الأحد، 14 أغسطس 2011

مظاهر التجديد في هيكل النص القديم

مظاهر التجديد في هيكل النص الشعري القديم.



بشرى تاكفـراست

أستاذة جامعية-مراكش-المغرب



يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: إن التجديد في الأدب ثروة لأنه يتطلب وضع قيم جديدة مكان قيم قديمة، وأساسها شعور ذوي المواهب والعبقريات بعدم كفاية أدبهم القومي في الاستجابة لحاجات عصرهم فيخرجون على القيم البالية في بعض نواحيه"(1)

هذا مفهوم غربي للتجديد مبني على المقاييس الأدبية المستخلصة من الآداب الأوروبية وقد لا ينطبق انطباقا تاما على الأدب العربي القديم، وهو بهذا المعنى لم يتم في المجتمع العربي إلا في العصر الحاضر على يد الشعراء والأدباء المحدثين.

أول ما يدرس عادة في إطار دراسة التغيرات والتطورات التي طرأت على الشعر العربي: " بناء القصيدة " أي هيكلها العام وأجزاؤها التي تتركب منها، ثم ندرس التطورات الطارئة في موضوعات الشعر وأغراضه لننهي البحث بدراسة تغيرات المعاني و الصور والصياغة و الموسيقى ( الوزن و القافية).

وأغلب القصائد المطولة التي كتب لها البقاء... ووصلت إلى عصر التدوين منظومة على نمط متشابه، إذ الشاعر يبتدئ بالوقوف على ديار الأحبة بعد رحيلهم عنها، يذرف الدمع، ويستعرض الذكريات...ثم ينتقل بعد ذلك إلى وصف الرحلة و الراحلة وما يتعلق بهما من متاعب السفر ومشاهد الصحراء لينتهي بعد ذلك إلى الغرض الذي من أجله نظم القصيدة وغالبا ما يكون غرض المدح.

لقد وقف النقاد عند هذا النمط الذي انتهت إليه القصيدة العربية القديمة يحاولون فهمه والبحث عن أسبابه وعلله اخترنا منهم:



أولا:ابن قتيبة (ت 276 هـ) فاسمعه يقول معللا صورة القصيدة القديمة ناقلا عن ناقد لم يذكر اسمه: " سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة و الشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي به الإصغاء إليه، لأن النسيب قريب من النفوس لائط بالقلوب لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس أحد يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام. فإذا استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء...بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماح وفضله على الأشباه... فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد"(2).

ونلاحظ أن قول ابن قتيبة هذا هو تعليل: جزئي – جانبي - متكلف.

فهو جزئي لأنه لا يفسر إلا القصيدة ذات الغرض المدحي ويهمل الأغراض الشعرية الأخرى، كما يهمل تركيب قصيدة ما قبل الإسلام، قبل أن يصير الشعر وسيلة للتكسب، ولعل ابن قتيبة اهتم بالمدح وحده لكونه الغرض الأساس الذي انصرف إليه جل الشعراء في عصره، وهو جانبي لأنه يعتبر ما قيل من مدح جوهريا ويعتبر ما عداه من غزل ووصف ورحلة عناصر ثانوية، وهو متكلف، لأنه يحاول اختلاق الروابط الفنية و المعنوية بين أجزاء قصيدة وصلت إلينا مفككة البناء. وقد تبع ابن قتيبة العديد من النقاد القدماء والمحدثين في هذا التعليل من أمثال: ابن رشيق القيرواني في كتابه " العمدة" وأحمد أمين في كتابه " فيض الخاطر".



ثانيا: فالتير بروان الألماني: يرى هذا المستشرق في بحثه له تحت عنوان: " الوجودية في الجاهلية " أن قطع النسيب التي تطالعها في صدور القصائد ليست وسيلة إلى غاية أبعد منها، إنما هي غاية في حد ذاتها وأن ما يقوله ابن قتيبة بعيد الاحتمال، غير مناسب للبيئة البدوية التي عاش فيها الشاعر الجاهلي، ويخلص إلى القول، إن مقدمات القصائد الجاهلية تخضع كلها لفكرة واحدة وتندرج تحت غرض واحد هو اختبار الفضاء والفناء والتناهي، فالإنسان في كل زمان و مكان يسأل عن وجوده ومصيره ونهايته، وكان هذا السؤال يؤرق الشاعر الجاهلي ويضايقه ولذلك ردد عبارات:" عفت الديار، درست الدمن، انمحت الرسوم، وبمثل ذلك يقف على الفناء والتناهي، ومن هذا الموقف يستمد القوة على مواصلة الحياة، ومتابعة المسير مرة أخرى... ولما جاء الإسلام خفف الإيمان الجديد من خوف الإنسان العربي من الفناء.. فأصبح الناس لا يدركون ما حرك القدماء وضايقهم... واستغربوا كثرة البكاء والحنين"(3).



ثالثا: أدونيس: يربط أدونيس بين شكل القصيدة العربية والحياة الروحية والنفسية التي يعيشها الشاعر في الصحراء، فهو في نظره إنسان مغلوب بالإحساس بالموت والفناء، فالأشياء تتراءى له ثم تغيب بسرعة والحياة متشابهة لا تغير فيها و لا جديد، والدهر وحده هو القوة الخارقة التي لا يمكن مقاومتها وهو الذي يغير ويفني. وليس هناك رؤية كاملة تفسر الوجود وتمنحه تبريرا مقبولا، وانعكس هذا الوضع الوجودي في شكل الشعر، كيف يتأتى لشاعر هذه حياته أن ينصرف إلى بناء القصيدة والمؤالفة بين أجزائها؟ هكذا كانت القصيدة الجاهلية بدون تأليف، ولا تلاحم في أجزائها وليس لها إطار بنائي، إنها قصيدة متحركة تتبع منحى انفعاليا وتمضي حيث يحملها شعور دائم بالتغير" (4)

و التفسيرات المقدمة لفهم بناء القصيدة القديمة كثيرة، ستتبعها تفسيرات أخرى ما دام هذا الشعر يدرس ويتناقل.

ولقد ظل أغلب الشعراء في العصر الأموي ينظمون أشعارهم على النمط الجاهلي، ولم يغيروا منه شيئا ذا بال حتى إن بعضا منهم ينقل بعض المطالع نقلا حرفيا كما فعل الأخطل في قوله:

صحا القلبُ عن أرْوَى وأقْصَر باطلُهْ وعاد له من حب أروى أخا بله

فقد استعاره من زهير القائل:

صحا القلبُ عن سَلْمَى وأقصَر باطِلُهْ وعُرِيَ أفْراْسُ الصَبَا ورَوَاِحلُهْ (5)

ولابد أن هذا التقليد يرجع إلى تعبد الشعراء الأمويين لخطى الجاهليين وترسمهم لتقاليدهم الشعرية واقتناعهم بروعتها، وهو دليل على وقوفهم على النماذج الجيدة من الشعر الجاهلي وعلى تداولها بينهم.

فلما جاء العصر العباسي بتبايناته السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة تغيرت الحياة العامة وطرأت عليها صنوف من ألوان العيش والسلوك وصنوف من الأفكار والعقائد والنحل، وتجمعت الأموال ووسائل البذخ... فتغيرت بيئة الأدب وحياة الأدباء، فصار أغلب الشعراء حضريين لا يعترفون بسلوك البادية وبأخلاقها، وبرزت شخصية الموالي الذين شاركوا في قيام الدولة وتسيير شؤونها ونفذوا إلى مواطن الحكم والتوجيه في السياسة والمجتمع والثقافة، وحملوا لواء التحول والتغير... فبدأ الصراع بين التقليد والتجديد وبين البادية والحاضرة.. ووصلت أصداء هذا الصراع إلى الشعر، فقامت جماعة من الشعراء ينحدر أغلبهم من أصول فارسية بمناقشة تركيب القصيدة الجاهلية وطغيان نهجها على الشعر العربي، فربطوا بينها وبين التخلف والبداوة ورفضوا الخضوع له، والنظم على منواله، إذ صعب عليهم أن يخاطبوا الأطلال والذمن، ويركبوا الناقة والبعير وهو لم يعرفوا من ذلك شيئا، فدعوا إلى نبذ المقدمات الطللية ووصف الرحلة والاستعاضة عنها بغيرها مما يمارسه الشاعر ويعايشه ثم اختلفوا في دعوتهم هذه ما بين متحمس لها ومجاهر بها وبين مناصر لها في صمت وتردد.

يختلف الباحثون المحدثون في تحديد الشاعر الأول الذي بدأ بالثورة على الأطلال فقال بعضهم هو أبو نواس أمثال: السباعي بيومي في كتابه " تاريخ الأدب، ج 1، ص 301، وأحمد عبد الستار الجواري في كتابه " الشعر في بغداد"، ص 276، وأكد كل من محمد عبد العزيز الكفراوي، ومحمد نجيب البهبيتي ويوسف حسين البكار أن هذه الدعوة كانت شائعة في عصر أبي نواس قبل نضجه الشعري، فقد كان كل من أبان اللاحقين وسلمى الخاسر، ومنصور النمري وعبد الله بن أبي أمية وبشار وغيرهم يفتتحون قصائدهم بالغزل والخمر والوقوف على القصور، ويستشهد الباحثون ببيتين يعتبرنهما أول شعر قيل في هذا المعنى.

لأحسنُ من بيد يحار بهذا القطرُ و من جبلي طي ووصفكما سلعا

تلاحظ عينـي عاشقـين كلاهمـا له مقلة في وجـه صاحبه ترعى

فلما جاء أبو نواس أعجب بهذا الاتجاه فأخذ به وأعلنه ودعا إليه وصبغه بلون شخصيته وقال فيه شعرا كثيرا حتى نسب إليه... يقف الباحثون أمام موقف أبي نواس هذا يحاولون فهمه وتفسيره والبحث عن أسبابه وعلله في بيئته وشخصيته وسلوكه، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى.



فهذا طه حسين: يرى أن النواسي يريد أن يتخذ في الشعر مذهبا جديدا وهو التوفيق بين الشعر وبين الحياة الحاضرة، فليس يليق بساكن بغداد المستمتع بالحضارة ولذتها أن يصف الخيام والأطلال أو يتغنى الإبل و الشاء، وإنما يجب عليه أن يصف القصور والرياض ويتغنى الخمر والقيان، فإن فعل غير ذلك فهو كاذب متكلف"(6)

ثم يؤكد أن هذا المذهب ليس مذهبا شعريا فحسب ولكنه مذهب سياسي أيضا إذ ربطه النواسي بالشعوبية، فهو يذم القديم لأنه قديم و عربي، ويمدح الحديث لأنه حديث وفارسي، ويستشهد بقول الشاعر:

لا تبك ليلى و لا تطـرب إلى هـــند و اشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها أجدتــه حمرتهـا فـــي العيــــن والخــــد

عــــاج الشقي علـى دار يسائلهــا وعجــت أســــأل عـــن خمـــارة البــــلد

يبكي على الطلل الماضين من أسد لا در درك قـــل لــــي مــن بنو أســـد(7)



وإلى جانبه محمد مندور الذي يرى أن دعوة النواسي " لم تعد أن تكون محاداة للشعر القديم والمحاداة أخطر من التقليد، وذلك لأننا كنا نفهم أن يدعو إلى نوع جديد من الشعر، وأما أن يحافظ على الهياكل القديمة للقصيدة، مستبدلا ديباجة بأخرى، وأن يدعو إلى الحديث في موضوعات لا تستطيع أن تحرك نفوس الجميع، كذلك ما يمكن أن يعتبر خلقا للشعر الجديد"(8).



ثم إن محمد عبد العزيز الكفراوي ذهب أبعد من ذلك حين راح يبحث عن أسباب ثورة أبي نواس في شخصيته المعقدة قائلا:" ولعنا لا نكون بمعزل عن الحقيقة، إذا ربطنا بين هذه الثورة الفنية ونقمة الشاعر على العرب عامة وعرب الشمال خاصة... وقد رأى أبو نواس في التغني بتلك الأطلال تمجيدا وذكرا لعرب الشمال وباديتهم وأثارهم وتقاليدهم، فأعلنها ثورة على الأمرين جميعا"(9). ويستشهد بقول أبي نواس:

دع الـرسـم الـذي دثرا يقـــاسـي الـريح والمطــرا



ويذهب د. مصطفى هدارة ويوسف حسين بكار إلى اعتبار ثورة أبي نواس على الأطلال نتيجة طبيعية اقتضتها ظروف العصر وما طرأ عليها من تقدم حضاري شمل الناس في أكثر مناحي حياتهم حتى أصبح من المستحيل بالنسبة لأبي نواسي وغيره الالتزام بأشياء غير ماثلة في عصرهم.



وترى أحلام الزعيم أن أبا نواس: " جاء بمذهب شعري جديد يتمثل في ثورته على منهج القصيدة وبنائها العام وهو ما أثار عليه الشعراء المتزمتين والنقاد المحافظين، فقادوا حملة للتشهير ضده ساهمت في تشويه سمعته"(10)

و الحق أن أبا نواس كان متناقضا في سلوكه وأقواله ونسبت إليه أشعار لم يقلها ووصفت شخصيته بأوصاف هو منها بريء و كل ذلك لا يزال ينتظر التحقيق و الكشف وهو قبل هذا وذاك شاعر يعيش اللحظات المتوترة، وهي التي خلدها في شعره، بروجه ونفسه قبل عقله وتفكيره، فالأصح أن تؤخذ مواقفه الشعرية مآخذ الجد، وأن تعتبر مشاعر نفسية فقط آثارها في نفسه وأصلها في روحه تربيته الخاصة، وبيئة عصره المليء بالمتناقضات، فهو لم يثبت قط عند رأي أو مذهب فكري من المذاهب المتصارعة في زمنه حتى تصح مؤاخذته به ومحاسبته تحت ضوئه، و إنما كان مخلصا طيلة حياته – باستثناء فترة توبته – لمجونه وعبثه واستهتاره، و لا يفوتنا والمناسبة هذه إلا أن نسجل الملاحظات التالية:

1- نرفض أن يكون وراء ثورة النواسي على الأطلال مذهبا فنيا جديدا، إذ لو كان الأمر كذلك لما ناقض الشاعر نفسه فبدأ كثيرا من قصائده بذكر الأطلال و البكاء على الديار.

2- أن أبا نواس لم يخصص شعره للخمريات و الغزل بالغلمان وحداهما بل شارك شعراء عصره في كل الأغراض الشعرية المعروفة.

3- نرفض القول بأن الشعوبية كانت وراء موقف أبي نواس من الأطلال فهو لم يشغل نفسه بالأمور السياسية الجادة كالشعوبية، وهجاؤه الشعوبي كان موجها إلى أعراب البدو المتخلفين لا إلى العرب المتقدمين فاسمعه يقول:

فهذا العيش لا خيم البوادي وهذا العيش لا اللبن الحليب

لا تأخذ عن الأعراب لهـوا ولا عيشـا فعيشهـم جديـب (11)

وقوله:

و من تميم، ومن قيس و إخوتهم ليس الأعاريب عند الله من أحد.(12)

4- إن الشاعر حين يسخر من الوقوف على الأطلال لا يدعو إلى نبذها لكي يتفرع لوصف مظاهر الحضارة الجديدة عوضا عنها، بل يقدم بديلا عنها: وهو الدعوة إلى الاستمتاع بالمتع التي أتاحها له مجتمعه، و لا يدعو إلى الوقوف على حوانيت الخمر عوضا عن الأطلال بل يدعو إلى دخول تلك الحوانيت ومعاقرة الخمرة داخلها، فهو القائل:

اترك الربع وسلمى جانبـا واصطبح كرخية مثـل القبس.

5- فهو إذن يدعو إلى سلوك خلقي لا إلى مذهب فني، وا تخذ من الأطلال رمزا لسلوك البدوي المغرق في البداوة والتخلف في نظره، وإلى مثل ذلك يذهب عباس محمود العقاد حين يؤكد أن أبا نواس: " ما كان ينعى على الشعراء بكاء الطلول إلا لينعى من وراء ذلك معيشة البادية على أهلها أجمعين، وبهذه النزعة كان يكثر من التعريض بالعرب العدنانيين والفخر بالعرب القحطانيين، ولم يكن له نسب ثابت في هؤلاء و لا هؤلاء"(13)، ثم يصل المسألة بما سماه بعقدة النسب عند أبي نواس فقد كان عصره عصر العصبيات والمفاخرة بالأنساب وقد دفعته وضاعة أصله إلى البحث عن أصل عربي شريف حتى قال فيه أحد الشعراء:

واضع نسبه حيث اشتهى فـإذا ما رابه ريب رحـل.

و كانت هذه العقدة في نظر العقاد من أشق الأمور على نفس أبي نواس ومن أقوى البواعث التي حملته على معاقرة الخمرة وإلف مجالسها، واختيار المجالس التي لا تسمع فيها المفاخرة بالأنساب و في ذلك يقول:

راح الشقي على الربوع يهيم و الراح في راحي، فرحت أهيم

ولفارس الأحرار أنفس أنفس وفخـــارهـم فـي عشرة معـدوم

و إذا أنــادم عصبـة عربيـــة بدرب إلى ذكـر الفخـــــار تميم

وبنوا الأعاجـم لا أحاذر منهم شـرا، فمنطـق شربهـم مذمـوم

إننا لمضطرون في النهاية إلى الاستعانة بالفلسفة الحديثة وإدخال " مركب إدلر" الشعور بالنقص في هذه القضية، فأبو نواس يشعر بنقصه في مجال الفخر بالعصبيات، ومع هذا الكره الشديد للعصبيات لم يندفع معه ليفضل الفرس عن العرب، و الدليل على هذا أن قارئ ديوان أبي نواس لن يجد شيئا من ذلك...

على الرغم من التقاء غير واحد من شعراء القرن الثاني الهجري عند استنكار البناء التقليدي للقصيدة العربية وتعدد محاولاتهم لتغيره وجعله ملائما للبيئة الجديدة فإن هذا الاستنكار و الرغبة في التغيير لا يتوفران عند جميع الشعراء المعاصرين له، فقد ظل كثير منهم محافظا على التركيب الثلاثي للقصيدة العربية وخاصة في قصائد المديح، بل إن هؤلاء المجددين أنفسهم ومنهم أبو نواس سايروا التقليد في بعض قصائدهم فبدأوا بالوقوف على الأطلال وبكاء الديار و الغزل التقليدي... وأشهر النماذج الشعرية التي التزم فيها النواسي بالمنهج التقليدي قصيدة في مدح الرشيد و مطلعها:

لقد طال في رسم الديار بكائي وقد طال تردادي بها وعنائي

و أخرى في الفضل بن يحيى:

أربع البلى إن الخشوع لباد عليك وإني لم أخنك ودادي(14)

ونلاحظ من خلال قراءتنا لشعر أبي نواس أنه لا يستغرق في المقدمة الطللية بتقاليدها الجاهلية إلا حين يكون أمام ممدوح يتهيبه كالرشيد مثلا، أما حين تكون بينه وبين الممدوح ألفة وقلة احتشام فإنه يساير طبيعته، فينهد لقصيدته بالخمر و الغزل بالمذكر أو يبدأ بذكر الطلل ويتخلص منه سريعا بالهجو و التهكم لينصرف إلى لهوه و ملذاته كقوله في القصيدة التي مدح بها العباس بن عبد الله بن منصور.

ديـــار نـــوار مـا ديـــار نـوار كســــونك شجـوا هـــــن منـه عـوار

يقولون في الشيب وقار لأهله وشــيـبـي بحمـد الله غيـــر وقـــــــار وإذاكنت لا أنفك عن طــاعـــة الهوى، فإن الهوى يرمي الفتى ببواري فــها، إن قلبي لا محالة مائـل إلـى رشـــــإ يسعــى بكـأس عقـــاري(15)

لقد انتهت ثورة أبي نواس على الأطلال إلى الإخفاق، ولم تؤت ثمرتها المرجوة في تجديد الشعر العربي وتغيير هيكل القصيدة، واستبدال مقدمتها الطللية بمقدمات وصف الخمرة والغزل بالمذكر ويعزو الباحثون هذا الإخفاق إلى أسباب عديدة أهمها:

1- موقف اللغويين و النقاد والشعراء المحافظين من الحركة التجديدية عموما، ومن الثورة على الأطلال خصوصا، ذلك الموقف الذي يتمثل في إيثار القديم و التعصب له ورفض كل شعر محدث.

2- تسرب عدد من العوامل و الأغراض التي لاصلة لها بالفن و الأدب إلى نفوس المجددين وأشعارهم: كالشعوبية والإلحاد والزندقة و الإباحية والاستهتار بالتقاليد، الأمر الذي سهل على المحافظين مقاومتهم و القضاء على حركتهم.

3- تغير المجتمع العباسي ابتداء من القرن الثالث الهجري، ونهاية عهد الاستقرار والرخاء الذين شهدهما العصر العباسي الأول وبدأت الصراعات السياسية القوية والحروب الداخلية المتصلة فكان لذلك أثره على الشعر الجاد الذي يواكب الأحداث ويؤرخ لها، كما كان الحال في العصرين الجاهلي و الأموي.

4- تحول الوقوف على الأطلال في العصر العباسي إلى تعبير رمزي، بعد أن كان حقيقة أصلتها نزعة المحافظة وتقدير التراث في نفوس العرب و المسلمين.

5- عدم صلاحية الخمرة بديلا عن الغزل في استفتاح القصائد، إذ أن الغزل يلتقي في الإعجاب به و الانشراح له الناس كافة على اختلاف طبقاتهم وميولهم بينما لا يعجب بالخمرة إعجابا مطلقا إلا من كان من أهلها، ولا يصفها بدقة إلا شاربها...

أما أثر ثورة أبي نواس على الأطلال في الشعر العباسي فيتجلى عند بعض الشعراء المعاصرين له، و من جاء بعدهم في أشكال متنوعة من الاستجابة و التأثر بالرغم من محافظة الجميع على البناء التقليدي للشعر في قصائدهم، فمسلم بن الوليد، يستفتح قصيدة له بوصف الخمر، ثم ينتقل بعده إلى وصف رحلته إلى ممدوحه على سفينة تمخر عباب الماء، وفي مطلعها يقول:

أديري علي الراحة ساقية الخمر و لا تسأليني واسألي الكأس عن أمري(16)

ويقول في وصف الرحلة:

و ملتطـم الأمـواج يرمي عبابـه بجرجــــرة الأذى للعــــبر فـالعـــبري

مطعمـة حيتانه مــا يغيبهــا مآكـــل زاد مــن غريــق و من كسرى

إذا اعتنقت فيه الجنوب تكـفأت جواريه، أو قامت مـع الريح لا تجري(17)

و أبو العتاهية( المتوفى سنة 211هـ)، يقلد في قصيدة له النواسي ويلتزم بحدود مذهبه فيقول:

لهفي على الزمن القصير بين الخور نق والشد يــــر

إذا نحن في غرف الجنا ن، نعوم في بحر السرور(18)



ففي مطلع قصيدة يمزج فيها بين الغزل و العتاب وشكوى الممدوح، نسمعه يقول:

يا صاح قـد عظــم البلاء وطـال وازددت بعدك صبوة وحبالا

حملــت ممــــن لا أنــوه باسمـــه ثقـلا، كـأن بـــه علـي جبــــالا

يا مـن تفـردت بالجمال فــلا تـرى عيني على أحـــد سـواه جمــالا

أكثرت في شعري عليك من الرقى وضربت في شعري لك الأمثالا

وأبيـــت إلا جفــــــوة و تمنـعـــــا وأبيــت إلا صبــــوة وضــــلالا

وفيها يقتضب الرحلة ويقصرها فيقول:

إني آمنت من الزمان وصرفه لما علقت من الأمير حبالا

وقد أعجب الممدوح عمرو بن العلاء بالقصيدة كثيرا وأجزل له العطاء...



أما أبو تمام(توفي سنة 232هـ )، فهو يخلط في المقدمات بين الغزل و الشكوى من الزمن وفي ذلك يقول:

أعاذلتي ما أخشن الليل مركبا وأخشن منه في الملمات راكبه

ذريني وأهوال الزمان أفانـها فأهواله العظمى تليها رغــائبه

دعيني على أخلاق الصم التـي هي الوفر أوسرب ترن نوادبه(19)

و في هذه الأبيات صورة وملامح واضحة من قصيدة أبي نواس في مدح الخصيب التي يقول فيها:

تقول التي من بيتها خف موكبي عزيز عليـــنا أن نـراك تسيـر

أمـا دون مصر للغنـى مطــــلب بلى إن أسبـــاب الغنى لكثــير

فقلت لهـا واستعجلتهـا بــــوادر جرت فجرى في جريهن عبير

ذريني أكثر حاسديـك برحلــــة إلـــى بلـد فيــه الخصيب أمير

وهو يمشي أبعد من ذلك فيستغني عن المقدمة الطللية و الغزلية كما فعل في قصيدته في مدح المعتصم حين قال:

الحق أبلج و السيوف عواري فحذار من أسد العرين حذاري

و كذلك فعل في وصفه لفتح عمورية:

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.(20)

وهو كثيرا ما يقدم الغزل على وصف الأطلال.



و البحتري المتوفى سنة( 284هـ) يوجه قصيدته السينية بوحي من الوقوف على الأطلال و الرحلة إلى الممدوح، فيظمن آثارا قديما محتوى جديدا، أبدع فيه أيما إبداع:

صنت نفسي عمـا يدنس نفسي وترفعت عــــن جدا كل حبس

حضرت رحلي الهجوم فوجهـ ت، إلى أبيض المدائن عنسي(21)

وهو في بعض القصائد الأخرى يسلك نهج أبي العتاهية في المزج بين الغزل و العتاب والشكوى، مما يعاني من حب الممدوح وفرط الصبابة مع إعراض هذا الأخير عنه، فيقول مثلا في مدح المتوكل:

عذيري فيك مـن لاح إذا مــا شكوت الحب حرقني ملامـــا

فلا وأبيك مـا ضيعت حلمــــا و لا وأبيك ما قـــارفت ذمـــا

ألام علــى هواك وليس عدلا إذا أحببـــت مثـــــلك أن ألام

لقد حرمت من وصلي حلالا وقد حللت من هجري حراما(22)

وقد يستغني عن المقدمة الطللية و الغزلية ويدلف إلى غرضه الرئيسي دون مقدمة كما فعل في مدحه لأبي عيسى بن صاعد حيث قال:

قامت بلادك لي مقام بلادي وأرى تلادك بات دون تلادي((23)

أما عبدا لله بن المعتز، فيقف على محلة ببغداد ويناجيها مناجاة الشاعر الجاهلي لأطلال الديار ورسومها، فيأتي بأجود شعره فيقول:

بؤسا لدهر غيرتك صروفه لم يمح من قلبي الهوى ومحاك

لم يعد للعينين بعدك منظر ذم المــنازل كلـــهن ســــــــــواك

أي المعاهد منك أندب طيبه مـمساك بالآصـــال أم مـغــــــداك(24)



والمتنبي ( توفي سنة354هـ، ) يجمع في مقدمة قصيدته بين الغزل والعتاب على طريقة أبي العتاهية، ومن ذلك قوله:

وأحـر قلباه ممــن قلـبه شبـم و من بجسمي وحالي عنده سقم

مالي أكتم حبا قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولــة الأمــم

إن كـان يجمعـنا حـب لغرتــه فليثنا بقـــدر الحـب نقتســــــم(25)

والجدير بالذكر أن قضية بناء القصيدة دخلت ميدان النقد الأدبي في العصر العباسي، فتناولها النقاد بالدرس و النقد ضمن ما اشترطوه على الشاعر من الحرص على إجادة مطلع القصيدة وخلوه مما يثير اشمئزاز الممدوح ونفوره، ومن حسن التخلص إلى الغرض الأساس، حتى ينشأ الترابط والانسجام بين موضوعات القصيدة، ومن حسن الختام كذلك قال الجرجاني:" والشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص وبعدها الخاتمة، فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور، وستميلهم إلى الإصغاء ولم تكن الأوائل تخصها بفضل المراعاة، وقد احتذى البحتري على مثالهم إلا في الاستهلال فإنه عني به، فاتفقت فيه محاسن، فأما أبو تمام و المتنبي قد ذهبا في التخلص كل مذهب، واهتما به كل اهتمام، واتفق للمتنبي فيه خاصة ما بلغ المراد وأحسن وأجاد".(26)





والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





الأستاذة بشرى تاكفراست.

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...