الأربعاء، 17 أغسطس 2011

المنهج الأسلوبي .. دراسة موجزة نظرية / تطبيقية -أ.أسماء السقيلي

لقد تقدمت المناهج النقدية في عالمنا العربي تقدماً ملحوظاً وإن لم تكن قد وصلت إلى المستوى الذي وصلت إليه أوروبا بيد أن النقاد العرب قد شغفوا بها وأخذوا بلجامها في دراسة وتحليل وتقويم النص الأدبي..
ومن هذه المناهج التي خدمت النصوص الأدبية وبلورت جمالياتها هي (الأسلوبية)..



فماذا يقصد بالمنهج الأسلوبي أو "الأسلوبية"؟


المنهج
كما عرفه الجيلالي: (طريقة موضوعية يسلكها الباحث في تتبع ظاهرة، أو استقصاء خبايا مشكلة ما لوصفها أو لمعرفة حقيقتها وأبعادها ليسهل التعرف على أسبابها وتفسير العلاقات التي تربط بين أجزائها ومراحلها وصلتها بغيرها من القضايا، والهدف من وراء ذلك هو الوصول إلى نتائج محددة يمكن تطبيقها وتعميمها في شكل أحكام أو ضوابط وقوانين للإفادة منها فكرياً وفنياً) (1).

أما الأسلوب:
ففي لسان العرب يقال للسطر من النخيل أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب الفن يقال أخذ فلان في أساليب من القول: أي أفانين منه.(2)
وعرف "ريافتير" الأسلوب بأنه: "كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً".(3)
ويعتبر شارل بالي الفرنسي النمساوي تلميذ دي سوسير "مؤسس المنهج البنيوي" من أوائل المؤسسين لهذا المنهج وتبعه جاكبسون الذي عرف الأسلوبية بأنها "البحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً".(4)

وقد ألمح عبد القاهر الجرجاني إلى الأسلوب في نظرية النظم، فالنظم عند الجرجاني هو الأسلوب، ومن هذه النظرية بنى الأسلوبيون منهجهم الحديث "الأسلوبية" فأضحت بفضل الكثير من الملاحظات المتراكمة علماً خاصاً بدراسة جماليات الشعر والنثر.
ولم يعد المنهج الأسلوبي يعتمد على الألفاظ وعلاقاتها بالجمل والتراكيب والقواعد النحوية فحسب بل " توسع مفهوم علم الأسلوب ليشمل كل ما يتعلق باللغة من أصوات و صيغ و كلمات وتراكيب فتداخل مع علم الأصوات و الصرف و الدلالة و التراكيب لتوضيح الغاية منه, و الكشف عن الخواطر و الانفعالات و الصور , وبلوغ أقصى درجة من التأثير الفني , بل توسع أكثر من ذلك أخيرا (5) و اشتمل على علم النفس و الاجتماع و الفلسفة وعلوم أخرى شهدت دقة مناهجها ومدى صلاحيتها في إغناء المنهج الأسلوبي.
يقول غزوان " وقد أدى الاهتمام بدراسة الأسلوب وتحليله لغويا على وفق معايير لغته أو فنياً على وفق المعايير الفنية , إلى ظهور ما يسمى بالأسلوبية اللغوية التي ترى أن الأسلوب قد يكون انزياخا أو انحرافا, أو عدولا عن السياق اللغوي المألوف في هذه اللغة أو تلك , أو قد يكون تكرارا للمثال , أو النموذج النصي الذي يهتم به الذوق العام أو قد يكون كشفا خاصا لبعض أصول اللغة ومرجعياتها ولا سيما في الوجه الجمالي للتعبير أو ما يسمى بالوجه البلاغي أو البياني"(6)

ومن هنا نستخلص بأن الأسلوبية إنما تعتمد اعتمادا كبيرا على الدراسات اللغوية التي تمهد لدراسة النص الأدبي , لأن الناقد الأدبي -على حد تعبير غزوان- قبل كل شيء يجب أن يكون لغويا جيدا لأنه" لا وجود لأي نص أدبي خارج حدود لغته"(7) وهذا يدفعنا إلى أن الأسلوبية لا تكتفي البتة ببنية النص كما هي البنيوية بل تنظر إلى ما يحيط بها نظرة شمولية تهدف من وراءها إلى خلق جماليات النص الأدبي و تنويره للقارئ.
هذا بالإضافة إلى علاقتها بالبلاغة العربية و ما يعرف بالانزياح و التكرار و الإيحاءات التي يستشفها الناقد من السياقات المختلفة.
ويتحدد المنهج الأسلوبي وفق خمسة اتجاهات(8) :

1- الأسلوبية الصوتية:
وهي التي تهتم بالأصوات و الإيقاع و العلاقة بين الصوت و المعنى.

2-الأسلوبية الوظيفية:
وتهتم بدراسة العدول أو ما يسمى بالانحراف أو الانزياح.
وتقوم على مبدأين:
أ‌-دراسة نصوص كثيرة تمثل أنواعاً أدبية مختلفة وأجناسا متعددة وعصورا بغية الكشف عن الآليات التي تتحكم في تكوين الأسلوب الشعري.
ب‌- الإفادة من نتائج علم النفس ..فدراسة العمل الأدبي أسلوبياً يتطلب التحرك بمرونة قصوى بين الأطراف و المركز الباطني للنص , والوصول إلى تلك النتائج يتطلب إعادة قراءة النص مرارا.

3-الأسلوبية التعبيرية:
وكان رائدها بالي الذي شق الطريق للتفريق بين أسلوبين أحدهما ينشد التأثير في القارئ و الآخر لا يعنيه إلا إيصال الأفكار بدقة . وطور تلاميذه هذا الاتجاه عن طريق التوسع في دراسة التعبير الأدبي , فالكاتب لا يفصح عن إحساسه الخاص إلا إذا أتيحت له أدوات ملائمة , وما على الأسلوبي إلا البحث عن هذه الأدوات.

4-الأسلوبية الإحصائية:

تقوم على دراسة ذات طرفين , أولهما: هو التعبير بالحدث , و الثاني هو التعبير بالوصف , ويعني بالأول الكلمات أو الجمل التي تعبر عن حدث و بالتالي الكلمات التي تعبر عن صفة , ويتم احتساب عدد التراكيب و القيمة العددية الحاصلة تزيد أو تنقص تبعاً لزيادة أو نقص عدد الكلمات الموجودة في هذه التراكيب , وتستخدم هذه القيمة في الدلالة على أدبية الأسلوب و التفريق بين أسلوب كاتب و كاتب .
فمثلاً كتاب " الأيام" لطه حسين تبين مثلاً أن نسبة الجمل الفعلية إلى الوصفية 39% في حين أن نسبة تكرار هذه الجمل في كتاب " حياة قلم" للعقاد لا تتعدى 18% , ومعنى ذلك أن كتاب الأيام أقرب إلى الأسلوب الانفعالي و الحركي من كتاب العقاد الذي يميل فيه إلى الطابع الذهني العقلاني.


5-الأسلوبية النحوية:
تهتم بدراسة العلاقات و الترابط و الانسجام الداخلي في النص و تماسكه عن طريق الروابط التركيبية المختلفة , ومن هذه العلاقات : استخدام الضمائر و العطف و التعميم بعد التخصيص... وهذه العلاقات يلجأ إليها الكاتب لتنظيم جملة بعضها إلى جانب بعض مما يؤدي إلى تماسكها و ترابطها ..

وعلى هذا فإن الأسلوبية تواصل تأملها لعالم النص عن طريق القراءة المتعددة الوجوه , وتتحدد هذه الاتجاهات بعضها مع بعض في كيان عضوي يجذب القارئ و يستثير تساؤلاته.


---
(1) مجلة الموقف الأدبي , العدد 404
(2)انظر لسان العرب مادة (سلب)
(3)اتجاهات البحث الأسلوبي , لشكري عياد
(4) النقد الأدبي الحديث أسسه الجمالية , للدكتور: سعد أبو الرضا
(5) المرجع السابق.
(6) أصداء دراسات أدبية نقدية , للدكتور: عناد غزوان.
(7) المرجع السابق.
(8) في النقد و النقد الألسني: للدكتور: إبراهيم خليل।
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
]استقبال القمر

إبراهيم ناجي



يحلل شكري عيّاد هذه القصيدة فيقول:

(يوحي عنوان هذه القصيدة بنوع من التفاؤل أو الفرح، فالاستقبال يكون لضيف عزيز نسعد بقدومه، أو لشخص عظيم نحتفل بلقائه، والوزن القصير المرن (مجزوء الكامل الذي تتعادل فيه المقاطع القصيرة والمتوسطة الطول) يزيد القصيدة إشراقاًَ.
ومناجاة القمر تستمر مع الشاعر من أول القصيدة إلى آخرها.
ولعلنا وقد استرعى نظرنا امتداد الحوار بين الشاعر والقمر على طول القصيدة، نجد من الأوفق أن نبدأ تحليلنا الأسلوبي لها بملاحظة طريقة خطاب الشاعر للقمر.
والسمة المميزة لخطاب القمر هنا هي كثرة أفعال الأمر التي يراد بها الدعاء أو الرجاء أو التمني، وفعل الأمر هنا يقوم بترقيم القصيدة أو بتحديد بدايات الفصول، فالمقطع الأول يبدأ بفعل أمر (أقبل)، والمقطع الثاني يبد بفعل أمر كذلك (كن)، وبعد ثلاثة مقاطع تأتي بداية مختلفة ولكنها تؤدي وظيفة "الترقيم" كفعل الأمر أو أقوى منه، وهي النداء المكرر "قمر الأماني يا قمر" ويمكننا أن نلاحظ هنا ما في إضافة القمر إلى الأماني من حذف حرف النداء ثم كرر النداء بـ (يا) في ذات البيت، وفي الفصل الأخير تتعاقب ستة أفعال أمر في ثلاثة مقاطع وهم "اسكب، أفرغ، اخلع، خذني، نجني، اسقني" أما المقطع الختامي فيبدو أنه مميز عن الفصل السابق إذ بدئ باسم فعل مضارع يدل على التعجب "واهاً" وخلا من أي فعل أمر.
ويبدو لنا أن تركز أفعال الأمر الدعائي في المقاطع الثلاثة التي سبقت المقطع الأخير يعبر عن تصاعد انفعال الشاعر، في حين أن خلو المقطع الأخير منها يدل على الوصول إلى نقطة إشباع. ويؤكد ذلك استعمال اسم الفعل الذي يدل على التعجب، والعطف بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.
ويستوقف نظرنا من بين هذه الأفعال قوله في ابتداء المقطع الثالث "كن حيث شئت" فهذا الأمر يختلف عن فعل الأمر السابق "أقبل"، وعن الأفعال التالية "اسكب...وأفرغ.." التي تدل على التضرع والدعاء.
إن الذي يقول كن حيث شئت يريد بها نوعاً من التحدي، وكأنه يقول "لا يهمني من أنت، ولا ابن من تكون" وبهذا يشعر خصمه أنه أعد له اللقاء المناسب، ولكن انظر إلى ما أعده الشاعر هنا "ما أنا إلا معنىً بالمحال" إن شجاعته هي شجاعة من استعد لأن يضرب حتى الموت وكأنه يقول "عظمتك لا تخيفني، لأني أعلم أني لا شيء".

أما إذا نظرنا إلى الصور فمخاطبة الشاعر للقمر كما لو كان إنساناً عاقلاً أمر غير مستغرب في لغة الشعر... فتلك الصور التي رسمها الشاعر تعبر عن شوقه إلى الانعتاق من هموم الدنيا، وقد عرف بسخطه على الحياة والأحياء، ناعياً سوء حظه وضياع عمره، ولكن لا بد أن نتوقف عند سلبية الصور التي يرسمها لنفسه، فهو لا يخوض صراعاً من أي نوع كان، وإنما هو فريسة الهم والسقم والشقاء، ولذلك فإن "القمر" يجب أن يصنع له كل شيء، ويجب أن يشفيه من همه المسقم، وأن يجعله خالداً مثله، ويأخذه بعيداً عن عالم المعاناة هذا، وربما خيل إلينا قوله "واخلع على قلبي الصفاء" أنه يعاني نوعاً من الصراع الداخلي، لكننا لابد أن نستبعد هذا الفهم حيث نجده يقول: قدحي ترنَّق فاسقني *** قدح الشعاع مطهرا
فهو (مستقبل) فحسب، الحياة تسقيه كدرا، وهو يريد شراباً صافياً، مع أنه لم يفعل شيئاً يستحق هذه النعمة إلا الصبر والتمني.
ولابد أن نلاحظ أيضاً أن تمثيل الشاعر للنعمة التي يرجوها من القمر قد غلبت عليها صورة "الشراب": "ما أظمأ الأبصار لك"، "ظمآن أرشف ما تجود"، "اسكب ضياءك في دمي"، "أفرغ خلودك في الشباب"، وإن كانت هناك صورة لمسية وهي صورة العناق "طابا عناقاً في الأثير"، وصورة بصرية "العين بعدك عمياء"، وثالثة مستعارة من اللبس "اخلع على قلبي الصفاء"... وغلبة صورة الشراب تجعلنا نميل إلى الظن بأن في القصيدة حزمة انفعالية ترجع في منشئها إلى المرحلة الفمية في حياة الطفل... فعلماء التحليل النفسي يقولون: ترتكز حياة الطفل النفسية في أشهره الأولى حول فمه، فالفم هو مصدر المعرفة ومصدر الوجدان والنزوع جميعاً، فهو يرضع بفمه، يحب بفمه، يناغي بفمه، ويميز الأشياء بفمه، والدليل على أن هذا الفم هو مصدر الأحاسيس الوجدانية لدى الإنسان في مراحل حياته الأولى هو أننا ربما لاحظنا أن الطفل عندما ينتهي من الرضاعة يتصبب عرقاً، وهذا يدل على الاندماج الكامل بين الأم والطفل، وعندما تنزع الأم طفلها قبل إتمام الرضاعة فإن أمارات الفزع والغضب تبدو واضحة عليه تماماً.
فالشاعر يريد أن يشعر بالاندماج الكامل بينه وبين القمر فيخلع عليه صفات الأم من العناق في قوله "طابا عناقاً في الأثير" فهو تعبير دقيق عن عناق الأم لطفلها، ومن الحنان في قوله "تحنو عليك وتلثمك"، أما في قوله "العين بعدك عمياء" فهي تطابق المعروف عن اكتمال الإحساسات البصرية لدى الرضيع وأنها أول ما تتركز على أمه.
فالصور تغوص في أعماق العقل الباطني وإن تشربت كثيراً من التجارب الواعية، فهو –الشاعر- يعيش وسط أحلام وأماني وأوهام يحاول أن يصل إلى السعادة المفتقدة من خلال مناجاته مع القمر وكأنه طفل يحاول أن يتشبث بتلابيب أمه الغائبة.
فرؤيا الشاعر المفتقدة التي يختم بها قصيدته رؤيا التوحد مع الأم، في وجود لا مكان فيه لغيرهما، وقد شعر بأنه مع ذلك الكائن العجيب القادر يحلق في الأعالي وهذا ما يقوله اللاوعي واللاشعور... أما وعي الشاعر فيقول إنه حلم مستحيل ولكنه وقد أعد نفسه له لا يملك إلا أن يسترسل فيه).(9)
[align=center]*
*
*[/align]

إن قراءة نقدية كقراءة شكري عياد تعد من القراءات النقدية الحديثة التي خدمت القصيدة وبلورت معالمها، فلا تعد قراءة في –مجال النقد الأدبي- خاطئة وصائبة، ولكنها إما قاصرة أو كاملة... فالمجال النقدي مجال مرن يتقبل وجهات النظر المبنية على أسس ومناهج علمية مدروسة.

لقد أجاد الناقد في تحليله من حيث ترسمه للاتجاهات الأسلوبية الصوتية والتعبيرية والوظيفية والإحصائية والنحوية...
تلك الاتجاهات التي اتضحت جليةً في تحليله، فالمستوى الصوتي اتضح في بيانه للوزن والقافية ومدى أثرهما على النص، والتعبيري في بيانه استخدام الشاعر لخطابه الخاص الموحي بالحرمان والشوق إلى الانعتاق من هموم الدنيا، أما على المستوى الوظيفي ففي مدى أثر هذا النص على المتلقي، والصورة التي بُلورت في نفس المتلقي فتراءت له معان جديدة... كصورة الأم والطفل، بالإضافة إلى اعتماده على التحليل النفسي لمراد الشاعر في إيحائه للأم من خلال حديث الشاعر للقمر.

أما المستوى الإحصائي فتراءى من خلال بيانه لأفعال الأمر التي استخدمت في القصيدة وكيف أثرت فيها، وكذلك على المستوى النحوي في عرضه لأثر العطف على الجمل الذي أدى بها إلى التماسك والترابط.


بيد أن الناقد قد غض طرفه عن أمر مهم تهتم به الأسلوبية وهي مسألة (الانحراف أو العدول) فالقصيدة مليئة بالانحرافات في مثل قوله "سحابة تحنو عليك"، "اسكب ضياءك"، "أفرغ خلودك"، "قدح الشعاع" فهذه الانحرافات من المصادر الجمالية في النص الأدبي تعطيه مزيداً من التوهج والإثارة وتمارس سلطة على القارئ من خلال ما تحمله من عنصر المفاجأة والغرابة... فهي توسع دلالات اللغة وتولد أساليب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة في الاستعمال.

وكذلك ما أحدثه التكرار لكلمة (قمر)، فقد تكررت في القصيدة أربع مرات، في العنوان وفي المقطعين الأول والسادس... ولا يخفى م لهذا التكرار الصوتي في النص من قيمة إيحائية ودلالية. فقد ارتبط القمر في عنوان القصيدة بالمصدر (استقبال) فإضافة القمر للمصدر أوضح أن ثمة لقاء سيأتي، وأن هذا اللقاء إلا لشخص بعيد عزيز لديه... لكن هل حدث هذا اللقاء أم لم يحدث لا ندري؟!.. فما إن ندلف إلى القصيدة حتى تخبرنا بأن هذا اللقاء لم يكن إلا أمانٍ وأوهام وأحلام تجلب الحسرات.. فارتباط القمر في المقطع الأول (بالعين العمياء) ليدل على استيائه ويأسه من حلول هذا اللقاء بأس شكل من الأشكال، كما هو الإنسان الأعمى الذي لن يستطيع يوماً أن تلتقي عينيه بالدنيا.
ثم يكشف الستار عن حقيقة مجلجلة في نفسه في المقطع السادس بأن هذا اللقاء الذي ينتظره –حقاً- ما هو إلا أحلام وأماني... وقد تكررت كلمة (قمر) في هذا المقطع مرتين لتدل على قيمة وجدانية علية، وأن الشاعر قد بلغ ذروة انفعاله!

يقول غريماس:"ثمة ما يبرر للتكرار وجوده، أنه يسهل استقبال الرسالة".(10)
ويقول عياشي:"غير أن وظيفة التكرار لا تقف عند هذا الحد، ذلك لأنها تخدم النظام الداخلي للنص، وتشارك فيه، وهذه قضية هامة لأن الشاعر يستطيع بتكرار بعض الكلمات أن يعيد صياغة بعض الصور من جهته كما يستطيع أن يكشف الدلالة الإيحائية للنص من جهة أخرى".(11)

فكلمة (قمر) في سياقها النصي هي الكلمة المحورية والجوهرية التي سلطت أضواءها على فضاءات النص وبلورت جمالياته.


هذا بالنسبة إلى ذات النقد، أما بالنسبة إلى المنهج المتبع وهو المنهج الأسلوبي فإنه يعيد لنا نشوة التراث حيث "نظرية النظم" عند عبد القاهر الجرجاني، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكن القارئ من الوقوف على جماليات النص الأدبي، فلا يستطيع القارئ الحكم على النص من قراءة بيت أو عدة أبيات، وإنما يقتضيه النظر والتأمل في القطعة الأدبية بكاملها.. ومن هنا يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما في النص من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير. فلا مزية للألفاظ –عند الجرجاني- من غير سياق ولا تفاضل بينها، وإنما تأتي مزيتها وأهميتها من خلال علاقة اللفظة بما سبقها من ألفاظ وما يليها من ألفاظ... فاللفظة لا يمكن أن توصف إلا باعتبار مكانها في النظم. وهذه من الأدلة التي يستند عليها الأسلوبيون في منهجهم النقدي.

وبنظرة أكثر شمولية ينفرد "حازم القرطاجنّي" بتميزه عن غيره من أهل النظر في علوم البيان والبديع.
فهو أول من قسم القصيدة العربية إلى "فصول"، وأول من أدرك الصلة الرابطة بين مطلع القصيدة وآخرها الذي يحمل في ثناياه الانطباع الأخير والنهائي عن القصيدة.
وبناؤه لهذه النظرة على الاستهلال والخاتمة قائم على أسس نفسية تراعي شعور القارئ ونمو التأثير العاطفي والوجداني فيه، فمن طبيعة القارئ الإحساس والتجاوب مع المشاعر المتجانسة التي تفيض في جوٍ أو مناخ خال من التقلبات العاطفية".(12)
وتلتقي نظرة القرطاجني في تقسيمه للقصيدة إلى "فصول" مع نظرة الأسلوبيين المعاصرين في تقسيمهم النص الأدبي –بغض النظر عن جنسه- إلى "أبنية"، فما "البنية" إلا مصطلح مقابل لما أسماه القرطاجني بالفصل حين قصد به: التقاء أبيات القصيدة وترابطها مؤلفة وحدة معنوية.


لذا من الرائع بل من الأروع أن نجمع بين تلك المناهج النقدية قديمها وحديثها، ونأخذ منها ما نراه من نظرةٍ فاحصة أنها ستخدم النص الأدبي وتكسيه حلة جديدة، وتعطي كل ذي حق حقه سواء كان من جهة المبدع أو النص أو المتلقي أي (المرسل، والرسالة، والمرسل إليه).

---
(9)مدخل إلى علم الأسلوب: للدكتور: شكري عياد.. "بتصرف"
(10)الأسلوبية وتحليل الخطاب: للدكتور: منذر عياشي.
(11)المرجع السابق.
(12)الأسلوبية ونظرية النص..للدكتور: إبراهيم خليل.

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...