الاثنين، 7 يناير 2013

أنماط بناء الصورة في شعر بثينة

 

أنماط بناء الصورة في شعر بثينة

 

الباحث: أ/ سالم محمد سالم بامؤمن
الدرجة العلمية: ماجستير
 الجامعة: جامعة حضرموت
بلد الدراسة: اليمن
لغة الدراسة: العربية
تاريخ الإقرار: 2008
نوع الدراسة: رسالة جامعية
الــخــاتــمــة
تعود الجذور التاريخية الأولى لمفهوم الصورة في النقد العربي القديم إلى الجاحظ الذي يرى أن الصورة هي الوجه الحسي الجمالي، وأن جودة الشعر تكمن في تلاحم أجزاء القصيدة معنى وألفاظاً ووزناً حتى تبدو القصيدة كأنها جنس من التصوير، كما أن الجاحظ هو أول النقاد الذين أشاروا إلى فاعلية الصور الحسية في الشعر وبخاصة البصرية منها.
ويلتقي ابن طباطبا العلوي مع الجاحظ في القول إن الشعر تصوير ونسيج وصناعة، أما تنميط الصورة عنده فلا يقتصر على الصور الحسية بل يتعداها إلى صور أخرى كاللونية والضوئية والحركية والصوتية والمعنوية، فهو قد أَلَمَّ بالصور الحسية والمعنوية.
أما قدامة بن جعفر فيلتقي مع الجاحظ من خلال اعتماده في جودة الشعر على التصوير والصياغة ولكنه يضيف نمطاً جديداً آخر للصورة وهي الصور التي تعتمد على الجانب التأملي والمعنوي ويمكن تسميتها بالصور الذهنية.
أما الرماني فإنه قد سلك منهج الجاحظ في التصوير والتقديم الحسي للمعاني وبخاصة البصرية منها، مستفيداً من هذا المنهج في تحليل الآيات القرآنية وتفسيرها.
والباقلاني هو الآخر أيضاً ينهج نهج الجاحظ في الاعتماد على التصوير الحسي للمعاني الشعرية.
أما عبد القاهر الجرجاني فقد شكّل بآرائه النقدية في كتابيه (دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة) منعطفاً جديداً في تاريخ الصورة يضاف إلى منهج الجاحظ التصويري، حيث بنى فهمه للصورة على أساس نظرية النظم، فالتصوير لا يكون عنده إلاّ بوساطة صياغة الألفاظ وترتيبها والتأليف بينها، والنظرة الكلية للقصيدة بوصفها بنية لغوية أو تركيباً لغوياً حتى تظهر الصور متناسقة ومنسجمة الأجزاء، وذوات دلالات إيحائية، ويبلغ مفهوم التصوير فيما أسماه عبد القاهر بـ(معنى المعنى) ذروته الجمالية من خلال دلالاته الإيحائية، ومقدرته على الخيال التصويري الرائع، فالصورة عنده بهذا المفهوم أضحت هي (الأسلوب).
أما حازم القرطاجني فإنه قد ركّز على التخييل في الشعر لإيمانه أن أروع الصور الشعرية هي التي توحي بأكبر قدر من الدلالة والإثارات التخييلية عند المتلقي، فالصورة عنده خيط يتجاذب طرفيه الشاعر (المبدع)، والمتلقي (مفكك الصور).
وعلى هذا فإن جهود النقاد العرب القدامى في تأصيل مفهوم الصورة قد بدأت بالجاحظ، حيث تلتقي الصور الحسية عند الجاحظ وابن طباطبا والرماني والباقلاني بالصور المعنوية عند قدامة لتؤلف أسلوب الشاعر المبدع عند عبد القاهر، ثم لتثير خيال المتلقي ووجدانه عند حازم القرطاجني.
والتعبير الحسي في الصور الشعرية مفهوم تردد في الدراسات البلاغية كثيراً، وذلك لأنه أسلوب يكشف المعنى الشعري المخزون في الذهن بشفافية للمتلقي. ومن أنماط الصور البلاغية التي تعتمد على التعبير الحسي الصور التشبيهية حيث تجمع بين الأشياء المتماثلة الكائنة في النفس والشعور لتقيم بينها وبين الآخر علاقة معاناة وعلاقة بحث في العالم المحيط، وهي أكثر الأنواع البلاغية استعمالاً حيث تُعَدُّ أصل الألوان البيانية وعمدتها.
والصور الاستعارية تؤدي المعنى الشعري بطريقة تجسيمية لأنها توحّد بين ذاتين بحيث يصبح في مقدور أحدهما أن ينوب عن الآخر، وتكمن جماليتها في الخيال التصويري الذي يسيطر على المتلقي بحيث تلتئم العاطفة مع الحواس فتحدث اللذة عن طريق الإيحاء، والتقمص الوجداني مع كائنات الحياة، وتصبح شريكة له وبهذا تظهر فيها الفعالية الخلاقة بين اللغة والفكر.
وتمتاز الصور الكنائية بالحيوية التصويرية حيث يفضي المحسوس فيها إلى المجرد، لذلك يتطلب من المتلقي للصورة النزول إلى عالم الأشياء لإدراك المجرد بوساطة التعبير الإيحائي فيها، فتؤثر في متلقيها لأنها تعرض له المعنى مقروناً بالأدلة والبراهين، كما أنها تمتلك طاقة جمالية وإيحائية وتأملية في آنٍ عبر الثنائية الدلالية في (المعنى) و (معنى المعنى).
أما النقد الحديث فيرى أن مصطلح الصورة من المواضيع المعقدة والمراوغة، ولذلك لا يجد الباحث في خضم العديد من المفاهيم للصورة في النقد الحديث تعريفاً للصورة الشعرية، ومن خلال تتبع هذه المفاهيم يمكن القول إنها سلكت في معالجتها طرقاً وأساليب متشعبة، سببه اختلاف الباحثين وتنوع مذاهبهم ومدارسهم الأدبية والنقدية.
ولكن النقد الحديث خطا خطوات متقدمة من خلال النظرة الكلية للصورة، ورفض تقطيع الصورة إلى أجزاء من غير النفاذ إلى روحها، ولهذا أصبحت الصورة في النقد الحديث بنية من العلاقات والتفاعلات المتشابكة المنتجة للعمل الفني.
وتشير دلالة مصطلح الصورة في النقد العربي إلى عدة دلالات منها الدلالة اللغوية والذهنية والنفسية والرمزية والبلاغية أو الفنية، وقد استفاد النقاد الغربيون من نظريات علم النفس الحديث في الدلالة النفسية للصورة التي تشير إلى أن الناس مختلفون في تشكيل صورهم في أذهانهم ، كما استلهموا من علم النفس أيضاً في تصنيف صور الشعراء (لمسية/ حرارية ضغطية )، ومن هذا تولّدت عندهم الدلالة الحديثة للصورة النفسية المتمثلة في التعبير الحسي عن التجارب إلى الذهن ثم ينقلها الذهن إلى الشعر ثم يعاد إحياؤها واسترجاعها بعد غياب المنبه الحسي.
وتمحورت تعريفات النقاد الغربيين للصورة في فعالية الصور البصرية المليئة بالعاطفة، ثم تدرج هذا المفهوم إلى الصورة الذهنية (المجردة) المعتمدة على الحواس، ثم الصورة التشبيهية والاستعارية، ثم تطور هذا المفهوم بوصف الصورة معاناة لغوية فضلاًعن كونها معاناة قول وحياة.
وفي إطار الحديث عن الصورة في النقد الغربي يمكن ضبط رؤى ونظرات الاتجاهات والمدارس الأدبية والنقدية:        
فالكلاسيكيون أهملوا الخيال في صورهم؛ لأن الصورة في نظرهم تعتمد على الوضوح والحقيقة، ولذلك وقفوا عقبة في سبيل فهم الصورة. أماالرومانسيون فقد طرقوا الخيال الشعري لرسم صورهم الشعرية، وهم من ابتدع مصطلح الصورة في العصر الحديث من خلال المزاوجة بينهم وبين الطبيعة ليصلوا إلى الحلول الشعري بينهما. أما البرناسيون فقد مالوا إلى التصوير التجسيمي المحسوس الذي يدرك عن طريق العين فهم يؤكدون على فعالية الصور الحسية المرئية وأثرها في إيضاح الفكرة المطلوبة. أما الرمزيون فيلجؤون إلى التصوير المادي للأشياء ومن الماديات يعبّرون عن الأشياء النفسية والوجدانية عن طريق اللغة الوجدانية وتراسل الحواس والتعبير الإيحائي عبر الرمز. أما السيرياليون فيعدون الصورة جوهر الشعر، وهي من انتاج الخيال ، ويهتمون بالصور التي تعبر عن الجوانب النفسية والباطنية، وأفضل الصور عندهم هي التي تبرز الحواس لأنها في نظرهم أقوى تأثيراً على القارئ، كما يفضلون الصور المتضادة وتراسل الحواس والمدركات. أما المدرسة النفسية للأدب فقد تمكّنت من تحويل الصور الموجودة في عالم اللاشعور الباطني إلى صور محسوسة في عالم الشعور الإنساني. أما الوجوديون فالصورة عندهم عمل تركيبي يضم نوعاً من المعرفة الحسية تتمثل للوعي ويكون موضوعها في حكم المعدوم، ويتم تصميمها عن خيال تلقائي. أما الشكلانيون الروس فالصورة عندهم خلق رؤية خاصة للشيء في الوجود . أما البنيويون فالصورة عندهم هي جوهر فن الشعر، وهي القصيدة نفسها التي تحرر الطاقة الشعرية الكامنة في العالم. أما السيميولوجيون فالصورة عندهم تعني تمثيلاً لجميع التجارب الحسية والحركية.
وفي تأصيل مفهوم الصورة في النقد العربي الحديث انقسم النقاد إلى قسمين فرأت مجموعة أن المصطلح حديث وجديد وجاء إلى النقد العربي بتأثير النقد الغربي الأوربي، في حين رأت مجموعة أخرى أن المصطلح حديث بدلالاته الجديدة ولكنه قديم في أصله يعود إلى البدايات الأولى للخصائص النوعية للأدب.
ويرى بعض النقاد العرب أن الصورة هي امتزاج فني تعادلي بين الحقيقة والمجاز ثم أضاف إليها نقاد آخرون الجانب الوجداني، في حين يميل نقاد آخرون إلى إبراز الجانب الوجداني والانفعالي وحدهما في تعريف الصورة، في حين ضمّت مجموعة أخرى إلى الطاقة الوجدانية النفسية الطاقة الذهنية التصورية، ورآها نقاد آخرون في الألوان البلاغية جميعاً، والبعض الآخر جسدها في الاستعارة ، وآخرون في التشبيه والاستعارة. ورأى نقاد آخرون أن للثنائية القائمة بين المتشابهات والأضداد فعالية كبيرة في بناء الصورة وتكوينها، ورأى آخرون فاعلية الدلالة الصوتية في بناء الصورة ، ويراها البعض الآخر عملاً تركيبيّاً يقوم الخيال ببنائها.
وحول نشأة الخيال في نظريات النقد العربي الحديث ظهر اتجاهان فيرى الاتجاه الأول أن العرب لم يهتموا بالخيال كثيراً، وأن صور الخيال تأتي في بعض الفنون البلاغية كالتشبيه والاستعارة، أما الاتجاه الثاني فيرى أن العرب عرفوا      ( التخيّل ) مقابلاً للخيال.
وتتردد في أبحاث الصورة في النقد الحديث مصطلحات أربعة وهي: الصورة الفنية التي تشمل كل ما يقع في إطار الفنون ومنها الشعر، والصورة الأدبية التي تشمل الشعر والنثر، والصورة الشعرية التي تشمل الشعر بمفرده، أما الصورة البلاغية فهي التي يعبر عن المعنى فيها بأحد الأساليب البلاغية.
والبحث قبل أن يدرس أنماط الصورة في شعر جميل بثينة حاول أن يعطي تعريفاً للصورة في شعر جميل فيرى أنها (التعبير بالكلمات الشعرية عن مكنونات النفس البشرية وسرائرها ولواعجها وخلجاتها، لرسم لوحة ناطقة ومعبّرة وموحية للآخرين للإحساس بآلام النفس البشرية ومرارتها وأوجاعها وما تواجه من حرمان وتوّقد في الحياة بسبب صدود المحبوبة وفراقها).
ومن أنماط الصور في شعر جميل الصور الحسية التي هي محفزات ومثيرات تعتمد على الحواس في إيضاح مداليلها وتنقسم إلى صور بصرية وذوقية وشمية وسمعية ولمسية.
والصور البصرية هي التي تعتمد على العين في تصوير الأشياء، كما أنها اعتمدت في مواضيع أخرى على (عين الخيال)، ومن اللافت للنظر في صور جميل البصرية طغيان الحركة فيها حيث تجلت لتصوير حركة الضياء والنور، وحركة العين والكحل، وحركة الحياة المرتبطة بالماء والظل، وحركة الحيوان (الظباء والنعاج، والناقة، والقطا)، وحركة لباس المحبوبة (الرداء، والبرد، والإزار).  كما تجلت في صور جميل البصرية ثلاثة أنواع من الحركة وهي: الحركة الهادئة البطيئة، والحركة السريعة المتلاحقة، والحركة المختلطةالمتداخلة. وقد علل البحث كثرة الحركة في الصور البصرية إلى كثرة الجري الدائم وراء المحبوبة، والهروب من الرقباء، وتخطي الموانع والحواجز المانعة للقاء بثينة، كما جاءت الحركة لتصوير طهارة الحب عند جميل وعلوّه عن الحب السائد في الواقع، كما جاءت متناسبة أيضاً مع البحث عن الماء والظل والمطر والاخضرار وهذه الأشياء جميعاً يجدها في محبة بثينة والتعلق بها.
أما الصورة الذوقية في شعر جميل فقد صورت مذوقات جمالية مختلفة منها (ماء السحاب، والعسل)، كما صورت مذوقات ضدية للحلاوة وهي (السم، والباطل الشهي، والسقيا المُرَّة) ولكن هذه الصور المتضادة تلتقي كلها جميعاً لكونها تعمل لصالح بثينة، ولأنها حملت في ثناياها معنى الطهارة والصفاء والنقاء في الحب، وقد ساعدت كل هذه الصور على تحسين شعر جميل وجماله.
والمتأمل للصور الذوقية في شعر جميل يجد أنها تُبنى على بناء خاص، وفيها يعتمد على ثنائية العطش والارتواء حيث مثّلتها الثنائيات الضدية:
- ثنائية العطش والارتواء (الحائم العطشان- والمزن)
- ثنائية العطش الشديد والماء البارد ( شرب النزيف ، وبرد الحشرج )
- ثنائية (الصاديات-وبرد الحياض) ,و (الحواني-وحباب الماء) ,و (الرواني واللواغب-وأصوات السقاة).
- ثنائية (الصادي، الماء العذب).
وقد مثلت تلك الثنائيات في الصور الذوقية في شعر جميل الموقف العذري بكل أطرافه، كما أحالت هذه الثنائيات إلى ثنائية العشق العذري (جيل/ بثينة)، (العطش/ الارتواء).
ومن البُنى الفنية في الصور الذوقية أيضاً الاعتماد على: (التصفيق، والمخالطة، والمخالطة المتعددة في المذوقات) و (المخالطة الذوقية بين المحسوسات والمعنويات). ومن البُنى الذوقية أيضاً: نقل المذوقات إلى مثال مقدس ونادر وخارق يتجه إلى (لسان الخيال) كما اعتمد جميل في صوره الذوقية على تراسل الحواس حيث تجلى التراسل بين: ( المشموم والمذوق ) ، و ( المنطوق أو المسموع والمذوق ) ، و ( المتخيّل والمذوق ).
أما الصور الشميّة فقد صورت روائح المحبوبة والمحب، كما صورت الروائح المعنوية التي تكتسي بها المحبوبة، وقد تمحورت الصور الشمية في شعر جميل في الآتي:
- تصوير رائحة الطبيعة وتمثلت في روائح الزهور الورود والرياحين والرياض، ورائحة المسك والعنبر والخمرة المصنوعة وريح المحبوبة.
- تصوير رائحة الطبيعة المنقولة إلى الطلل.
- تحويل الرائحة إلى طعم وتمثل في الخمر وماء المطر والعسل.
- نقل الرائحة إلى مثال نادر (جنة الخلد).
ومن اللافت للنظر في الصور الشمية عند جميل أن صورة المسك الشمية قد أخذت صفات متعددة منها (الفتيت، والذكي، والفوّاح، والمطلي، والمروي، والأحم) ، وهذا يرجع إلى تنوع تلقيه لرائحة المسك، وهو ما يعكس الحركة الفنية في الوصف الشمي لرائحة المحبوبة ، والمثالية النادرة في الشم عند جميل  (العاشق) .
والصورة السمعية في شعر جميل صوّرت مخاطبة المعنويات وهي (الذات، والقلب، والريح) كما صورت محاورته للطير (الحمام، والغراب)، كما صوّرت صوت المحبوبة وجرس حليّها.
أما الصور اللمسية في شعر جميل فقد صوّرت المعنويات التي تصور لحظات اللقاء بالمحبوبة، والدفء الجسدي والمعنوي الذي يحس به في أثناء وصال المحبوبة. ويعلل البحث قلة الصور اللمسية في شعر جميل إلى العفة المحاطة بتقوى الإسلام وطهارة الحب العذري وصفائه وإشراقه ، ولأن الحب عند جميل ليس مجرد علاقة بين رجل وامرأة وإنما تمتد هذه العلاقة إلى عالم أوسع يشكل في إطاره العام الحياة بمعناها المليء بالخصب والنماء والطهر والخُلُق والقداسة والإشراق النفسي.
ويرجع البحث أسباب كثرة الصور البصرية في شعر جميل إلى أن أمنية جميل في الحياة رؤية المحبوبة أمامه دائماً لأنها شكلت بالنسبة إليه الوجه الآخر المضيء لحياته. كما أنه يتمشى مع ما ينشده النقد الحديث من أن الصور البصرية تشكل جوهر الشعر.
أما الصور غير الحسية فتتجلى فيها الصبغة الخاصة لحالة العشق عند جميل لأنها تعبر عن أحاسيس مجردة في الحب، كما تعبر عن حالات شعورية متقاربة من الشوق والوجدان والحرمان والذكريات والأمنيات وصدق النفس في معاناة أشواقها.
وجميل في صوره غير الحسية يبني صوره على رهافة حسه ورقته والعواطف الحادة بوساطة رموز وإيحاءات هذه الصور، ومن الوسائل التي اعتمد عليها في بناء صوره غير الحسية استخدام الألفاظ العاطفية والانفعالية مثل: الصبابة، والشوق، والهجر، والأنات والزفرات والسهاد والسحر والخطرات والطيف والحرمان.
وتقسم الصور غير الحسية في شعر جميل إلى الصور الوجدانية والصور التجريدية.
فالصور الوجدانية هي التي ترسم أنموذجاً وجدانياً خاصاً بحالة جميل في العشق معتمداً فيها على الإيحاء لتصوير الأحاسيس الداخلية التي تنبع من الأعماق،  ومن الكوامن الشعورية التي صورتها الصور الوجدانية عند جميل الصبابة في العشق التي كشفت عن حالة الهيام الدائم بالمحبوبة، والمكانة المتفردة لحب بثينة في مواجده، والارتحال إلى حيث تسكن المحبوبة، وبيّنت صور الصبابة مكامن الصبابة لبثينة عنده، فهي كائنة في لسانه وعينيه وجفونه وقلبه وعظامه وأحشائه وجوانحه ونفسه وسواد قلبه فهي قد رسمت حالة الاستغراق اللاشعوري لبثينة في جسمه. كما تكون الصبابة مداهمة له في أوقات شتى مما يوحي بضعفه واستسلامه لها، كما تكشف صور الصبابة فلسفة جميل في الحب والعشق المتمثلة في موت العشق عنده باللقاء، وحياة العشق بالفراق، والقناعة باللقاء المعدوم.
أما الشوق ولواعجه فينبعث عند جميل من مثيرات متعددة منها: رؤية منازل المحبوبة وأوديتها وصدودها وهجرها له والقرب منها، وصوت الحمام والغيث والمطر على أرض المحبوبة حينما يلحظه عن بعد. وهذه المثيرات العاطفية للشوق تضفي على جميل روح الوصال بالمحبوبة.
والحرمان نشأ عند جميل بسبب الفراق والمماطلة من المحبوبة وقد كان جميل أنموذجاً فريداً في تجرع كأس الألم والحرمان حتى ظهر عليه (النحول، والأرق، والهزال، والجنون، واعتلال الجسد بكامله) . وقد ظهر الحرمان عند جميل في صور تفاؤلية من خلال ( التمني، والقناعة بالقليل من المحبوبة أو عدمه، واللقاء بالعيون في أثناء نظرتها للسماء بين المحب والمحبوبة ) وهي ما تكشف عن تحرر جميل من نوازع الجسد حيث تخطاها إلى الوجد والشوق. كما تجسد الحرمان عند جميل في صور تشاؤمية تمثلت في تمني العاهات (العمى)، وهلاك نفسه (الموت). والحرمان عند جميل لا يفسد عشقه بل يزيده تطلعاً وتفاؤلاً بلقاء المحبوبة.
وتمثلت حالات اعتلال الجسد عند جميل في (الهزال، والشحوب، والنحول، والأرق، وقصر الجفون، وظهور الشيب، وتصدع القلب، وتلف النفس، وتقطع الكبد، أنين الرئة) ، كما ظهر عنده اعتلال معنوي من خلال (ذهاب العقل، والحيرة، وضياع النعل، والرهن، واللدغ، واعتلال الريح)، ويكمن مصدر الاعتلال الجسدي والمعنوي عنده في (نظرة المحبوبة، وكحل عينيها، وذكر المحبوبة ) . أما علاج الاعتلال فيكون بالنظر إلى محبوبته بثينة.
أما الصد من المحبوبة فقد ظهر على شكل عدة صور منها الدلال والبخل ولكنها كانت صفات إيجابية لأنها مظهر من مظاهر جمال المحبوبة، كما أن الغربة والحسرة والفقد تتجهم في وجه جميل فتصور له الصدود والهجران والوجه الصلود من المحبوبة.
أما محاولة النسيان فقد حاول بوساطتها جميل الخلاص من عشقه حيث ظهرت صور محفزة للنسيان منها: (البعد، والنأي، والغضب، واليأس) ولكنها كانت ضعيفة القوى أمام محبة بثينة في وجدانه، كما برزت صور ساعدت على التمسك بالمحبوبة واستحالة نسيانها فمنها: ( غفلة الوشاة عنهما، ومراقبة المحبوبة له، والعواطف الجياشة للمحبوبة، والمحبة الأبدية للمحبوبة، واستمرارية الحياة في الطبيعة المحيطة بجميل العاشق )
أما صور التحدي فقد أظهرت جميلاً عاشقاً وفارساً نبيلاً تقوم فروسيته فيها على السجايا الحميدة، فهي فروسية روحية ميدانها الحياة. ومن صور الفروسية التحدي لأهل بثينة وأبناء عمومتها، والابتعاد عن المخاتلة والعفو عند المقدرة والترفع عن سلوكيات الخصوم. ويظهر جميل في صور التحدي المجاهدة من أجل ديمومة الحب والعشق لبثينة وطهارته ونقاوته وإشراقه، كما تكشف صور التحدي عن ذاتية الحب عنده بتعزير المعاني الإيجابية في المحبوبة عبر رفض القيم السلبية في أهلها، وهنا تكمن محبة بثينة عنده. أما الاستسلام فقد كان من المحبوبة لوشاية الأقرباء والعذال، أما استسلامهما فقد كان للدهر ونوائبه، كما أن الاستسلام قد نحا منحى آخر عند جميل تمثل في استسلامه وضعفه أمام جمال محبوبته بثينة، ولهذا فإن بثينة تغدو دليل انتعاش روحه ودليل تعبها أيضاً، وهذه مفارقة مضادة يعانيها جميل، حيث تصبح بثينة رمزاً للألم في العشق والسعادة فيه، ولهذا فإن صور الاستسلام لا تأتي استسلاماً بالمعنى الكامل للكلمة ولكنها دخول في أخص خصائص العشق والمحبة.
أما الصور التجريدية فهي المتعلقة بالكيانات المجردة حيث يشترك فيها كل من الحس والفكر، ولذلك تتشكل الأشياء في هذا النوع من الصور في بصيرة الشاعر، وقد تمظهرت الصور التجريدية عند جميل في صور الخطرات والذكريات وصور السحر والجنون وصور الطيف.
وقد حملت الخطرات والذكريات تصوير الألم والأسى والمرض والجروح الجسمية والأرق والسهاد واليأس والهلاك الناشئ عنده من تذكر المحبوبة، كما حملت صور الخطرات والذكريات دلالات إيجابية في محبة بثينة عنده وقد تمثلت في تذكر أيام الشباب وعدم نسيان المحبوبة.
أما صور السحر والجنون فإنها تتجلى على شكل قوى خفية متمثلة في الجمال الساحر الذي يراه جميل يشـع من محبوبته بثينة من غيرها من النسوة. واللافت للنظر في هذا النمط من الصور أن جميلاً قد مزج بين العشق والسحر والجنون وجعلها منظومة متكاملة في تجربة عشقه لبثينة، لذلك فإن السحر والجنون ليست أمراضاً ولكنها حملت دلالة إيجابية رسخت المحبة القوية لبثينة عنده.
أما الطيف فهو الدواء الشافي لكل محبوب مهجور تطاول غمه وأرهقه الفراق، وهو خير معوّض للهجر والصدود حيث يتجلى في الليل مسرح اللقاء بين جميل ومحبوبته عبر لقاء طيفهما. وفي صور الطيف يتحقق لجميل كل ما يتمناه من وصال بالمحبوبة ومطالب كثيرة ولكنه ما يلبث في الصباح أن يجد ذلك خيالاً فتزداد حالته ألماً. ولكن ما يميز صور الطيف جمالياً هو فاعلية التضاد القائم فيها بين النوم واللقاء حيث يجمعهما (الشوق والشجن) للمحبوبة وهو ما يحقق المماثلة بينهما، وبهذا تكون بثينة بجمالها مسيطرة عليه في صحوه ومنامه، فهي قد مثلّت بالنسبة له الحياة بجمالها الأبدي عنده.

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...