَكْ<br />
<br />
<br />
تقتل من لا يقتلك؟<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
فقال الشق:<br />
<br />
علقم، غنيت لك<br />
<br />
<br />
<br />
كيما أبيح معقلك<br />
<br />
<br />
فاصبر لما قد حُمَّ لَكْ<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
وضرب كل واحد منهما الآخر فماتا معاً( [36] ).<br />
<br />
ومما يُروى عن العرب أن الجن قد قالت شعراً في حرب بن أمية حين قتلته وهو:<br />
<br />
وقبر حرب بمكان قفر<br />
<br />
<br />
<br />
وليس قرب قبر حرب قبر<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
مستدلين على أن هذا الشعر من قول الجن، بأن أحداً لا يستطيع أن ينشده ثلاث مرات متتاليات دون أن يتعتع فيه( [37] )، ومنذ ذلك الحين اعتبر الشق رمزاً للشخصية الشريرة التي تظهر ولا ترحم.<br />
<br />
وقد تصدى عبد الملك مرتاض لمناقشة هذه الأسطورة أيضاً بشيء من التفصيل والتحليل في كتابه السابق الذكر، مبتدئاً بالتشكيك في طريقة وصول تلك الأرجاز التي رواها كل مِنْ علقمة والشق، متسائلاً عن مُوصِلِها إلينا؟.... الخ، مبيناً أننا إذا تغاضينا عن كل الأسئلة وعاودنا الرجوع إلى الأبيات التي رواها الشق حسب ما روي عند المسعودي، فإن محتوى هذه الأبيات لا يحمل معنى المهاجمة من الشق لعلقمة ولا يبدي أية عداوة أو بغضاء( [38] )....<br />
<br />
وغير بعيد عن الشق والسعلاة والغول هناك النَّسْنَاسُ الذي اكتفى المسعودي بالإشارة إلى موطنه (اليمن) في "مروج الذهب" محيلاً على أنه ذكره في كتابه "أخبار الزمان"( [39] ) الذي لم يتسنَّ لنا الإطلاع عليه. أما القزويني فقد حكى في كتابه (آثار البلاد وأخبار العباد) أن الله مسخ أهل وبار فجعلهم نسناساً، ووبار هي "أرض بين اليمن وجبال يبرين من محالِّ عاد (...) كانت أكثر الأرضين خيراً وأخصبها ضياعاً وأكثرها شجراً ومياهاً وتمراً، فكثرت بها القبائل وعظمت أموالهم، وكانوا ذوي أجسام فأشرَّوا وبطروا، ولم يعرفوا حق نعم الله عليهم، فبدّل الله تعالى خلقهم وصيّرهم نسناساً، لأحدهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ورجل واحدة، فخرجوا يرعون في تلك الغياض إلى شاطئ البحر كما ترعى البهائم (...)، يفسدون الزرع ويصيدهم أهل تلك الديار ويُنَفِّرونهم عن زروعهم وحدائقهم"( [40] ).<br />
<br />
ويذهب عبد الملك مرتاض إلى أن أصل هذا المعتقد ربما يعود إلى الأساطير التي نشأت عن هلاك قوم عاد مستدلاً على ذلك بحديث رواه ابن منظور في لسان العرب فحواه: "أنّ حياً من قوم عاد عَصوْا رسولهم فمسخهم الله نسناساً، لكل إنسان منهم يد ورجل من شَقِ واحد ينقزون كما ينقز الطائر ويرعون كما ترعى البهائم"( [41] ). فالنسناس ـ بناء على هذا النص ـ كائن ممسوخ، و"أما ما يذكره المفسرون، نسبة إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه في الغالب، من أمر يأجوج ومأجوج، وأنهما من الخلق المشوه، ومن أكلة لحوم البشر، وممن يتصفون بالقامات الطويلة والأجسام الضخمة حتى إنه يمكن تشبيههم بشجر الأرز، فإن ذلك ليس إلا أساطير. وقد استبعده ابن كثير نفسه( [42] )، وقد أوردنا في تحليل رحلة ابن فضلان( [43] ) بيان انتقال هذه الصورة ليأجوج ومأجوج إلى الآخر بعد أن كانت من المعتقدات العربية السائدة في جزيرة العرب.<br />
<br />
وقد كانت هذه المعتقدات قائمة على أشدها في الذهنية العربية البدائية (قبل ظهور الإسلام بزمن قد يكون طويلاً)، حتى إن صورها كانت دقيقة مما يجعل المتلقي يتردد في كثير من الأحيان بين التصديق والتكذيب.<br />
<br />
لاشك أن هذه المعتقدات الشعبية قد أثرتها المخيلة العربية القادرة على إنجاب أجمل الأساطير، من مجرد إشارات قرآنية، لم تشف غليل القوم، فراحوا ينسجون الأساطير من حولها نسجاً مثيراً، يبعث التردد والحيرة في نفوس المتلقين. وعليه فالبعد العجائبي كان حاضراً وبقوة في كل هذه المعتقدات الشعبية.<br />
<br />
ويذكر كراتشكوفسكي أن السنوات العشر الأولى للخلافة انتعش فيها نمط من الجغرافيا يطلق عليه "الجغرافيا الأسطورية"( [44] )، هذا النمط الذي يمكن عده شكلاً من أشكال العجائب والغرائب التي ملئت بها كتب الرحلات خصوصاً.<br />
<br />
وقد ارتبط هذا النمط ببعض الأماكن الأسطورية كجبل "قاف" الذي يقول فيه القزويني: "قال المفسرون إنه جبل محيط بالدنيا وهو من زبرجدة خضراء منه خضرة السماوات ووراءه عالم وخلائق لا يعلمهم إلا الله"( [45] )، وعلى الرغم من غياب أية إشارة قرآنية إلى هذا الجبل، فإن المفسرون حاولوا أن يبصروا إشارة إليه في الحرف الغامق "ق" في أول سورة "ق" ولم يقفوا عند ذلك بل قاموا بوصف الجبل استناداً إلى بعض المرويات، بل وحتى وصف المواضع التي تحول دونه فلا يمكن عبورها، والتي تحيط بالأرض على طريق طوله أربعة أشهر، وأيضاً للبلاد الواقعة خلفه. حتى إن بعض الجغرافيين ذهبوا إلى تحديد مكانه "بالقوقاز"( [46] ).<br />
<br />
ومن الموضوعات التي وردت في القرآن الكريم ودارت حولها الأساطير سد يأجوج ومأجوج الذي أمكن للرسول r بفضل ما تمتَّع به من نفاذ البصيرة ـ التي تعبر المسافات الشاسعة ـ أن يبصر ما طرأ عليه من تصدع فأخبر بذلك في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده "إن يأجوج ومأجوج ليَحْفِرنَّ السد"( [47] ).<br />
<br />
وقد كان للرحلات العربية اتجاه إلى مكان هذا السد وذلك في عهد الخليفة العباسي الواثق بالله (227 ـ 232 هـ) حيث رأى هذا الخليفة في منامه أن السد الذي بناه ذو القرنين ليَحُول دون تسرب يأجوج ومأجوج قد انفتح، فبعث بسَلام الترجمان إلى مكان السد (بحر قزوين) في الأصقاع الشمالية لينظر في الأمر فعاد له بوصف شامل للسد وللحصون التي مرَّ بها قبل الوصول إليه، محدداً في كل مرة حتى المسافة بين الحصن والحصن، والحصن والسد. وقد حكى سلام رحلته لابن خرد ذابة الذي قيدها في كتابه (المسالك والممالك) بكل أمانة( [48] )، ذلك أنه "يؤكد في آخر روايته أنه قد سمعها في بداية الأمر من سلام ثم أمليت عليه من التقرير الذي رفعه سلام إلى الخليفة"( [49] ).<br />
<br />
وقد رأى البعض أن رحلة سلام أسطورة خيالية وكفى، أوهى مجرد تضليل مقصود كما (يقود) سبنجر " Spenger " ويؤيده غريغور رييف " Grigoriev ".<br />
<br />
أما مينورسكي فقد اعتبرها مجرد حكاية تنتشر فيها بضعة أسماء جغرافية، بينما يذهب فاسيلييف " Vasiliev " عالم البيزنطيات إلى أن سلاماً قد نقل إلى الخليفة الروايات المحلية التي سمعها في الأماكن التي زارها. وإلى هذا الرأي الأخير يميل كراتشكوفسكي لأنه ـ على حد زعمه ـ لا يخلو من الوجاهة( [50] ).<br />
<br />
وبغض النظر عن أسطورية المادة التي رويت في هذه الرحلة الواقعية، فقد نالت القصة انتشاراً واسعاً في الأدب الجغرافي العربي ورواها الجغرافيون المتقدمون مع تفاوت في التفاصيل من أمثال القزويني( [51] )، وياقوت الحموي( [52] )، وأبي حامد الغرناطي( [53] )والمسعودي الذي يذكر في (مروج الذهب) أنه ذكر في الكتاب الأوسط خبر السد الذي بناه ذو القرنين( [54] )... الخ.<br />
<br />
إذن فالرحلة في ذاتها واقعية كما أكّد ذلك أحد كبار العلماء المحدثين في الجغرافيا التاريخية لأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، رغم أنّ الدافع إلى إرسال هذه السفارة كان خيالياً بحتاً وهو ذات الدافع الذي جعل الخليفة يبعث بمحمد بن موسى الفلكي لتقصي خبر أهل الكهف الذي أورد في القرآن قصتهم في سورة الكهف؛ هذه القصة التي تباينت حولها الروايات ونسجت حولها الحكايات، على نحو ما يذكر الغرناطي: "في طريق قونية غار تحت الأرض يسكنه جماعة، وفيه بيت كبير، فيه رجال موتى، بعضهم قيام، وبعضهم ركوع، وبعضهم سجود، فلا يدري من أي أمة هم، وعليهم ثياب لا تبلى، والنصارى والمسلمون يتبركون بهم وأمرهم شائع يراهم الناس"( [55] ).<br />
<br />
ولم يكتف الغرناطي بذكر حكايته هذه التي أخرجت القصة عن حيّزها الجغرافي المعروف من جهة، وجعلتها القاسم المشترك بين المسلمين والنصارى من جهة ثانية بل راح يؤكد صحتها بما رواه له رجل من أهل باشغرد اسمه داود بن علي، من أنّه دخل ذلك الغار ورأى فيه الرجال، فلما اقترب من راكع منهم وأخذ بأسفل عنقه ورفعه استوى الرجل قائماً، فلما تركه عاد راكعاً كما كان. غير أن داود بن علي هذا يذكر أنّ الموتى في الغار كثر، منهم امرأة عندها مهد فيه طفل، قد انحنت عليه كأنها ترضعه وهي ميتة لم يسقط من جسدها شيء( [56] ).<br />
<br />
فهذه حكاية من الحكايات الكثيرة المحبوكة حول أهل الرقيم حوتها كتب المتقدمين من أمثال المسعودي( [57] )، والقزويني( [58] )، وابن خرداذبة وياقوت( [59] ) والغرناطي الذي ارتأينا رواية حكاية أخرى له عن هؤلاء الفتية مفادها أن مدينة دقيانوس( [60] ) كانت هي غرناطة، وبالقرب من المدينة بثلاثة فراسخ مدينة صغيرة يقال لها لوشة وإلى جانبها جبل صغير في حضيضه مثل الغار (كهف)، الشمس تزاور عن بابه ذات اليمين وإذا غربت تقرضه ذات الشمال، وفي داخله فتية، عددهم سبعة موتى، ستة منهم نيام على ظهورهم، وآخر نائم على يمينه وعند أرجلهم كلب، لم يسقط من أعضائهم ولا شعورهم شيء، والناس يغطونهم بأنواع الثياب، ويزورونهم من جميع البلاد، وعلى الكهف مسجد، ولهم هبة عظيمة وعلى الكهف نور كثير، والدعاء عندهم مستجاب. وهذه كرامة الله ظاهرة لعباده في الدنيا تدل على إكرام الله تعالى لأرواحهم في الآخرة( [61] ).<br />
<br />
وربما كان طابع القداسة الذي أضفاه الغرناطي على القصة منذ البداية (يكفي أنّه روى القصة باللفظ القرآني) أحد أهم الأسس التي استند إليها الرحالة لإقناع المتلقي بما يأتي من الدعاء المستجاب في مسجدهم والنور الساطع على جبلهم، وغيرها من الكرامات التي مُنِحوها رغم أنهم أموات عند ربهم يرزقون.<br />
<br />
وكلها معتقدات شعبية استفحلت بين العامة والخاصة حتى أنه لم يعد يقدر أحد من العلماء على دفعها كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، وهي مما يغذي البعد العجائبي في أدب الرِّحلات.<br />
<br />
ومهما كانت الأحداث، والشخصيات، والفضاءات مرجعية فإن العناصر العجائبية تتدخل لإضفاء بعض السمات العجائبية عليها فتغدو عجائبية محضة. ولربما ضاعت مرجعيتها التاريخية بين مجموع الحكايات التي تطبعها بالطابع العجائبي، الذي يجعل المتلقي في حيرة من أمره أيصدق كلَّ ما يقال أم يكذب، فيصبح الذكي العاقل هو القادر على التمييز بين الأمرين كما يقول الغرناطي، ولاسيما إذا تعلق الأمر بشيء من أمور الدين.<br />
<br />
ولم تنحصر تلك الحكايات والقصص فيما ذكرنا فحسب، بل إنّ كتب الرِّحلات البرية منها والبحرية قد عجّت بقصص ومغامرات طريفة وغريبة في الآن نفسه، كانت أكثر التصاقاً بالرحلات البحرية التي كانت وجهتها الأصقاع البعيدة، كالهند والصين، وسواحل إفريقيا الشرقية خاصة بلاد الزنج المشهورة، وهي تنطبق بوجه خاص على "زنجبار" الحالية.<br />
<br />
وفي هذه السلسلة يشغل كتاب عجائب الهند لبُزْرُج بن شهريار الذي تم تأليفه سنة 324 هـ/953م مكانة مرموقة، والذي يرى فيها فيران أن بعض قصصه يرجع إلى أواخر القرن العاشر. ومما يتميز به هذا الكتاب أن قصصه لا تدور حول قصة واحدة متماسكة الأطراف كما هي الحال مع كتاب أبي زيد السيرافي ولكنه يتناول مجموعة من القصص المتفرقة المختلفة طولاً وقصراً تتراوح بين عشر صفحات وبضعة أسطر، ومما تتميز به مادتها التنوع، فتارة يقابلنا وصف قصير لنبات أو سمك أو عجائب، وطوراً وصف لحادث في البحر أو البر قد يتحول إلى قصة مغامرات...، وتمثل هذه المجموعة القصصية لبزرج مصنفاً أدبياً ممتازاً ـ كما يشهد بذلك كراتشوكوفسكي ـ لا يقل أهمية عن أفضل مواضع أسفار السندباد بل ويفوقها أحياناً( [62] ).<br />
<br />
وربما كانت القصة التي رواها شوقي ضيف في كتابه (فنون الأدب العربي ـ جزء الرحلات ـ ) خير دليل على ذلك؛ إذ يروي أحد الملاحين عن أبيه قائلاً:<br />
<br />
"أسْرَيْتُ في مركب لي كبير، ونحن طالبون، جزيرة قِنْصور( [63] ) (...) وأدْخَلنا التيار بين جزائر، فأسندنا المركب إلى واحدة منهن. على ساحلها نسوة يعمن ويسبحن ويلعبن فأنسنا بهن، ولما قربن منهن تهاربن في الجزيرة.<br />
<br />
وتمضي الحكاية فتزعم أنّ هذا الملاح ومن معه من التجار بادلوا أهل الجزيرة عروضهم من الحديد والنحاس والكحل، والخرز والثياب بما عندهن من الأرز والغنم والدجاج والعسل والسمن، ثم طلبوا بضائع منهن يشترونها، فقلن ليس عندنا إلا الرقيق فاشتروا طائفة كبيرة، ولكن لم يكادوا يمضون في البحر حتى تطاير هذا الرقيق تطاير الجراد والمركب تجري في موج كالجبال، وكانت لا تزال بين القوم ضاربة في قاع السفينة فأمسك بها الملاح وأقعدها وأقامت معه ثماني عشرة سنة مقيدة، واستولدها ستة أولاد كان منهم راوي القصة! ويزعم أنه مات أبوه ففكوا عن أمهم قيودها رحمة بها وإبراراً لها وحنواً عليها، يقول: فخرجت كأنها الفرس السابق، وانطلقنا خلفها، فلم ندركها، وقال لها بعض من قرب منها: تمضين وتخلين أولادك وبناتك، فقالت: ما أعمل لهم وطرحت نفسها في البحر،وغاصت كأقوى حوت يكون، يا سبحان الخالق البارئ المصور"( [64] ).<br />
<br />
وللعلم فقد جعل بعض الكتاب العرب هذه الجزيرة من بين جزر "واق واق" التي كانوا ولا يزالون يقصون عنها الأساطير الكثير، وقد قدّم "بزرخ" تعليلاً لاختصاص هذه الجزيرة بالنساء، إذ يحكي أنّ الرجل سأل المرأة التي أخذها معه عن سر تلك الجزيرة وعن سرهن في الانفراد بالجزيرة دون الرجال فقالت:<br />
<br />
"نحن أهل بلاد واسعة ومدن عظيمة محيطة بهذه الجزيرة، ومسافة ما بين كل بلد من جميع بلادنا وبين هذه الجزيرة ثلاثة أيام بلياليها، وكل من في أقاليمنا ومدننا من الملوك والرعايا يعبدون النار التي تظهر لهم في جزيرتنا، ويسمونها بيت الشمس، لأن الشمس تشرق نم طرفها الشرقي وتغرب في جانبها الغربي فيظنون أنها تبيت في هذه الجزيرة (...) فيعبدونها ويقصدونها بصلاتهم وسجودهم من سائر الجهات. ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل المرأة في بلادنا تلد أول بطنٍ ذكراً، وثاني بطن أنثيين، وكذلك باقي عمرها، مما أقل الرجال في بلادنا، وأكثر النسوان! فلما كثرن وأردن أن يغلبن على الرجال صنعوا لهن المراكب وحملوا منهن آلافاً، وطرحوهن في هذه الجزيرة، ويقولون للشمس: يا ربهن أنت أحق بما خلقت، وليس لنا بهن طاقة (...) وإن بلادنا في البحر الأعظم تحت سهل لا يقدر أحد أن يجيء إلينا (...) خوفاً من أن تشربه البحار.."( [ 65] ).<br />
<br />
وقد ظلت هذه الجزيرة موضوع حكايات تنسج من بنات خيال البحريين خصوصاً، رغم البعد الجغرافي الوهمي الذي تُوسم به.<br />
<br />
ومما تقدم يتضح أن العجائبي في التراث العربي تمظهر في الأسطوري والفلكلوري، وفي المحكيات الشعبية الشفوية، وكل ما هو سحري مقترن بالذاكرة في إطار كلية المتخيل، وكل ما له اتصال بالملل والنحل والمعتقدات المختلفة، إضافة إلى مزج اللغة المتداولة بالخطاب الصوفي وهذيان الشعر من خلال بعض الصور التي تبتدعها المخيِّلة، بما فيها تجاوُز للمألوف والآني، مستشرفة آفاق الغريب والعجيب عن طريق تلاقح مستويات مثقلة بالدلالة( [66] ).</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-87544626921736803752015-04-24T09:43:00.001-07:002015-04-24T09:43:17.839-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
نظريات في دراسة المنهج الأدبي<br />
أ. د. السيد عبدالحليم محمد حسين<br />
<br />
<br />
المتأمل في مناهج الدراسة الأدبية في البلاد العربية في مختلف مراحلها، يجدها لا تخرج عن إِطار واحد مكرر، هو إِطار ربط الأدب وفنونه ومدارسه بالتقسيم التاريخي السياسي للأمة العربية من لدن الجاهلية حتى يوم الناس هذا. وهي مناهج لا تربي ذوقًا ولا تنمي إِحساسًا ولا تبعث موهبة، نماذجها ابتذلها التكرار، حتى لكأنما الأدب العربي لا يعرف غيرها، أو أنه أصيب بالعقم بعدها.<br />
<br />
ولقد عرف الأدب الحديث في البلاد العربية تطورات كثيرة، وتغذَّى بثمار متنوعة من آداب العالم وفنونه ونظرياته النقدية، وشهدت دوائر البحث الأكاديمي والمؤتمرات والندوات ودور النشر كثيرًا جدًا من الأعمال التي تناولت الأدب قديمه وحديثه، تأريخه ونقده، هذا على حين ظلت مناهج الدراسة الأدبية في المؤسسات التعليمية العربية على اختلاف مستوياتها في واد منعزل، كأنها في صمم عما يدور حولها من تلك التطورات وما فيها من إِضافات وتجديد في الأحكام والمعايير النقدية.<br />
<br />
إِن نظرية مثل: النظرية المدرسية التقليدية لا تزال مهيمنة على مناهج الدراسة الأدبية والنقدية، على الرغم من قدمها وأخطائها الكثيرة واستحداث نظريات كثيرة بعدها. وقد غدت تلك النظرية اتجاهًا أوشك أن يكون ((مقدسًا)) لا يجرؤ أحد على كسره والخروج عنه. وبقيت كل الأصوات الصادقة التي نادت بالإِصلاح وقدَّمت البديل عنه، بعيدة، لم تجد استجابة، ولم تلق تنفيذًا لما تدعو إِليه.<br />
<br />
ولقد شهدت المجامع اللغوية والمؤتمرات الأدبية والحلقات الدراسية والمجلات الجادة اللامعة منذ العقد الثاني من هذا القرن كثيرًا جدًا من المحاولات والأصوات التي عالجت موضوع الدراسة الأدبية واجتهدت للوصول به إِلى تصور ناضج أمثل. والتفت البحث العلمي العالي إِلى هذه المشكلة، فكان أول عمل علمي في هذا المجال هو أطروحة الدكتور شكري فيصل التي حصل بها على درجة ((الماجستير)) بإِشراف أمين الخولي سنة 1948 من جامعة القاهرة، وكانت بعنوان ((مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي: عرض، ونقد، واقتراح)).<br />
<br />
إِن الأدب - أدب أي أمة من الأمم - هو مرآة صادقة لحياتها. وعلى الرغم من نسبية هذه العبارة، فإِن تقديم الأدب وعرضه العرض الصادق الدقيق الحي من خلال المقررات الدراسية يقتضي منهجًا متكاملاً يهيئه ليكون تلك المرآة الصافية الصادقة ذاتها. وإذا لم نتجاوز الأسلوب التقليدي السائد الذي يهتم بالتقسيمات التاريخية المجردة وربط الأدب بعجلتها، دون العناية بالعناصر الحضارية في النص المدروس، ودون الاستضاءة بتيارات عصر النص وبيئته المكانية والثقافية العامة، إِذا لم نتجاوز ذلك فإِن تلك المرآة ستظل مضطربة غائمة، والحقيقة وراءها ضائعة مجهولة.<br />
<br />
لقد كان من بين ما ارتفعت به تلك الأصوات في علاجها لهذه المشكلة أسئلة منها:<br />
كيف نفرق مثلاً بين العصر الأموي والعباسي؟<br />
<br />
وكيف تم تقسيم العصور العباسية على امتدادها وتداخلها؟<br />
<br />
وهل تتماشى الخصائص الفنية مع الأحداث الزمنية؟<br />
<br />
أيها التابع، وأيها المتبوع، وأيها المؤثر الفاعل وأيها المؤثَّر فيه؟<br />
<br />
وهل يجوز أن نفهم أدبنا العربي بتاريخه الطويل ومدارسه وتياراته الفنية وبمختلف صوره وألوانه، من زاوية واحدة أو زاويتين، ونهمل سائر الزوايا؟<br />
<br />
ثم ما بال الذين يتوَّلون تأليف المناهج الدراسية يضربون حول أنفسهم أسوارًا عالية فلا يتابعون الحياة المتطورة وما فيها من ثراء نقدي وبحث علمي وعطاء إِبداعي؟!<br />
<br />
إِن جميع الدراسات الإِنسانية الأجنبية ومن بينها الأدب والنقد تتقدم بخطى واسعة، وتزداد علمية وغناء، على حين لم تزل دراسة الأدب لدينا، ولاسيما في مؤسساتنا التعليمية، مضطربة بين التعميم والسطحية والعجلة في البحث وعدم وضوح الرؤية.<br />
<br />
وكان من بين مظاهر النهضة العربية الحديثة، محاولة خدمة الأدب وتقديمه إِلى الأجيال الجديدة من خلال فهم يخالف الفهم التقليدي الموروث للأدب ورسالته في الحياة. وقد وُجِدَت نتيجة المراجعة النقدية والتفتح الفكري على طرائق البحث المنهجي في دراسة الأدب الغربي.. وُجِدَت عدة نظريات في دراسة المنهج الأدبي وربطه بالحياة الحديثة وتقديمه ضمن المقررات الدراسية.<br />
<br />
ويمكن حصر تلك النظريات فيما يأتي:<br />
• النظرية المدرسية أو التقليدية.<br />
• نظرية الفنون الأدبية.<br />
• نظرية الخصائص الجنسية.<br />
• نظرية الثقافات.<br />
• نظرية المذاهب الفنية.<br />
• النظرية الإِقليمية.<br />
<br />
ونختار هنا من هذه النظريات ثلاثًا فقط ندرسها ونوضح في إِيجاز شديد أصولها وأبرز ملامحها ومزاياها وعيوبها.<br />
<br />
1- النظرية المدرسية أو التقليدية:<br />
وهي أثر من آثار المزاوجة بين لونين من ألوان التأريخ الأدبي: اللون العربي بكل خصائصه القديمة التي عَلِقَتْ بها السياسة وشغلتها حياة القصور والصراع على السلطة. واللون الذي أرخ الأدب الغربي في أوربا، والذي تجاوز حياة الحاكم وحاشيته إِلى حياة العامة والتجارب الذاتية للشعراء والصدق في التجربة والتعبير. وقد سادت هذه النظرية مؤلفات أولئك الرواد في التأليف الأدبي المدرسي مثل: حسن توفيق العدل، والمرصفي، والإِسكندري، وجرجي زيدان، وأحمد حسن الزيات، وأحمد أمين. وقد التزم هؤلاء - على تفاوت فيما بينهم - بتقسيم الأدب إِلى عصور خمسة. يقول أحدهم - وهو الزيات - في كتابه المدرسي ((تاريخ الأدب العربي)): ((التاريخ الأدبي وثيق الصلة بالتاريخ السياسي والاجتماعي لكل أمة، لذلك اصطلحوا على أن يقسموه على حسب العصور التاريخية والانقلابات الاجتماعية، واتفق أكثر كتابنا على أن يقسموا تاريخ أدبنا إِلى خمسة أعصر: عصر الجاهلية - عصر ابتداء الإِسلام - عصر الدولة الأموية - عصر الدولة العباسية والأندلسية - عصر الدول المتتابعة إِلى هذا العهد)). ونتجت عن تطبيق هذا المنهج في معظم المؤسسات التعليمية حتى الآن آثار سيئة في فهم معنى الأدب ورسالته، لارتباطه في أذهان الطلاب دائمًا بالحاكم والتيارات السياسية المصطرعة في كل عصر.<br />
<br />
وامتد تأثير هذه المدرسة إِلى كثير من المؤلفات التي أرخت للحياة الفكرية، والحضارية بعامة، مثل سلسلة أحمد أمين: فجر الإِسلام، وضحى الإِسلام، وظهر الإِسلام، ومثل تاريخ الإِسلام السياسي للدكتور حسن إِبراهيم.. وازداد التيار اشتدادًا فامتد إِلى كثير من الدراسات الأكاديمية في الجامعات العربية.. وبات ذلك التقسيم وكأنه قانون لا يُنقَض، وبديهة لا تُناقَش.<br />
<br />
وكان من أوائل الذين ناقشوا هذا الاتجاه وتعقبوه بكثير من الملاحظات، طه حسين في كتابه ((تجديد ذكرى أبي العلاء)) وفي مقدمة كتابه ((في الأدب الجاهلي)) الذي أثار زوبعة كبيرة على امتداد سنوات طويلة. ولم يكتف طه حسين بزلزلة أركان النظرية المدرسية، ومضى يحاول إِقامة بنيان آخر تبدو فيه العناية الأولى بالظواهر الأدبية، بغضِّ النظر عن توافقها مع الأحداث السياسية أو تنافرها معها. وقد طرح أفكاره تلك من خلال مقاييس ثلاثة هي: المقياس السياسي، والمقياس العلمي، والمقياس الأدبي.<br />
<br />
أما الأستاذ أحمد أمين، فعلى الرغم من تقسيمه لعصور الحياة العقلية في سلسلته المذكورة على نمط التقسيم الزمني في هذه النظرية، فإِنه كان ينبِّه إِلى كثير من الملاحظات القيِّمة التي انتقد من خلالها هذه النظرية التقليدية في أسلوب هادئ ودراسة متزنة.<br />
<br />
كذلك أسهم الأستاذ أمين الخولي في الكشف عن مساوئ النظرية المدرسية، وأثار عددًا من الملاحظات الواعية العميقة، ثم حاول هو أيضًا إِيجاد تصور جديد: ((انظر كتابه: في الأدب المصري)).<br />
<br />
وهكذا تعرضت هذه النظرية لانتقادات هؤلاء الأعلام، وإِن كانوا قد سُبِقُوا بنوع من التشكيك الهادئ لها على يد جرجي زيدان في مقدمته لكتابه ((تاريخ آداب اللغة العربية 1911م)).<br />
<br />
أما أهم المآخذ التي تمخضت عنها تلك الانتقادات وفطن إِليها بعض الدارسين في العقود التالية، فهي كالآتي:<br />
1- أن هذه النظرية - كما رأينا - درست الأدب العربي على أساس قسمة العصور قسمة تاريخية لا أدبية. وعلى الرغم من شدة الارتباط بين الأدب والتاريخ، فإِن منهج هذه النظرية لا يؤدي مهمته المطلوبة مهما كانت وشائج ذلك الارتباط، كما أن مقاييسها تظل رهن المعايير التاريخية القديمة المتوارثة، التي تحتاج هي نفسها إِلى إِعادة تقنين ليمكن إِعادة كتابة تاريخ أمتنا كتابة علمية موضوعية دقيقة.<br />
<br />
2- أنها وضعت حدودًا فاصلة بين الآداب طبقًا لحدود العصور، على حين أن العصور تتداخل والآداب تتشابك والنماذج تختلط. ثم إِنها أهملت إِلى حد كبير الأساس المكاني وتأثير البيئة في النتاج الأدبي. وقد أدى هذا الإِهمال فيما بعد إِلى بروز الاتجاه الإِقليمي في الدراسة الأدبية، وتباين الأحكام الأدبية تباينًا غريبًا هو أقرب إِلى التناقض، وأدنى إِلى التضاد.<br />
<br />
3- أنها أهملت النوازع الفردية وخصائص الإِبداع الذاتي عند الأدباء، وذلك بسبب طغيان المقياس الزمني الأفقي. وقد جنى هذا على مئات من الأدباء الذين أغرقتهم هذه النظرية في تيار التعميم السطحي الذي لا يثبت عند التحقيق والفحص العميق وتطبيق بعض المناهج الأخرى على أولئك الأدباء.<br />
<br />
4- توجيه كل العناية إِلى مشاهير الأدباء، وتركيز الاهتمام فقط على اللامعين عبر كل العصور، ثم إِصدار الأحكام النقدية من خلال أعمالهم. أما الأصوات الفنية الأخرى - على اختلاف ألوانها ودرجاتها - فقد تجوهلت وكأنها لم توجد على الإِطلاق، على الرغم من اتسام كثير منها بالعبقرية والخصوبة والتفرد في الإِبداع.<br />
<br />
5- لحق هذه النظرية كثير من الجمود، واستحالت الدراسة إِلى أداة حكم وتقويم بالرقي والانحطاط والرفعة والتردي والازدهار والاضمحلال، بدلاً من أن تكون أداة وصف ورصد للحياة الأدبية بكل ألوانها وأنماطها.<br />
<br />
وعلى كل حال، فالذي لاشك فيه أن هذه النظرية لها دور الريادة بما للريادة عادة من مآخذ التجربة والمحاولة الأولى. كما أنها مهدت تمهيدًا طيبًا لدراسة الأدب العربي، وكانت هي المنطلق والحافز من خلال نقدها وتتبع عيوبها، بحثًا عن مناهج جديدة وأساليب أشمل وأدق. ولقد تفتح الفكر الأدبي فوجد أن النظرية المدرسية هذه لم تعد تفي بحق الدراسة، فتمرد عليها، وسعى نحو نظرية أخرى بديلة.<br />
<br />
2- نظرية الفنون الأدبية:<br />
وجدت البذور الأولى لهذه النظرية عند جرجي زيدان في مقدمة كتابه ((تاريخ آداب اللغة العربية)). وهي نظرية ترصد تطور الفنون الأدبية منفصلة فنًا فنًا، وتبرز ظواهرها عبر العصور رقيًا وانحطاطًا، استقامة والتواء، قوة وضعفًا، كما تتبع منابع كل فن والروافد التي غذته، والقنوات التي اتصل من خلالها بغيره فترك آثاره فيه. إِنها بصورة أخرى رسم بياني دقيق لتاريخ كل فن، أو كل غرض، ورصد صادق لسيرته الذاتية وعلاقته بسائر أشقائه في الأسرة الأدبية.<br />
<br />
إِن هذه النظرية تمكننا من الاستفادة من التسلسل الزماني والعامل الإِقليمي ومعرفة تأثيرهما في تطور أي غرض شعري أو فن أدبي، كما تجعلنا على اتصال مباشر بالنصوص المدروسة ذاتها وفحصها فحصًا حيًا فيه معاناة ومعايشة. إِنها نظرية تنتهج الاستقراء منهجًا لتجلية المغمورين الموهوبين من الأدباء، وتناولهم بالقدر الذي يُتناول به الأعلام اللامعون في مختلف الأعصر والبيئات.<br />
<br />
وهذه الطريقة تفيد أكبر فائدة في الموازنة بين النماذج الأدبية من حيث الشخصية والأسلوب، وترهف الحس النقدي عند الدارس لإِدراك دقائق الظاهرة الفنية وتحديد الخصائص المشتركة بين الأطراف المقارن بينهم.<br />
<br />
وأسلوب هذه النظرية يُعود على التريث والتدقيق والتقصي ويعمل على تبرئة الأحكام الأدبية - قدر الإِمكان - من السذاجة والسطحية والتعميم. إِنها ترفض الأحكام العامة الفضفاضة التي تستغرق عصرًا بأسره، بجميع كتابه وشعرائه وخطبائه وتتجه نحو التناول الفردي، بل تتخصص في تناولها فتقصره على غرض واحد فقط، أو فن مستقل بذاته من فنون الأديب.<br />
<br />
وإِذا كانت بعض النظريات تقيم من نفسها قاضيًا يتكلف إِصدار الأحكام، أو وصيًا يصدر الإِرشادات ويحدُّ الحدود، فإِن نظرية الفنون الأدبية لا تسعى إِلى ذلك ولا تؤمن به؛ وإِنما تتمخض أحكامها النقدية بعد طول فحص وتحليل، ووصف عفوي دقيق. وهي أيضًا لا ترتبط بالتاريخ السياسي ذلك الارتباط السلبي الدائم، بل تعتبره عنصرًا من بين عناصر كثيرة متعددة، تتداخل وتتفاعل لتكيف أدب كل أديب وتطبعه بطابعه المميز الخاص.<br />
<br />
وأخيرًا فهذه النظرية ذات أثر طيب في نفوس المتلقين من دارسين وقراء عاديين على السواء. فهي باستعراضها لحياة أي فن أدبي أو غرض فني بصورة متسلسلة دقيقة، تجلو جوانب الكمال وملامح الجمال، كما ترصد نقاط الضعف والنقص. ثم هي فوق ذلك تكشف عن صلة ذلك الفن أو ذلك الغرض بسائر الفنون والأغراض في اللغة الأم وفي الآداب العالمية المعروفة.<br />
<br />
ولكن.. شأن كل شيء في الحياة لا يمكنه بلوغ درجة الكمال المبرَّأ عن المآخذ، نجد أن هناك بعض الملاحظات على هذه النظرية، وذلك بمقارنتها بالنظريات الأخرى في هذا المجال، وأبرز تلك المآخذ:<br />
<br />
1- تجزئة النتاج الأدبي عند دراسته. ذلك أنها تدرس نتاج الأديب موزَّعًا بين الفنون، أو الأغراض المختلفة. فالمتنبي مثلاً يُدرس مرة في شعر المديح، ومرة في شعر الوصف، وحينًا في فن الهجاء، وحينًا آخر في فن الفخر. ومن هنا تتفتت شخصية الشاعر ويتجزأ نتاجه. وهذا لاشك يفقدنا التصور الكامل لجوانب الإِبداع وألوانه المختلفة عند الشاعر الواحد، ويضيع علينا الإِلمام الشامل بخصائص شاعريته.<br />
<br />
2- تهمل هذه النظرية صاحب النص المدروس وتتجاهل سيرته الذاتية ومدى انعكاسها في أدبه، فلا تلتفت إِليه إِلا لمامًا وبقدر ضئيل. والحق أن هذا الإِهمال هو إِسقاط لرصيد ضخم عظيم الأهمية في الدراسة الأدبية.<br />
<br />
3- هناك صعوبة كبرى تواجه هذه النظرية وتحول دون قيامها منهجًا متكاملاً للدراسة الأدبية الوافية. ومنشأ هذه الصعوبة عائد إِلى واقع الأدب العربي، وإِلى طبيعة الشعر فيه بصورة أخص. فالقصيدة العربية ظلت حتى العصر الحديث لا تعرف وحدة الموضوع وإِنما تعرف وحدة البيت؛ حتى لقد عُد من العيوب الفنية في الصناعة الشعرية أن يتصل البيت بالبيت الذي يليه اتصالاً نحويًا وثيقًا يقوم على ترابط المعنى. وقد مكن هذا من تنوع الموضوع داخل القصيدة الواحدة، بأن يكون لها غرض أساسي تنشأ من أجله، وأغراض جانبية مساعدة تلتفُّ من حوله.<br />
<br />
وينتهي بنا مثل هذا التنوع في أغراض القصيدة إِلى تجزئتها - عند تطبيق نظرية الفنون الأدبية - طبقًا لأغراضها، ولاشك أن هذا يبدد خصائص العمل الأدبي، ويمزق وحدته، ويطمس كثيرًا من معالمه ويحطم الإِطار العام له. ليس هذا في الشعر فقط، بل إِن كثيرًا من النصوص النثرية ذات الموضوعات المتعددة، أو ذات الغرض الأساسي والأغراض الجانبية الفرعية، هي أيضًا من العوائق الكبرى التي تحول دون تطبيق نظرية الفنون واستغلال جوانبها الإِيجابية الكثيرة.<br />
<br />
تلك هي وجوه النقد ونواحي الصعوبة والنقص التي تتعرض لها نظرية الفنون. ومع ذلك، فقد وُجد لها في البيئة الجامعية بوجه خاص، من يأخذ بها ويعمل على هديها. فقامت دراسة ((شعر الطبيعة في الأدب العربي)) للدكتور سيد نوفل، ودراسة ((شعر الحرب في أدب العرب)) للدكتور زكي المحاسني، ودراسة ((الهجاء والهجاءون)) للدكتور أحمد حسين. ثم تتالت دراسات الدكتور شوقي ضيف وغيره من أساتذة الجامعات العربية، فصدرت دراسات مستقلة عن: الفخر والحماسة والمديح والرثاء والغزل والهجاء والوصف... ثم دراسات عن الخطابة وفنون النثر: كالرسائل والمقامات، وأدب الرحلات، وعن الموشحات والأزجال والدوبيت، وعن الملحمة والقصة وجذورهما في الأدب العربي القديم. وهي في جملتها جهود مشكورة، كل منها يفيد من الآخر، ويحاول أن يتم نقصه المنهجي ويتلافى ما وقع فيه من مآخذ وعيوب فنية.<br />
<br />
وفي النهاية يهمنا أن نعرف الفرق بين النظريتين: المدرسية، والفنون الأدبية، وهو أن الأولى: تقوم على التركيب الذي يفتقد التحليل، وأن الثانية: تُعنى بالتحليل الذي يتعذر معه التركيب. وبناء على هذه الحقيقة، تطلع الفكر الناقد إِلى مناهج أخرى، تجمع بين مزايا هاتين النظريتين وتتجنب عيوبهما.<br />
<br />
3- نظرية المذاهب الفنية:<br />
عرفت هذه النظرية سبيلها إِلى الأدب العربي في مرات متعاقبة. واتخذت أشكالاً أقرب إِلى الغموض مرة، وأقرب إِلى الوضوح مرة أخرى، واستمسك بها جماعة من مؤرخي الأدب ونقاده في القديم، ثم التزم بها جماعة آخرون في العصر الحديث. ولقد حاول القدماء تلمُّس المدارس الأدبية عن طريق رصد خطى الشعراء وتتبُّع أساليبهم الفنية من خلال المعارك النقدية وقسمة الشعراء إِلى طبقات.<br />
<br />
وكان أول من تطرق لقضية المذاهب الفنية من المحدثين الشيخ حسن المرصفي في كتابه ((الوسيلة الأدبية)). ففي هذا الكتاب الرائد كثير من النظرات الصادقة والآراء النافذة التي رمت إِلى إِقامة دراسة جديدة على أساس من مذاهب الشعراء والأدباء ومن طرائقهم الفنية. ثم جاءت خطوة الخالدي في كتابه ((فيكتور هوجو وعلم الأدب عند الفرنج والعرب)) 1904م، حيث قسم الشعراء العرب إِلى أربع طبقات، وهي قسمة متأثرة بالمذاهب الفنية أكثر من تأثرها بأي نظرية أخرى.<br />
<br />
وتطورت الحياة العلمية، وبدأ التفاعل بين الثقافة الغربية التقليدية، والثقافة المستقاة من الأمم الغربية؛ فاتخذت نظرية المذاهب الفنية شكلها التطبيقي الواضح في عملين اثنين:<br />
<br />
أولاهما: دراسة مبكرة لطه حسين عن مدرسة زهير بن أبي سُلمى في الأدب.<br />
<br />
وثانيهما: دراستان لشوقي ضيف:<br />
الأولى: بعنوان ((الفن ومذاهبه في الشعر العربي)) وهي أطروحته للدكتوراه.<br />
والثانية: بعنوان ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)).<br />
<br />
ومع نمو البحث العلمي في مختلف الجامعات العربية، وشيوع الوعي الثقافي الحديث، واتصال كثير من الأدباء والباحثين بمنابع المعرفة في البلاد الغربية مباشرة، نما الاهتمام بنظرية المذاهب الفنية وتوالت الدراسات الأكاديمية والعامة، وصدرت عشرات من الكتب ومئات من الأبحاث في المجلات المتخصصة.<br />
<br />
ونقف عند خصائص هذه النظرية، فنجدها تتمثل فيما يأتي:<br />
1- الوحدة الفنية: وهي تتبع الخصائص الفنية عند جماعة من الأدباء، أو من الشعراء ذوي الاتجاه المتقارب والمسالك المتوازية، وتجميع السمات التي تجمع بينهم بغض النظر عن عوامل الزمان أو المكان التي توحد أو تفصل بينهم.<br />
<br />
2- التركيز والتدقيق واستفراغ الجهد والغوص في دراسة وجوه الاختلاف والاتفاق بين الأدباء، ورصد سمات الأسلوب وعناصره كلها. وهو موقف يتجنب السطحية والتسرع والتعميم، ويمضي في جدية وتنظيم، كما يحتاج إِلى رصيد ثقافي واسع، وتجربة طويلة خصبة.<br />
<br />
3- الإِفادة من جهود النظريات الأخرى التي تهتم بدراسة الآثار الأدبية المختلفة. فهذه النظرية لا تهمل سائر النظريات الأخرى، بل هي غاية لها وذروة تنتهي إِليها خلاصة أساليبها واجتهاداتها.<br />
<br />
4- الجمع بين جمالية الأدب ومنهجية النقد. فهي نظرية تقوم على الإِدراك أولاً ثم على التمييز ثانيًا، ثم على اكتشاف الحدود ثالثًا، على ما في هذا من عسر تحققه عند الدارس الواحد. إِنها - بإِيجاز شديد - نظرية تجمع بين كل مواهب المؤرخ الأدبي، وكل مواهب الناقد الأدبي، ليكون الناتج باحثًا متكامل الأدوات.<br />
<br />
5- الجمع بين الأدب والعلم. ومعناه الحرص على تزاوج الذوق والعقل، وامتزاج رواء الأدب ورونقه بموضوعية العلم ودقته. وهي لذلك أقرب النظريات إِلى روح الدراسة الأدبية التي توائم بين العلم والأدب، ولا تدع أحدهما يطغى على الآخر.<br />
<br />
6- تصحيح التراث الأدبي: وهي مرحلة تحقيق النصوص وتصحيح نسبتها واستبعاد زائفها، وتقع في طريق الباحث موقع قدمه الأول. وهذه النظرية هي أقدر من غيرها على الإِحاطة بمذهب الشاعر الفني والمدرسة الفنية التي يتبعها وتمحيص الأصيل من المنتحل من شعره.<br />
<br />
7- الوحدة والانسجام: فالنظرية الفنية تقوم على الوحدة والانسجام في أدق معانيهما وأكمل صورهما. إِنها تجمع خيوط الصلات العميقة بين كل شاعر وآخر، وبين كل كاتب وآخر، كما أنها تضبط ما بين نفوس الأدباء من تجاوب، وبين آفاقهم من تماثل، وما بين أساليبهم من وحدة.<br />
<br />
وبعد، فما موقف النقاد من هذه النظرية التي استجمعت كل هذه الخصال؟<br />
إِنها في الحق لا تواجه كبير اعتراض. والسبب في هذا أنها تحقق للدراسة الأدبية الفائدة واللذة، وتقيمها على دعامتي العقل والذوق معًا، وتبلغها الغاية في نهج ميسر سليم.<br />
<br />
لسنا هنا بصدد تبيان ما للنظرية وما عليها، فليس هنا سيئات تنقص جوانب النظرية الفنية، ولكن هنا محاذير يُخشى أن تؤدي بالدراسة الأدبية إِلى العقم والفشل الذريع.<br />
<br />
وأول تلك المحاذير: ما نخشاه عليها من الاقتصار على الاهتمام بالأسماء اللامعة والقمم الشامخة في سماء الأدب العربي، وإِهمال التتبع الدقيق للروح الفنية عند الشعراء المغمورين. فمن يدري فقد يكون أحد هؤلاء مفتاحًا لمذهب أدبي، أو عنوانًا لاتجاه فني. بل من المؤكَّد أن إِصدار الأحكام النقدية من خلال نتاج اللامعين وحدهم وتجاهل سواهم، أمر يقود إِلى نتائج فيها كثير من القصور والمثالب.<br />
<br />
وثاني هذه المحاذير: أن تسلم هذه النظرية بكل ما وقر في أذهان الأجيال من أحكام شائعة في حق الشعراء والكتاب وسواهم من الأدباء من لدن الجاهلية حتى العصر الحديث. فإِن قبول تلك الأحكام الجاهزة يؤدي حتمًا إِلى الزلل والحيف عن سنن الحق. لذلك لابد من التخلص التام منها والاتجاه نحو استقراء جديد شامل ودقيق، لاستخراج أحكام مستقلة كل الاستقلال، يمكن من ثَمَّ مقارنتها بالأحكام المتوارثة والشائعة، ثم الانتهاء إِلى القول الفصل.<br />
<br />
أما المحظور الثالث فهو: الخشية أن تنقلب الوسيلة عند هذه المدرسة هدفًا والهدف وسيلة، بحيث تصنف المدارس الأدبية أولاً ثم يقاس عليها الأدباء ثانيًا. إِننا إِذا فعلنا ذلك، نكون قد قلبنا المسألة رأسًا على عقب. فإِن الإِطار لا يوضع قبل الصورة، والمذاهب لا تُقَرر قبل استقراء الظاهرة الأدبية نفسها. ونظرًا لأن نظرية الفنون تغري بطبيعتها على الانزلاق والتبادل الخطر بين الغاية والوسيلة، نتيجة ما رسب في أعماق دارسي الأدب من آراء ونظرات جاهزة شائعة.. إِذن لابد من الحذر الشديد عند التطبيق.. أي لابد من الابتداء بالقاعدة القائمة على الاستقراء، والانتهاء بالقمة لنخرج بالاستنباط النهائي الدقيق.<br />
<br />
إِن هذه النظرية إذا استطاعت تَجنُّب تلك المحاذير الثلاثة المذكورة وَتَزوَّدَ مُطبِّقُوها بأدوات المؤرخ والناقد الأدبيين كليهما وبشروط البحث وبأخلاقه، فلاشك أن المستقبل الباسم من نصيبها، وأن البعث الحقيقي للدراسة الأدبية المنهجية الجادة سيكون متكاملاً على يديها.<br />
<br />
إِن النظريات والاتجاهات المختلفة التي تعاقبت على الأدب العربي، لم تف بحاجة هذا الأدب، ولم تفلح في درسه وتأريخه. فقد كانت هذه النظريات جميعًا المفترضة منها والمطبقة، المعرف بها هنا والتي لم نعرف بها، كانت سواءً في التنبيه إِلى جانب من جوانب الدراسة والقصور عما عداه، والنظر إِلى الأدب من زاوية وإِهمال الزوايا الأخرى.<br />
<br />
وإِذن: فماذا نستطيع أن نتخذ من أسباب للوصول إِلى نظرية تشمل الأدب العربي من أطرافه كلها، بما لهذا الأدب من امتداد زمني، ومن سعة مكانية، ومن واقع لغوي خاص وحياة متميزة؟<br />
<br />
إِن الهدف الأساسي من الدراسة الأدبية هو فهم الحياة الفنية التي غمرت العالم الإِسلامي عبر تاريخه الطويل، وضبط مراحل هذه الحياة، وإِدراك هذا التنوع الأدبي الواسع ورده إِلى وحدات مشتركة الخصائص متسقة الألوان. ويمكن أن تتم هذه الإِحاطة بالتراث الأدبي على نحوين مختلفين: أولهما: نفاذ إِلى الفروق، أدق الفروق في هذا التراث وبحثها بحثًا عميقًا بذكاء وصبر، وثانيهما: استخلاص الوحدات التي تجمع بين أجزاء التراث، ممثلة في النزعات والتيارات والمدارس الأدبية الفنية. وهذان النحوان أو العنصران متصلان ومتكاملان، يؤلفان قطبي الدراسة الأدبية ويحققان صورتها المثلى.<br />
<br />
وبناء على ذلك، فإِن المنهج الجديد الذي نتطلع إِليه هو منهج تكاملي. هو تنظيم التعاون بين مناحي الدراسات السابقة التي عالجت طبيعة كل النظريات المعروفة، والعمل على توجيهها لتلتقي في النهاية كاشفة عن المدارس الأدبية التقاء البناء الهرمي عند ذروته.<br />
<br />
ويمكن حصر أصول هذا المنهج الجديد كما تصوره د. شكري فيصل في النقاط الآتية:<br />
1- التعاون بين الدراسات الأصلية والدراسات المساعدة: فإِن دراسة الأديب نفسه، والتعرف على حياته، ودراسة شعره وتحليله، والتمرس بأسلوبه، والوقوف منه الموقف الشارح المميز الناقد في آن واحد، هو ما نسميه بالدراسات الأصلية. هذه الدراسات لابد لها من الاستفادة والتعاون مع دراسات النظريات الإِقليمية والثقافية والجنسية والفنية، باعتبارها دراسات مساعدة، لها كثير من الجوانب الإِيجابية التي يمكن استغلالها.<br />
<br />
2- إِفراد القضية الأدبية وتمييزها: إِن جوهر الدراسة الأدبية هو الظاهرة الأدبية ذاتها، وهي الغاية الأساسية والأصل. ولقد كان من عيب النظريات السابقة أنها اعتبرت القضية تبعًا أو وسيلة، وركزت عنايتها على أمور ثانوية جانبية؛ فأدى هذا إِلى الاضطراب والانتهاء إِلى نتائج قاصرة. أما المنهج الجديد فيحفظ للقضية الأدبية طابعها الخاص واستقلالها المتميز، ثم يجعل سائر الدراسات المساعدة أدوات معينة لها ومكملة.<br />
<br />
3- النظرة الواسعة المرنة: وهي ألا نجاوز المهمة الأساسية للدراسات الجانبية المساعدة عن الحياة السياسية وعن أثر البيئة وتفاعل الثقافات، وألا نعلو بها فوق قدرها، فنسلم بنتائجها التقريرية؛ وإِنما الصحيح أن نفيد منها في حدود معينة وبكل حيطة وهدوء، وبعد فحص ومراجعة.<br />
<br />
4- تحقيق الوحدة الفنية الكلية: وهي تتم بصورة منتظمة متدرجة: نبدأ بالشاعر الواحد لننتهي إِلى المجموعة من الشعراء، وبالكاتب لنصل إِلى الطائفة من الكتاب، دون تقيد بمكان أو عصر أو إِقليم. فإِذا انتهينا إِلى المدارس الأدبية كان من الممكن ملاحظة توزعها بين الأقاليم أو العصور أو الثقافات. إِذن فالمنهج الجديد يقوم على الانتقال من الفردي إِلى العام، ومن الجزئي إِلى الكلي، بطريقة متزنة عميقة هادئة نافذة.<br />
<br />
5- توسيع مفهوم الأدب: فلابد من توسيع دائرته من المعنى الخاص إِلى المعنى العام وربطه بميادين الفكر في الدراسات الإِنسانية المتنوعة من تاريخ وتصوف وفلسفة. إِننا إِذا صنعنا ذلك، سنجد أن مقدمة ابن خلدون مثلاً كانت مثالاً أدبيًا رائعًا، يستحق التمهل في التقويم والعمق في الدراسة، فيتغير كثير من آرائنا الجاهزة الشائعة وسنكتشف في تراثنا الفلسفي والصوفي كثيرًا جدًا من النماذج الراقية المجهولة كذلك. وما من شك في أن أمثال هذه الدراسات الجديدة ستشيع الخصب والنماء في عملنا الأدبي، وستحدث انقلابًا كبيرًا في أحكامنا الأدبية، وستغير من نظرتنا إِلى كثير من العصور والفترات. إِن هذه الميزة في المنهج الجديد ترفع الحواجز بين دائرة الأدب بمعناه الضيق، وسائر فنون المعرفة الإِنسانية، وتعمل على إِغناء الأدب بثمار الفكر بمختلف ألوانه من جهة، وعلى إِكساب الإِبداع الفكري في كل العلوم الإِنسانية نكهة الأدب ورواء أسلوبه وأناقة مظهره من جهة أخرى.<br />
<br />
ولقد ازداد تشبع الأجواء الثقافية والأكاديمية العربية خلال السنوات الأخيرة بمختلف ألوان المعارف الأجنبية. فازدانت المكتبة العربية بأعداد من الأعمال المترجمة والمؤلفة في مجالات: نظرية الأدب، والمناهج الأدبية، والأدب المقارن، والنقد الأدبي. وظهرت مناهج جديدة في دراسة النص الأدبي من مثل: الألسنية، والأسلوبية، والبنيوية، أو الهيكلية، أو السيميائية[1] وغيرها. كما صدرت كتب تحمل عناوين مثل: ((مشكلة البنية)) لزكريا إِبراهيم، ((والأسلوب والأسلوبية)) للدكتور عبدالسلام المسدي، و((الألسنية والنقد الأدبي)) لموريس أبو ناضر، و((في تاريخ الأدب: مفاهيم ومناهج)) لحسين الواد، و((في معرفة النص)) ليمنى العيد، وغير ذلك كثير جدًا.<br />
<br />
ولاشك أن هذه الإِسهامات الجديدة تتفاوت فيما بينها جدة، وابتكارًا، واتصالاً بالتراث والمعاصرة، وتطرفًا واعتدلاً. وهي اتجاهات ذات مزايا إِيجابية، وذات مزالق قد تجنح بالدراسة إِلى التطرف المسرف، خصوصًا إِذا تناست طبيعة الأدب العربي وعالجته من خلال المعايير الأجنبية المحضة.<br />
<br />
إِن مناهج دراستنا الأدبية الراهنة، خصوصًا ما يتصل منها بالمناهج التعليمية، هي في حاجة ماسة إِلى إِصلاح جذري جاد. إِنها لا تزال أسيرة المدرسة التقليدية - في الغالب - بكل ما لها من عيوب كما قدَّمنا، ولقد آن الأوان أن نستبدل بها منهجًا جديدًا على ضوء الحقائق التي انتهينا إِليها من خلال هذا العرض الموجز. إِننا نتطلع إِلى منهج يناسب الوعي الثقافي المعاصر وما وصلت إِليه الأذواق والأفهام الأدبية الحديثة.. منهج متكامل يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويتميز بشخصيته المستقلة ومعاييره الخاصة.<br />
<br />
[1] السيميائية: هي تطوير للبنيوية وتنويع لها. وهي تستمد أدواتها من علم اللغة، وتعتبر علمًا استقرائيًا يوضح العلاقة بين مبادئ تنظيم اللغة، أي الثقافة المادية (تنظيم المكان)، والقيم العقلية والأخلاقية (وتعني علاقة الزمن بعلم الأخلاق)، وتهدف السيميائية اللغوية إِلى دراسة اللغات الطبيعية وأساليبها.<br />
<br />
<br />
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/37510/#ixzz3YFIf7CGZ</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-77105294195707611442015-04-21T07:49:00.001-07:002015-04-21T07:51:44.275-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<div align="center" class="style3" style="background-color: white; font-weight: bold;">
<span style="color: #20124d;">الحكاية المثلية «نوعاً أدبياً»</span><br />
<span style="color: #20124d;">الرسالة والقضايا</span><br />
<div align="left" class="style4">
<span style="color: #20124d;">عبد الواحد التهامي العلمي</span></div>
</div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">عندما يريد الباحث في الأدب العربي القديم أن يقف على الأجناس الأدبية بشكل عام وأجناس السرد بشكل خاص، فإن ما يصطلح عليه بالحكاية المثلية يشكل أحد أهم الأجناس الأدبية السردية التي أسهمت في صياغة الأدب العربي القديم على نحو ما أسهمت في التعبير عن الرؤى الإيديولوجية التي عبر عنها مجموعة من كتّاب هذا الجنس، كما جسدت التواصل الحضاري الذي خاضت فيه الثقافة العربية مع ثقافات الشعوب المجاورة. ومن نصوص الحكاية المثلية: «النمر والثعلب» لسهل بن هارون، و«الأسد والغواص» المجهولة المؤلف، و«كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع.</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span class="style6" style="color: #20124d;">1- الحكاية المثلية «جنساً أدبياً قديماً» </span><br />
<span style="color: #20124d;">الحكاية المثلية مجموعة من القصص أو الحكايات ترتكز على أحداث متتابعة يكون أبطالها من الحيوانات التي تتحاور فيما بينها، وغالباً ما يكون هذا الحوار موجهاً لنقد سلوك الناس وطبائعهم وأخلاقهم أو معالجة قضايا اجتماعية وسياسية كثيرة عن طريق التلميح والترميز. وهي فن من فنون النثر العربي القديم المعروفة في التراث القصصي، «إذ لم يخل منه عصر، فضلاً عن كونه «فنًّاً كونياً عرفته كل الثقافات عبر التاريخ» (1)، واختلفت في تسميته حيث عُرِّف هذا الجنس بتسميات متعددة كـ «المثل» أو «الأمثولة» أو «الحكاية المثلية» أو «الخرافة» أو «الحكاية» أو «القصة على لسان الحيوان»، أو «رواية الحيوان».</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">لقد اختلف الدارسون حول نشأة هذا الفن؛ فبعضهم يرى أن أصوله يونانية، وبعضهم الآخر يكاد يجزم أن الهند كان لها السبق في ظهور هذا النوع من الحكايات، بينما يرى آخرون أن هذا الفن كان له ارتباط وثيق بالحكاية أو القص الشعبي والأسطورة، مما حقق له الشيوع والانتشار في كثير من الأمم.</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">إن أي فهم حقيقي لهذا الجنس الأدبي ينبغي أن بضع في اعتباره أنه جنس أدبي كلاسي يجري عليه ما يجري على الأجناس الأدبية التي أنتجت في العصر الكلاسي عربياً أو غربياً؛ أي أن الحكاية المثلية شأنها شأن الخطبة والخبر والنادرة والمقامة والقصيدة... إنما صيغت لتستجيب لحاجات جمالية وأخلاقية متداخلة. فالتصور الكلاسي للأدب لا يفصل بين الفن والأخلاق ويقوم الإنتاج الأدبي بتواشج أدبيته بنجاعته في مجال الأخلاق والسلوك والاعتقاد. وهذا يعني أن المدخل الصحيح لقراءة الحكاية المثلية ينبغي أن يقوم على مراعاة هذا الوضع الأدبي المخصوص. فالوظيفة الحجاجية أو التداولية تكيف الوظيفة الأدبية، كما أن الوظيفة الأدبية تتخلل الوظيفة الحجاجية والتداولية. وهذا يعني أننا لا نستطيع استخلاص المكونات التي صنعت أدبية هذا النوع دون مراعاة التباسها بالوظيفة الحجاجية التي منحتها صيغتها التي تشكلت بها داخل النص المعطى. إننا لا نستطيع أن نفصل مكونات البنية السردية على سبيل المثال عن المقصدية التداولية العامة التي تتحكم في بنية النوع؛ فالزمن، والمكان، والشخصيات، والتضمين، عناصر سردية وضعت على نحو يخدم المقصدية الأخلاقية والتعليمية التي تنهض عليها نصوص الحكاية المثلية في كليلة ودمنة على سبيل المثال. كما أن مقاصد الحكاية المثلية ليست عقلية خالصة، بل تداخلت مع المكون الجمالي بحيث يمكن القول إن استدعاء السرد والرمز والتمثيل والهزل والغرابة كان لأجل إضفاء الطابع الأدبي على التواصل الذي تراهن عليه نصوص هذا النوع.</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">ولإبراز هذا التداخل نشير على سبيل المثال إلى حكاية «القرد والغيلم» التي تقوم على حبكة سردية مثلما تقوم على رسالة عملية؛ فهذه الحكاية تحكي قصة قرد هرم كان ملك القردة، لكن قرداً شاباً قوياً تغلب عليه ونزع منه الملك. وبعد هروبه إلى الساحل صعد شجرة تين وجعلها مكاناً لإقامته ثم شرع يأكل ويرمي بعض التين في الماء، وكان الغيلم يلتقط الذي يسقط من أعلى الشجرة. هكذا نشأت صداقة متينة بين القرد والغيلم أنسته زوجته. ولما طال غيابه فكرت زوجته السلحفاة بمساعدة جارتها في حيلة للقضاء على القرد بعد أن تظاهرت بالمرض، وادعت الجارة لزوجها أن علاجها الوحيد هو قلب القرد بناء على وصفة الأطباء. وكاد الغيلم أن يغدر بصديقه لولا فطنة القرد عندما علم بنوايا الغيلم فخاطبه قائلاً: «وما منعك أصلحك الله، أن تعلمني عند منزلي حتى كنت أحمل قلبي معي؟ فإن هذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحدنا لزيارة صديق له خلَّف قلبه عند أهله أو في موضعه لننظر إذا نظرنا إلى حُرَمِ المَزُر وليس قلوبنا معنا. قال الغيلم: وأين قلبك الآن؟ قال خلفته في الشجرة. فإن شئت فارجع بي إلى الشجرة حتى آتيك به»(2). وهكذا يتبين أن هذه الحكاية تحمل رسالة إلى المتلقي، وتعالج عدة قضايا إنسانية وأخلاقية: كالوفاء، والمكر، والكيد، والغباء، والفطنة، والصراع بين الخير والشر، وبين الوفاء والغدر؛ كما يظهر ذلك جلياً في حديث الغيلم مع نفسه: «كيف أغدر بخليلي لكلمة قالتها امرأة من الجاهلات؟ وما أدري لعل جارتي قد خدعتني وكذبت بما روت من الأطباء. فإن الذهب يجرب بالنار، والرجال بالأخذ والعطاء، والدواب بالحمل والجري. ولا يقدر أحد أن يجرب مكر النساء ولا يقدر على كيدهن وكثرة حيلهن»(3).</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span class="style6" style="color: #20124d;">2 -الحكاية المثلية جنس مركب:</span><br />
<span style="color: #20124d;">في حقيقة الأمر يمكن القول إن الحكاية المثلية هي خطاب مركب من صيغتين؛ صيغة السرد وصيغة القول، أي أنها تتكون في بنيتها الخِطابية من حكايات يرويها راوٍ أو رواة، وتجري في زمان ومكان، ويقوم بأفعالها شخصيات، وتتوالى أحداثها أو تتتابع، كما أنها تخضع للتحول. غير أن السرد ليس الصيغة الوحيدة التي تشكلت بها نصوص الحكاية المثلية؛ فقد صيغت الحكاية المثلية أقوالاً حجاجية، وهذا هو الذي كان يعنيه عبد الفتاح كيليطو عندما رأى أن المثل يتكون من عنصرين هما: السرد أي الحكاية التي تجري أحداثها بين الحيوانات والحكمة التي تشكل الغاية من الحكاية المثلية، والحكمة بدورها ما هي إلا وسيلة تؤدي إلى غاية هي: العمل(4). وبتعبير آخر، تنطوي الحكاية المثلية في نصوص كليلة ودمنة على سبيل المثال على وظيفة تخييلية سردية تتمثل في إقناع القارئ بحكايات رمزية ووصف وتشويق وحوارات، كما تنطوي على وظيفة تداولية تتمثل في توجه النص ضمناً أو صراحة إلى المتلقي يدعوه إلى العمل بالتوجيهات التي يسعى إلى ترسيخها في السلوك الفردي والاجتماعي(5).</span><br />
<span style="color: #20124d;">يقول أحد الباحثين إن الحكاية المثلية ملتقى أنماط كتابة عديدة؛ فهي من جهة نص سردي يعتمد الوصف والإخبار، وهي من جهة أخرى نص حجاجي ذو مقاصد أخلاقية واجتماعية وسياسية وفكرية تحتاج إلى أساليب الوعظ(6). وينتهي الباحث إلى إبراز أهم مكون في الحكاية المثلية هو الترابط بين «أدب الفكرة (الحجاج) وأدب السرد (القص)؛ ذلك أن الحكاية المثلية تقنعنا وتمتعنا؛ تقنعنا لأنها حلقة من السلسلة الحجاجية، أي دعامة من دعائم كامل الاستدلال، وتمتعنا بما تتضمنه من الإثارة رغم اختزالها وما تفتحه للقص من أفق ومشاريع وبما تشف عنه من دلالة فكرية وثقافية»(7).</span></div>
<hr align="JUSTIFY" style="background-color: white; text-align: start;" />
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span class="style6" style="color: #20124d;">لقد اختلف الدارسون حول نشأة هذا الفن؛ فبعضهم يرى أن أصوله يونانية، وبعضهم الآخر يكاد يجزم أن الهند كان لها السبق في ظهور هذا النوع من الحكايات، بينما يرى آخرون أن هذا الفن كان له ارتباط وثيق بالحكاية أو القص الشعبي والأسطورة، مما حقق له الشيوع والانتشار في كثير من الأمم</span></div>
<hr align="JUSTIFY" style="background-color: white; text-align: start;" />
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">ويبدو أن الباحث كان محقاً عندما نعت الحكاية المثلية أو صنفها في إطار ما أسماه بالأدب الحجاجي(8)؛ فالحكاية المثلية في ذاتها تعد حجة كما بيَّن سيمور شتمان قائلاً: «فحينما نجد حجاجاً... فهو في الأغلب صنيع الأمثال السائرة... ولنتذكر الأمثال والحكايات الخرافية كما بينت لنا سوزان سليمان في كتاب رائع حول رواية الأطروحة»(9). والحكاية المثلية حجة لأنها ترتبط بسياق تواصلي يتوخى فيه السارد إقناع المتلقي بالأطروحة التي يرغب في توصيلها له.</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span class="style6" style="color: #20124d;">3 - بلاغة الحكاية المثلية:</span><br />
<span style="color: #20124d;">تفضي القراءات الحديثة التي قامت بفحص نماذج من الحكاية المثلية قي التراث العربي (كليلة ودمنة) على سبيل المثال إلى النظر إلى هذا النص باعتبار بلاغته المخصوصة المتمثلة كما قلنا سابقاً في الجمع بين البعد التعليمي الأخلاقي والبعد الأدبي التمثيلي. فهذا النموذج من التعبير الأدبي يجمع بين خصائص الخطاب الحجاجي وخصائص الخطاب الأدبي؛ ذلك أنه لا يوجد أي تعارض بين الغرض الحكمي المعلن داخل النص وبين تعدد الدلالات والتأويلات المحتملة التي يمكن أن تنبثق عن تنظيمه الجمالي. يقول سامي سويدان إن كتاب كليلة ودمنة على الرغم من وظيفتيه الإمتاعية والتعليمية فهو لا يخلو من بعد رمزي «فمزية الرمز افتراضه التأويل، والتأويل في أساسه متعدد في وسائله كما في نتائجه. وإذا كان تكرار إعلان الحكمة المرجو بلوغها من الحكاية - المثل في البدء (الطلب) وفي النهاية (الجواب) محاولة لحصر هذا التأويل أو تلك وجهة النظر، فإنه مع ذلك لا يلغي تعددهما. بل قد يكون النص نفسه، بقدر ما يقع الإعلان المذكور في المستوى الظاهر منه، ناهيك بالقراءات المتعددة التي يتيحها بناؤه ونظمه، حاضاً على تجاوزه ودافعاً إلى استكناه دلالاته المتنوعة(10). ويختلف مع هذا الرأي عبد الوهاب الرقيق الذي يرى أن الحكاية المثلية نوع سردي حجاجي ينطوي على معنى وحيد هو المعنى المعلن الذي يترك للقارئ مجالاً للتأويل(11). ومثل هذا الرأي يركز على البعد العملي في الحكاية المثلية أي أنها نص تعليمي في المقام الأول تسعى إلى توضيح الفكرة أو توجيه السلوك. الحكاية المثلية وفق هذا الرأي قرينة الخطابة والنصوص الدينية والسياسية. غير أن النظر إلى ما تتوفر عليه الحكاية المثلية من وجوه ومقومات جمالية يؤكد أن القراءة المنايبة لطبيعة هذا النوع الأدبي ينبغي أن تتجاوز معنى الظاهر إلى معانٍ باطنية يقوم المتلقي باستخراجها واكتشافها، لكن ذلك لا ينبغي ألا يفيد أننا بإزاء نص رمزي مركب؛ فالرمزية التي اعتمدها النص هي: «رمزية بسيطة أولية تتفق مع المستوى العقلاني للحكم والأفكار التي تعبر عنها، بقدر ما تتفق مع التصور الكامن وراء هذا النمط من التعبير لأدائها. فالرؤية العقلانية التي تكمن وراء العمل تتوسل شكلاً بسيطاً لتبليغ البعيد والعميق من طروحاتها، وهو أمر يتلاءم مع الهم الإصلاحي الذي يتوخى الفعالية الأقوى في الإفهام والاتساع الأقصى في دائرة الاتصال»(12).</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">ومجمل القول في بلاغة الحكاية المثلية أنها قامت على جملة من المقومات والسمات التي تضفى على النص الأدبي. وسنقف فيما يأتي على أبرز مقومات أدبية الحكاية المثلية:</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">أ- التمثيل والترميز:</span><br />
<span style="color: #20124d;">يقول ابن المقفع: «فأول ما ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له والرموز التي رُمزت فيه وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مُفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً، فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني ولا أي ثمرة يجتني منها ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب. وإنه إن كانت غايته منه استتمام قراءته والبلوغ إلى آخره دون تفهم ما يَقرأ منه لم يعد عليه شيء يرجع إليه نفعه»(13).</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">تقوم الحكاية المثلية على تجسيد المعاني المجردة في صور محسوسة؛ فالعدالة والمحبة والحكمة والتعاون والأنانية معانٍ يتوسط بها ترغيباً وترهيباً في حكايات مخترعة أبطالها من الحيوانات. ويشير عبد الوهاب الرقيق في هذا السياق إلى أن التشخيص أبرز تقنية في الترميز في الحكاية المثلية أي تقديم الحيوان في هيئة الإنسان و«تشخيص الحيوان بالكلام والفكر ظاهرة قارة في الحكاية المثلية إلى حد أننا لا نحتاج إلى التمثيل عليها. ولكننا نحب أخيراً أن ندقق أن الحيوان الموضوع للإنسان بالتشخيص لا يرمز إلا إلى مظهر واحد من الإنسان إذ ليس في كليلة ودمنة حيوان واحد يرمز إلى الإنسان في كليته وتعدد أبعاده»(14).</span><br />
<span style="color: #20124d;">تنزع الحكاية المثلية إلى التغريب، لكنه تغريب مشدود إلى الواقع بحكم أن الحيوان ليس سوى قناع يخفي وراءه الإنسان أحد أبعاده الأخلاقية؛ فهذه الحيوانات هي كائنات حقيقية موجودة في الطبيعة، وقد أسبغ عليها النص خصائص سلوكية إنسانية؛ فالغرابة تزول بمجرد ما ندرك أن الحيوان ليس إلا رمزاً للتعبير عن سلوك الإنسان. إن الغرابة في الحكاية المثلية تختلف عن غرابة الحكاية العجيبة - مثلاً- في كونها لا تخرق الواقع الطبيعي إلا في خاصية إسناد الكلام إلى الحيوانات، لكن الحكاية المثلية تحتفظ بالخصائص الطبيعية للحيوانات، في حين أن الحكاية العجيبة تقوم على شخصيات وأحداث مفارقة للطبيعة.</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">ب - البنية السردية أو التضمين:</span><br />
<span style="color: #20124d;">إن المتأمل في نصوص الحكاية المثلية باعتبارها نوعاً كلاسياً من أنواع الجنس القصصي، يلاحظ أنها تنطوي على بعض المؤشرات الخاصة بها والدالة عليها، وعلى ما يميزها عن غيرها من النصوص. هكذا أشار عبد الوهاب الرقيق إلى أنها تشترك مع النصوص السردية الأخرى في بعض العناصر القصصية كالمكان، والزمان، والشخصية القصصية، والراوي أو الرواة، والحوار، والتوتر، والعقدة، والحل، والمغزى...</span><br />
<span style="color: #20124d;">لقد تناول الباحث الراوي والتضمين باعتبارهما مكونين لأدبية الحكاية المثلية «فالراوي هو هيئة قصصية على درجة من التعقيد والتشعب لا تعرفها الأنواع السردية الكلاسية» الخبر، والمقامة، والنادرة، والتضمين هو أسلوب في الربط بين المقاطع وهو ظاهرة بنيوية مهيمنة في الحكاية المثلية،... باختصار، الراوي، والتضمين، والرمز هي العلامات الجوهرية الجديرة بأن ترفع الضباب عن أدبية الحكاية المثلية»(15).</span><br />
<span style="color: #20124d;">ويرى الباحث أن «الهيئة السردية» في كليلة ودمنة هي هيئة متعددة الأصوات؛ إذ لا يتكلف فيها راوٍ واحد بمهمة السرد، وإنما يتوزع الرواة إلى مجموعة من الساردين، كالسارد الأصلي الذي ينشئ القص، وهو الراوي الأساس، «الخفي»، «المجهول»، «الغيري»، الذي يتفرع عنه رواة آخرون، وسمي «غيرياً» لأنه يقتصر على «سرد حكاية غيره دون المشاركة في أحداثها. هو إذن سارد أصلي، غيري، شمولي المعرفة، حريص على الحياد والموضوعية، مقتصر على عرض الوقائع بغير تعليق أو انحياز»(16)؛ وعن هذا الراوي الأصلي يتفرع راوٍ آخر، وهو كما يقول عبد الوهاب الرقيق: «سارد فرعي غيري بما أنه يقع على مستوى قصصي ثانٍ ويقص حكاية غيره، حكاية ليس هو شخصية من شخصياتها؛ هذا الراوي هو بيدبا الفيلسوف؛ ففي باب «البوم والغربان»، على سبيل المثال، نجد هذا الراوي الذي لا يشارك في الأحداث بل يكتفي بروايتها. «قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل من الجبال شجرة من شجر الدوح فيها وكر ألف غراب وعليهن والٍ منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم...»(17).</span><br />
<span style="color: #20124d;">وقد يتكلف بالسرد، في «كليلة ودمنة»، راوٍ آخر، وهو في الغالب شخصية من شخصيات الحكاية، ككليلة، أو دمنة، أو الأسد، أو النمر، أو الغراب، أو البوم، أو القرد، أو الغيلم، إلى غير ذلك من الشخصيات التي تتولى رواية الأحداث.</span><br />
<span style="color: #20124d;">وهناك راوٍ أو سارد آخر، سماه الباحث: «السارد الفرعي الذاتي» لأن هذا السارد هو شخصية من شخصيات الحكايات التي تقوم بسرد حكاية تكون مشاركة في أحداثها أو قامت بها. «ومثال ذلك في باب «الحمامة والثعلب الحزين» تلك الحمامة التي ابتليت بالثعلب الخبيث. فاشتكت لمالك الحزين قائلة: «إن ثعلباً دهيت به كلما كان لي فرخان، جاء يتهددني ويصيح في أصل النخلة فأفرق منهن فأطرح إليه فرخي»(18).</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">خلاصة:</span><br />
<span style="color: #20124d;">تثبت الحكاية المثلية العربية أن التراث العربي لم يكن تراثاً شعرياً فقط، ولكنه كان أيضا تراثاً سردياً استجاب لغريزة الحكي عند الإنسان العربي، غير أن السرد الرسمي (العالِم) كان يختلف عن السرد الشعبي، في كونه يمثل جزءاً من بنية الثقافة العربية التي اشترطت في قبولها السرد بناء على الشعر أو الحكمة. وقد مثلت الحكاية المثلية نموذجاً للسرد العربي الذي امتثل لشروط النص في الثقافة العربية.</span></div>
<div align="justify" style="background-color: white;">
<span style="color: #20124d;">الهوامش:</span><br />
<span style="color: #20124d;">1- عبد العزيز شبيل، التناص والتراث العربي بين «كليلة ودمنة» و«الأسد والغواص»، حوليات الجامعة التونسية، عدد52، 2007، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، ص 144.</span><br />
<span style="color: #20124d;">2- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، دار الجيل، الطبعة الثالثة، 2006، ص241.</span><br />
<span style="color: #20124d;">3- نفسه، ص 239.</span><br />
<span style="color: #20124d;">4- عبد الفتاح كيليطو، الحكاية والتأويل، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1988، ص. 37.</span><br />
<span style="color: #20124d;">5- نفسه.</span><br />
<span style="color: #20124d;">6- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع، دار صامد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2007، ص 92.</span><br />
<span style="color: #20124d;">7- نفسه، ص 96.</span><br />
<span style="color: #20124d;">8- نفسه، ص 96.</span><br />
<span style="color: #20124d;">9- سيمون شتمان، الحجاج والسرد، ترجمة عبد الواحد التهامي العلمي، مراجعة الدكتور محمد مشبال، مجلة الصورة، العدد الخامس، 2003، ص 58.</span><br />
<span style="color: #20124d;">10- سامي سويدان، ص 305.</span><br />
<span style="color: #20124d;">11- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة، مرجع مذكور، ص 72.</span><br />
<span style="color: #20124d;">12- سامي سويدان، ص 304-305.</span><br />
<span style="color: #20124d;">13- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، مرجع مذكور، ص 69.</span><br />
<span style="color: #20124d;">14- عبد الوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لابن المقفع، مرجع مذكور، ص 109.</span><br />
<span style="color: #20124d;">15- نفسه، ص 98.</span><br />
<span style="color: #20124d;">16- عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، شرح سامي الخوري، مرجع مذكور، ص 99.</span><br />
<span style="color: #20124d;">17- نفسه، ص 208.</span><br />
<span style="color: #20124d;">18- عبدالوهاب الرقيق، أدبية الحكاية المثلية في كليلة ودمنة لابن المقفع، مرجع مذكور، ص 100.</span></div>
</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-816159694916019682015-04-11T23:31:00.001-07:002015-04-11T23:31:39.096-07:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<span style="background-color: white; color: blue; font-family: Simplified Arabic; font-size: 24px; font-weight: bold; text-align: -webkit-center;">الرمز في النثر الصوفي أ.مصطفى</span><span style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; text-align: -webkit-center;"></span><br />
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>يتأسّس النثر الصوفي على الرمز، بسبب عوامل من داخل التجربة الصوفية وخارجها، فالأفكار والأسرار الصوفية أدّق وأخطر من أن تُوجّه للعامة صريحة واضحة، لذلك كان الرمز أحد حلول إشكالية كبيرة واجهتها الظاهرة الصوفية، هي محاولة إيجاد الشكل التعبيري المناسب، فضلاً عن الغموض، وأسلوب الغزل. والرمز عند الصوفيين هو التلميح إلى ما يريدون قولـه، فمن الرمز الإشارة، ومنه الاستعارة، والكناية، والتشبيه. وبالرمز تُحفظ أسرارُهم، وتؤتمن معانيهم وحقائقهم الجوهرية خوفاً من أهل الظاهر أن يستبيحوا دماءهم، فالتسّتر على طريقتهم أهم الأسباب التي أدّت بهم إلى استخدام الرمز. يقول القشيري: (وهذه الطائفة (الصوفيون) مستعملون ألفاظاً بينهم قصدوا بها الكشف؛ لتكون معاني ألفاظهم مُستبْهمة على الأجانب، غيرةً منهم على أسرارهم أن تشيع في غيرِ أهلها) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn1" name="_ednref1" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[1]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>التجربة الصوفية تجربة بحث عن الأسرار الإلهية في الكون؛ أسرار الحياة والموت، والنفس والروح، والعقل والقلب، وهي تجربة مختلفة من صوفي إلى آخر، لأنها علاقة داخلية بين الذات الفردية للصوفي، والذات الكلية للمطلق، تجربة انعتاق من الأعراف، وتجاوز للحدود يختبر فيها الصوفي الانفصال عن عالم الأرض والإنسان، والاتصال بعالم السماء.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>تجربة حياة، في عالمٍ نفسي وروحيّ هائل التفرّد والاختلاف. فهي تجربةٌ غير حسية، وفي الوقت ذاته ليس أمامها سوى الأشياء المحسوسة للتعبير عن نفسِها ممّا أفسح مجالاً للتأويل، وتَعدُّد معنى الرمز الواحد ليكون رمزاً مفتوحاً على معانٍ احتمالية لا نهاية لها. يقول الطوسي: (هذا العلم ـ الصوفية ـ علمٌ ليس لـه نهاية لأنّه إشارات وبواده، وخواطر، وعطايا، وهِبات يغرِفُها أهل التصوف من بحر العطاء) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn2" name="_ednref2" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[2]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>الرمز طريقة من طرائق التعبير، يحاول بوساطتها الصوفيون محاكاة رؤاهم، ونقل تصوراتهم، عن المجهول والكون، والإنسان، ووصف العلاقة بين الإنسان والله، والعلاقة بين الإنسان والكون.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وفي الصوفية كل شيء رمزٌ لكل شيء، وقد يكون الشيء رمزاً لنقيضه، والموت رمزٌ للحياة، لأنّ مفهومهم للموت هو أنه حياة أخرى. الفرح مُتضمَّن في الحزن، والسعادة في الشقاء، والراحة في التعب ذلك لأنّ العارف الصوفي يرى الجمال في تجليات الجلال القاهر.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>والكون، والوجود، مجامع هائلة لرموز لا تنتهي، وإشارات لا يُحدّ غموضها، وفي كلام الصوفية، الرمز هو من (الألفاظ المُشكِلة الجارية ومعناه معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر لا يظفر به إلاّ أهلُه، ويكاد الرمز الصوفي يرادف الإشارة وهي ما يخفى عن المتكلم كشْفُه بالعبارة للطافة معناه، كما يرادف الإيماء وهو الإشارة) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn3" name="_ednref3" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""><b>[3]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>يذكر مؤرّخو الصوفية، ودارسوها أنّ ذا النون المصري، هو أول من استخدم الرمز في أقواله التي منها (الصدق سيف الله في أرضه ما وُضِعَ على شيءٍ إلاّ قطعه) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn4" name="_ednref4" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""><b>[4]</b></a>)، (والخوف رقيب العمل والرجاء شفيع المِحَنْ) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn5" name="_ednref5" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[5]</b></a>)، فالسيف رمزٌ لقوة الصدق، والرقيب رمز تحريض الخوف للعمل، وفي نص آخر يقول ذو النون: (اللهم اجعلنا من الذين جازوا ديار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين وشابوا ثمرة العمل بنور الإخلاص، واستقوا من عين الحكمة، وركبوا سفينة الفطنة، وأقلعوا بريح اليقين، ولججوا في بحر النجاة، ورسوا لشط الإخلاص، اللهم اجعلنا من الذين سرحت أرواحهم في العلا، وحَطّت هِمَمُ قلوبهم في عاريات التقى حتى أناخوا في رياض النعيم، وجنوا من رياض ثمار التسنيم، وخاضوا لجّة السرور، وشربوا بكأس العيش، واستظلوا تحت العرش في الكرامة، اللهم اجعلنا من الذين فتحوا باب الصبر وردموا خنادق الجزع، وعبروا جسر الهوى) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn6" name="_ednref6" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[6]</b></a>). فثمرة العمل، ونور الإخلاص، وعين الحكمة، وسفينة الفطنة، وريح اليقين، وبحر النجاة،.. الخ، كُلّها إشارات لفظية لعوالم معانٍ شاسعة غير محدودة.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>الإشارة عند المُظّفر بن الفضل العلوي هي (من محاسن البديع ومعناها اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة وإن كان بأدنى لمح يُستدل على ما أُضمِرَ من طويل الشرح) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn7" name="_ednref7" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[7]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>فثمرة العمل مثلاً ليست ثمرة محدودةٍ، فهي النجاة، وهي التوفيق، وثمرة عمل المؤمن الصادق هي الجنة. وسفينة الفطنة هي النجاة، والوصول. ونور الإخلاص ليس ضوءاً ماديّاً، بل هو حلاوة الإخلاص في انتهائه إلى الصواب والنجاة والإنسانية. وعين الحكمة هي البصر، والبصيرة. وريح اليقين هي القوة المُزعزِعة للشك، القادرة على السفر في فضاء الكون.. الخ.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>جدّد الصوفيّون الرمز، وجعلوا منه طريقة فُضلى في التعبير، وفي صياغة الصور يقول بعض الصالحين (لله عِبادٌ طورُ سيناهم رُكَبُهم، تكون رؤوسهم على رُكَبِهم وهم في محالِّ القُرب، فمن نبع لـه معين الحياة في ظُلمةِ خلوته فماذا يصنع بدخول الظلمات؟ ومن اندرجت لـه أطباق السموات في طيّ شهوده، ماذا يصنع بتقلُّب طرفِه في السماوات؟ ومن جمعت أحداق بصيرته المتفرقات الكائنات، ماذا يستفيد من طيّ الفلوات؟ ومّنْ خَلُصَ بخاصيّة فِطرته إلى مجمع الأرواح ماذا تفيده زيارة الأشباح؟) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn8" name="_ednref8" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[8]</b></a>). النص مَجْمَع لصور رمزية، فـ (طور سيناهم ركبهم) كناية ترمز للصلاة والتواصل الدائم مع الله سبحانه، ومّحالُّ القُرب رمزٌ لأحوال الصوفيين، ومعين الحياة رمزٌ للأرض والسماء وموجوداتهما ومعارفهما، والنص كله رمزٌ لانكشاف الحقيقة للصوفي أثناء وصوله، وشهوده، ومجمع الأرواح رمزٌ لعالم المعنى، والأشباح رمزٌ للمادة والجسم.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>إنّ استقراء الرموز الصوفيّة من حيث صياغتها، ومادة تركيبها يكشِفُ عن ثلاثة أنواع، هي الرمز الذهني، والرمز الحسّي، والرمز المجازي.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>الرمز الذهني ليس رمزاً مفرداً، بل تركيباً لفظيّاً عاديّاً، ولا يُستمد من الواقع، لأنّ معادله الموضوعي لا ينتمي إلى الواقع، بل إلى الذهن، حتى يبدو النص كأنّه لا رمز فيه رغم كونه مبنيّاً ـ أساساً ـ على رمز كبير هو اللقاء بين الصوفي والله، ففي نص للبسطامي يقول:</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>(رُفِعتُ مرة حتى أقمتُ بين يديه فقال لي: يا أبا يزيد! إنّ خلقي يريدون أن يروك قال أبو يزيد: فزيّني بوحدانيتك،حتى إذا رآني خلقُك قالوا: رأيناك، فتكون أنتَ ذاك، ولا أكون أنا هناك قال أبو يزيد: ففعل ذلك، فأقامني، وزينّني، ورفعني، ثم قال: اخرج إلى خلقي! فخطوت من عنده خطوة إلى الخلق. فلما كانت الخطوة الثانية غشي عليّ فنادى: ردّوا حبيبي فإنّه لا يصبر عني) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn9" name="_ednref9" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[9]</b></a>)، تراكيب لغوية عادية، لكنّها صيغت فنيّاً ومجازيّاً، رمزاً للعلاقة بين البسطامي والله، وللحَظوة التي ينالُها البسطامي عند الله، والأفعال "رُفُعْتُ" و"أقمت" و"زينّني"، كُلُّها أفعال تنتمي إلى التصورات الذهنية، ولكنّ سياقها يوحي بأنَّها قائمة في الواقع، وحقيقيّة بما فيها من إشارة إلى المكان، والزمان، والحركة. يرى الجنيد أنّ الحوار المُبتكر في (قال لي: وقلت) هو من باب (الإشارة إلى مناجاة الأسرار، وصفاء الذكر عند مشاهدة القلب لمراقبة الملك الجبّار بقوله: زينّي بوحدانيتك، يريد بذلك الزَيادة، والانتقال من حاله إلى نهاية أحوال المتحققّين بتجريد التوحيد، والمفرّدين الله بحقيقة التفريد، وقوله: حتى إذا رآني خلقُك قالوا رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك فهذا وأشباه ذلك تصف فناءَه وفناءَه عن فنائه، وقيام الحق عن نفسه بالوحدانية ولا خلق ولا كون كان) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn10" name="_ednref10" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[10]</b></a>). وكل ذلك مُستخرج من آيات الحب بين الله والعبد، ومن عطاء الله لعبده بتقريبه منه، ومن أحاديث النبي </b><b>e</b> <b>التي منها: (من أحبَّ لقاء الله تعالى أحبَّ الله لقاءَه) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn11" name="_ednref11" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[11]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وأمّا الرمز الحسّي فهو رمزٌ مباشر، يقع ـ غالباً ـ في كلمة واحدة، وهو رمزٌ مُكثّف في بيانٍ موجز، رمزٌ مُجنَّحٌ وطليق وعميق فنياً، كرمز الطير في نص البسطامي التالي: (ولمّا وصلتُ إلى وحدانيته وكان أول لحظة إلى التوحيد أقبلتُ أسيرُ بالفهم عشر سنين حتى كلَّ فهمي، فصرتُ طيراً جسمُه من الأحدية، وجناحُه من الديمومية) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn12" name="_ednref12" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[12]</b></a>)، فالجسم رمزٌ للفناء والجناح رمزٌ للبقاء والأحدية إشارة إلى الكنزية القديمة والديمومة إشارة إلى ظهور تجليّاته، والديمومة هي تجليات الوجه قال تعالى: </b><b>)</b><b> كل شيء هالك إلاّ وجهه</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn13" name="_ednref13" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[13]</b></a>). فالطير ليس الطير الطبيعي، إنّه طيرٌ معنويٌ، فضاؤه الذهن، ووسائل إدراكه القلب والذوق. يقول هادي العلوي عن النص السابق: (هذا النص لا يتفسّر بوسائل التفسير العادية، أو بالاستناد على قواعد المنطق، وقد يُقرأ بحاسة أدبية كنص فنيّ فيُذاق ولا يُحْكَى) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn14" name="_ednref14" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[14]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وفي (طاسين الفهم) للحلاّج. (الفراش يطير حول المصباح إلى الصباح ويعود إلى الأشكال، فيخبرهم عن الحال بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال طمعاً في الوصول إلى الكمال، ضوء المصباح علم الحقيقة، وحرارته حرارة الحقيقة، والوصول إليه حق الحقيقة) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn15" name="_ednref15" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[15]</b></a>)، فالفراش هم الصوفيون المؤمنون العارفون، إنهم كالفراش يطيرون حول مصباح الحقيقة، والمعرفة معرفة الله، والطريق الصحيح إلى الخلاص والمتمثل بالصباح، رمز الخلاص المعرفي والوجودي و"يعود إلى الأشكال"، إلى منْ لم يتلمّسوا الطريق بعد، يخبرهم عن أسرار رحلته عمّا رأى وسمع وعاش، ثم يعيش فرحته مُتوّجةً بالدلال، لأنّه حَظِيَ عند محبوبه الله بمكانة متميزة، والمصباح رمزٌ مفتوح على أكثر من احتمال فهو نور المعرفة، أو هو نور الحقيقة المحمّدية حسب رأي الدكتور مصطفى حلمي حيث يصف نصوص الحلاّج بأنّها (نصوص صريحة الدلالة على نظرية الحلاّج في الحقيقة المُحَمّدية، والنور المحمّدي وفيض أنوار العلم والحكمة والنبوّة من سراجه الوهّاج، سواء أكانت هذه النبوة نبوة محمدية، أم نبوة غيره من الأنبياء السابقين عليه) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn16" name="_ednref16" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[16]</b></a>). وفي الطواسين الكثير من الرموز المادية لمرموزات معنوية، وهي تتدرّج في الدقة والوضوح والإفصاح عن مرموزاتها، كالسراج، والقمر والكوكب، والبدر، والغمامة، والبستان، والقوس،.. الخ، (سراج من نور الغيب بدا، قمرُ تجلّى، كوكبٌ بُرْجُه في فلك الأسرار، طلع بدرُه من غمامة اليمامة، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة،.. اسمه سبق القلم،.. فوقُه غمامة بَرَقتْ، وتحت برقه لمعت،) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn17" name="_ednref17" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[17]</b></a>)، فالسراج والقمر والكوكب.. رموز مادية من عالم الَفلَك لنور النبي محمد </b><b>e</b> <b>، والظهور والتجلي في إشارة إلى حقيقته والإشراق في إشارة إلى شريعته ألفاظ ترمز إلى الحقيقة المحمدية وإلى انبثاق فجر الرسالة المحمدية ونور تعاليمها.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>أمّا الرمز المجازي فهو المعاني الثواني التي يعطيها المجاز، لأنّ المجاز هو التعبير غير المباشر وهو الإيحاء والإشارة ومنه الاستعارة والكناية والمجاز المُرسل، فبعض الرموز تنتج معانيٍ مجازية، كما أنّ بعض الصور البيانية تتكرر في نتاج الصوفيين، فتتحول إلى رموز، فالرمز المجازي مجال لتعدّد المعنى، لأنه ضد الحقيقة و(الحقيقة ما أُقِرّ على أصل وضعه في اللغة عند استعماله والمجاز ما كان بضد ذلك) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn18" name="_ednref18" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[18]</b></a>)، يقول النِّفري مثلاً (أوقفني في التيه فرأيتُ المحاجَّ كلها تحت الأرض، وقال لي: فوق الأرض محجّة ورأيت الناس كلهم فوق الأرض والمحجّات كلّها فارغة ورأيتُ من ينظر إلى السماء لا يبرح من فوق الأرض ومن ينظر إلى الأرض ينزل إلى المحجّة يمشي فيها) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn19" name="_ednref19" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[19]</b></a>)، فالتيه استعارة لأنّه مكان معنوي لا مادي يرى التلمساني أنّ (التيه هو تيه العباد في طلبهم السلوك إلى الله والمحجّة: مسألة من مسائل السلوك، والسالكون على قسمين: سالك بطريق الشرع وهم أتباع الأنبياء عليهم السلام، وسالك بطريق العقل وهم الفلاسفة) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn20" name="_ednref20" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[20]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>يرى أدونيس أنّ (المجاز احتمالي لا يؤدي إلى تقديم جواب قاطع ذلك أنّه في ذاته مجال لصراع التناقضات الدلالية، لا يُولّدُ المجاز إلاّ مزيداً من الأسئلة، والمجاز في التجربة الصوفية هو حقيقة على صعيده الخاص) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn21" name="_ednref21" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[21]</b></a>)، ففي الصوفية تفريقٌ واضح بين الرمز والمجاز، فالمجاز بمعنى من المعاني هو مرموز إليه، وهذه الثنائية خاصة بالأدب الصوفي، وبناءً على هذا فالشريعة مجرد رمزٍ للحقيقة، والظاهر رمز للباطن، والتنزيل رمزٌ للتأويل.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>المجازُ يُحول الأمرَ الباطن المعنوي إلى أمر ظاهر حسي، ويُتيح للصوفيين تحقيق رغبتهم في الكشف، فالمجاز هو رؤى الصوفيين، وابتكاراتهم اللغوية التي تعكس أفكارهم الوليدة، وعلاقاتهم الجديدة بعد أن اكتشفوا ذاتهم، والعالم للمرة الثانية.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>يقدُم الدكتور نصر حامد أبو زيد مسوّغاً للانحرافات اللغوية الصوفية فيكشف عن وظيفة جديدة للغة هي إنتاج المعرفة (اللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن المعرفة، بل هي في الأساس أداة التعرّف الوحيدة على العالم والذات، فإذا لم تكن اللغة مُلكاً للإنسان، ومُحصلة لإبداعه الاجتماعي فلا مجال لأي حديث عن إدراكه للعالم أو فهمه لـه، إذ يتحول الإنسان ذاته إلى مجرد ظرف تُلقى إليه المعرفة من مصدر خارجي فيحتويها) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn22" name="_ednref22" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[22]</b></a>). ويكشف أدونيس أيضاً عن وظيفة أخرى للمجاز هي (الربط بين المرئي وغير المرئي، بين المعروف والغيب، والتوحيد بين المتناقضات) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn23" name="_ednref23" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[23]</b></a>)، وهذا هو الهدف الأسمى الذي ينشده الصوفيون على مستوى الوجود كله. والصوفي يستعين بالرمز والإشارة للتعبير عن العالم الصوفي المُكتشف، فضلاً عن سبب آخر يذكره الدكتور عبد الكريم اليافي هو (أنّ الإشارة تُطلق الفكرة وتُحررّها على حين أنّ العبارة تُقيدها وتحدّها) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn24" name="_ednref24" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[24]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ومن الرموز المهمّة في النتاج الصوفي:</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>1ـ المرأة: فالمرأة في الصوفية أحد تجلّيات المبدأ المؤنث المضّاد، والمقابل للمبدأ المذكر الذي ظلّ مبدأ أحادّياً زمناً طويلاً يحكم المجتمع الإسلامي، وقد عبّر الصوفيون عن حبهم لله باستخدام رمز المرأة واستعارة أسلوب الغزل، والغزل الصوفي هو غزل بتجلّيات عديدة لحقيقة واحدة، وبأسماء مختلفة لمُسمّى واحد، فضلاً عن كون هذا الغزل رمزاً وتلميحاً للأسرار الصوفية الشاطحة، وحيلة فنيّة لوصف حب العبد لربّه وصفاً أدبياً، يحاكي الشعور الذاتي للعبد وفرديته.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>بوساطة الغزل بالمؤنث عبّر الصوفيّ عن تجلّي الكمال الإلهي في الكون، وعن حبّه وعشقه لله الجميل، ورغبته في التقرب إليه، وتصوير حال الاتحاد مع الله الحبيب، والفناء فيه، وتصحيح محبته بتصحيح معرفته وتوحيده، وذوق جماله وجلاله وكماله.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>هكذا ولّد رمزُ المرأة عاطفةً جديدة تجاهها لقد بجّلَ الصوفيون المرأة تبجيلاً نادراً؛ ذلك لأنهم يرون فيها أجمل تجليات الوجود، يقول ابن عربي (ليس في العالم المخلوق قوة أعظم من المرأة، لسرٍّ لا يعرفه إلاّ من عرف فيما وُجِدَ العالم) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn25" name="_ednref25" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[25]</b></a>)، فالمرأة رمزٌ لطبيعةٍ إلهية خالقة، فهي مصدر خصوبة وعطاء، وصورة المرأة في الصوفية من أبرز صور التجلّي، وقد كان لذلك انعكاس واضح في مرآة علاقة الصوفي بالله، فهي علاقة غنيّة بزخمٍ عاطفي، انتقلت من عاطفة الرجل تجاه المرأة إلى عاطفته تجاه الله، من ثمَّ لم تعد المرأة سوى رمز للنفس التي تصبح معرفتها مدخلاً لمعرفة الله والكون، فالمرأة عند ابن عربي هي النفس الكُليّة، وفي (ترجمان الأشواق) يتحول جمال المرأة من جمالٍ مُقيّد إلى جمال مطلق، وفي وصفه للنظّام ما يدلُّ على مكانة المرأة عند هذا المتصوف الكبير، يقول: (بنتٌ عذراء، طُفيلَة هيفاء، تُقيد النظر، وتُحيرّ المناظر، تُسمى بالنظّامِ، وتُلقّب بعين الشمس، من العابدات الظُرف،.. شمسٌ بين العلماء، بستانٌ بين الأدباء، واسطةُ عقدٍ منظومة، يتيمةُ دهرِها، كريمةُ عصرِها، سابقة الكرم، عاليةُ الهِممْ،.. أشرقت بها تُهامة، وفتحَ الروضُ لمجاورتَها أكمامه، فَنَمَتْ أعرافُ المعارف، بما تحمله من الرقائق واللطائف، عليها مسحة مَلَك وهمَّةُ مَلِك،.. وكل اسم أذكره فعنها أَكْنِي، وكُلُّ دارِ أندُبها فدارُها أعني، ولم أزل فيما نظمتُه في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزّلات الروحانية) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn26" name="_ednref26" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[26]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ثُمّ يُبين ابن عربي سبَبَ اختيارِهِ لِلُغةِ الغزل في الإيماء للواردات الإلهية، والتنزّلات الروحانية في مقدمته يقول: (أشير إلى معارف ربّانية، وأنوار إلهية وأسرار روحانية، وعلومٍ عقلية، وتنبيهات شرعية، وجعلتُ العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات فتتوفّر الدواعي على الإصغاء إليها) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn27" name="_ednref27" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""><b>[27]</b></a>)، فالمرأة أصل الحب والسعادة، تُنجِبْ أبناء الحياة، فهي رمزٌ للرحم الكونية، وباستخدام رمز المرأة يكون الصوفيون قد مزجوا بين المادي والروحي، وبين السماوي والأرضي، ورفعوا نموذج (الأم) ليوازي (الأب). وزاوجوا بينهما ليمنحوا الكونَ الأمومةَ السارية فيه، والتي تنبثق عنها موجوداته.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>2 ـ الطير: بُنيت قصص ورسائل كاملة في التراث الصوفي الإسلامي على رمز الطيّر لعلّ أشهرها رسالة (منطق الطير) لفريد الدين العطّار، فقد رمزَ العطّار للنفوس البشرية بالطيور، وكل طير يمتلك معرفة، ويحمل رسالة يريد إيصالها، والطيور هي الأرواح التي هجرت مواطنها الأصلية في السماء، ونزلت إلى الأرض، وعندما أحسّت بالغربة في مقامها الطيني أرادت العودة إلى مواطنها الأولى، والهدهد هو القائد الروحي لهذه الطيور، ورسول الغيب، وحامل الأسرار الإلهية، ورمز الهدهد مستمد من القرآن الكريم، فهو الطائر الذي يُنبئُ نوحاً بظهور اليابسة، فالروح الصوفية طائر فارق العرش جاء من وطن لا يُحدّ وضلّ في عالم المادة فذاق ألوانَ عذاب الغربة.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ورد رمز الطير في طواسين الحلاّج، ففي (طاسين الدائرة): (إنْ أردتَ فهم ما أشرتُ إليه، "فَخُذْ أربعةً من الطير فصرّهن إليك" (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn28" name="_ednref28" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[28]</b></a>) لأنّ الحق لا يطير) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn29" name="_ednref29" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[29]</b></a>). فحالة الطيران تعني اللاوصول ولذلك كان هناك نكران متبادل بين الحلاّج الواصل والطير الذي لم يصل بعد، فطلب إليه أن يقطعَ جناحيه بمقراض الفناء، ليتسنّى لـه البقاء بذات الله. ولعلّ الطيور الأربعة التي يقصدُها الحلاّج هي الطيور الصوفية الأربعة المعروفة، والمُتكررّة في بعض نتاج الصوفيين (العنقاء، والورقاء، والغراب، والعقاب). فـ (الغراب) هو الجسم الكُلّي وهو رمز الغربة والحزن، و(الغراب كناية عن الجسم الكلّي. لكونه في غاية البعد عن عالم القدس، والحضرة الأحدية، ولخلوّه عن الإدراك والتورية. والغراب: مثَلٌ في البعد والسواد) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn30" name="_ednref30" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[30]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>و(العنقاء) طير خرافي لا وجود لـه، لذلك رمز به الصوفيون للهيولى لأنها لا تُرى، و(العقاب) طير شديد يرمز (لمرتبة العقل الأول الذي يختطف (الورقاء) من عالمها السفلي وحضيضها الجسماني إلى العالم العُلّوي) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn31" name="_ednref31" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[31]</b></a>). (والورقاء) هي (النفس الكُلّية التي هي قلب العالم، وهي اللوح المحفوظ والكتاب المُبين وهي أيضاً مقابل العقل الأول (العقاب) وهي حواء مقابل آدم) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn32" name="_ednref32" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[32]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وممّا جاء في (طاسين النقطة) إشارة إلى مفهوم الطير قول الحلاّج: (اقلب الكلام، وغِبْ عن الأوهام، وارفع الأقدام عن الوراء والأمام، واقطع تيه النَظم والنّظَّام، وكُنْ هائماً مع الهُيّام، واطلع لتكون طيراً بين الجبال والآكام،..) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn33" name="_ednref33" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[33]</b></a>)، كما جاء أيضاً: (صاحب يثرب </b><b>r</b> <b>في شأن من هو محصون مصون، في كتاب مكنون، كما ذكرنا في كتابٍ منظورٍ مسطور من معاني منطق الطيور) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn34" name="_ednref34" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[34]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>إنّ رمز الطير عند الصوفية رمزٌ لبحث الصوفي عن المعرفة. وهو رمزٌ متكرر في نتاجهم. مُعّبرٌ عن رغبة دائمة عارمة في التحليق بحرية غير محدودة في سماوات لا نهاية لها.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>3 ـ الماء: الرمز الأكبر للحياة، </b><b>)</b><b> وجعلنا من الماء كُلّ شيءٍ حي</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn35" name="_ednref35" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[35]</b></a>) وكل رمز يُشتقَّ منه، كالمحيط، والبحر، والنهر، والنبع، رمزُ حياةٍ ووجود، والماء أحد العناصر الرئيسية، ليس في الحياة الدنيا وحسب، بل في الحياة الآخرة، فهو عنصرٌ من عناصر الجنة، ففي الجنة أشجارٌ وبساتين تُسقى من ماء الأنهار والعيون، ومن الرموز المشتقة من رمز الماء، رمز البحر الذي وظّفه الصوفيون ليُعبّروا غالباً عن اتساع المعرفة والعلم الإلهيين كما في (طاسين السراج) للحلاّج (فوقه غمامة بَرَقَتْ، وتحته برقة لمعت، وأشرقت، وأمطرت، وأثمرت، والعلوم كُلّها قطرة من بحره.. والحِكَمْ كُلّها غَرْفَة من نهره) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn36" name="_ednref36" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[36]</b></a>)، أو ليُعبّر عن اتساع النور والبهاء الإلهيين اللذين يُسبّبان للصوفي الوجدَ، فالسُكر يقول الواسطي: (مقامات الوجد أربعة: الذهول، ثم الحيرة، ثم السُكر، ثم الصحو: كمن سمع بالبحر، ثم دنا منه، ثم دخل فيه، ثم أخذته الأمواج) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn37" name="_ednref37" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[37]</b></a>)، فالبحر هو بحر معرفة الله، إذ يُستعمل (البحر) أحياناً للدلالة على الباطن مقابل (البر) الدال على (الظاهر) كما في موقف النِّفَّري موقف (البحر):</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>(أوقفني في البحر، فرأيتُ المراكبَ تغرق والألواحَ تسلم، ثم غرقت الألواح</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقال لي: لا يسلمُ مَنْ رَكِبَ</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقال لي: خَاطَرَ مَنْ ألقى نفسَه ولم يركب.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقال لي: هلَك من رَكب وما خاطر</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقال لي: في المخاطرة جزءٌ من النجاة</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وجاء الموجُ فرفعَ ما تحتَه وساحَ على الساحلِ</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقال لي: ظاهرُ البحرِ ضوءٌ لا يُبلغ، وقعرُهُ ظُلمةٌ لا تَمْكُنُ وبينهما حيتانٌ لا تُستَأمن.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>لا تركب البَحر فأحجُبَكَ بالآلة.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ولا تُلْق نفسَكَ فيه فأحجُبَك به.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقال لي: في البحرِ حدودٌ فأيُّها يُقلّك</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقال لي: إذا وهبتَ نفسَكَ للبحر، فغرقتَ فيه كنتَ كدّابةٍ من دوّابه) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn38" name="_ednref38" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[38]</b></a>)</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ففي هذا الموقف، الرمزُ الرئيس هو البحر، وتتفّرع عنه رموز مساعدة لتوضيح الفكرة هي الألواح والمراكب. فالمراكب هي العبادات الظاهرة، والألواح هي الشوق والمحبة.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>والنِّفَّري يريد من هذين الرمزين تقديم خيارين وتبريرهما وهما (العبادة الظاهرة) و(الحب).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وقد اتفق على تفسير هذه الرموز على هذا النحو النِّفَّري وشارحوه، فحسب رأي نيكلسون: (البحر هو الرياضات والمجاهدات الروحية، والمراكب هي أعمال العبد صالحةً أو غير صالحة، والساحل هو الظاهر، ومقرُّ الظلمة هو الباطن، والحيتان هي مخاطر وعقبات الطريق الوسط بين الظاهر والباطن) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn39" name="_ednref39" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[39]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>والمراكب ما يُتخذ طلباً للنجاة، وهو العبادات الظاهرة، والألواح المحبة، والشوق الباطنيان. (أوقفني في البحر، فرأيت المراكب تغرق، والألواح تسلم، ثم غرقت الألواح)، معنى هذا (تبيين هل السلوك بالعلم أولى أم السلوك بما يحمل القلب من الشوق. ورجّح الثاني لأنّ الألواح أسباب ضعيفة فكأنّ راكبها اعتمد على المُسبّب الحق تعالى لا عليها، ولستُ أريد أنّ السالك ينبغي أن يترك العبادة، بل المراد أن يترك اعتبارها من قلبه. فإنّ من ذكرها مِنّةً على الله تعالى) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn40" name="_ednref40" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[40]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>4 ـ النور: النور من أسماء الله تعالى، ومن صفاته </b><b>)</b><b> الله نور السموات والأرض</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn41" name="_ednref41" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[41]</b></a>)، والنور مبدأ الخلق والوجود فالله أخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود، والنور مبدأ الإدراك والمعرفة، وهو رمزٌ للمعرفة والخلاص غالباً، وهو في طواسين الحلاّج نور النبوة، وكل الأنوار تنبثق منه، فالنور رمزٌ للحقيقة المُحمّدية القديمة قِدماً نسبيّاً قبل الأكوان، لأنّ الحقيقة المحمديّة هي التجلّي الأول، وهو حادث. أمّا الأنوار التي تنبثق منه فهي تنبثقُ من الحقيقة الحادثة؛ وهي محمد النبي المُرْسَل في زمانٍ ومكانٍ معينين، وعنه صدرت أنوار الأنبياء والأولياء اللاحقين. ويبرزُ استخدام الحلاّج لهذا الأمر في معظم طواسينه، لكنّه يُخصِّص لـه (طاسين السراج)، الذي يقول فيه: (سراجٌ من نورِ الغيب بدا وعاد، وجاوزَ السُرج وساد، قمرٌ تجلّى بين الأقمار، كوكبٌ بُرجُه في فلك الأسرار، سمّاه الحقُّ (أميّا) لجمعِ همته، و(حرَميّا) لعظم نعمته، و(مكيّا) لتمكينه عند قربته.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>شرحَ صدرهُ، ورفعَ قَدْرَهُ، وأوجَب أمرَهُ، فأظهرَ بدره.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>طلعَ بدرُه من غمامةِ اليمامة، وأشرقَتْ شمسُه من ناحية تُهامة، وأضاءَ سراجُه من معدن الكرامة.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>أنوار النُبوّة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نورٌ أنور ولا أظهر ولا أقدم في القِدَمْ، سوى نور صاحب الكرم.. الخ) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn42" name="_ednref42" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[42]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>يحشدُ الحلاّج في طاسين السراج ألفاظاً مشتقة من النور. ودلالاتها تنحصر في النور مثل: (السراج)، و(نور) و(بدا). فبدا معناها ظهر. والظهور فعلٌ يُدْرك في النورِ، والقمر والكوكب والبدر والشمس مصادر نور، وتجلّى فعلٌ يكتملُ بالنور، والفَلَكْ مجالٌ للكواكب المنيرة، والبرج مكان مرتفع يمكن منه الرؤية بوضوح، وتجلّى، وأشرق، وأظهر، وأضاء، كُلّها أفعال إنارة فالنور لدى الإشراقيين رمز نفسي يكشف علاقة الإنسان بعالم ما وراء وجوده المحسوس.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ويُعدُّ السُهروردي الحلبي أكثر المؤلفين الصوفيين توظيفاً لرمز النور، فالفلسفة الإشراقية هي فلسفة في الأنوار، ومبدؤها أنّ الله نور قد خرجت من نوره كل الأنوار التي يقوم عليها العالم المادي والروحي، ولذلك نرى آثار السهروردي كُلَّها قائمة على فكرة النور، وتحتشد في نصوصه ألفاظ النور والتنوير المنسوبة إلى الله سبحانه: (نادى مناد من الملائكة حفَّت من حول عرش النور أنْ يا أيها التائهون في مَهْمَهِ البَوار، إنَّ أبواب السموات تُفتح في صبيحة كل جمعة. طلعت شموس عن مغاربها، فهلمّوا إلى الباب الأكبر.. يا من غواشي نوره أضاءت الذوات الذاكرات،) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn43" name="_ednref43" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[43]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>النور اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته تتفرع عنه رموز أخرى كالتطهير، والنجاة، والخلاص، والمعرفة. ونتخذ مثلاً على ذلك رموز قصة (الغربة الغربية) وهي صورة جديدة لقصة حي بن يقظان، مليئة بالرموز كالبئر والقصر والماء، والرحى.. الخ.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>فالماء رمز للروح والحياة، والرحى هي الجسم، وانقطاع الماء عن الرحى هو الموت. تدور القصة في فَلَكِ رمزٍ كُلّيٍ هو معراج السهروردي في رحلته إلى النور الذي يرمز إليه بألفاظ (البرق)، و(ليلة قمراء)، و(شمس)، و(صبح)، و(سُرج) و(شُعَل)، و(نجم)، بالاستعانة بالرموز الصوفية المعتادة (الطير)، و(الماء) حيث يقول: (سافرت مع أخي عاصم من ديار ما وراء النهر لنصل طائفة من طيور ساحل لجة الخضراء، فوقعنا بغتة في القرية الظالم أهلها، أعني مدينة قيروان فلما أحس قومها أننا قدمنا عليهم، أحاطوا بنا وحبسونا في قعر بئر لا نهاية لمسلكها،.. وكان في قعر البئر ظلمات بعضها فوق بعض، إلا أننا أوبة المساء نرتقي القصر مشرفين على الفضاء. ناظرين من كوة فربما يأتينا حمامات من أيوك اليمن..، فبينما نحن في الصعود ليلاً والهبوط نهاراً إذ رأينا الهدهد مسلماً في ليلة قمراء، في منقاره كتاب، ورأيت سراجاً فيها دهن ينتسج نوره وينتشر في أقطار البيت، وشعل مساكنها من إشراقها نور الشمس عليهم.. فرأيت الصخرة العظيمة على قلة الطور العظيم، فسألت عن الحيتان المجتمعة وعن الحيوانات المتنعمة المتلذذة؟ فاتخذ واحد من الحيتان سبيله في البحر سَربا وقال: ذلك ما كنا نبغي وهذا الجبل طور سينا والصخرة صومعة أبيك فقلت: وما هؤلاء الحيتان؟ فقالوا: أشباهك أنتم من أب واحد وقد وقع لهم شبه واقعتك فهم إخوانك: فلما سمعت وحققت عانقتهم وفرحت وفرحوا بي فصعدنا إلى الجبل ورأيت أبانا شيخاً كبيراً تكاد السموات والأرضون تنشّقُ من تجلّي نوره، فبقيتُ تائِهاً متحيّراً منه ومشيت إليه فسلّم عليّ فسجدتُ لـه ولذْتُ أنمحِقُ في نوره الساطِعْ) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn44" name="_ednref44" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[44]</b></a>). فشروق الشمس رمز لشروق العقل، وغيابها رمزٌ لاتباع الشهوات وغياب العقل، أمّا البئر فرمز الظلام وتحكّم الشهوات، فقد أتى الهدهد برسالة من الله، وعاصم (أحد المسافرين) إشارة إلى أنّ العقل يعصم الناس من الزلل، والحيتان رمزٌ للشهوات والغرائز، والصخرة صخرة النجاة والوصول إلى المعرفة الإلهية، والأب رمزٌ للأصل الإلهي وتجلّي الحقيقة المطلقة. وهذه الرموز الجزئية تنطوي تحت رمزٍ كُلّي هو (المعراج) معراج السهروردي إلى النور، وهي رموز غير مقصودة لذاتها، بل المقصود هو غاية وعظية مفادُها لفت الانتباه إلى قُبح الكفر والمعصية، وضرورة العمل على الظَفَر برضى الله ونصره وثوابه.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>5 ـ الخمر: الخمر هي العلم والمعرفة المؤثِّران في ذائقهما، وهي الحب أيضاً لدى الصوفية، وهي رمز من رموز الصوفية الكبرى، وهو رمزٌ موجودٌ صراحةً أو تلميحاً في كتابتهم لمعاناتَهم لحالي السُكر والصحو، والسُكْر حالة ذاتية عالية يصل إليها الصوفي، بعدَ أن يمرَّ بمقامات الذوق، والشُرب، والرّي هو بقاءٌ بعد السُكر من الجمال الإلهيّ المُطلق، ومن ثمّ فالسُكر غيبة تُسبّبها رغبة عارمة في لقاء الله، ورهبة من هذا اللقاء، واندهاش، وذهول بعد تحققَّهِ في إحساس الصوفي، فيغتني باطنه بمشاعر الغبطة، والوله، والشوق إلى الفناء عن النفس، والبقاء في الله، وقد كان الشعر أكثر مناسبةً لغناء رمز الخمر من النثر، يقول الحلاّج:</b></div>
<div align="center" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; text-align: -webkit-center;">
<table border="0" cellpadding="0" cellspacing="0" class="MsoNormalTable" dir="rtl" style="border-collapse: collapse; margin-left: 34.4pt;"><tbody>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 123.2pt;" valign="top" width="164"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>نديمي غيرُ منسوبٍ<br /></b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 135pt;" valign="top" width="180"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>إلى شيء من الحيفِ<br /></b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 123.2pt;" valign="top" width="164"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>دعاني ثم حيّاني<br /></b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 135pt;" valign="top" width="180"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>كفعل الضيفِ بالضيفِ<br /></b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 123.2pt;" valign="top" width="164"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>فلمّا دارت الكأس<br /></b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 135pt;" valign="top" width="180"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>دعا بالنطعِ والسيفِ (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn45" name="_ednref45" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[45]</b></a>)<br /></b></div>
</td></tr>
</tbody></table>
</div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ففي أبيات الحلاّج مجلسٌ لشرب الخمر، لكنّ النديم ليس كندماء مجلس الخمر المادية، فهو مُنزّه عن العيوب، ولقاء الحلاّج مع نديمه وتبادلهما التحية هو خلقٌ كريم ينتمي إلى إكرام الضيف لضيفه، وإنّ الخمر التي يشربونها من الخطورة أن يبلغ شربُها حد القتل بالسيف، لأنّ السُكر بها يُفقِد العقل والتوازن، ويخلقُ لهما بديلاً من الهيام والاضطراب في حالة محبة إلهية جارفة، لأنّ محتوى الراح هو معرفة الذات الإلهية، وحالة السُكر بها قد يتبعُها بوحٌ بما هو أجدر بالكتمان.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وليس أكثر من ألفاظ الذوق والشراب في التراث الصوفي، يُسمّي السهروردي الخمر الإلهية (شراب الأبرار) في نص بعنوان (شراب الأبرار): (لا تحسبَنّ أن ّ السعادة على نوعٍ واحد بل للمُقرّبين من العلماء، البالغين في الملكات الشريفة لذّاتٍ عظيمة، ولأصحاب اليمين أيضاً لذّاتٌ دونها سيّما على تقدير وجود المُثل التخيلية، فلهم وقفةٌ في العالم الفلكي معها دون الوصول إلى رتبة السابقين </b><b>)</b><b> والسابقون السابقون ، أولئك المقرّبون</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn46" name="_ednref46" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[46]</b></a>) وقد يخالط لذّات المتوسطين شوبٌ من لذّات المقربين كما يشير إليه حيث قال تبارك وتعالى في شراب الأبرار: </b><b>)</b><b> يُسقَوْنَ من رحيق مختوم</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn47" name="_ednref47" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[47]</b></a>)، و</b> <b>)</b><b> مزاجه من تسنيم، عيناً يشرب بها المقربون</b> <b>(</b><b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn48" name="_ednref48" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[48]</b></a>)، وهؤلاء لهم العروج، إلى مشاهدة الواحد الحق، مستغرقين فيه. والأبرار على تقدير وجود المُثل التخيلية يتلذذّون بأصباغٍ تخيليةٍ فلكيةٍ، وطيورٍ وحورٍ عين، وذهبٍ وفضة، وغيرها أحسن ممّا عندنا وأشرف)(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn49" name="_ednref49" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[49]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>فالسعادة التي يَبعثُها تحصيل المعرفة الإلهية أنواع بحسب درجات المؤمنين العارفين، فهناك سعادة المُقربيّن، وسعادة أصحاب اليمين، وسعادة المتوسطين، وهم جميعاً يمكنهم اختيار تذوّق شراب الأبرار، وفي شراب كلٍّ منهم شيء من لذّة هذا الشراب وهو خمر المعرفة الإلهية، الشراب الذي وصفه الله تعالى بأنّه من (رحيق مختوم ومزاجه من تسنيم)، فهو خمرٌ رحيق خالص غير مشوب، وهو مختوم في إناء لم يُفتح ويُقدّم لأحدٍ من قبل وهو كالعسل (لأنّه يُقال للنحل إذا ملأ شُورَتهُ عسلاً: و(ختامه مسكٌ) أي (عاقبته ريح المسك) وهو أخيراً خمرةٌ ممزوجة بماء تسنيم وهو (الماء الظاهر يعلو الخمر وهو خير أنواع الماء) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn50" name="_ednref50" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[50]</b></a>). والسُكر بهذه الخمر يمنح لهؤلاء الشاربين العروج لمشاهدة الله سبحانه، ومشاهدة جنِته بواسطة الخيال.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>يبدأ النص بالنهي المؤكّد بنون التوكيد الثقيلة وأنَّ، والتشابه في صياغة أسماء المفعولين، وأسماء الفاعِلين (المقرّبين والبالغين والسابقين والمتوسطين والمستغرقين) والسجع بين هذه الألفاظ وألفاظ أُخَرْ، هي (أصحاب اليمين) و(يتلذذّون) و(حور عين) وبين (الملكات) و(اللذّات)، فضلاً عن الاقتباس من القرآن الكريم لتأكيد الفكرة التي يريدها السهروردي، وعن استخدام أنواع من الجموع، كجمع المذكر (بالغين وسابقين، ومُقرّبين، ومتوسطين) وجمع المؤنث (لذّات) و(ملكات)، وجمع التكسير (علماء، ومُثل، وأبرار، وأصباغ، وطيور، وحور)، وأصحاب هذه الجموع إمّا (مقربون من الله، أو مستغرقون فيه، أو سالكون في الطريق إليه).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ولاستخدام صيغ الجمع في النص وظيفتان: الوظيفة الأولى فكرية: هي أداء معنى هو أنَّ الخلق جميعاً على اختلاف درجاتهم في معرفة الله هم أبناؤه ومظاهره المفتقرة لمعرفته. وفي فَلَكِ وجوده يدورون، والوظيفة الثانية: فنيّة هي الإيحاء بالفكرة، وتأكيدها وكسر حدّة الطابع التعليمي الفلسفي في النص، المؤكّد باستخدام أسلوب الخطاب، والنهي، وبتقسيم أنواع السعادة وأنواع السعداء، واستخدام أساليب الإخبار كما في (لأصحاب اليمين وقفة) و(لأصحاب اليمين لذّاتٌ)، (وقد يخالط لذّات المتوسطين شوبٌ).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>6 ـ المعراج: وهو رمزٌ مُستلهم من إسراء النبي </b><b>e</b> <b>ومعراجه، إذ استوحى الصوفيّون من هذا الرمز الكثير من القصص والنصوص، فأودعوها خبراتهم الروحية، وتصوراتهم الماورائية، وكشوفاتهم وحدوسهم، وتأويلاتهم، والكثير من الإيحاءات الإنسانية، فضلاً عن تخليصهم رمز المعراج من طابع التأريخ والسيرة، وتقديمه إبداعاً فنيّاً في الصياغة، بوسائل البيان والبديع. المعراج الصوفي معراج روحي، ويقوم رمز المعراج بوظائف ثلاث هي:</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>1ـ وظيفة دينية: هي وظيفة أساسيّة تدخل في ماهية المعراج، وصفَتْها الدكتورة سعاد الحكيم بـ (الانخراط في البناء الروحي للأمة الإسلامية؛ وهو بناء هرمي، يستوي على قمتّه النبي </b><b>e</b> <b>والدعوة إلى الله سبحانه من خلال دعوة النبي، فالله لا يُكِّلفُ الأولياء العارجين بتشريع جديد) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn51" name="_ednref51" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[51]</b></a>) ذلك لأنّ المعراج الصوفي معراج نفسي وعقلي، ورؤية منامية معنوية، وروحية، بينما المعراج النبوي معراج حسّي، ومعنوي فالمعراج الصوفي تقليدٌ للمعراج النبوي من الجانب الروحي، لأنّ عناصر المعراج صورٌ أصولها موجودة في الرواية النبوية للمعراج.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>2 ـ وظيفة أدبية وفنيّة وجماليّة: إذ يؤثر أسلوب القص، والأحداث ولغة السرد والحوار في القارئ، فيثير في نفسه انفعالات متنوعة، كالخوف، والأمن، والحزن، والفرح، ويُقدِّم لـه كتابة إبداعية جديدة.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>3ـ وظيفة معرفيّة تعليميّة: هي تقديم المعرفة التي يكتشفُها الصوفي في أثناء معراجه، فبعض قصص المعراج تتمتع بنزعة تعليميّة في مجال الممارسات الصوفية، وفي مجال الممارسات الحياتية في المجتمع، كالحث على مكارم الأخلاق، وتغذية فكرتي الثواب والعقاب، وتجسيد صلة الصوفييّن بالكون، والإنسان؛ فالمعرفة أهم أهداف المعراج، ينقلُ الله العبدَ من مكان إلى مكان ليريه من آياته فالمعراج الصوفي معراج تعليم، عروج إلى مراتب عليا من العلم.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>إنّ نصوص المعراج تخرق قوانين الأجناس الأدبية المعروفة، ولا تلتزم قوالب صياغة سابقة؛ فهي نصوص جديدة، قوامها أحداث روحيّة مشابهة لمعراج النبي </b><b>e</b> <b>، وبعض الصوفييّن وظفّوا المعراج أدبيّاً بوصفه رمزاً لمّاحاً، مُكثَّفاً، كما في بعض نصوصهم، ومنها شطحة أبي يزيد البسطامي.<br />(عَرّجَ بروحي فخرقت الملكوت، فما مررتُ بروح نبيّ إلاّ سلّمتُ عليها، وأقرأتُها السلام غير روح محمد </b><b>e</b> <b>، فإنه كان حول روحه ألف حجاب من نور كادت أن تحترق عند أول لمحة) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn52" name="_ednref52" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[52]</b></a>)، كما ورد رمز المعراج عند السهروردي أكثر من مرّة في (مجموعة في الحكمة الإلهية)، ففي إحدى مناجياته<br />(التلويحات العرشية) يُعدُ العُدّةَ لخوضِ المعراج، ويطلبُ من الله تيسير عروجه إلى السماء: (يا ربّنا.. يَسّرِ العروج إلى سماء القدس، والاتصال بالروحانيين، ومجاورة المعتكفين في حضرة الجبروت المطمئنين، في غرفات المدينة الروحانية التي هي وراء الوراء) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn53" name="_ednref53" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[53]</b></a>). ويؤكد في نصٍ آخر أنّ السعادة درجاتٍ، وأنّ أعلى درجات السعادة، هي سعادة الواصلين إلى ربهم بالعروج الروحي. يقول في ذلك: (وهؤلاء لهم العروج إلى مشاهدة الواحد الحق، مستغرقين فيه، والأبرار على تقدير وجود المثل التخيلية يتلذذونّ بأصباغٍ تخيلية فلكية) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn54" name="_ednref54" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[54]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وُظِّفَ رمز المعراج قصصيّاً، كما في قصة (الغربة الغربية) للسهرودي، التي استلهمها من قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل، يقول السهرودي عن قصته: (إنها تشير إلى الطور الأعظم الذي هو الطاقة الكبرى المخزونة في الكتب الإلهية، المستودعة في رموز الحكماء، وإلى السر الذي ترتّبَ عليه مقامات أهل التصوف وأصحاب المكاشفات) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn55" name="_ednref55" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[55]</b></a>). ورمز المعراج رمزٌ كُلّي يُحرّك رموز القصة، التي من أهمها: الشمس رمز شروق العقل، والبئر رمز الظلام، وتحكّم الشهوات. حتى شخصية المسافر (عاصم) فيها رمزٌ إلى عصمة العقل الإنساني من الزلل، ووصوله عن طريق الكشف والذوق إلى معرفة الله، ويتضمّن معراج (الغربة الغربية) عناصر رمز المعراج كالسفر عبر السفينة في بحور السماوات، بعد التجرّد عن المادة. يقول السهروردي: (صعدنا إلى الجبل ورأينا أبانا شيخاً كبيراً يكاد السموات والأرضون تنشقُ من تجليّ نوره، فبقيتُ متحيزاً منه ومشيتُ إليه فسلّم عليّ فسجدت لـه ولذتُ أنمحقُ في نوره الساطع)(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn56" name="_ednref56" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[56]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>أمّا محي الدين بن عربي، فقد أودع رؤيا معراجه كتابَه (الإسرا إلى المقام الأسرى)، وهو خمسة أقسام، وفي كل قسم مجموعة من الأبواب. ففي القسم الأول تتجلّى قضية الحب الصوفي، الذي كان دافعاً كامناً وراء معراج ابن عربي تقرّباً من النبي </b><b>e</b> <b>، وفيه أيضاً يتم تحضير السالك بدنيّاًً، وعمليّاً، وعقائديّاً، فيتخلص من عناصره السفليّة (التراب، والنار، والهواء، والماء)، وفي القسم الثاني تبدأ رحلة ابن عربي عبر السماوات السبع، ويبدأ حواره مع سرّ روحانية ساكنيها من الأنبياء، ففي السماء الأولى (سماء الوزارة) يلتقي (آدم)، وفي السماء الثانية (سماء الكتابة) يلتقي (عيسى)، وفي السماء الثالثة (سماء الشهادة) يلتقي (يوسف)، وفي السماء الرابعة (سماء الإمارة) يلتقي (إدريس)، في السماء الخامسة (سماء الشرطة) يلتقي هارون، وفي السماء السادسة (سماء القضاة) يلتقي (موسى)، وفي السماء السابعة (سماء الغاية) يلتقي (إبراهيم). وفي هذه الرحلة يبرز الهدف التعليمي، إذ يستفيد السالك علوماً عظيمةً من علوم الأنبياء. أمّا في القسم الثالث فيصل السالك إلى سدرة المنتهى، حيث النور والبهاء، ثم حضرة الكرسي، ثم الرفارف العُلى، ويتّضح لنا في هذا القسم الهدف التعليمي أيضاً، إذ يُقدّم قطب الشريعة وصايا، هي ذاتها الوصايا الموجودة في قصص الأنبياء. تقول الدكتورة سعاد الحكيم عن وصايا قطب الشريعة: (قيمة هذا النص عظيمة إذ إنّه نبّه بإشارات قرآنية على دقائق سلوك صوفية، كل ذلك بأسلوب معلم كبير، مسلم ارتوى عقله من علوم القرآن، ففتح أمام القارئ سبيل آفاق قراءة جديدة لقصص الأنبياء) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn57" name="_ednref57" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[57]</b></a>). ومن الوصايا وصايا عامة، مثل (لا ترغب في مُلْكٍ لا ينبغي لأحدٍ من بَعدِك، بل قُلْ هذا سبحانك من عندك، ارغبْ في مُلكٍ لا ينبغي لسواك، تتخلق في ذلك بصفات مولاك) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn58" name="_ednref58" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[58]</b></a>)، ومنها وصايا مُستلهَمة من قصص الأنبياء مثل: (لا تُعذِّب الهدهد كما همّ سليمان، حتى يعجز عن البيّنة والسلطان؛ عَذّبهُ لمّا كشف السر، وخرقَ الستر، ارفق على النمل، إذا أوجَفت بسوابق الخيل، فرِقهم أيادي سبأ، واقتلهم مضى السيفُ أو نبا، واتركهم بين مَهّب الشمال والصبا) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn59" name="_ednref59" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[59]</b></a>). فهذه الوصية مُستلهمة من قصة النبي سليمان عليه السلام، الواردة في سورة النمل. قال تعالى: </b><b>)</b><b> وتَفقّد الطير فقال ماليَ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn60" name="_ednref60" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[60]</b></a>) وقال: </b><b>)</b><b> لأعذّبنَّهُ عذاباً شديداً أو لأذبحنَّهُ أو ليأتينّي بسلطانٍ مبين</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn61" name="_ednref61" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[61]</b></a>)، ومن السورة أيضاً قوله تعالى: </b><b>)</b><b> حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملةٌ يا أيُّها النملُ ادخلوا مساكنكم لا يَحْطَمنَّكُمْ سليمان وجنوده وهم لا يشعرون</b> <b>(</b> <b>(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn62" name="_ednref62" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[62]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>وفي القسم الرابع تتجلّى قضية المعرفة، حضراتٍ، ومناجيات. وأبرز ما في الحضرات تعليم السالك وتفهيمه. وفي الحضرة الأخيرة (أوحى) يفنى السالك عن ذاته، ويصل إلى المقام المطلوب مقام (التابع المحمدي) الكامل بين الأولياء. وأبرز ما في المناجيات معرفة السالك لنفسه، وللإنسان ومكانته في الكون، ولله الواحد، ولنعمه، ولأسرار مبادئ السور، ولعلوّ مقام محمد </b><b>e</b> <b>. أما القسم الخامس والأخير فهو إشارات نبوية، تأخذ شكل امتحان يخوضه السالك، فيُسأل فيما عرفَ، ويجيب. ونصوص (الإسرا إلى المقام الأسرى) هي نصوص فنية. يشير ابن عربي في مقدمة كتابه إلى الإطار الأدبي الذي وجده ضرورياً لإخراج كتابه قائلاً: (ووصفتُ الأمرَ، بمنثورٍ ومنظوم، وأودعتهُ بين مرموزٍ ومفهوم، مُسَجع الألفاظ، ليسهل على الحُفّاظ، وبَيّنْتُ الطريق، وأوضحتُ التحقيق، ولَوحّتُ بسّر الصديق، ورتبتُ المناجاة، بإحصاء بعض اللغات). ففي هذه الإشارة تأكيد للناحية الفنية من خلال الاهتمام الرمز(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn63" name="_ednref63" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[63]</b></a>)، والسجع، وألوان البيان، واللغة، فضلاً عن أنّ الاستعانة بالشعر إغناءٌ للجانب الفني، وللموضوع، وعنصرُ جذبٍ للقارئ، وربّما لأنّ الشعر أقدر على التغنّي بالعاطفة، يقول ابن عربي شعراً:</b></div>
<div align="center" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; text-align: -webkit-center;">
<table border="0" cellpadding="0" cellspacing="0" class="MsoNormalTable" dir="rtl" style="border-collapse: collapse; margin-left: -14.25pt;"><tbody>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>لمّا بدا السرُّ في فؤادي<br /></b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>فنيَ وجودي وغابَ نجمي<br /></b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>وجالَ قلبي بسرٍّ ربّي<br /></b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>وغبتُ عن رسمِ حسِّ جسمي<br /> </b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>وجئتُ منه به إليه<br /></b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>في مركبٍ من سَنيِّ عزمي<br /></b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>نشرتُ فيه قلاعَ فكري<br /></b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>في لُجّةٍ من خفيِّ علمي<br /></b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>هَبّت عليها رياحُ شوقي<br /> </b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>فمرّ في البحر مرّ سهمي<br /> </b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>فجزتُ بحرَ الدنّو حتى<br /> </b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>أبصرتُ جهراً مَنْ لا اُسَّمي<br /> </b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>وقلتُ يا مَنْ رآه قلبي<br /> </b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>اضربْ لي في حبكم بسهم<br /> </b></div>
</td></tr>
<tr style="height: 22.7pt;"><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 140.25pt;" valign="top" width="187"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>فأنت أنسي ومهرجاني<br /> </b></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 11.8pt;" valign="top" width="16"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<br /></div>
</td><td style="color: darkgreen; font-family: Helvetica, Arial; font-size: 16px; font-weight: bold; height: 22.7pt; padding: 0cm 5.4pt; width: 148.55pt;" valign="top" width="198"><div class="MsoNormal" dir="rtl" style="margin-right: 21.25pt; text-indent: 0cm;">
<b>وغايتي في الهوى وغُنمي (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn64" name="_ednref64" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""><b>[64]</b></a>)<br /></b></div>
</td></tr>
</tbody></table>
</div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>أمّا الرمز، فمعراجُ ابن عربي ـ في ذاته ـ رمزٌ لارتقاء الإنسان بعقله، وقلبه، وروحه، إلى عالم الله، والمُثل، وتحت رمز المعراج تنطوي رموز النص، كالسفينة التي هي رمز الخلاص والعبور عن طريق المعرفة وكُلُّ ركنٍ فيها يُقابله معتقد، أو تشريع. (هذه السفينة تتركب من كُليّة النشاط السلوكي للسالك، قسمٌ عقائدي يُفصِّلُ العقيدة الصوفية، وقسمٌ تعبدي كالأذكار، والأحوال، فعقيدة السالك، وسلوكه هما سفينة المعراج) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn65" name="_ednref65" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[65]</b></a>)، ويُحوّلُ ابن عربي بعضَ رموزه أسماء لمسميات؛ كالدرّة البيضاء. وهي اسمٌ للنور المحمدي، والزبرجدة الخضراء، وهي النفس الكُلّية المنبعثة من الدرّة البيضاء.</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>ولا يكتفي ابن عربي بهذا التحويل، بل ينقل رموزاً أخرى من الخيال إلى الواقع، كما في مناجاة الرياح، وصلصلة الجرس، وريش الجناح، ففيها رموز هي (الجواد)، و(الفرس)، و(الجرس) و(الرعود) و(الرياح). وهي غير الرياح الطبيعية المعروفة. إنّها رياحٌ إلهية، يُعاقَبُ بها الكافرون. فهذه (الرياح لا تمرُ على شيء، إلاّ جعلته هباءً منثوراً، ودمّرته تدميراً، لأنّها رياح الغيرة، فليسَ تُبقي مع مالكها غيره، وإنّها لترمي بشرر ("لا تُبقي ولا تَذَرْ) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn66" name="_ednref66" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[66]</b></a>)، "لوّاحةٌ للبشر" (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn67" name="_ednref67" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[67]</b></a>))(<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn68" name="_ednref68" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[68]</b></a>).</b></div>
<div class="MsoNormal" dir="rtl" style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; margin-right: 21.25pt; text-align: -webkit-center; text-indent: 0cm;">
<b>السجع والطباق والجناس هي أبرز مقومات الشكل الفني في كتاب (الإسرا إلى المقام الأسرى). فقد تفنّن ـ مثلاً ـ في توظيف الجناس، ففي خطاب قطب الشريعة للسالك جاء: (حَسّنَ الله أفعالك، ولا جعلها أفعى لك، وسدّد أقوالك، فإنّها عند المناجاة أقوى لك، وألقِ أيها الطالب بالك، أصلح الله بالك) (<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_edn69" name="_ednref69" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""> <b>[69]</b></a>)، بالك الأولى هي خاطرك وقلبك، وبالك الثانية هي شأنك. وبالطباق يقارب ابن عربي جدل علاقة الإنسان بالوجود. والسجع هو معادلةُ النثر بالشعر الذي يجاوره في معظم الكتاب.</b></div>
<div style="background-color: white; color: #330000; font-family: 'arabic transparent'; font-size: 24px; font-weight: bold; text-align: -webkit-center;">
<br clear="all" /><hr align="right" size="1" width="33%" />
<div id="edn1">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref1" name="_edn1" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [1]</b>) </b><b> الرسالة القشيرية، 295.</b></div>
</div>
<div id="edn2">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref2" name="_edn2" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [2]</b>) </b><b> اللمع في التصوف، الطوسي، 100.</b></div>
</div>
<div id="edn3">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref3" name="_edn3" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [3]</b>) </b><b> اللمع في التصوف، الطوسي، 338.</b></div>
</div>
<div id="edn4">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref4" name="_edn4" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [4]</b>) </b><b> حلية الأولياء، الأصفهاني، 9 /395.</b></div>
</div>
<div id="edn5">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref5" name="_edn5" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [5]</b>) </b><b> حلية الأولياء، الأصفهاني، 9 /395.</b></div>
</div>
<div id="edn6">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref6" name="_edn6" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [6]</b>) </b><b> حلية الأولياء، الأصفهاني، 9 /332.</b></div>
</div>
<div id="edn7">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref7" name="_edn7" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [7]</b>) </b><b> نَضرهُ الإغريض في نصرة القريض 33، 34.</b></div>
</div>
<div id="edn8">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref8" name="_edn8" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [8]</b>) </b><b> عوارف المعارف، السَهروَردي، (عبد القاهر بن عبد الله) بذيل إحياء علوم الدين، 5 /118.</b></div>
</div>
<div id="edn9">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref9" name="_edn9" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [9]</b>) </b><b> النور من كلمات أبو طيفور 149.</b></div>
</div>
<div id="edn10">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref10" name="_edn10" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [10]</b>) </b><b> اللمع في التصوف، السّراج الطوسي 383.</b></div>
</div>
<div id="edn11">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref11" name="_edn11" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [11]</b>) </b><b> صحيح البخاري 23، 25.</b></div>
</div>
<div id="edn12">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref12" name="_edn12" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [12]</b>) </b><b> النور من كلمات أبي طيفور 149.</b></div>
</div>
<div id="edn13">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref13" name="_edn13" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [13]</b>) </b><b> سورة القصص 88.</b></div>
</div>
<div id="edn14">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref14" name="_edn14" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [14]</b>) </b><b> مدارات صوفية 60.</b></div>
</div>
<div id="edn15">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref15" name="_edn15" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [15]</b>) </b><b> تراث الحلاج 168.</b></div>
</div>
<div id="edn16">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref16" name="_edn16" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [16]</b>) </b><b> الحياة الروحية في الإسلام 118.</b></div>
</div>
<div id="edn17">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref17" name="_edn17" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [17]</b>) </b><b> تراث الحلاج 166.</b></div>
</div>
<div id="edn18">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref18" name="_edn18" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [18]</b>) </b><b> نضرة الإغريض في نُصرة القريض، المُظفر بن الفضل العلوي 23.</b></div>
</div>
<div id="edn19">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref19" name="_edn19" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [19]</b>) </b><b> المواقف والمخاطبات 137.</b></div>
</div>
<div id="edn20">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref20" name="_edn20" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [20]</b>) </b><b> شرح مواقف النِّفري لعفيف الدين التلمساني، 361.</b></div>
</div>
<div id="edn21">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref21" name="_edn21" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [21]</b>) </b><b> الصوفية والسريالية 144.</b></div>
</div>
<div id="edn22">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref22" name="_edn22" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [22]</b>) </b><b> النص. السلطة. الحقيقة 189.</b></div>
</div>
<div id="edn23">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref23" name="_edn23" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [23]</b>) </b><b> الصوفية والسريالية 160</b></div>
</div>
<div id="edn24">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref24" name="_edn24" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [24]</b>) </b><b> التعبير الصوفي ومشكلته 61.</b></div>
</div>
<div id="edn25">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref25" name="_edn25" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [25]</b>) </b><b> الفتوحات المكيّة 2 /466.</b></div>
</div>
<div id="edn26">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref26" name="_edn26" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [26]</b>) </b><b> ترجمان الأشواق 9.</b></div>
</div>
<div id="edn27">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref27" name="_edn27" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [27]</b>) </b><b> ترجمان الأشواق 10.</b></div>
</div>
<div id="edn28">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref28" name="_edn28" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [28]</b>) </b><b> سورة البقرة 260.</b></div>
</div>
<div id="edn29">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref29" name="_edn29" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [29]</b>) </b><b> تراث الحلاج 172.</b></div>
</div>
<div id="edn30">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref30" name="_edn30" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [30]</b>) </b><b> اصطلاحات الصوفية، القاشاني.</b></div>
</div>
<div id="edn31">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref31" name="_edn31" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [31]</b>) </b><b> اصطلاحات الصوفية، القاشاني 70.</b></div>
</div>
<div id="edn32">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref32" name="_edn32" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [32]</b>) </b><b> المعجم الصوفي، د. سعاد الحكيم 1207.</b></div>
</div>
<div id="edn33">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref33" name="_edn33" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [33]</b>) </b><b> تراث الحلاج 175.</b></div>
</div>
<div id="edn34">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref34" name="_edn34" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [34]</b>) </b><b> تراث الحلاج 176.</b></div>
</div>
<div id="edn35">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref35" name="_edn35" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [35]</b>) </b><b> سورة الأنبياء 30.</b></div>
</div>
<div id="edn36">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref36" name="_edn36" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [36]</b>) </b><b> تراث الحلاج 166.</b></div>
</div>
<div id="edn37">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref37" name="_edn37" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [37]</b>) </b><b> عوارف المعارف، للسهروردي بذيل إحياء علوم الدين 323. والواسطي هو: أبو بكر محمد بن موسى، أصله من فرغانة، وهو من علماء مشايخ القوم في الأصول وعلوم الظاهر. توفي بعد سنة 320ه (طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي 302).</b></div>
</div>
<div id="edn38">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref38" name="_edn38" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [38]</b>) </b><b> المواقف والمخاطبات 71.</b></div>
</div>
<div id="edn39">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref39" name="_edn39" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [39]</b>) </b><b> الصوفية في الإسلام 76.</b></div>
</div>
<div id="edn40">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref40" name="_edn40" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [40]</b>) </b><b> شرح مواقف النِّفَّري، التلمساني، 100.</b></div>
</div>
<div id="edn41">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref41" name="_edn41" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [41]</b>) </b><b> سورة النور 35.</b></div>
</div>
<div id="edn42">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref42" name="_edn42" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [42]</b>) </b><b> تراث الحلاج 165.</b></div>
</div>
<div id="edn43">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref43" name="_edn43" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [43]</b>) </b><b> مجموعة في الحكمة الآلهية، 107.</b></div>
</div>
<div id="edn44">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref44" name="_edn44" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [44]</b>) </b><b> حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين 124.</b></div>
</div>
<div id="edn45">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref45" name="_edn45" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [45]</b>) </b><b> تراث الحلاج 149.</b></div>
</div>
<div id="edn46">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref46" name="_edn46" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [46]</b>) </b><b> سورة الواقعة 10.</b></div>
</div>
<div id="edn47">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref47" name="_edn47" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [47]</b>) </b><b> سورة المطفقين 25.</b></div>
</div>
<div id="edn48">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref48" name="_edn48" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [48]</b>) </b><b> سورة المطفقين 28.</b></div>
</div>
<div id="edn49">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref49" name="_edn49" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [49]</b>) </b><b> مجموعة من الكلمات الإلهية 94.</b></div>
</div>
<div id="edn50">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref50" name="_edn50" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [50]</b>) </b><b> مجموعة في الحكمة الإلهية 94.</b></div>
</div>
<div id="edn51">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref51" name="_edn51" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [51]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، لابن عربي، تحقيقي د. سعاد الحكيم 31.</b></div>
</div>
<div id="edn52">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref52" name="_edn52" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [52]</b>) </b><b> النور من كلمات أبي طيفور 111.</b></div>
</div>
<div id="edn53">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref53" name="_edn53" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [53]</b>) </b><b> مجموعة في الحكمة الإلهية، 107.</b></div>
</div>
<div id="edn54">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref54" name="_edn54" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [54]</b>) </b><b> مجموعة في الحكمة الإلهية، 94.</b></div>
</div>
<div id="edn55">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref55" name="_edn55" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [55]</b>) </b><b> حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين 124.</b></div>
</div>
<div id="edn56">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref56" name="_edn56" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [56]</b>) </b><b> حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين 126.</b></div>
</div>
<div id="edn57">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref57" name="_edn57" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [57]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي</b></div>
</div>
<div id="edn58">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref58" name="_edn58" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [58]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي 130.</b></div>
</div>
<div id="edn59">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref59" name="_edn59" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [59]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي 119.</b></div>
</div>
<div id="edn60">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref60" name="_edn60" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [60]</b>) </b><b> سورة النمل 20، 21.</b></div>
</div>
<div id="edn61">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref61" name="_edn61" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [61]</b>) </b><b> سورة النمل 20، 21.</b></div>
</div>
<div id="edn62">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref62" name="_edn62" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [62]</b>) </b><b> سورة النمل 18.</b></div>
</div>
<div id="edn63">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref63" name="_edn63" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [63]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي 53.</b></div>
</div>
<div id="edn64">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref64" name="_edn64" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [64]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي 73.</b></div>
</div>
<div id="edn65">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref65" name="_edn65" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [65]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي 71.</b></div>
</div>
<div id="edn66">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref66" name="_edn66" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [66]</b>) </b><b> سورة المدثر 28.</b></div>
</div>
<div id="edn67">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref67" name="_edn67" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [67]</b>) </b><b> سورة المدثر 29.</b></div>
</div>
<div id="edn68">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref68" name="_edn68" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [68]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي 149.</b></div>
</div>
<div id="edn69">
<div class="MsoEndnoteText" dir="rtl" style="margin: 3pt 22.7pt 0pt 0cm; text-indent: -22.7pt;">
<a href="http://www.awu-dam.org/book/06/study06/179-W-L/book06-sd011.htm#_ednref69" name="_edn69" style="color: black; text-decoration: none;" target="_new" title=""></a><b>(<b> [69]</b>) </b><b> الإسرا إلى المقام الأسرى، ابن عربي 113.</b></div>
</div>
</div>
</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-69658299750162483352015-02-15T22:09:00.002-08:002015-02-15T22:09:10.795-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
1-<span class="Apple-tab-span" style="white-space: pre;"> </span>في مفهوم التناص : <br />
لقد حدّد باحثون كثيرون مثل "كريستيفا" و "ريفاتير" مفهوم التناص ، غير أنّ أيّ واحد منهم لم يضع تعريفا جامعا مانعا له ، وهذا راجع لكون مصطلح "تناص" تتغيّر دلالته من باحث إلى آخر توسيعا وفهما بالعلاقة مع المفهوم الذي للباحث عن النص ذاته ، فللنص تعاريف عديدة تعكس توجهات معرفية ونظرية ومنهجية مختلفة ، فهناك التعريف البنيوي وتعريف اجتماعيات الأدب والتعريف النفساني وتعريف اتجاه تحليل الخطاب ، ومن دون شك فإنّ هذه الاختلافات ستؤطِّر كل تعريف يقوم به هذا الباحث أو ذاك .<br />
فسعيد يقطين ربطه بِ "نصية النص" ، يقول : « إنّ جزءاً من نصية النص تتجلى من خلال "التناص" كممارسة تبرز عبرها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص غيره من الكتاب وعلى إنتاجه لنص جديد ، هذه القدرة التي لا تتأتّى إلا بامتلاء خلفيته النصية بما تراكم قبله من تجارب نصية وقدرته على تحويل تلك الخلفية إلى تجربة جديدة قابلة لأن تسهم في التراكم النصي القابل للتحويل والاسترار بشكل دائم» .<br />
ويطرح "يوري لوتمان" مفهوما للنص يعلق وجوده فيه على مفهوم التناص ، لأنه يجعل العلاقة بينهما كالعلاقة بين الكلام واللغة في مفهوم "دي سوسير" ، وبالتالي يجعل كلاّ من المفهومين قاعدة لتأسيس إشارية العمل الأدبي . فالتناص حسبه هو الذي يهب النص قيمته ومعناه ، ليس فقط لأنه يضع النص ضمن سياق يمكننا من فض مغاليق نظامه الإشاري ويهب إشارته وخريطة علاقاته معناها ، ولكن هو الذي يمكننا من طرح مجموعة من التوقعات عندما نواجه نصا ما ، وما يلبث هذا النص أن يشبع بعضها وأن يولد في الوقت نفسه مجموعة أخرى .<br />
وهكذا نكتشف البؤرة المزدوجة للتناص ، إنه يلفت اهتمامنا إلى النصوص الغائبة والمسبقة ، وعلى التخلي عن أغلوطة استقلالية النص ، لأنّ أي عمل يكتسب ما يحققه من معنى بقوة كل ما كُتِبَ قبله من نصوص . كما أنّه يدعونا إلى اعتبار هذه النصوص الغائبة مكوِّنات لشفرة خاصة يُمَكِّنُنا وجودُها من فهم النص الذي نتعامل معه وفض مغاليق نظامه الإشاري ، وازدواج البؤرة هنا هو الذي لا يجعل التناص نوعا من توصيف العلاقة المجددة التي يعقدها نص ما بالنصوص السابقة ولكنه يتجاوز ذلك إلى الإسهام في البناء الاستطرادي والمنطقي لثقافة ما ، وإلى استقصاء علاقاته بمجموعة من الشفرات والمواصفات التي تجعله احتمالا وإمكانية داخل ثقافة ما ، والتي تبلور احتمالات هذه الثقافة .<br />
وحدّدت "جوليا كريستيفا" المجال التناصي بقولها :« إنه مهما كانت طبيعة المعنى في نص ما ، ومهما كانت ظروفه كممارسة إشارية فإنه يفترض وجود كتابات أخرى .. وهذا يعني أنّ كل نص يقع من البداية تحت سلطان كتابات أخرى تفرض عليه كونا أو عالَماً بعينه ». ولا بدّ هنا من التنبيه إلى أنّ الوقوع تحت سلطان الكتابات السابقة لا يعني بالضرورة الخضوع التام والمطلق لها ، إنّ النص وهو يقيم علاقة مع نصوص سابقة أو يقع تحت سلطانها فإنّ درجة الاستسلام والانقياد لهذا السلطان مختلفة من نص إلى آخر ، لأنّ التناص يزوِّدنا بالتقاليد والمواصفات والمسلَّمات التي تمكِّننا من فهم أي نص نتعامل معه والتي أرستها نصوص سابقة ، ويتعامل معها كل نص جديد بطريقته ، يحاورها ، يصادر عليها، يدحضها ، يقبَلها ، يرفضها ، يسخر منها أو يشوهها ، وهو في كل حالة من هذه الحالات ينميها ويرسخها ، ويضيف إليها . وهذا ما يقودنا إلى تحديد بعض مظاهر التناص .<br />
2-مظاهر التناص :<br />
2-1- النص الغائب :<br />
يورد "صبري حافظ" مثالا من خلال تجربته الشخصية ، وفحوى هذا المثال أنه لم يطّلع على كتاب "فن الشعر" لأرسطو إلا بعد تجربة ثقافية معيّنة ، ولكنه عندما قرأ هذا الكتاب لم يجد فيه شيئا مثيرا أو جديدا ، لأنّ معظم الأفكار الواردة فيه سبق للناقد أن تعرّف إليها في مطالعاته المختلفة ، ولهذا صرّح صبري حافظ قائلا: « وقد أدهشتني هذه الظاهرة وقتها ، ولم أعرف ساعتها أنني كنت أعيش أحد أبعاد الظاهرة التناصية دون أن أدري . فقد كان كتاب "أرسطو" العظيم بمثابة النص الغائب بالنسبة للكثير من الأعمال النقدية التي قرأتها وتفاعلت معها ، وحاورتها وتأثرت بها . النص الذي ذاب في معظم ما ما قرأت من أعمال نقدية وأصبح من المستحيل فصله عنها أو عزل أفكاره عن سدى أفكارها أو لحمتها ، لأن رؤاه وأحكامه قد صارت نوعا من البديهيات الأساسية التي تصادر عليها معظم الكتابات النقدية التي قرأتها ، وبالتالي قاعدة غير مرئية ينهض عليها البناء النقدي لهذه الكتابات ».<br />
بمعنى أنّ هناك بعض النصوص تتسلل إلى مكوِّناتنا الثقافية من دون أن نمتلك القدرة على تحديد هذا التسلل وطبيعته ، كما أنّ هذه النصوص تكوِّن جانبا من القاعدة التي ننطلق منها في الحكم وتقييم النصوص التي ندرسها أو نتعامل معها إبداعا ونقدا .<br />
2-2- الإحلال والإزاحة :<br />
النص عادة لا ينشأ من فراغ ، ولا يظهر في فراغ ، إنه يظهر في عالم مليء بالنصوص الأخرى ، ومن ثمّة فإنه يحاول الحلول محلّ هذه النصوص أو إزاحتها من مكانها ، وعملية الإحلال لا تبدأ بعد اكتمال النص وإنما تبدأ منذ لحظات تَخَلُّق أجنته الأولى ، وتستمرّ بعد بعد اكتماله وتبلوره . قد يقع نص في ظل نص أو نصوص أخرى ، وقد يتصارع مع بعضها ، وقد يتمكن من الإجهاز على بعضها الآخر ، ولهذا تترك جدليات الإحلال والإزاحة بصماتها على النص ، وهي بصمات هامة توشك معها فاعلية النص المزاح ألا تقلّ في أهميتها وقوة تأثيرها عن فاعلية النص "الحالّ" الذي احتل مكانه أو شغل جزءا من هذا المكان .<br />
2-3- الترسيب :<br />
النص عادة ما ينطوي على مستويات أركيولوجية مختلفة ، على عصور ترسّبت فيه تناصيا الواحد عقب الآخر دون وعي منه أو من مؤلفه ، وتحوّل الكثير من هذه الترسبات إلى مصادرات وبديهيات ومواصفات أدبية يصبح من الصعب إرجاعها إلى مصادرها أو حتى تصوّر أنّ ثمّة مصادر محدّدة لها ، فقد ذابت هذه المصادر كليّة في الأنا التي تتعامل مع النص ، فالنص ينطوي على عدّة عصور ولا بدّ أن تتقبّل أي قراءة له هذه الحقيقة وتنطلق منها .<br />
2- 4- السياق :<br />
بدون وضع النص في سياقٍ يصبح من المستحيل علينا أن نفهمه فهما صحيحا ، وبدون السياق نفسها يتعذّر علينا الحديث عن الترسيب أو النص الغائب أو الإحلال لأنّ هذه المفاهيم تكتسب معناه المحدّد –كالنص تماما- من السياق الذي تظهر فيع وتتعامل معه .<br />
والنص الأدبي لا يعرف واحدية السياق وإنما ينحو دائما إلى طرح مجموعة من السياقات التي قد تتباين وتتعارض أحيانا ، ولكنها في تباينها وتعارضها تتناظر مع مستويات النص وعصوره المختلفة ، كما أنّ السياق هو الذي يحدّد مجال التناص في حدّ ذاته .<br />
2-5-المتلقي :<br />
لم يعد القارئ تلك الذات السلبية والثابتة المدعوّة سلفا وببساطة " المرسل إليه" أي مفعولا به يقع عليه فعل الكتابة ، بل أضحى فاعلا ديناميا يؤثِّر بالنصِّ فيصنع دلالته ، وهكذا أصبحت سيرورة القراءة تُدْرَك كتفاعل مادي محسوس بين نص القاريء ونص الكاتب . فالقراء المتعاقبون هم الذين يحققون العمل الأدبي من خلال قراءاتهم المتعدِّدة والمتجددة له ، وعليه فهم يمنحون النص الأدبي حياة مستمرة ، وبهذا المعنى تصبح القراءة إعادة كتابة ، كتابة النص ، لا استهلاكا سلبيا لمُنْتَجٍ جاهز ونهائي . فالقاريء وهو يمارس فعل القراءة يتناص مع نصوص أخرى مثل الكاتب تماما ، هذه النصوص تحدِّد طبيعة العلاقة التي يقيمها مع النص المقروء .<br />
<br />
<br />
<br />
المحاضرة الرابعة<br />
<br />
السردية<br />
<br />
حظيت القصة بمختلف أنواعها وبخاصة بدراسات كثيرة نشأ منها في عصرنا مبحث يسعى إلى الاستقلال بنفسه أو على الأقل إلى التخصص الدقيق والتميّز عن سائر البحوث التي يستعمل بعض أدواتها ومفاهيمها وطرائقها أحيانا ، وقد عُرِف هذا المبحث الجديد بِ"السردية" أو "علم السّرد" . وشمل في الأصل جميع ما هو متصل بالسّرد ، مع اهتمام خاص بالقصص الأدبي والفني ، ويمكن أن يُعرف هذا "العلم" بكونه فرعا من علم العلامات العام ( السياميائية) . وفيه يجتهد الدارسون لتحليل أنماط التنظيم الداخلي في بعض أنواع النصوص السردية ....<br />
ومن هنا يحسن التمييز الدقيق بين أنواع النصوص ( نص سردي – نص حجاجي- نص وصفي) ، وأنواع الخطاب ( الرواية – الشريط السينمائي – الصور المتحركة) .<br />
وتعود بدايات هذا المبحث الجادة إلى العشرينيات عندما انصرف اهتمام الشكلانيين إلى النصوص النثرية بعد أن كان اهتمامهم منحصرا في النصوص في النصوص الشعرية ، وفي هذا الإطار ظهرت الدراسة العلمية الدقيقة للقصة على يد "فلاديمير بروب" في كتابه "بنية الحكاية العجيبة" الذي أصدره سنة 1928 والذي عُدّ فتحاً مبينا في السردية . فقد خرج فيه صاحبه عن الدراسات العامة الرجراجة وتخصص تخصصا دقيقا في نوع قصصي كان يُعَدُّ في الغالب من أمر العامة لا من شواغل أهل العلم ، ثمّ أنّ "بروب" قد سما في كتابه عن الشواغل التاريخية وغيرها ورام ضبط نوع قصصي محدّد هو الحكايات الشعبية العجيبة وحدّد منهجا معيّنا لدراستها وهو الوصف العلمي القائم على تحديد المكونات ثم الملاحظة فالتحليل فالاستنتاج .<br />
وبعد ثلاثة عقود تُرْجِم هذا العمل إلى الانجليزية سنة 1958 وبعدها إلى الفرنسية، فأثّر هذا البحث تأثيرا عميقا ومباشرا في البحوث القصصية التي جاءت بعده ، وتفاعل معه عالمان هما "كلود ليفي شتراوس" و "رومان جاكبسون" . كما أثّر عمل بروب في مجال تحليل الأساطير وكذلك في دراسة منطق القصة خاصة مع "كلود بريمون" الذي نشر مقالة بعنوان "الرسالة السردية" سنة 1964 ، ثم ظهر سنة1966 كتاب "قريماس" "الدلالة البنيوية" الذي عُدّ أول كتاب يؤسس لعلم العلامات السردي .<br />
ثم تلاحقت الكتب والمقالات لبناء هذا المبحث "علم السرد" وتميزه عن سائر فروع العلوم المتصلة به .<br />
وقد ظهر في دراسة القصة اتجاهان : اتجاه يركز على عمل النص ذاته وعلى طريقة اشتغاله ،أي على نموه وحركته ومآله وهو الاتجاه الذي استند إلى مباحث "بروب".<br />
واتجاه ثان يركّز على وظائف النص خارج عالمه اللغوي أي على اندراجه في تفاعل متبادل مع ما هو خارج النص ، وهذا الاتجاه مثّلَه "باختين" وأعلام آخرون.<br />
وقد بقي هذان الاتجاهان منفصلين لاختلاف الشواغل والمنطلقات والمصطلحات لدى كلّ ممثّل منهما ، وقد حاول "جيرار جينيت" أن يوفق بينهما في كتابه المشهور "صور iii ".<br />
<br />
الآخر ، ولهذا تترك جدليات الإحلال والإزاحة بصماتها على النص ، وهي بصمات هامة توشك معها فاعلية النص المزاح ألا تقلّ في أهميتها وقوة تأثيرها عن فاعلية النص "الحالّ" الذي احتل مكانه أو شغل جزءا من هذا المكان .<br />
2-3- الترسيب :<br />
النص عادة ما ينطوي على مستويات أركيولوجية مختلفة ، على عصور ترسّبت فيه تناصيا الواحد عقب الآخر دون وعي منه أو من مؤلفه ، وتحوّل الكثير من هذه الترسبات إلى مصادرات وبديهيات ومواصفات أدبية يصبح من الصعب إرجاعها إلى مصادرها أو حتى تصوّر أنّ ثمّة مصادر محدّدة لها ، فقد ذابت هذه المصادر كليّة في الأنا التي تتعامل مع النص ، فالنص ينطوي على عدّة عصور ولا بدّ أن تتقبّل أي قراءة له هذه الحقيقة وتنطلق منها .<br />
2- 4- السياق :<br />
بدون وضع النص في سياقٍ يصبح من المستحيل علينا أن نفهمه فهما صحيحا ، وبدون السياق نفسها يتعذّر علينا الحديث عن الترسيب أو النص الغائب أو الإحلال لأنّ هذه المفاهيم تكتسب معناه المحدّد –كالنص تماما- من السياق الذي تظهر فيع وتتعامل معه .<br />
والنص الأدبي لا يعرف واحدية السياق وإنما ينحو دائما إلى طرح مجموعة من السياقات التي قد تتباين وتتعارض أحيانا ، ولكنها في تباينها وتعارضها تتناظر مع مستويات النص وعصوره المختلفة ، كما أنّ السياق هو الذي يحدّد مجال التناص في حدّ ذاته .<br />
2-5-المتلقي :<br />
لم يعد القارئ تلك الذات السلبية والثابتة المدعوّة سلفا وببساطة " المرسل إليه" أي مفعولا به يقع عليه فعل الكتابة ، بل أضحى فاعلا ديناميا يؤثِّر بالنصِّ فيصنع دلالته ، وهكذا أصبحت سيرورة القراءة تُدْرَك كتفاعل مادي محسوس بين نص القاريء ونص الكاتب . فالقراء المتعاقبون هم الذين يحققون العمل الأدبي من خلال قراءاتهم المتعدِّدة والمتجددة له ، وعليه فهم يمنحون النص الأدبي حياة مستمرة ، وبهذا المعنى تصبح القراءة إعادة كتابة ، كتابة النص ، لا استهلاكا سلبيا لمُنْتَجٍ جاهز ونهائي . فالقاريء وهو يمارس فعل القراءة يتناص مع نصوص أخرى مثل الكاتب تماما ، هذه النصوص تحدِّد طبيعة العلاقة التي يقيمها مع النص المقروء . (منقول) </div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-24666456006381351412015-02-14T03:31:00.000-08:002015-02-14T03:31:05.570-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px;">
-كليلة ودمنة دراسة نقدية - منقول</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px;">
مما لاشك فيه أن كتاب كليلة ودمنة هو أحد الكتب التي حظيت بالانتشار وديمومة التلقي والقراءة عبر توالي العصور ، مثله مثل المقامات الرائدة ( مقامات الهمذاني والحريري ) وألف ليلة وليلة ورسالة الغفران والحكايات الشعبية .<br />إن هذه النصوص الأدبية تجاوزت كينونتها الزمانية والمكانية إلى فضاء إنساني رحب تعالى على الخصوصية الضيقة . ولكل نص من تلك النصوص سماته التي عززت انتشاره وديمومته عبر التلقي المتنامي . إلا أن ذلك لا يعني ، بالضرورة ، تنوعا في أشكال تلقيها ، و إن تعددت القراءات ؛ لأن القراءة الغنية والمتنوعة مرتبطة بنوعية القارئ وموسوعته الثقافية وخلفياته النصية والأدوات المنهجية التي يتسلح بها ، وليس بالموضوع المتلقى فقط. وفي أشكال تلقي كليلة ودمنة ، موضوع بحثنا ما يوضح ذلك .<br />نشير بدءا إلى أن ديمومة تلقي كتاب كليلة ودمنة ، وحضوره المتعالي يرجع إلى مجموعة من الخصائص نجملها بما يلي :<br />1 ـ يرتبط الكتاب بالحكاية الشعبية ، و إن ظهر مكتوبا لدى العرب في القرن الثاني ا لهجري . لأن الحكاية المضمنة فيه هي تراث إنساني تمتد جذوره في الثقافة الإنسانية الفولكلورية الهندية واليونانية والفارسية والعربية . وهذه الخاصية تثير الجدل بشكل دائم حول جذورالحكاية المضمنة وأصولها ومؤلفها ومدلولاتها .<br />2ـ يعد كتاب كليلة ودمنة من النصوص المركبة ، فتنظيمه قائم على الاستطراد من حكاية إلى أخرى عبر التوالد المفضي إلى نص جديد قابل ، هو بدوره ، إلى توالد آخر، مثله مثل حكايات ألف ليلة وليلة في التراث الإنساني .<br />3ـ يقرأ كتاب كليلة ودمنة بوصفه نصا متكاملا ، تتداخل أجزاؤه لتغذي البؤرة الدلالية المركزية عبر التنويع والإبدال . كما يمكن أن يقرأ نصوصا منفصلة ومستقلة ومبتورة عن سياقها النصي لتغذي دلالة جزئية خاصة بها .</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
4 ـ إن فكرة الكتاب المتمثلة في الصراع بين الفوق (دبشليم الملك ) والتحت ( بيدبا الفيلسوف ) ومعالجتها بالتماثل المتكافئ ، أي قبول دبشليم الملك بنصيحة بيدبا وتنازله عن استبداده والأخذ بدور بيدبا في الحياة السياسية ، مما حقق توازيا في العلاقة بين الفوق والتحت ، إن هذه الفكرة هي فكرة متعالية على الزمان والمكان والثقافة المجتمعية الخاصة بشعب من الشعوب ، مما يجعل منها فكرة إنسانية شاملة ومخترقة لأي فضاء يحاول تحديدها و تأ طيرها .<br />إن تلك العناصر المشكلة لديمومة النص و عالميته ، ليصبح جزءا من التراث الإنساني وليس العربي أو الهندي أو الفارسي ، دفعت به إ لى التلقي بنمط واحد من القراءة تناسخ عبر القراء كتابا أو نقادا أو قراء مطالعين ، مع الاحتفاظ ببعض التمايز المحدود لكل قراءة . وسنوضح فيما يلي ذلك النمط من القراءة :<br />إن أغلب القراءات التي تطرقت إلى كليلة ودمنةـ قديما (1) وحديثا (2) ـ تلقت النص بوصفه مجموعة من الحكايات الشعبية ، بخاصة حكايات الحيوان ، أي بوصفه مجموعة من النصوص المنفصلة عن بعضها . ويجب قراءتها في البعد الرمزي لما ينطق به الحيوان في مقابل الدلالة الإنسانية .<br />يضاف إلى ذلك أ ن تلك القراءات بحثت ـ إيجازا أو تفصيلا ـ عن الأصول الهندية أو الفارسية أ و العربية لتلك الحكايات المنفصلة . وهو ترهين غير مجد ٍ؛ لأن الحكاية الشعبية هي ثقافة إنسانية شاملة ، ولا يمكن تأصيلها و إن توافرت القرائن البيئية والاجتماعية والجغرافية ، بحكم التناقل الشفوي وتشابه الأصول البشرية البدئية وطريقة توالد الحكايات . وحتى إ ن توصل باحث (3) إلى القطع ـ كما يرى ـ بأصل المادة الحكائية في كليلة ودمنة ، فإ ن القراءة بذلك المنحى ترهن المادة الحكائية بزمن ما ، وتغلقها على أصولها ؛ مما يمنع انفتاح النص على الحاضر والمســـتقـبــل والتلقي المتعدد الدلالات والحمولات التي تولد نصوصا جديدة .</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
وفي إطار هذا الشكل الوصفي في التلقي هناك القراءة السلبية المغلقة التي ظهرت شذراتها في كتب الموسوعيين والمصنفين العرب أمثال ابن النديم والحاجي خليفة وغيرهما . فقد رأوا في قصص كليلة ودمنة خرقا للمعيار الاعتباري الذي يجب أن يأخذ به المتن القصصي ، انطلاقا من أن الفن القصصي في العصر الإسلامي نشأ في بدايته في المساجد والحلقات الدينية بغاية اعتبارية . ويقوم على الإسناد الخبري والتوثيق التاريخي . ومع ظهور فئة القاصين المحدثين ابتعد القص عن الاعتبار الديني والأخلاقي وأخذ بأسباب المتعة والتسلية ،وتخلى عن الإسناد ومقولة الصدق ؛ مما دفع ا لخاصة إلى مقاومته وملاحقة القاصين ، واعتبار تلك القصص فنا هابــطا غايته عقل العامة والجمهــــور العريض ؛ مما أفسد الأخلاق وأســـاء إلى الدين (4) . وفي هذا النسق الثقافي قال ابن النديم وكان من يعمل الأسمار والخرافت على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة منهم عبد الله بن المقفع ) (5) .</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
وبتوسع أكبر في التوصيف ، مع التقييم الإيجابي لكليلة ودمنة بعد الانعتاق من تقييم النص على أساس قيم الاعتبار الديني ، نقرأ في الدراسات المعاصرة موقفا ينم عن الإعجاب بالنص ، ولكنه إ عجاب لا يخرج عن عباءة التوصيف ليصب في التحليل والتأويل ، و إن كانت تلك الدراسات تحض ـ لفظيا ـ بشكل دائم على ضرورة القراءة التأويلية . ونمثل لذلك بقراءة عزة غنام ( 6 ) التي نرصدها من خلال المحطات الآتية :<br />• رصدت الدراسة المواقف والآراء المتصلة بتأصيل الحكايات المضمنة ( حكايات الحيوان ) دون أن تبحث عن موقف من ذلك ، ودون الانتباه إلى أن تلك الحكايات المضمنة هي ليست أكثر من تنويع و إبدال للقصة الإطار .<br />• الإشارة إلى أن حكايات الحيوان في كليلة ودمنة جاءت على لسان الحيوان بديلا عن تمثيلها الإنساني تجنبا لقمع الحاكم وبطشه . مما يعني أن التأويل لا يتناول ـ في رأيها ـ الحكاية الإطار وما فيها من رموز دلالية ، مع العلم أن تجنب بطش الحاكم يرتبط بتفسير القصة الإطار .<br />• الإشارة إلى أن كليلة ودمنة قصة توالدية تقوم على التركيب الحكائي . وهذه رؤية إيجابية إلا أنها لم تعط ثمارها ؛ لأنها لم تتجاوز توصيف الإطار التنظيمي للنص إلى القراءة التأويلية الكلية له .<br />• الإشادة بالدور الريادي الذي تكتسبه كليلة ودمنة بوصفها قصة رمزية متكاملة على مستوى النثر العربي المنقول ، آخذة ـ الدراسة ـ بمقولة النقل مع التحفظ بحدوده ومستوياته .<br />إن هذه القراءة هي قراءة وصفية إيجابية ؛ ولكنها مغلقة أيضا على الحكاية المضمنة ، وتسير بالتوازي مع القراءات التي تقدم عرضا لمحتويات الكتاب وأهميته . أما الحض ـ<br />المنصوص عليه في الدراسة ـ على التأويل ، فهو لا يتجاوز الحض اللفظي ، لأننا لا نرى ما يجسده فعلا منجزا. ومبرر غيابه أنه لو أنجز سيكون من النتائج البدهية باعتباره يقصد سلوك الحيوانات وأقوالها في المقابل الإنساني ، وهذا ليس بجديد ؛ لأن كل حكايات الحيوان في الثقافة تحمل تمثيلا رمزيا للتحقق في عالم الإنسان.</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
إن ماهو ملفت للانتباه في أشكال تلقي نص ابن المقفع التي أشرنا إليها أو التي لم نفصل في طبيعتها أنها جميعا تصرح بضرورة القراءة التأ ويلية . ويقصد من وراء ذلك ، تحديدا ، أقوال الحيوانات وسلوكها باعتبار ذلك بديلا رمزيا للفعل الإنساني . وفي ذلك مجموعة من الملاحظات<br />1 ـ إننا لم نقع على دراسة تنجز ذلك التأويل للسبب المذكور سابقا . يضاف إلى ذلك أن إنجاز تأويل للحكاية المضمنة ينم عن خطأ فادح في فهم النص وتلقيه ؛ لأنه يفصل الحكاية المضمنة عن سياقها النصي المتكامل ، بوصفها جزءا إبداليا ، ويضعنا في سياق تأويلي للمدلول الرمزي في حكاية منفصلة ومفردة ، وبالتالي فإن التأويل لا يحمل خصوصية نص ابن المقفع بوصفه نصا واحدا . ونكون بذلك أمام تفسير للرموز الحيوانية بشكل عام ، إن كانت في كليلة ودمنة أو في غيرها ، وقراءة مسطحة لا تنتج نصا موازيا لنص كليلة ودمنة . كما أنها ستكون قراءة هيمنت عليها فكرة سابقة على النص للاعتقاد بأن كليلة ودمنة قصة جاءت على لسان الحيوان . وهذا خطأ شائع في فهم النص .<br />2 ـ إن تلك القراءات جاءت قراءات كسولة ، لم تخرج في مجمل آرائها وملاحظاتها عن القراءة الظاهرة للنص ، إن كان من حيث فكرة التركيب الحكائي أو من حيث رمزية حكاية الحيوان . ولم تستطع الانتباه إلى علامات ظاهرة تحتاج إلى التأويل ، إن كانت تلك العلامات مخلة في البناء التنظيمي الخارجي ، مثل موقع مقدمة ابن المقفع في الكتاب ، أو إن كانت تلك العلامات ذات وظيفة دلالية على مستوى البناء الداخلي كالمفارقات الزمنية الواقعة بين زمن القصة (قصة دخول ذي القرنين بلاد الهند) وزمن الحكي . ولذلك انصب اهتمام القراءات الوصفية على أمرين لا ثالث لهما . الأول تأصيل النص تاريخيا ، والثاني تأويل الرموز الحيوانية في مقابلها الإنساني .<br />وكان من نتائج ذلك القصور أن تصريح ابن المقفع في مقدمته حول ضرورة فهم نصه والتمعن فيه لم يتم تلقيه كما أراده ابن المقفع حتى الآن ، وبقي سر ابن المقفع مغلقا ، ولم يخرج إلى النور بعد .<br />يقول ابن المقفع : ( ينبغي للناظر في هذا الكتاب ومقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إ لى أربعة أقسام وأغراض . إ حداها ما قصد من وضعه على ألسن البهائم غير الناطقة ليتسارع إلى قراءته واقتنائه أهل الهزل من الشبان فيستميل به قلوبهم ، ولأن هذا هو الغرض با لنوادر من حيل الحيوانات . والثاني : إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان والأصباغ ليكون أنسا لقلوب الملوك ، ويكون حرصهم أشد للنزهة في تلك الصور . والثالث : أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتسابه ولا يبطل فيخلـُــق على مرور الأيام ، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا . والغرض الرابع هو الأقصى مخصوص بالفيلسوف خاصة ) (7)</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
يصنف التصريح القراء إ لى أربعة أنماط نلاحظها على الشكل الآتي :</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
●النمط الأول ( القارئ الأول )<br />" ما قــُــصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة من مسارعة أهل الهزل من الشبان إلى قراءته فتستمال به قلوبهم ؛ لأن هذا هو الغرض بالنوادر من حيل الحيوان "<br />يحدد ابن المقفـــع القارئ الأول ـ الرتبة هنا ليست قيمة ـ بأهل الهزل من الشبان ، وليس كل الشبان أيضا ، و إنما أهل الهزل منهم ؛ لأنهم متسارعون في القراءة بقرينة لفظة " مسارعة " الواردة في النص . فهم غير قادرين على القراءة المتأنية التي تنم على الصبر و إعمال العقل والفكر . وهؤلاء تستميل قلوبهم ما وضعه على " ألسنة البهائم غير الناطقة " لما فيه من النوادر من حيل الحيوانات .<br />ولفهم القول يجب أن نسأل : ماذا وضع على ألسنة البهائم غير الناطقة ؟ والجواب أنه وضع البديل الرمزي للتمثل الإنساني . وأهل الهزل من الشبان هم الذين سيهتمون بتأويل ذلك البديل الرمزي الوارد في الحكايات المضمنة ( حكايات الحيوان ) المنزوعة من سياقها النصي والمجردة من وظيفتها الإبدالية . ويؤكد ذلك ما جاء في أسباب وضع كتاب " البنشاتنترا " و هو ( أن أحد ملوك الهند العظام كان له ثلاثة أبناء في منتهى البلادة ، فلما احتار في أمر تعليمهم أشاروا عليه بتسليمهم إ لى برهمي يدعى " وشنو شرما " فهو كفيل بذلك ، فأشرف البرهمي على تعلمهم ووضع لهم هذا الكتاب ليحببهم في المعرفة بطريقة مشوقة ) (8) ونقرأ من النص أن الأستاذ البرهمي وضع كتابا على ألسنة الحيوانات ليحبب التلميذ البليد في العلم والمعرفة . وهذا التلميذ هو ذاته القارئ الأول عند ابن المقفع ، وهو القارئ المتسارع الذي سينتبه إلى البديل الرمزي لسلوك الحيوان وقوله . أي أنه سيهتم بتأويل ما يرد في حكايات الحيوان وتمثلها الإنساني .<br />وهذا ما فعلته القراءات السابقة لكليلة ودمنة ،كما لاحظنا حتى الآن .أي أ ننا أمام قراءات لم تتعد القارئ الأول ، كما حدده ابن المقفع . وقرينة ذلك أن ابن المقفع في جزئه الأول من التصريح ذكر قصص الحيوان تحديدا " ما وضع على ألسنة البهائم ... الغرض بالنوادر من<br />حيل الحيوانات " فهو قد نص على نطق الحيوان بمقابله الإنساني ، كما نص على الحكاية المضمنة .</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
• النمط الثاني ( القارئ الثاني )<br />" والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنسا لقلوب الملوك ... ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور " . يقصد بالغرض الثاني الملوك بغاية النزهة في الصور التخييلية للحيوانات . ولكنه لايريد الملوك كلهم ، و إنما الباحثين عن التسلية والمسرة والمتعة ، وليس الباحثين عن التفكير والتأمل . فالنمط الأول من الملوك لا يؤمنون بدور المعرفة والحوار ، و إنما يقلبون الكتاب بحثا عن الصور التخييلية . وهم غير مقصودين بالفكرة العامة للكتاب أو ما سميناه بالتماثل المتكافئ الناتج من طبيعة الصراع بين دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف . فهم لايشبهون دبشليم الملك ، لأن من سمات خطاب دبشليم التأمل والتفكيـر . وهذا ما أحاله في أكثر من موقع إلى تمثل أقوا ل الحكماء كما دفعه إلى التماهي ببيدبا إذ أخذ بنصيحته وطلب منه تأ ليف الكتاب .</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
• النمط الثالث ( القارئ الثالث )<br />" الثالث أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر ا نتساخه ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام . ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا " . في هذا الغرض ـ وتأكيدا لمفهوم القارئ الثاني ـ يربط بين الملوك والسوقة من حيث النزهة في الصور التخييلية لألوان الحيوان ، مما يدفع إلى ا نتساخه وبقائه حيا متداولا .</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
●النمط الرابع ( القارئ الرابع )<br />"والغرض الرابع هو الأقصى المخصوص بالفيلسوف خاصة " . يحدد ابن المقفع هنا نوعية القارئ بالفيلسوف ، ويؤكد على الخصوصية " مخصوص بالفيلسوف خاصة " ولا يصرح بالفضاء القابل للتأويل ، كما فعل في الأغراض الثلاثة الأول ؛ ففي الأول حدده بما وضع على ألسنة البهائم ، وفي ا لثاني والثالث حدده بالصور التخييلية ، أما في الرابع فقال الغرض الأقصى . وهو فضاء إشاري لايكشف عن نفسه إلا بالقراءة التأويلية . ولايستطيع ابن المقفع التصريح به ؛ لأنه سره والجوهر الذي حاول بوسائل متعددة ستره وتغطيته ، و إيهامنا بغيره لحماية نفسه وديمومة خطابه . إلا أنه في الوقت ذاته دفع إلى قراءته مرات عدة . ولكن من ذا الذي يستطيع التوصل إليه ؟ لقد خصه ابن المقفع بصفة الفيلسوف المتأمل ، إنه المؤول الذي يستطيع إ نجاز نص جديد ، و إنه الحاكم الذي يستطيع أن يتماهى مع المثقف ، كما تماهى دبشليم الملك مع بيدبا الفيلسوف في معادلة ( الفوق × التحت ) لتكون العلاقة في إطار التماثل المتكافئ المؤدي إلى العدالة الاجتماعية .</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-bottom: 6px; margin-top: 6px;">
نحن ، إذاً ، أمام أربعة أنماط من القراءة تتسق تراتبيا على الشكل الآتي :<br />1 ـ قراءة الفلاسفة والملوك المتماثلين معهم<br />2 ـ قراءة أهل الهزل من الشبان .<br />3 ـ قراءة الملوك الباحثين عن التنزه في الصور التخييلية<br />4ـ قراءة الملوك والسوقة المهتمين با قتنائه ونسخه.</div>
<div style="background-color: white; color: #141823; display: inline; font-family: 'lucida grande', tahoma, verdana, arial, sans-serif; font-size: 15px; line-height: 20.700000762939453px; margin-top: 6px;">
وفق ذلك فإن التلقي السابق لنص ابن المقفع ـ على الرغم من تأكيد الدارسين على ضرورة التأويل ـ ينتهي في القارئ الثاني " أهل الهزل من الشبان " ظنا أن المراد بالتأويل ما وضع على ألسنة البهائم قصد التماثل مع البديل الإنساني لإنجاز الحكمة . ولكن ابن المقفع قال : إن هذا مخصوص بأهل الهزل . ولم ينتبه متلقو النص إلى ذلك ، وخلطوا بين القارئ الثاني والقارئ الأول ( الفيلسوف ) ونسبوا إلى القارئ الأول تفسير ما وضع على ألسنة البهائم باعتباره حكمة رمزية يجب تفسيرها ، وجردوا القارئ الثاني من تلك المهمة منجرفين وراء كلمة " الهزل " ومدلولها السلبي .<br />المعنى الأقصى<br />قبل أن نتلمس المعنى الأقصى علينا التعرف إلى موقعه أولا . وفي ذلك نقول إن كتاب كليلة ودمنة ينطوي بشكل عام ، وبعيدا عن التفصيل ـ لأن المقام لا يسمح به ـ على مستويين سرديين . الأول الحكاية الأم أو ما يسمى بالحكاية الإطار . والثاني الحكاية المضمنة أو المفرعة ، وتتمثل بالحكايات الداخلية ، وتسمى بحكايات الحيوان وإن لم تجر جميعها على ألسنة الحيوانات. ومن خلال قراءتنا السابقة لقراءات كليلة ودمنة وملاحظة مستويات القراءة عند ابن المقفع يتبين لنا ضرورة استبعاد الحكاية المضمنة من التأويل الطامح إلى المعنى الأقصى إلا في إطار الحديث عن التنويع والإبدال بوصفهما وظيفتين منوطتين بالحكاية المضمنة<br />في الحكاية الأم حدث تاريخي تخييلي يعود إلى فتوحات ذي القرنين لبلاد الهند ثم تعيين دبشليم ملكا على البلاد من قبل الشعب الهندي الذي طرد الحاكم المعين من قبل الإسكندر، ولكن الملك دبشليم طغى في حكمه وظلم الناس واستبد برأيه ، مما دفع الفيلسوف البرهمي المعاصر له بيدبا إلى العمل على الدخول عليه لنصحه وتقويم سلوكه مع عامة الناس . وحين ينصحه تلامذته بالعدول عن ذلك خوفا عليه من بطش دبشليم يرى في رأيهم جبنا يجب أن يبتعد عنه الفيلسوف الحكيم ، لما يتحلى من ثقافة ووعي وإقدام وتضحية وواجب أخلاقي تجاه عامة الناس . وحين يقدم على الملك دبشليم يغضب الأخير ويأمر بسجنه ثم قتله . وحين يعيد التفكير في كلام بيدبا يندم على تسرعه في الحكم ويعفو عنه ويقربه منه بل ويشاركه بالحكم من خلال وضعه كتاب كليلة ودمنة.<br />إن النص التخييلي الذي أنشأه ابن المقفع ولم يلتفت إليه النقاد والقراء من بعدهم ، وهو النص المتمثل بحكاية دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف غير موجود في نص البنشاتنترا الهندي ، كما أن فكرته لم يتطرق إليها المؤلَف . يضاف إلى ذلك أن الحض على التأويل غير مصرح به أيضا. ولأن كل ذلك من اختراع ابن المقفع فإن خطاب التأويل الذي يحض عليه مرتبط بنصه التخييلي المحمل بدلالات العلاقة بين المثقف والسلطة ؛ تلك العلاقة المشوبة تاريخيا بالأخذ والرد والقبول والرفض والتسامح والملاحقة والقتل . وهو الثمن الذي دفعه ابن المقفع على يد قاتله والي البصرة ؛ لأن الخليفة المنصور وصل إلى المعنى الأقصى في نص ابن المقفع التخييلي وأدرك أن ابن المقفع لا يكتب قصصا تدور على ألسنة الحيوان وإنما يكتب في أدبيات السياسة والسلطة ، ويحض المثقف على القيام بواجبه تجاه الناس في مناقشة السلطان ومحاسبته وحثه على العدل في شؤون الرعية .</div>
</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-38363539826359833942015-02-12T06:28:00.001-08:002015-02-12T06:28:50.530-08:00<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<br />
1- المناهج البنيوية : ( دراسة النصّ الشعري )<br />
الأسلوبية : يمكن أن نعرّف الأسلوبيّة بأنّها علم لغويّ لسانيّ لم ينشأ في الأصل داخل علوم الأدب بل انتقل إليها بما هو تطبيق لعلوم اللسان على الخطاب الأدبي ، لذلك عدّت الأسلوبيّة شأنها في ذلك شأن اللسانيات التطبيقيّة من المناهج الوصفية التحليلية التي تدرس الظاهرة الأدبيّة ومميّزاتها اللغويّة ومقوّماتها الجماليّة القابلة للوصف والتحليل من زاوية نظر لسانيّة. و يمكن أن نعود إلى المصادر البلاغيّة القديمة التي اهتمّت ببلاغة النصّ و الخطاب و خاصّة نظرية النظم عند الجرجاني و سائر مصنّفات البلاغة السياقية ( مفتاح العلوم ) وإلى مفهوم العدول الكمّي و النوعي بما هو عصب الدراسة الأسلوبية في مصنّفات علوم القرآن عند الزركشي و السيوطي و كتب التفسير لنستخلص منها جذور التفكير الأسلوبي في الدرس البلاغي العربي القديم ) .<br />
<br />
أـ أهداف الدراسة الأسلوبيّة :<br />
جاءت الأبحاث الأسلوبية في أصولها البنيوية ( دراسة الشعر عند ريمون جاكوبسون ) للإجابة عن السؤال المنهجي الكبير الذي طرحه جاكوبسون نفسه و أطلق من خلاله مصطلح الأدبية ( littérarité) وهو : ما الذي يجعل من النصّ الأدبي أدبا ؟ ومن هذا المنطلق المنهجي فإنّ الدراسة الأسلوبيّة البنيويّة ترمي إلى دراسة النصّ دراسة نحويّة تركيبيّة في مجال الشعر على وجه الخصوص وذلك لإظهار القيمة الأسلوبيّة التي تتميّز بها نحوية الشعر من سائر ضروب الكلام ، ولإبراز أو لمعرفة السمات الأسلوبيّة والبلاغيّة المميّزة للنصّ ،و هي من نفس المنطلق تعمل على خدمة النقد لأنّها تسبقه فتيسّر له خطوات الحكم على النصّ.<br />
ب ـ وسائل إجراء الدراسة الأسلوبيّة :<br />
<br />
تستخدم الدراسة الأسلوبيّة عند طائفة من الأسلوبيين طرائق التحليل اللساني للظواهر اللغويّة فتقف على الظواهر المتكرّرة في النصّ أو في الجنس إذا كانت تعتني بأسلوب الجنس الأدبي ( السمات المميّزة – العدول الكمّي و النوعي )وتنظر مثلا في نظام الأفعال و استعمال المشتقّات و حروف الجرّ والمركّبات النعتيّة والحاليّة وغيرها ممّا يمكن أن نجده في دراسات كثيرة انتهجت الطريقة الأسلوبيّة ،واهتمّت بهياكل الكلام في المسموعات أو المرئيات . والأمثلة على تطبيق هذا المنهج كثيرة لعلّ من أهمّها خصائص الأسلوب في الشوقيات لمحمّد الهادي الطرابلسي ، وهي إذ تهتمّ بهذه المستويات اللغويّة لا تسعى إلى ربطها بظروف منشئها أو لا تحكم على النصّ أو له التزاما بالمبدأ اللساني القائل بأنّ الدراسة اللسانية دراسة وصفيّة غير معيارية ، و هي بذلك تتميّز من النقد و البلاغة لأنّهما علمان قائمان على التثمن والتقويم والتعيير والحكم ،وإن كان عدد من الأسلوبيين البنيويين مثل مايكل ريفاتار لا يتّفقون و رواد الأسلوبيّة و خاصّة جاكوبسون في اهتمامه الكبير بالقيمة النحويّة للظاهرة الأسلوبيّة و يدرجون ضمن وسائل الدراسة الأسلوبيّة عناصر أخرى تتّصل بردود فعل القارئ ومنها مثلا مفهوم المفاجأة المكبوتة أو المفاجأة الأسلوبيّة .<br />
<br />
<br />
و تستخدم الدراسة الأسلوبيّة عند طائفة أخرى مسالك أخرى غير نحويّة منها دراسة الصور و الرموز . و لعلّ هذا المنهج البنيوي المنزع يلائم النصوص الأدبية ذات الصبغة الغنائية لنجاعة أدواته في تحليل الجوانب الموسيقية الإيقاعية، و لعلّه يلائم كذلك الدراسات التي تهتمّ بالبديع في كتابة النصّ القديم ، و يمكن أن نعتمد في إجراء هذا المنهج الدراسات التالية :<br />
<br />
<br />
- المراجع القديمة<br />
<br />
<br />
-عبد القاهر الجرجاني :<br />
<br />
<br />
أسرار البلاغة ( في علاقة نظرية النظم بالدراسات الأسلوبية )<br />
-السيوطي جلال الدين :<br />
الإتقان في علوم القرآن<br />
معترك الأقران في إعجاز القرآن<br />
المراجع الحديثة<br />
- سعد مصلوح:<br />
<br />
الأسلوب : دراسة لغويّة إحصائيّة دار البحوث العلمية الكويت 1980 ، منشورات النادي الأدبي الثقافي جدّة 1991 .<br />
في النصّ الأدبي ، دراسة أسلوبيّة إحصائيّة ، النادي الأدبي الثقافي بجدّة 1991 .<br />
في البلاغة العربيّة والأسلوبيات اللسانيّة آفاق جديدة مجلس النشر العلمي ،جامعة الكويت 2003 .<br />
- عبد الله صولة:<br />
الأسلوبية الذاتيّة أو النشوئيّة ، مجلّة فصول عدد خاصّ ؤ بالأسلوبية مجلّد 5 العدد 1 ، 1984 .<br />
فكرة العدول في الدراسات الأسلوبيّة المعاصرة ،مجلّة دراسات لسانيّة سيميائيّة أدبية عدد 1 فاس 1987 .<br />
- محمد عزّام : الأسلوبية منهجا نقديّا وزارة الثقافة دمشق 1989 .<br />
<br />
<br />
1-مكرّر- المناهج البنيوية : (الدراسات السردية )<br />
<br />
<br />
هي منظومة المناهج التي تساعد الباحث على دراسة الخطاب الأدبي دراسة نسقيّة داخليّة بصرف النظر عن صلته بمنتجه و عن سياقه الخارجي و عن متلقّيه . و هي مناهج تستخدم أساسا لدراسة الخطاب السردي خاّصة و تقسّمه مستويين كبيرين : الخبر أو الحكاية أو المضمون و الخطاب أو المظهر اللغوي و الشكلي . ويمكن تطبيق هذه المناهج على أنظمة السرد القديمة و الحديثة ( القصص المثلي – أيّام العرب – المقامات – أدب السير – الأساطير – الرواية – القصّة القصيرة – السيرة الذاتية ). و تقدّم هذه المناهج للباحث الأدوات الإجرائية الضرورية لدراسة المكان و الزمان و أنماط الرؤية أو وجهات نظر الراوي و المروي له و أنظمة الأعمال و الفواعل العلاقات بينها و الحركة السردية و غيرها ممّا يمكن العودة إليه في المراجع التالية<br />
<br />
- عبد الله ،إبراهيم: السرديّة العربيّة ، المركز الثقافي العربي بيروت 1992 .<br />
- جمال الدين بن الشيخ :الشعرية العربية في طبعات مختلفة ( تستعمل الشعرية فى دلالتها الأرسطية "البوييطيقا " و هي القواعد المتحكّمة في صناعة الأقاويل الشعرية ).<br />
- تزيفتان طودوروف : الشعريّة تعريب شكري المبخوت.دار توبقال للنشر الدار البيضاء 1987 .<br />
نظرية الشكلانيين الروس تعريب إبراهيم الخطيب مؤسّسة الأبحاث العربيّة بيروت 1983 .<br />
- جيرار جينيت : أشكال 1-2-3 .في طبعات مختلفة .<br />
عودة إلى خطاب الحكاية<br />
- محمّد عزّام : تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقديّة الحديثة ، منشورات اتّحاد الكتّاب دمشق 2000 .<br />
- محمّد القاضي : تحليل النصّ السردي دار الجنوب للنشر تونس 1997 .<br />
الخبر في الأدب العربي ،دراسة في السرديّة العربيّة ، كليّة الآداب تونس<br />
و دار الغرب الإسلامي بيروت 1998<br />
<br />
2- المنهج التحليلي النفساني :<br />
تتراكم المعارف النظرية المتّصلة بهذا المنهج من سيقمان فرويد الذي طبّق المفاهيم النفسية الأساس على نصوص أدبية من قبيل مسرحية الملك أوديب و هاملت إلى جاك لاكان والرسالة المسروقة لإدقارآلان بو و قد سعى من خلال دراستها إلى تطبيق اللسانيات التوليدية على نصّ أدبي محلّلا ما يتضمّنه النصّ من أنظمة رمزية دالّة على حركة اللاوعي الجماعي و على العلاقات الذاتية المتبادلة ، و ربط لاكان بين فكر فرويد النظري و الإنتاج الأدبي الذي يسمح بفهم أحلام اليقظة في الكتابة المتخيّلة ، إلى نويل بلمون الذي وضع الأسس العلمية لدراسة لاوعي النصّ . و تستند هذه المناهج إلى جملة من المفاهيم في دراسة العوالم الشعريّة : منها العناصر الأربعة الماء و الهواء و التراب و النار و تستغلّ أنظمتها الرمزية في دراسة المكان في الشعر أو الأجناس السردية – و الزمن الشعري – والمفارقة في النصّ الشعري –و في فهم تمثّل الشعراء للعوالم المتخيّلة ( المرأة في الشعر- الغربة و الحنين - "الأنا " في الشعر أو الذات في الشعر... التعويض – التصعيد الفنّي – أنظمة اللغة المبنية على اللاوعي الفردي و الجمعي ) و يمكن أن يساعد هذا المنهج على دراسة الموضوعات الشعرية ذات الصلة بقضايا التصعيد الفنيّ كشعر الشكوى و الهجاء و الرثاء ، أو الدراسات المتّصلة بالتعويض و النرجسيّة كالسيرة الذاتية و كتابة الماضي وأدب الذكرى . وفي بعض الدراسات العربيّة التي سعت إلى الاستفادة من المنهج النفساني في صيغته الأولى مع سيقمون فرويد أو في صيغه المتأخّرة و خاصّة صيغة كارل قوستاف يونغ ما يمكن أن نعدّه نماذج ناجحة في نقل الأصول النظرية و في تطبيقها على النصوص الأدبيّة العربيّة ،و يمكن أن نذكر في هذا السياق على سبيل التمثيل لا الحصر تحليل مصطفى ناصف للصورة الأدبيّة في الشعر العربي ، فقد ميّز ناصف ببراعة نادرة الخيال البياني أو التركيبي أو الصناعي من الخيال الشعري أو الإبداعي ،بين الأدبين القديم و الحديث في الاتجاه الإحيائي و الرومانسي ، وسعى إلى النظر في نماذج من الشعر القديم و الحديث من خلال استغلال الطراز النفساني على وجه لا يخلو من نفس تأصيلي لافت للانتباه ، وفي الفصل السادس من كتابه الصورة الأدبيّة تحليل تأليفي رصين لإحدى قصائد إلياس أبو شيكة وازن فيه الباحث بين نظام الصور في القصيد و نظام الرموز التي تحيل عليها و منها على وجه التخصيص إحالة هروب الفتاة التي يتحدّث عنها الشاعر إلى البحر على رغبة الشاعر في العودة إلى الرحم باعتباره حلما من أحلام الفرد بإزاء قيم الجماعة (مصطفى ناصف الصورة الأدبيّة منشورات دار الأندلس د-ت ص ص 177- 180 ).<br />
و قد كان مصطفى ناصف على وعي تامّ بحدود هذا المنهج فختم تحليله بقوله :" و أنا حريص على ألاّ يحيل التطبيق النصّ الأدبي إلى وثيقة تخضع طائعة أو كارهة لنظريات معيّنة فإنّ النص ّدائما ذو كيان فردي و إضافة جديدة و كثيرا ما لا ينتهي إلى نقطة حاسمة في أمر التطبيق ولن يؤدّي إلى زعزعة طائفة من المثل الأولى للتجربة " (م.ن ص 180 )<br />
و من أهمّ المراجع الممكن اعتمادها :<br />
- قاستون باشلار : جماليات المكان تعريب غالب هالسا المؤسّسة الجامعيّة للدراسات و التوزيع و النشر بيروت 1987 .<br />
شاعريّة أحلام اليقظة تعريب جورج سعد ، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات و التوزيع و النشر بيروت 1991 .<br />
-عبد القادر فيدوخ : الاتجاه النفسي في نقد الشعر ، دار الصفاء للنشر و التوزيع عمّان 2009 .<br />
- مدخل إلى مناهج النقد الأدبي : تعريب رضوان ظاظا ، سلسلة عالم المعرفة الكويت عدد221 لسنة 1997 ( مقال النقد التحليلي - النفسي ص ص 49- 94 و مقال النقد الموضوعاتي ص ص 95- 142 ) .<br />
- مصطفى سويف : الأسس النفسية للإبداع الفنّي دار المعارف القاهرة 1962 .<br />
فضلا عن المؤلّفات الرائدة مثل التفسير النفسي للأدب لعزّ الدين إسماعيل ،وإن كان هذا الكتاب لا يخلو من خلط بين التحليل النفسي<br />
و النقد التعبيري ، و يمكن أن نعود في هذا السياق إلى م. هـ. أمبراز المدارس النقدية الحديثة تعريب عبد الله معتصم الدبّاغ ( الفصل الخاصّ بالنقد التعبيري ) للتمييز بين الاتّجاهين.<br />
<br />
3- المنهج الحواري : هو منهج ينهض على دراسة تعدّد الأصوات في الكلمة الأدبية ، وهو مشتقّ من أعمال ميخائيل باختين و تلاميذه ، إذ هذا يرى العالم أنّ الجنس الروائي جنس حواري بالضرورة ، و لا يعني بالحوارية تعدّد الأصوات النصيّة فحسب بل يعني كذلك تعدّد سجلاّت التعبير عن الأصوات التي تؤلّف الثقافة الاجتماعية ، فالكلمة الأدبية في الجنس السردي عموما كلمة غيرية تسكنها أصوات قديمة و يعاد سبكها و نسجها وفق عمليات إبداعبة مختلفة مثل المحاكاة الساخرة وتقليد الأسلوب و القلب و التضخيم و غيرها من الآليات التي تعرف بالتناصّ فحين نعود إلى مراجع من قبيل المبدأ الحواري لتزفيتان طودوروف و التناصّ عند مايكل ريفاتار و جوليا كريستيفا ،و مفهوم النصّ<br />
و الكتابة عند رولان بارت ، نتبيّن أن الأجناس الأدبية لا تنمو ولا تتطوّر إلاّ إذا انفتحت على بعضها بعض ،بل إنّ الجنس الأدبي لا يمكن أن ينغلق على بنيته اللغوية، فهو ضرب من الكتابة الحوارية، أي الكتابة التي تحيلُ على أنظمة من النصوص اللغوية وغير اللغوية:النصوص اللغوية من جهة انفتاح النصّ على السجلات التعبير ذات البعد الاجتماعي و المهني و الإيديولوجي و غيرها ، والنصوص غير اللغوية من جهة انفتاح النصّ على كافة الأصوات الثقافية وسجلات التعبير الفنّي من رسم و موسيقى و معمار وغيرها . و استوحى الدارسون العرب رأي ميخائيل باختين الذي مؤدّاه أنّ الكلمة الأدبيّة مسكونة بالكلمة الغيرية و أنّ الشعر جنس مونولوجيٌّ، بخلاف الرواية، فهي بمقتضى ما توفّره من إحالة على مرجعٍ اجتماعي أو نفسي، ينهض على حوارية الكلمة و تعدّد الأصوات بالضرورة.<br />
وفعلا فإنّ باختين لم ينظر إلى اللغة الطبيعية نظرة ساكنة أو مثالية مغلقة ،ولم ينظر إليها نظرة بنيوية، بل عدّها جزءا من تاريخ الثقافة فهي عنده قيمة حوارية تسكنها تجربة الإنسان و تقاليده الفكرية و الثقافية .<br />
وقد ميّز ميخائيل باختين كتابة النوع الديالوجي من النوع المونولوجي . أمّا النوع المونولوجي فهو الذي يسيطر فيه الكاتب على الشخصية القصصية فلا يفسح لها المجال كي تعبّر عن فكرتها، أي التي لا يترك لها الراوي ومن ورائه الكاتب أن تعبّر عن صوتها، فإذا أسند الكلمة إلى شخصية معلّم أو موظف أو سائق قطار..،أو أيّة شخصية اجتماعية أخرى لا يترك لها فرصة أن تتكلّم بلغة الثقافة التي تنتمي إليها بخصائص تفكير تلك الشخصية أو أن تستعمل معجم المهنة التي تمتهنها تلك الشخصية بل ينطقها بلغته . أمّا الأسلوب الديالوجي فهو بخلاف الأسلوب المونولوجي يحمل بنى لغوية خلافية و تضمّن فيه الملفوظات الكلمة الغيرية بالضرورة و يعبّر عن الدور التداولي الذي تضطلع به الشخصية في مجتمعها و ضمن سائر الأصوات الاجتماعية ، فالشخصية الديالوجية هي الصوت المعبّر عن الحوار الاجتماعي الحقيقي ، ويكون كلام تلك الشخصية وأسلوبها في التفاعل الحواري منفتحا على نصوص أخرى ( نصوص عالمة و نصوص اجتماعية غير عالمة ) ويكون العالم الروائي في النوع الديالوجي نسيجا من صدى الأصوات المحيطة بالرواية.<br />
4- منهج الموضوعات : يختلف المنهج الموضوعات( التيماتيك )عن المنهج النفساني رغم ما بينهما من الصلات ،يقول دانايل برجيز في تفسير صلة القرابة و التنافر بين المنهج الموضوعاتي و النقد النفساني :"و في الحقيقة فإنّ نقاط الالتقاء بينهما مهمّة فهناك الاهتمام المميّز ذاته بالصور و الرغبة ذاتها بتجاوز المعنى الظاهر للنصوص و اعتماد القراءة العرضانية للأعمال الأدبيّة ( أي قراءة العمل قراءة أفقيّة ) و هي قراءة تسمح بعقد المقارنات و إظهار التشكيلات التصويريّة و الترسيمات الغالبة ....لكنّ هاتين المقاربتين تتعارضان جذريّا في مسألة العلاقة بين الذات المبدعة و عملها الأدبي إذ يميل التحليل النفسي إلى اعتبار العمل الأدبي جملة معقّدة تحيل على وضع نفسي سابق و تلعب دورا تصعيديّا ، فالفنّ عن طريق الإيهام يدفع بالرغبة المكبوتة إلى التعبير عن ذاتها ،و على العكس من ذلك يرى باشلار ( وهو رأس منهج الموضوعات) أنّه لا يجب ردّ الصورة إلى تكوّنها و ربطها بما يسبقها بل التقاطها عند ولادتها و معايشتها في صيرورتها "(نقد الموضوعات ضمن مدخل إلى مناهج النقد الأدبي لمجموعة من الكتّاب تعريب رضوان ظاظا سلسلة عالم المعرفة 221 ص 105 )<br />
و نلحظ من جهة أخرى أنّ كثيرا من الباحثين يخلطون بين دراسة الموضوعات والنقد الغرضي ( الغرض قوة قولية ناظمة للموضوع ) ،يخلطون بين الدراسات التي تتناول الأدب في موضوعاته مثل الزمن عند الشعراء العرب في قبل الإسلام لعبد الإله صائغ (ط بغداد 1986 ) أو الإحساس بالزمان في الشعر العربي من الأصول حتّى نهاية القرن الثالث لعلي الغيضاوي ( ط / كلية الآداب منوبة تونس 2001 ) و الدراسات الغرضيّة وهي التي تحمل في عناوينها أسماء الأغراض كالمدح أو الهجاء أو الغزل أوالاعتذار أو نحوها من الأغراض الرئيسة أو الفرعيّة . يقول الباحث أحمد الجوّة :" إنّ النقد الأغراضي قد شهد مع قاستون باشلار تطوّرا ملحوظا لمّا أبان هذا الفيلسوف القنوات الأغراضيّة و أوضح أشكالها و تحوّلاتها و عقد صلتها بمتخيّل المؤلّف " ثمّ أضاف " و مع أنّ الغرض في أجناس الأدب يبدو أمرا واضحا فإنّ السمة متعدّدة الأشكال للأغراض تمثّل سبب التباس مصطلحي إذا اعتبرنا علم الأغراض علما مازال حديث العهد و اعتبرنا تطوّره مساعدا على إثارة العلاقة بين اللون و الغرض و الموضوع المشترك (من الإنشائية إلى الدراسة الأجناسية منشورات كلية الآداب صفاقس تونس 2007 ) و لئن استشهد الباحث بدراسة محمّد هشام الريفي عن الغرض وهي من الدراسات المهمّة في التمييز بين الغرض و الموضوع فإنّه سار على خطاه في الخلط بين الغرض و الجنس الأدبي . و إنّنا نذهب إلى أنّ فهم أصول الدراسة الغرضيّة على تواضع الحاصل المعرفي في مجالها لا يمكن أن تستوي دون الربط المحكم بين هذا المنهج و سائر الدراسات النفسانيّة( انظر فصل غرض في معجم الأجناس و المفاهيم الأدبية لفيرونيك كلوبار Veronique Klauber بالفرنسيّة ) و ذلك لأنّ زاوية النظر التي تعنينا في هذا المقام هي إبراز حاجة الدراسة الأدبيّة إلى قراءة جانب مهمّ من الخطاب الأدبي في ضوء نظرية الموضوع باعتباره مقولة نفسيّة بالدرجة الأولى . يمكن أن نعود بالإضافة إلى المراجع التي ذكرنا إلى :<br />
– عمر أوكان : اللغة و الخطاب منشورات إفريقيا الشرق بيروت لبنان 2001<br />
5- المنهج الغرضي :<br />
يمكن أ، نعدّ مقدّمة الشعر الشعراء لابن قتيبة أولى لبنات المنهج الغرضي في تاريخ الفكر الأدبي و هو منهج جامع في أصوله النظرية بين الاهتمام بالبعد النفسي في دراسة الأدب والاستناد إلى البعد اللغوي البنائي، و هو من المناهج المهمّة الممكن الاستناد إليها في دراسة القصيد القديم بما هو جنس شعري غرضي : فالطاقة الموجّهة لشعريّة القصيد هي أوّلا الغرض الشعري و هي طاقة نفسيّة و نيّة قول أو مقصد قول يتمّ تصريفها لغويا وفق الأعمال القوليّة المكوّنة لكلّ غرض.و يكون كلّ غرض عنصرا من عناصر هذه الطاقة العامّة و يكون فاعلا فيها بالقدر الذي يخدم الوجهة العامّة للقصيد .<br />
و إذا تناولنا على سبيل المثال الفخر بما هو غرض نفسي عامّ و سلوك لغوي و ثقافي شائع في البيئة القديمة ومحرّك للقصيد في أغلب بناه الأغراضية فإنّنا نلحظ أنّ عامّة الشعر العربي البدوي في أنواعه المختلفة المتقاربة : شعر القبائل و أصحاب المعلّقات و شعر الجوّالين المتردّدين على ملوك بصرى الشام و الحيرة و شعر المراثي و شعر القرى و شعر الصعاليك هي جميعها تستند إلى قوّة قوليّة واحدة هي قوة الغرض الفخري . ولهذا الغرض بعد اجتماعي متلوّن لا محالة بتلوّن الغرض الفرعي لكنّه في جميع الأحوال لا يعتني بالجميل من القول بقدر ما يعتني بالنافع و المحققّ للقوّة النفسيّة داخل المجتمع أو خارجه ( شعر الصعاليك )،هو القوّة القولية المثبّتة للقيم وقد ألحّ ابن طباطبا في عيار الشعر مثلا على الصلة الوثيقة بين المباني و المعاني و على تأثير الغرض في الوجهة الفنيّة للقصيد ،وقد بنيت أصنافيّة الشعر عندهم على الغرض العامّ ( الرغبة و الرهبة و الطرب و الغضب )الباعث على الأغراض الفرعيّة الناظمة للمعاني وفق المباني المؤلّفة للعبارة الشعريّة.إنّ العودة إلى أصول هذا التيّار الأدبي تساعدنا على تأصيل هذا المنهج و إثرائه بمقولات النقد الغرضي في العصر الحديث . و فعلا فإنّ هذه المقولات تعارض النظرة النصّانية للأدب وقد استند أصحابها مثل جورج بولي (Gorges Poulet)و جان روسي ( Jean Rousset)جان ستاروبنسكي( Starobinski)إلى أعمال قاستون باشلار وتذهب هذه الرؤية الغرضية إلى أنّ الكتابة الأدبيّة ليست بصناعة لفظيّة أو أسلوبيّة على نحو ما يرى الشكلانيون و أصحاب النقد الجديد و عامّة البنيويين من إنشائيين و نصّانيين و إنّما الكتابة الأدبيّة أو القول الأدبي عموما هي أوّلا تجربة نفسيّة أو روحية . و يمكن أن نعود إلى:<br />
- ابن قتيبة : مقدّمة الشعر ة الشعراء<br />
-ابن طباطبا عيار الشعر في طبعات مختلفة ( مثلا تحقيق عبد العزيز المانع ط الرياض 1985 .<br />
- حازم القرطاجنّي : منهاج البلغاء و سراج الأدباء ( تعريف الغرض بما هو قوّة قولية ، و تعريف منازع الشعر ) .<br />
- أبي هلال العسكري : الصناعتين (فصل الاستعطاف مثلا )<br />
.- مبروك المناعي : الشعر و المال ،منشورات دار الغرب الإسلامي 1998 .<br />
- محمّد عبد السلام ، تعليق على بانت سعاد و معنى الوعد ضمن مشكل الجنس الأدبي في الأدب العربي القديم منشورات كلية الآداب منوبة تونس 1994<br />
- محمد هشام الريفي : في الغرض الأدبي م. ن<br />
<br />
<br />
<br />
<br />
6- المنهج الاجتماعي :<br />
ينهض هذا المنهج على دراسة الظواهر الأدبيّة في صلتها بالظواهر الاجتماعيّة و قد عرف هذا الاتجاه بالنقد الاجتماعي ،وارتبط ظهوره وشيوعه بتطوّر العلوم الاجتماعية في المجالات الثقافية العامّة ولكن تاريخ هذا الظهور في مجال الأدب العربي كان متأخّرا نسبيا بالقياس إلى الفترة التي نشأت فيها الرؤية في سائر الدراسات العالمية، فللمنهج الاجتماعي منذ أوائل القرن الثامن عشر أصول فكرية نشأت حين شرع كتّاب الرومانسية، ثم الواقعية يثيرون مسألة اختلاف النظرة الكلاسيكية للأدب عن نظرتهم التاريخية المتّسمة بالإصغاء للتاريخ ومراعاة حركته ، وهم يعيبون على الفكر الأدبي الكلاسيكي إهماله الصلة الحميمة بين الأشكال التعبيرية والسياق التاريخي الذي تنشأ فيه . ويساعد هذا المنهج على تحليل الخطاب الأدبي ذي الدلالات الاجتماعيّة التداوليّة مثل الخطابة و القصيد المعبّر عن الوجدان الجماعي عند الإحيائيين ( معروف الرصافي ) و يساعد هذا المنهج كذلك على دراسة الدلالات الاجتماعية في السرديات القديمة مثل المقامة و البطل الإشكالي المكدّي و أنظمة الحياة الاقتصادية في البيئة العربية القديمة من خلال قصص الأيّام و الأمثال وقصص العشّاق النثرية ، و يعين كذلك على دراسة القضايا الاجتماعية التي يسهم الأدب في صياغتها و توجيهها كالشعوبيّة: في الشعر و السخرية في الأدب - والقيم في ا قصيد القديم - والشرق و الغرب في الرواية – وصورة المغترب في القصّة - و الموضوعات الوطنيّة في الشعر الإحيائي ...) . القضايا الاجتماعية في السرديات الحديثة و على دراسة الوعي الاجتماعي و الرؤية الحضارية في الأجناس الأدبية ذات الصبغة الواقعية كالرواية و المسرح الاجتماعي.<br />
- مدخل إلى مناهج النقد الأدبي تعريب رضوان ضاضا عالم المعرفة 221<br />
( مقال النقد الاجتماعي 133- 166 ) .<br />
- حميد لحمداني : الرواية المغربية و رؤية الواقع الاجتماعي ، دار الثقافة الدار البيضاء 1985 .<br />
7- المنهج التداولي : ليتأمّل القارىء قول ابن جنّي في الخصائص : " اعلم أنّ أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة ، و كذلك عامّة الأفعال نحو قام زيد و قعد عمر و انطلق بشر و جاء الصيف فقولك قام زيد معناه كان منه القيام و كيف يكون ذلك و هو جنس والجنس يطبق جميع الماضي و جميع الحاضر و جميع الآتي ، الكائن من كلّ من وجد منه القيام ، و معلوم أنّه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت و لا في مئة ألف سنة مضاعفة القيام كلّه الداخل تحت الوهم ، هذا مجال عند كلّ ذي لبّ ، فإذا كان ذلك علمت أنّ قام زيد مجاز لا حقيقة و إنّما هو وضع الكلّ موضع البعض للاتّساع و المبالغة و تشبيه القليل بالكثير " (الخصائص )<br />
يجدر بالدارس قبل أن ينظر في مجال انفتاح الدرس الأدبي على المراجع التداولية أن يحدّد دلالة هذا المفهوم الرائج استعماله بين المتخصّصين في هذه الأيّام .إنّ الخطاب العلمي العربي يستعمل عبارة التداوليّة منذ عقدين تقريبا ،و لكنّ نظائرها في اللغات العالميّة تستخدم في الدرس الأدبي و في تحليل الخطاب و في الدرس النحوي<br />
و في علوم الدلالة منذ أكثر من ثمانية عقود (الفرنسية ِapproche pragmatique والأنقليزية pragmatic approach .<br />
<br />
و العبارة مصدر صناعي من تداول الكلام تبادله ،و من هذا المعنى اللغوي الأوّل جاءت دلالة الاشتقاق الاصطلاحي ،فاللغة في التصوّر البنيوي عند سوسير و تلاميذه جهاز أو مؤسّسة مثاليّة لم تدرس في مقامات التلفظ بها ،ولم يهتم ّ اللسانيون البنيويون بالأبعاد الإنجازيّة للغة أي باللّغة بما هي فعل اجتماعي و إنشاء و تواصل<br />
<br />
و تخاطب , و قد جاءت الأفكار التداوليّة في مدرسة أكسفورد<br />
و عند إيميل بنفنيست [1]و سورل و عند سائر علماء اللغة الاجتماعيين و سائر المناهضين للبنيوية ،لتؤسّس مجتمعة أهمّ مقوّمات المنهج التداولي الذي ينتقل فيه الاهتمام من المتكلّم و المخاطب إلى المتخاطب [2] ،و من الجملة المجرّدة إلى القول و الخطاب بما هو حامل لخصائص المقام و التلفّظ و من الإخبار إلى الإنشاء و إلى الضمني<br />
و المسكوت عنه ،و قد استند التداوليون أوّلا إلى التراث الأرسطي فأرجعوا إليه ما كان يتّسم به من انفتاح على البلاغة التداوليّة أي البلاغة التي لا تهتمّ بالعبارة و الأسلوب فقط بل تهتمّ كذلك بخطط القول و بالمواضع و الحجج و القياس الخطابي و غير ذلك من مستويات الخطاب في بعده التداولي الحيّ ،و طبّق المنهج التداولي على أنواع كثيرة من النصوص الأدبيّة و الفكريّة ،و لكنّ نتائجه الإجرائية كانت أكثر ثراء حين طبّق على الأجناس الخطابيّة و المراسلات و عامّة الأنواع الحواريّة و الشعر الاجتماعي ذي الصبغة الإقناعية والحكمية .<br />
<br />
أمّا استفادة دارسي الأدب العربي من المنهج التداولي فهي محدودة لا محالة نظرا إلى انصراف الدارسين عن الاهتمام بتداوليّة الأجناس الأدبيّة ،و لكن المسالك البحثيّة التي تفتحها هذه المراجع تبدو في تقديرنا ذات قيمة علميّة عالية، و قد أعاد الباحثون في لغة الرواية من الناحية التداولية النظر في صلة المجاز و التخييل بالأجناس الأدبيّة و مدى نصيبها منه في هذا الجنس الأدبي ، وشكّكوا في قيمة المقولة القديمة التي تزعم أنّ الأساليب المجازيّة هي المقوّم المميّز للشعر من النثر، و من الدراسات الممكن قبولها نماذج تمثّل استفادة الدرس الأدبي من منهج التداولية نذكر دراسة الباحث عبد الله صولة بعنوان : كتاب الأياّم لطه حسين خطابا حجاجيا فقد أقامه صاحبه على قراءة القصّة بما هي أطروحة حجاجيّة أراد بها طه حسين إقناع أبناء جيله بقدرته على تحدّي الصعاب ،و إلى حملهم على الانخراط معه في الاعتقاد في أنّ قيمة التعليم هي القيمة العليا التي مكّنته من الارتقاء اجتماعيا [3] .<br />
و اللافت للنظر في هذه الدراسة و فيما يشبهها من البحوث التي تناولت الأدب من وجهة نظر المنهج الحجاجي أنّ الخطاب الأدبي المدروس بأنماطه الثلاثة : السرد و الوصف و الحوار يتحوّل إلى متتاليات حجاجيّة منتظمة في أقيسة حجاجيّة أي في مقدّمات و نتائج بعضها مذكور و بعضها مضمر . و يعامل النصّ الأدبي في هذا المنهج بما هو جملة من العلاقات القائمة بين الأقوال أو بالأحرى بين الأعمال القوليّة أو المقدّمات و النتائج الحجاجيّة التي تقتضي دراستها النظر في مظاهر انسجام النصّ و تماسكه من جهة ستعمال الروابط المنطقيّة<br />
و العوامل الحجاجية . و يعمل التحليل الحجاجي إلى إبراز الأطروحة التي ينهض عليها الخطاب وعلى دراسة الروابط و العوامل الحجاجية و طرائق بناء الأقوال و استخدام التوجيه الحجاجي و ما بتطلّبه من أدوات حصر و توكيد و قصر و شرط و تبرير و غيرها ممّا لا يمكن اسستقصاؤه بغير هذا المنهج .<br />
إنّ المنهج التداولي يعيد النظر أوّلا في وظائف اللغة ، و ينظر إليها نظرة تجاوز التقسيم البنيوي الذي وضع أسسه ريمون جاكبسون وهو ينهض على ستّ وظائف :<br />
- الوظيفة الإخباريّة ( الإخبار )<br />
-الوظيفة المرجعيّة ( اللغة تنقل المرجع و تتحدّث عن الأشياء في غيابها فتعوّضها ).<br />
- الوظيفة الماورلغويّة أو الانعكاسيّة ( اللغة تتحدّث عن ذاتها فهي أداة وموضوع" علوم اللغة")<br />
- الوظيفة التعبيرية ( اللغة تعبّر عن الأحاسيس و الانفعالات و العواطف ).<br />
-الوظيفة التنبيهيّة ( اللغة تنبّه إلى اتّصال التواصل و التفاعل بين المتخاطبين " النداء – عبارات التنبيه مثل تسمعني ..أفهمتني ..؟").<br />
-الوظيفة الأدبيّة أو الشعريّة .<br />
فقد أعاد الفكر التداولي النظر في هذه الوظائف، و كان لجهود إيميل بنفينيست دور حاسم في تجديد البحث في وظائف اللغة فكان البعد الإنشائي و الإنجازي للّغة موضوع التعديل و التنسيب في تعريف الوظيفة الأولى : إنّ اللغة في هذا المستوى لا تخبر فحسب بل إنّها تنجز أعمالا لغويّة للتعبير عن بعض الأعمال باستعمال المسكوت عنه و الضمني و غيرهما من أشكال التواصل ، فاللغة في تعريف أوزولد ديكرو (Oswald Ducrot)لا تستعمل الأقوال بشكل يدلّ على المعنى مباشرة و إنّما تنزع اللغة إلى إخفاء الدلالات و تمريرها باستعمال المقتضيات و المتضمّنات [4]. و إنّ هذا التعريف الجديد للوظائف التواصليّة للغة هو المدخل الرئيس إلى قراءة الخطاب الأدبي قراءة تداوليّة . و إذا كان تعريف اللغة بكونها إنجازا مدخلا مهمّا إلى قراءة الأدب تداوليّا فإنّ الانتقال من الاهتمام بالجملة إلى الاهتمام بالقول لا يقلّ تأثيرا في مناهج الدراسة الأدبية ، و في هذا السياق كان كذلك لبنفينيت دور هامّ إذ نراه ينتقل باللغة من نظام علامات و جمل مجرّدة من سياقها التلفّظي إلى أقوال منجزة حاملة آثار التخاطب و التلفّظ أو آثار المتكلّم و مقامات القول ، فاللغة في تعريف علماء لسانيات التلفّظ أداة تواصل تتجسّم في الخطاب من خلال نظام من الأعمال القولية التي تتطوّر بدورها و تتفرّع إلى أجناس قوليّة عامّة و أجناس أدبيّة بوجه خاصّ .و لا يخفى أنّ "التمييز بين الجملة باعتبارها شكلا نظريا مجرّدا والجملة باعتبارها صيغة منجزة أنجزها متكلّم في سياق معيّن"[5] هو المسلك الذي سيمهّد لظهور الدراسات الأدبيّة التداوليّة .<br />
<br />
إنّ المزاوجة بين قراءة الخطاب التراثي في مختلف علوم العربيّة<br />
<br />
و الحاصل المعرفي الحديث في مجال الحجاج يمكن أن يفضي بالدرس الأدبي العربي إلى الإسهام في تأصيل المنهج التداولي و استغلاله في قراءة الخطابات الأدبيّة ذات القيمة التداوليّة .<br />
<br />
المراجع الممكن اعتمادها :<br />
<br />
<br />
- ابن الأثير المثل السائر في أدب الكاتب و الشاعر( خاصّة الجزء الثاني ) - أرسطو:الخطابة - بدر الدين الزركشي : البرهان في علوم القرآن<br />
<br />
<br />
- ابن سنان الخفاجي : سرّ الفصاحة<br />
<br />
<br />
- السيد الشريف الجرجاني : التعريفات<br />
<br />
<br />
- عبد القاهر الجرجاني : دلائل الإعجاز<br />
<br />
<br />
- محمد الخطابي : لسانيات النصّ<br />
<br />
<br />
- محمد الشاوش : أصول تحليل الخطاب<br />
<br />
<br />
<br />
[1] راجع خاصةكتابه مشاكل اللسانيات العامة معرّب عن الفرنسيّة في طبعات مختلفة .<br />
<br />
[2] مصطلح المتخاطب هو المصطلح الواجب استخدامه في دراسة النصّ الأدبي دراسة تداولية لأنّه ينهض على التصوّر التداولي للتواصل بين المتكلّم و المخاطب ،فكلّ متكلّم يراعي في إنشاء خطالبه مخاطبا خصوصا و هو يتحوّل في أغلب مقامات التخاطب إلى مخاطب وفق قاعدة تبادل المواقع المستمرّ بين المتخاطبين ، و كلّ مخاطب هو أيضا متكلّم لأنّه يتبادل كذلك موقعه و المتكلّم الأوّل ، و كلّ متكلّم يوجّه المخاطب إلى استعمال بنية كلاميّة مخصوصة فعندما يطرح سؤالا عن حال من الأحوال يكون الجواب حاملا لدلالة الكيفية التي يتضمّنها الحال .<br />
<br />
<br />
[3]انظر المفال ضمن أعمال ندوة صناعة المعنى و تأويل النصّ ، منشورات كلية الآداب منّوبة تونس 1992.<br />
<br />
[4] انظر تحليله للبعد التداولي في اللغة ضمن ما يسمّى باللسانيات التداولية الإدماجيّة :Dire et ne pas dire collection Savoir Paris 1980.<br />
<br />
[5] انظر محمّد الشاوش أصول تحليل الخطاب في النظريّة النحويّة العربيّة ،منشورات كليّة الآداب جامعة منّوبة تونس 2001 . ص 58.</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-4453183391945270340.post-78447192708728880792015-02-01T23:45:00.001-08:002015-02-01T23:45:21.634-08:00لهجات العرب<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on">
<br />
ظواهر لهجية عربية قديمة<br />
رُوي عن الأصمعي قال: " قال مُعاوية يوماً لجلسائه: أيّ الناس أفصح؟ فقال رجلٌ من السِّماط: يا أميرَ المؤمنين، قوم قد ارتفعوا عن رُتَّة العراق، وتياسَرُوا عن كَشْكشة بكر، وتيامَنُوا عن: شَنْشَنة تَغْلب، ليس فيهم غَمْغمة قُضاعة، ولا طمطمانيّة حِمْير.<br />
قال: مَن هم؟ قال: قومُك يا أميرَ المؤمنين قُريش؛ قال: صدقتَ، فمن أنت؟ قال: مِن جَرْم قال الأصمعيّ: جَرْم فُصْحَى الناس."[1]<br />
جاء في المزهر للسيوطي: كانت العربُ تحضر المَوسِم في كل عام وتحجُّ البيتَ في الجاهلية وقريشٌ يسمعون لغاتِ العرب فما اسْتحسنوه من لغاتهم تكلّموا به فصاروا أفصحَ العرب وخلَتْ لغتُهم من مُستبْشع اللغات ومُستقبَح الألفاظ من ذلك:<br />
<br />
الاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار تجعل العين الساكنة نوناً إذا جاورت الطاء كأنْطي في أعْطِي. ومن شواهده قراءة (إنا انطيناك الكوثر). ويذكر رمضان عبد التواب أن هذا الإبدال شائع حتى اليوم في العراق، والتوزيع الجغرافي يوضح أن له علاقة بطرق القوافل من الجنوب إلى الشمال. وهذه الظاهرة ليست عامة في كل ع ساكنة جاورت ط وإنما هو خاص بكلمة (أعطى) ومشتقاتها. وقلب الـ ع إلى ط ليس له تفسير صوتي لبعد مخرجيهما. ويربط رابين بين هذا الفعل والفعل العبري (نطى) "مد يده" ويربطه رمضان عبد التواب بالفعل العبري (نتن) "أعطى" والفعل السرياني (نتل) "يعطي."[2]<br />
<br />
التضجع: يعزى إلى قيس، ولم يُفسر، وربما يعني التباطؤ والتمهل.وفي اصطلاحات ويطلق اصطلاح إضجاع الحركات في كتب النحو والقراءات على الإمالة، ولكنها لاتعزى إلى قيس وحدها، بل يشاركها فيه عـامة أهل نجـد.[3]<br />
<br />
التلتلة: كسر حرف المضارعة: أن إعلم أنت تكتب، وتعزى إلى قيس وتميم وأسد وربيعة وعامة العرب. أما أعجاز هوازن وأزد السراة وهذيل فيفتحون حرف المضارعة.<br />
وهي ظاهرة سامية قديمة توجد في العبرية والسريانية والحبشية، وهذا من الركام الباقي من هذه الظاهرة في العربية.<br />
<br />
الرتة: تعني قلب اللام ياء وهي عيب كلام لا يمكن أن يكون شائعا في لهجة كاملة، وتعني أيضا العجلة في الكلام، وفي هذا تشبه اللخلخانية وهي تنسب إلى أهل العراق، ومن ظواهرها قصر الحركات وحذف الهمزة، في مثل: (مشا لله كان)<br />
<br />
الشَّنشنة في لغة اليمن تجعل الكاف شيناً مطلقاً كلبَّيْش اللهم لبَّيْش أي لبيك.<br />
ويبدو أنها ناتجة من تحول الصوت المزدوج ch إلى أحد مكونيه وهو ش، وهي ظاهرة مصاحبة للأصوات المزدوجة. <br />
<br />
الطُّمْطُمانيَّة تَعْرِض في لغة حِمْيَر وطي والأزد كقولهم: طاب أمْهَوَاء: أي طاب الهواءُ.<br />
وتفسيره أن اللام والميم من الأصوات المائعة (liquids) وهي ل م ن ر وهي أصوات يُبد بعضها من يعض.<br />
العَجْعَجَة في لغة قضاعة، يجعلون الياء المشدَّدة جيماً يقولون في تميميّ تميمِجّ.<br />
المطعمون اللحم بالعشجّ<br />
وقد سهل إبدال الياء بالجيم اتحادهم في المخرج وهو الغار وكونهما مجهورين والفارق بينهما أن الجيم انفجاري احتكاكي والياء لينة. لذا نجد عكس هذه الظاهرة وهو إبدال الجيم ياء فيقال صهريّ بد صهريج.<br />
<br />
العَنْعََنة وهي في كثير من العرب في لغة قيس وتميم وأسد. وهي قلب الهمزة عينا، وقد خصها ثعلب والفراء بأنّ المفتوحةفي مثل قولهم: أشهد عنّك رسول الله. أما السيوطي فلم يخصصها بأن المفتوحة وإنما أطلقها في كل همزة مبدوء بها فعزا إليهم قولهم: في أنك عنّك وفي أسْلم عَسْلم وفي أذُن عُذُن. ولقب هذه الظاهرة مأخوذ من قولهم عنّ.<br />
وسبب القلب تجاور المخرجين فالهمزة حنجرية مهموسة والعين حلقية مجهورة<br />
<br />
الفَحفَحة في لغة هُذَيل يجعلون الحاء عَيْناً. وقد وردت به قراءة (عتى حين)، ويبدو أن هذا خاص بـ (حتى) بدليل عدم قلب (حين). وذُكر أنه يقابل (حتى) العربية (عد) في العبرية والآرمية والأكادية والسبئية.<br />
<br />
الفراتية: راجع الرتة واللخلخانية<br />
<br />
القطعة: تعزى إلى طيئ، وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فهي نوع من الترخيم ، مثل قولهم (يا أبا الحكا) بدل (يا أبا الحكم)، وذكر عبد التواب أنها شائعة في مصر في بعض الألفاظ مثل (ياولَ) (يا ولد)، سلخي (مساء الخير)<br />
<br />
الكَسْكَسة وهي في ربيعة ومُضر وعزي أيضا إلى بكر وهوازن وتميم، لأنهم يتبعون كافِ المخاطبة سيناً. وقد اختلفوا في طبيعة ذلك:<br />
إبدال كاف المخاطبة سينا<br />
اتباع كاف المخاطبة سينا<br />
اتباع كاف المذكر سينا عند ربيعة ومضر (الفراء)<br />
الكشكشة: إبدال كاف المخاطبة في الوقف شينا أو إلحاقها شينا. وهي تعزى إلى ربيعة ومضر وإلى بكر وبعض تميم وأسد. ومن أمثلتها: (جعل الله البركة في دارش) و (ويحك مالش). ووردت في غير الوقف:<br />
فعيناش عيناها وجيدش جيدها ولكن عظم الساق منش دقيق<br />
وقد قرئ بها (قد جعل ربش تحتش سريا).<br />
ويبدو أن ما حدث كما بين رمضان عبد التواب هو تغير الكاف في الكسكسة إلى حرف مزدوج من الكاف والسين تس يشبه الحرف الألماني في كلمة Leipzig ، وتغيره في حال الكشكشة إلى حرف مزدوج من الكاف والشين يشبه الصوت الإنجليزي ch في children. ويفسر هذا التغير بأنه ناتج عن قانون الأصوات الحنكية حيث تميل أصوات أقصى الحنك وهي الكاف والجيم غير المعطشة بمخرجها إلى نظائرها من أصوات أمامية حين تليها الكسرة لأنها تجذبها قليلا إلى الأمام.[4]<br />
<br />
اللخلخانية: راجع: الرتة<br />
<br />
الوتم قلب السين تاء عند بعض العرب حيث ينطقون الناس النات. ويمكن تفسير هذا الإبدال من الناحية الصوتية، فالحرفان متشابهان في المخرج لأنهما من الحروف الأسنانية اللثوية، كما يتفقان في الهمس والترقيق. والفرق الوحيد بينهما أن السين صوت احتكاكي صفيري fricative sibliant والتاء صوت شديدة انفجارية plosive stop<br />
<br />
الوكْم في لغة ربيعة وهم قوم من كَلْب يقولون: عليكِم وبكِم حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة. وهذه ظاهرة حادثة بسبب المماثلة بين الأصوات المتجاورة، فقد تأثرت ضمة الكاف بكسرة الباء فجعلت مكسورة لتنسجم مع ما قبلها.<br />
<br />
الوهْم في لغة كلْب يقولون: منهِمْ وعنهِم وبينهِمْ وإن لم يكن قبل الهاء ياءٌ ولا كسرة.<br />
والفصحى تبقي الضم في مثل منهُم وصاحبُهم وقائدهم إلا إذا وقع بعد فتحة قصيرة أو طويلة أو ياء مثل: بجانبهِم، راعيهِم عليهِم.<br />
اللَّخْلَخَانيَّة تَعْرِض فِي لغة أعراب الشِّحْر وعُمان كقولهم: مَشَا اللّه كان يريدون: ما شاء اللّه كان.<br />
حرف بين القاف والكاف في لغة تميم وهذا هو صوت g المتغير عن ق.<br />
حرف بين الجيم والكاف في لغة اليمن.<br />
<br />
أفصح العرب<br />
وأفصح العرب قريش قال ابنُ فارس في فقه اللغة: باب القول في أفصح العرب أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد مولى بني هاشم بقَزْوين قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عباس الحشكي قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عبيد اللّه قال: أَجْمَع علماؤنا بكلام العرب والرُّواة لأشعارهم والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومحالِّهم أن قُرَيْشاً أفصحُ العربِ أَلْسِنَةً وأَصْفَاهُمْ لَغةً وذلك أن اللّه تعالى اختارَهم من جميع العرب واختارَ منهم محمداً ، فجعلَ قريشاً قُطَّانَ حَرَمه ووُلاَةَ بَيْته فكانت وفودُ العرب من حجَّاجها وغيرهم يَفِدُونَ إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في دارهم وكانت قريشٌ مع فصاحتها وحسْن لُغاتها ورِقَّة أَلْسِنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخَيَّرُوا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لُغَاتهم وأصْفَى كلامهم فاجتمعَ ما تخَيَّرواْ من تلك اللغات إلى سلائقِهم التي طُبعوا عليها فصاروا بذلك أفصحَ العرب.<br />
لغة القرآن الكريم<br />
وروى أبو عبيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات منها خمسٌ بلغة العَجُز من هوازن وهم الذين يقال لهم عُلْيا هوازن وهم خمس قبائل أو أربع منها سعد بن بكر وجُشَم بن بكر ونَصْر بن معاوية وثقيف.<br />
قال أبو عبيد: وأحسب أفصحَ هؤلاء بني سعد بن بكر وذلك لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش وأني نشأْتُ في بني سعد بن بكر.<br />
وكان مُسْتَرْضعاً فيهم وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصحُ العرب عُلْيا هَوازن وسُفْلَى تميم.<br />
وعن ابن مسعود: إنه كان يُسْتَحَبُّ أن يكون الذين يكتبون المصاحفَ من مُضَر.<br />
وقال عمر: لا يُمْلِيَنَّ في مصاحفنا إلا غِلْمان قريش وثقيف.<br />
وقال عثمان: اجعلوا المُمْلِي من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف.<br />
قال أبو عبيدة: فهذا ما جاء في لغات مضر.<br />
وقد جاءت لغاتٌ لأهلِ اليمن في القرآن معروفةٌ، ويروى مرفوعاً: نزل القرآن على لغة الكَعْبَيْن كعب بن لُؤَيّ وكعب بن عمرو وهو أبو خزاعة.<br />
وقال ثعلب في أماليه: ارتفعت قريشٌ في الفصاحة عن عَنْعَنَةِ تميم وتَلْتَلةِ بَهْرَاء وكَسْكَسَة ربيعة وكَشْكَشَةِ هَوَازن وتضجع [قيس] وعجرفيه ضبّة، وفسّر تَلْتَلَة بَهْرَاء بكسر أوائل الأفعال المُضَارعة.<br />
وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمّى بالألفاظ والحروف: كانت قريشٌ أجودَ العرب انتقاداً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النُّطْق وأحسنها مسموعاً وأبينها إبانَة عمّا في النفس، والذين عنهم نُقِلت اللغة العربية وبهم اقْتُدِي وعنهم أُخِذَ اللسانُ العربيٌّ من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثرُ ما أُخِذ ومعظمه وعليهم اتُّكل في الغريب وفي الإعراب والتَّصْريف ثم هذيل وبعض كِنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.<br />
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضَريٍّ قطّ ولا عن سكَّان البَرَاري ممن كان يسكنُ أطرافَ بلادِهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم فإنه لم يؤخذ لا مِنْ لَخْم ولا من جذَام لِمُجاوَرتهم أهل مصر والقِبْط ولا من قُضاعة وغَسَّان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس ولا من عبد القيس وأَزْدعُمَان لأنهم كانوا بالبحرين مُخالطين للهِند والفُرس ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجّار اليمن المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغةَ العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت أَلسِنتهم والذي نقل اللغةَ واللسانَ العربيَّ عن هؤلاء وأَثْبَتها في كتاب فصيَّرها عِلْماً وصناعة هم أهلُ البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب.<br />
<br />
<br />
[1] ابن عبد ربه، العقد الفريد.<br />
[2] رمضان عبد التواب، فصول في فقه اللغة، 122، راجع, Lexicon Veterris Testaminti 642 . Koehler<br />
[3] رمضان عبد التواب، فصول في فقه اللغة، 123.<br />
[4] عبد التواب، 140.</div>
أ.د.ناصر الشيحانhttp://www.blogger.com/profile/17912652229401261267noreply@blogger.com0