دراسات بنيوية



شيماء محمد كاظم
كلية التربية- صفي الدين الحلي/قسم اللغة العربية
خلاصة
تضمنت قصيدة السياب(وصية من محتضر) أنساقا وثنائيات متعددة يمكن أن نكشف بوساطتها عن البنى القبلية الكامنة في هذا الأثر الأدبي المرتبط ببيئة الشاعر من حيث تأثيرها في ولادته ودلالاته.
وما هذه الدراسة إلا محاولة لقراءة بنيوية ربما تقترب من البنى الكامنة للنص الذي يخفي في طياته دلالات متعددة، تنقل القارئ من الخصوص الضيق للنص إلى الأفق العام فيمكن بهذا الأمر تعميم الشعور الفردي وجعله محوراً إنسانيا مشتركا يحرك الضمير.
والقصيدة عبارة عن صراعات متعددة تتجلى في ما أوردناه في هذا البحث مثل صراع(السكون/الحركة) وما ينضوي تحته من صراعات فرعية مجسدة في (الموت/الحياة)، و(الكفر/الشكر) وهي صراعات مستمرة. وما يزال مشـروع الحل لأزمة تجسدها(الأفعى)..!! مستمرا.
وصية من محتضر للسياب- دراسة بنيوية في الثنائيات
قال السياب:
يا صمت , يا صمت المقابر في شوارعها الحزينة ,
أعوي ,أصيح ,أصيح في لهف فأسمع في السكينة
ما تنثر الظلماء من ثلج وقار
تصدي عليه خطى وحيدات ,وتبتلع المدينه
أصداءهن ,كأن وحشا من حديد ,من حجار,
سف الحياة فلا حياة من المساء إلى النهار
أين العراق؟ وأين شمس ضحاه تحملها سفينة
في ماء دجلة أو بويب؟ وأين أصداء الغناء
خفقت كأجنحة الحمام على السنابل والنخيل
من كل بيت في العراء ؟
من كل رابية تدثرها أزاهير السهول ؟
إن مت يا وطني فقبر في مقابرك الكئيبه
أقصى مناي 0وإن سلمت فإن كوخا في الحقول
هو ما أريد من الحياة فدى صحاراك الرحيبه
أرباض لندن والدروب ,ولا أصابتك المصيبة !
**
أنا قد أموت غدا ,فإن الداء يقرض ,غير وان ,
حبلاً يشد إلى الحياة حطام جسم مثل دار
نخرت جوانبها الرياح وسقفها سيل القطار,
يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال
بين المعابر والسهول وبين عالية الجبال
أبناء شعبي في قراه في مدائنه الحبيبة
لا تكفروا نعم العراق
خير البلاد سكنتموها بينخضراء وماء ,
الشمس ,نور الله ,تغمرها بصيف أو شتاء,
لا تبتغوا عنها سواها
هي جنة فحذار من أفعى تدب على ثراها
أنا ميت ,لا يكذب الموتى 0وأكفر بالمعاني
إن كان غير القلب منبعها
فيا ألق النهار
اُغمر بعسجدك العراق , فإن من طين العراق
جسدي ومن ماء العراق
تضمنت قصيدة السياب(وصية من محتضر) أنساقا وثنائيات متعددة أردنا في هذا البحث ان نسلط الضوء حصراً على نسق الثنائيات الضدية التي يمكن أن نكشف بوساطتها عن البنى القبلية الكامنة في هذا الأثر الأدبي المرتبط ببيئة الشاعر من حيث تأثيرها في ولادته ودلالاته، و"تكتسب الثنائيات الضدية أهمية خاصة في الدراسات البنيوية لكونها أكثر التراكيب وضوحا في تشكلها نسقا).
وعند مواجهة النص مواجهة علمية نستطيع أن نقف أولا عند ثنائية (سكون/حركة) بوصفها الثنائية الطاغية على النص من جهة والثنائية التي تندرج في ضمنها من جهة أخرى ثنائيات أخرى من مثل(الموت/الحياة) و(الكفر/الشكر).
ولكي نقرأ النص لا بد من قراءة عنوانه وهو يمثل أعلى اقتصاد لغوي في النص، وربما يشكل مفتاحا للولوج إلى عالمها.
إن عنوان القصيدة قد شكل بؤرة مكثفة جمعت دلالات النص المتعددة إذ إن القصيدة بما فيها عبارة عن وصية أطلقها محتضر يشارف على الموت فلا يرى أمامه سوى صمت وقبور وأطياف أحلام تفوه بها تلك الوصية، ولم تكن هذه الأطياف الواردة في النص سوى صراعات محتدمة في ذات الشاعر وناقوسها يدق حتى وهو على فراش المنية.
وحين يشكل العنوان بؤرة فإن(أنا) الشاعر في نصه تمثل "المركز البؤري الأساس والجوهري) ويعد السياب في قصيدته هذه– كما هو الحال في أغلب قصائده- من شعراء(الأنا الساردة) الذين دفعتهم(أناهم) إلى ترجمة عواطفهم ومشاعرهم وأحاسيسهم في صورة كلمات نابضة بالحياة معبرة عنها، ولكن أنا السياب في قصيدته هذه جاءت مثقلة بالمرض الذي أوقفها على أعتاب الحياة.
ونلاحظ أن النص قد افتتحه الشاعر بجملة اسمية قائلا:
يا صمت , يا صمت المقابر في شوارعها الحزينة ,
والجملة الاسمية "بكل أشكالها علامة تتحدث في إطار من الثبات وهذا الثبات (السكون) قد قادنا إلى سمة(العدمية) عن طريق(الموت) وقد جسده الشاعر بلفظة (مقابر)، إلا أن دلالة الثبات هذه سرعان ما تتحول إلى دلالة حركية تقودنا إلى سمة(الحياة) عن طريق الأفعال(أعوي، أصيح، أسمع....) وما لحقها من أفعال تناثرت في النص تنبئ بحركته:
أعوي ,أصيح ,أصيح في لهف فأسمع في السكينة
ما تنثر الظلماء من ثلج وقار
تصدي عليه خطى وحيدات ,وتبتلع المدينة
أصداءهن,[...]
و"الفعل بطبيعته تجسيد للحركة وللزمنية" إلا أن حركته هذه بدت متأرجحة لا تعرف كيف تستقر بين البعدين السابق واللاحق، والاسم الذي تقدمها(يا صمت) والاسم الذي تأخرها(السكينة)، وما تولده هذه الاسمية من ثقل تحول إلى ردة فعل عنيفة(ضجة) اكتنفها(العواء والصياح).
ومن الملاحظ أن لكلا الصوتين مصدرا ينبعث منه، فالعواء خاص بالحيوان متمثلا بالكلب، والصياح مصدره الإنسان، وربما يدل هذا على إحساس الشاعر بعدم الاكتراث به من قبل الآخر، لذا أخذت الألفاظ تتشظى على لسان الشاعر، لا يعرف معها تحديدا.
والضجة التي ولدها(العواء والصياح) قد جاءت بناء على الرغبة في إيقاظ (الموتى) في القبور وهي كناية عن الشعب النائم على خرق الذل والاستغلال، وربما يدل العواء على وحشة الشوارع وخلوها من ساكنيها من حيث إن العواء يمثل صوتا أعلى من الصياح الذي وجده الشاعر غير مجد لإيقاظ الراقدين كما لم يجد العواء مجديا أيضا.
وكل ما تقدم إنما يأتي لتعميق الدلالة وتمتين التوصيل وقد أراد الشاعر أن يعمق معنى موت المدينة جاعلا من خطاه وحيدات ولم يمرر عليها أثر آخر غير خطاه(وحيدات)، ولم يكتف بذلك بل جعل(الصدى) سمة لذلك الأثر.
إن ما يجسده الفعل المضارع متمثلا بكلمتي(أعوي، أصيح) "يفيد ضرورة التحول من حالة إلى حالة" وهذا "يعني وجود حركية أكثر"في النص تهيئ لبناء قاعدة الثورة.
إن ثنائية(السكون/الحركة) تصبح في هذه الحال معادلا موضوعيا لثنائية (الموت/الحياة)، وتوالي الأفعال المضارعة متمثلة بـ(تنثر، تصدي، تبتلع) يولد حركة رتيبة تدل على الضعف والخواء، و"تشير إلى القوة التدميرية التي يحدثها الموت على صفحة المكان" في لحظة السكون المتضمنة في الجملة الاسمية، ذلك لأن الاسمية تحتضن ما جاء بعدها من أفعال دالة على الحركة؛ لأنها الأساس الذي اعتمده الشاعر في مطلع قصيدته، وهي– أيضا– تشير إلى لحظة السكون التي ستحط على حياة السياب.
إن حركية النص التي تولدها الأفعال المضارعة سرعان ما تصطدم بفعل آخر هو الفعل الماضي(سف) في قوله:
[...] كأن وحشا من حديد ,من حجار,
سف الحياة فلا حياة من المساء إلى النهار
وقلنا تصطدم؛ لأن الماضي فعل دال على الثبات بعكس الفعل المضارع الدال على الاستمرار والدوام، من حيث إن(الماضي) وقع وانتهى وأصبح أمرا ثابتا معلوما بعكس المضارع الآني. ودلالة الثبات التي يولدها الفعل(سف) تشير- أيضا– إلى أمر الوجود وعدمه، وإلى "غياب الإنسان أمام سلطة الموت، فالإنسان المعرفة الذي يغرس أثره في صلب المكان يتحول إلى إنسان نكرة لم يكن"، فيحيل ذلك الوحش الكاسر المكان إلى "أرض يباب ساكنة تخلو من أي أثر"، وقد قال في ذلك:
[...] فلا حياة من المساء إلى النهار
وقد أضيفت صفة الوحش إلى الحديد وإلى الحجار لتبئير قسوة الوحش المفترض الذي حطم أرجاء المدينة كلها، وهكذا يفعل الطغاة في شعوبهم.
وهذا الانتقال في الجملة الفعلية من المضارع إلى الماضي يحيلنا على أن (تركيبا ما) سواء أكان لفظيا أم معنويا قد يشير إلى شيء، ومع استمرار تنقلاته في النص الشعري يحيل إلى أمر آخر يضيف معنى للنص مغايرا لما ابتُدئ به، وهذا ما أضافته الجملة الفعلية للنص.
وتتعمق دلالة الثبات من خلال صيغة الاستفهام التي جاءت في قوله:
أين العراق؟ وأين شمس ضحاه تحملها سفينة
في ماء دجلة أو بويب؟ وأين أصداء الغناء
خفقت كأجنحة الحمام على السنابل والنخيل
من كل بيت في العراء ؟
من كل رابية تدثرها أزاهير السهول ؟
فهذه التساؤلات تمثل انسحابا إلى منطقة الحلم الذي يأخذ "دوره في التعويض عن هذا الواقع المضطرب" والحلم من الآليات الفاعلة في تشكيل الواقع الخارجي للنص الأدبي بوصفه "قائدا للنص أو تابعا له"، والحلم "جزء أساس من حياة النفس البشرية، لا مفر لنا[منه] إن نحن أردنا فنا يصف النفس ويلمس حياتها لمسا دقيقا"، ولذا فإن الشاعر والحالم يشكلان المعقول تشكيلا مختلفا، ويحبكان المؤلف حبكا مغايرا ويؤلفان صورا قوامها الحلم واليقظة، التوقع والواقع
وهذا الحلم تجسده ذاكرة الشاعر التي "تظل تمارس دورها في تعبئة الذات الشاعرة ورفدها بالصور والوقائع والأحاسيس التي لا تنضب وما العملية الشعرية على هذا الأساس سوى فعل تنصيص للذاكرة واستجلاب كنوزها الدفينة لتحقق تمظهراتها المتعددة"، ومن ثم فإن "الذاكرة الشعرية تعمل على ضخ مدلولات الماضي حالما يتطلب الأمر ذلك طالما أنها تحتفظ بمخزونها الثقافي" وهي كذلك "تعيد الماضي، مع أن الحياة لا تعرف القهقرى ولا تتكئ على الأمس؛ لأن الماضي البعيد النائم بين صفحات النسيان تكون لحظاته أشبه بقطرات الماء التي تتساقط من بين أصابعنا دون أن نقوى على الإمساك بها أو القبض عليها"
وتمثل التساؤلات غير المحددة إجابتها في النص فضاء رحبا لعالم من الإجابات المتعددة مما يجعل المتلقي يشارك في التفكير بنوع الإجابة ويتأملها، وربما يعرف الشاعر جيدا تلك الإجابة إلا أنه أراد "تفعيل التجربة الخاصة بالتجربة العامة" من خلال طرح التساؤلات المطلقة علما أن النص الشعري ما هو إلا مشروع لـ"تحويل دائم للعالم، وتغيير دائم للواقع والإنسان"
ولا يفوتنا أن نذكر أن أسلوب الاستفهام في قوله:(أين العراق... الخ) قد أُسقطت وظيفته الاستفهامية، إذ يمكننا كتابة النص مع تغييب علامة الاستفهام على نحو ضمني لا ظاهري لكونها حاضرة في النص المكتوب وذلك أمر يعود إلى الوظائف السياقية التي تؤدي في أحيان كثيرة دلالاتتكشفها "القرائن المعنوية واللفظية والحالية والتاريخية" في النص، وما دام هذا الأسلوب الطلبي لم يقف عند حدود طلب الفهم بل تعداه إلى إنكاره أي خروجه من المستوى الحقيقي إلى المجازي المستقى من السياق هو أمر يحيل إلى جانب الحركة لا الثبات في استمرار التأويل وتعدد القراءة وعلى وفق ما يسمح به النص وبوساطة القرائن وهي هنا ضمنية لان الشاعر عراقي وهو يعلم أين يقع العراق ولكن جاء سؤاله استفزازيا إنكاريا لما أصاب كيان وطنه وساكنيه.
وما الاستذكار الوارد في النص لما(مضى) من واقع مشرق للبلاد، بوساطة التساؤلات المطروحة، إلا تحول من الذات السليبة بالمرض والمهددة بالسكون (الموت) إلى الذات الحية بـ(الحلم والاستذكار)، وهو أمر نابع من "حركة المخيلة الشعرية المتماوجة بين التذكر والترقب، بين استحضار دقائق الماضي المترسبة [...] ولحظات النبوءة المتجهة نحو المستقبل" ويمثل التساؤل المطروح في النص عن الشمس التي رحلت على ظهر سفينة نكراء إلى مجهول، تساؤلا عن (الأمومة المفقودة)؛ لأن الشمس- ومنذ القدم- عدت رمزا للمرأة الأم، وبرحيلها تفقد الحياة معناها، وتسير نحو العدم.
ولحظة الاستذكار(الماضوية) هذه تلحقها صدمة الواقع بقوله:
إن مت يا وطني فقبر في مقابرك الكئيبة
أقصى مناي 0وإن سلمت فإن كوخا في الحقول
هو ما أريد من الحياة 0فدى صحاراك الرحيبة
أرباض لندن والدروب ,ولا أصابتك المصيبة !
فصدمة الموت الاحتمالي الواردة في النص بقول الشاعر:(إن مت) وكأنه يرجو غير ذلك، تحتضن آماله ورجاءه بقبر على أرض الوطن. ونجد في طلبه هذا الموجه إلى وطنه ثقلا مشفوعا برائحة الموت(السكون).
ثم تنبثق لحظة التحول(الحركة) من ثقل اللحظة إلى أمل السلامة بالحياة وهي لحظة غير مقتصرة على ذات الشاعر بل تتعداه إلى الآخر(الوطن)، قائلا:
[...] وإن سلمت فإن كوخا في الحقول
هو ما أريد من الحياة 0فدى صحاراك الرحيبه
أما قوله:
أنا قد أموت غدا , فإن الداء يقرض , غير وان ,
حبلاً يشد إلى الحياة حطام جسم مثل دار
نخرت جوانبها الرياح وسقفها سيل القطار,
نرى في هذه الاسطر أن الإقرار بالموت يتحول من السمة الاحتمالية في قوله:(إن مت) إلى السمة الظنية بقوله:(أنا قد أموت) القريبة من(اليقين) الذي سنكشفه في الأسطر اللاحقة. وهذا الإقرار يولد انتفاضة تصعد صداها صرخة استغاثة موجهه لإحياء الموتى، وذلك في قوله:
يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال
وهذه الصورة تذكرنا بصورة تناثر القبور في المقابر، ثم يواصل الشاعر قوله:
بين المعابر والسهول وبين عالية الجبال
أبناء شعبي في قراه في مدائنه الحبيبة000
لا تكفروا نعم العراق000
خير البلاد سكنتموها بينخضراء وماء ,
الشمس ,نور الله ,تغمرها بصيف أو شتاء,
لا تبتغوا عنها سواها
هي جنة فحذار من أفعى تدب على ثراها
نلاحظ أن هذا النص ينطق بثورة للذات الشاعرة، و"ثورة الذات أدت فعلا إلى إحياء الأمل في نفسه"؛ لأن السكون المتولد منذ بدايات قصيدته مجسدا بألفاظ (القبور، إن مت، قد أموت) قد تحول إلى رغبة في(التغيير) الذي يتطلب سرعة بالحركة لاتخاذ مثل هذا القرار.
ونجد أن مقطع السياب هذا مشحون بالتوتر وهو يجسد(الذات الشاكرة) متمثلة بذات الشاعر التي حالما تحضر يحضر الآخر بصورته المشاكسة(الذات الكافرة).
وهذه الثنائية(الشكر/الكفر) تنضوي تحت ثنائية شاملة هي(الحركة/السكون) فالشكر يدل على العطاء، أما الكفر فدلالته المنع والانغلاق، وهو يجسد السكون والثبات.
ثم ينهي الشاعر قصيدته بالإقرار التام بالموت قائلا:
أنا ميت , لا يكذب الموتى 0وأكفر بالمعاني
إن كان غير القلب منبعها
فيا ألق النهار
اُغمر بعسجدك العراق ,فإن من طين العراق
جسدي ومن ماء العراق 000
نجد في هذه العبارات هدوء الصراع القائم بين(الحركة والسكون) ومنذ بدايات القصيدة بإقرار السكون التام(الموت)، وعلى الرغم من طغيان الجملة الفعلية والمضعفة بأفعالها الصحيحة الموسومة بالحركة فإن الانتصار في النهاية أضحى للجملة الاسمية على قلّتها، وهو أمر تابع للدلالة التي ضمها سياق النص الشعري بوساطة نظرة متكاملة لا مجزأة له.
ولا يفوتنا أن نذكر أن ورود صيغ التكرار في النص(يا صمت، أصيح، اسم الاستفهام(أين)، لفظة(الموت) المكررة خلال القصيدة) ما هي إلا تدعيم لفكرة الموت، التي كانت ملامحها واضحة في نصه الشعري، من حيث إن التكرار يظهر "شكلا متماسكا يشد الأسطر الشعرية إلى بعضها البعض، فالتكرار إنما هو نوع من التأكيد أو التكريس سواء أكان على مستوى البنية اللسانية أو التمثيل الدلالي الذي يتمخض عنها أنه إلحاح على تصوير معين" فهو تأكيد حالة الضياع والفقدان في التساؤلات المطروحة وتثبيت فكرة الموت في التكرارات الأخرى.
ومما يلفتنا أيضا ولع السياب بالتضعيف طلبا "لموسيقية(المفردة) الحاصلة من تكرار الصوت(مرتين)"متمثلا بالألفاظ المضعفة(سفّ، شدّ، دبّ) المتناثرة في متن النص الشعري. وهذه الألفاظ تمد النص بحركة مكررة تابعة لتكرار الصوت في نهاياتها.
استدللنا عبر هذا النص على أن الشاعر قد تمكن بوساطته من تعميم الشعور الفردي وجعله محورا إنسانيا عاما يحرك الضمير ويستيقظ النيام.
أما تنقله بين الاسمية والفعلية فما هو إلا تجسيد لدافع أعمق في نفسه وضميره متمثلا برغبة التحول من(المسكوت عنه) إلى مرحلة الخروج من الشرنقة والإفصاح توقا للخلاص ولاسيما أن القصيدة عبارة عن صراع(الأمس واليوم) و(السكون والحركة) صراعات مستمرة، وما يزال مشروع الحل لأزمة تجسدها(الأفعى) مستمرا.
وفي النهاية نلاحظ- ومن خلال إتمام قراءة القصيدة- أن العنوان في بدايتها (وصية من محتضر) قد أجال في مخيلتنا احتضارين أسسهما متن النص الشعري السيابي: الأول كان احتضارا موصوفا به الشاعر، وعندما توسطنا في القراءة وجدنا أن هناك احتضارا للوطن أيضا، إلا أن احتضار الشاعر كان ذا نهاية متمثلة بالموت المقرر(اللاعودة)، أما الوطن فكان احتضاره يسير إلى العودة (الحياة) من خلال وصايا الشاعر المطلقة.
إن هذا البحث ما هو إلا محاولة لقراءة بنيوية للبنى الكامنة في نفس الشاعر والتي تجلت آثارها بنسق الثنائيات الضدية0


قائمة المصادر والمراجع
المصادر والمراجع:
1- اتجاهات النقاد العرب في قراءة النص الشعري الحديث، د.سامي عبابنة، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2004.
2- الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان بدر شاكر السياب، دار الحرية، بغداد، ط3، 2000.
3- البنى الأسلوبية دراسة في(أنشودة المطر) للسياب، د.حسن ناظم، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، والدار البيضاء، المغرب، ط1، 2002.
4- التركيب اللغوي لشعر السياب، د.خليل إبراهيم العطية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، د.ط، 1986.
5- الثابت والمتحول– بحث في الإتباع والإبداع عند العرب، أدونيس، دار العودة، بيروت، ط1، 1978.
6- جماليات التحليل الثقافي في الشعر الجاهلي نموذجا، د.يوسف عليمات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 02004
7- جماليات المعنى الشعري-التشكيل والتأويل، د.عبد القادر الرباعي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1999
8- جماليات المكان في الرواية العربية، شاكر النابلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1994.
9- جمرة النص الشعري- مقاربات في الشعر والشعراء والحداثة والفاعلية، محمد عز الدين المناصرة، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2007.
10- الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية– الحداثة وتحليل النص، عبدالإله الصائغ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1999.
11- الدلالة الزمنية في الجملة العربية، د.علي جابر المنصوري، مطابع جامعة بغداد، بغداد، ط1، 1984.
12- رؤيا الحداثة الشعرية، محمد صابر عبيد، منشورات أمانة عمان، عمان، د.ط، 2006.
13- السيرة الذاتية والتراث– مقارنة نفسية، رياض الجابري، دار المعارف، حمص، ط1، 1996.
14- سيمياء الخطاب الشعري من التشكيل إلى التأويل، محمد صابر عبيد، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2009
15- السيمياء والنص الأدبي، جامعة محمد خيضر بسكرة، منشورات الجامعة، د.ط، 2008.
16- شظايا ورماد، نازك الملائكة، دار العودة، بيروت، ط2، 1979.
17- الشعر والزمن، د.جلال الخياط، دار الحرية، بغداد، د.ط، 1975.
18- فسحة النص– النقد الممكن في النص الشعري الحديث، د.عبد العظيم رهيف السلطاني، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا، ط1، 2006.
19- المغامرة الجمالية للنص الشعري، د.محمد صابر عبيد، عالم الكتب الحديث، إربد، د.ط، 2008.
الرسائل:
* الزمن في شعر الرواد(رسالة ماجستير)، سلام كاظم الأوسي، كلية التربية، جامعة بغداد، 1990.
الدوريات:
* قراءة النص/قراءة العالم- دراسة في البنية، د.كمال أبو ديب، الأقلام، تشرين الأول، 1986.


(1) الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان بدر شاكر السياب، دار الحرية، بغداد، ط3، 2000: 163-164.

(1) اتجاهات النقاد العرب في قراءة النص الشعري الحديث، د.سامي عبابنة، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط1، 2004 :241.

(2) ينظر: المقاربة السيميائية للنص الأدبي، عبد الجليل منقور، في ضمن كتاب: السيمياء والنص الأدبي، جامعة محمد خيضر بسكرة، منشورات الجامعة، د.ط، 2008: 062

(3) رؤيا الحداثة الشعرية، محمد صابر عبيد، منشورات أمانة عمان، د.ط، 2006 :045

(1) ينظر: سيمياء الخطاب الشعري من التشكيل إلى التأويل، محمد صابر عبيد، دار المجدلاوي، عمان، ط1، 2009 :0127

(2) قراءة النص/قراءة العالم- دراسة في البنية، د.كمال أبو ديب، الأقلام، تشرين الأول، 1986 :056

(3) قراءة النص/قراءة العالم- دراسة في البنية:058

(4) جمرة النص الشعري- مقاربات في الشعر والشعراء والحداثة والفاعلية، محمد عز الدين المناصرة، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2007 :0392

(5) م.ن :0392

(1) جماليات التحليل الثقافي في الشعر الجاهلي نموذجا، د.يوسف عليمات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2004: 0233

(2) جماليات التحليل الثقافي في الشعر الجاهلي نموذجا:0233

(3) م0ن :0233

(4) الشعر والزمن، د.جلال الخياط، دار الحرية للطباعة، بغداد، د.ط، 1975 :085

(5) الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية– الحداثة وتحليل النص، عبدالإله الصائغ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1999 :60.

(6) شظايا ورماد، نازك الملائكة، دار العودة، بيروت، ط2، 1979 : 2/23.

(7) ينظر: الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية– الحداثة وتحليل النص:60.

(1) جماليات المكان في الرواية العربية، شاكر النابلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1994: 057

(2) سيمياء الخطاب الشعري من التشكيل إلى التأويل :0143

(3) السيرة الذاتية والتراث- مقاربة نفسية، رياض الجابري، دار المعارف، حمص، ط1، 1996 :058

(4) المغامرة الجمالية في النص الشعري، د.محمد صابر عبيد، عالم الكتب الحديث، إربد، د.ط، 2008: 024

(5) الثابت والمتحول– بحث في الإتباع والإبداع عند العرب، أدونيس، دار العودة، بيروت، ط1، 1978 :3/ 294.

(6) ينظر: البنى الأسلوبية- دراسة في(أنشودة المطر) للسياب، د.حسن ناظم، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، والدار البيضاء، المغرب، ط1، 2002: 149.

(7) ينظر: فسحة النص– النقد الممكن في النص الشعري الحديث، د.عبد العظيم رهيف السلطاني، دار الكتب الوطنية، بنغازي ، ليبيا، ط1، 2006 :70.

(8) الدلالة الزمنية في الجملة العربية، د.علي جابر المنصوري، مطابع جامعة بغداد، بغداد، ط1، 1984 :43.

(9) الزمن في شعر الرواد(رسالة ماجستير)، سلام كاظم الأوسي، كلية التربية، جامعة بغداد، 1990 :189.

(1) جماليات المعنى الشعري- التشكيل والتأويل، د.عبد القادر الرباعي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط1، 1999 :0219

(1) البنى الأسلوبية دراسة في(أنشودة المطر) للسياب :147.

(2) التركيب اللغوي لشعر السياب د0 خليل ابراهيم العطية ,دار الشؤون الثقافية العامة , بغداد ,د0ط, 1986 :67- 68 0
المصدر: ملتقى شذرات عربية - من قسم: دراسات وبحوث أدبية

.....................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراسة أخرى

دراسه بنيوية في مجموعة(البحر ليس اسمي) لعبد الجبار الجبوري

تاريخ النشر : 2012-08-31
كبر الخط صغر الخط
  دراسه بنيوية في مجموعة(البحر ليس اسمي) لعبد الجبار الجبوري

      كمال عبد الرحمن

                                                                    

        يذهب جان كوهن في كتابه (بنية اللغة الشعرية ) الى معاينة مفهوم البنية بوصفه النظام الاشمل للغة الشعرية ,استنادا الى الية النظم في المستوى الصوتي ,و آليتي الإسناد و التحديد في المستوى الدلالي, ويخرج من ذلك الى النسق الذي يؤلفه ترتيب الكلمات , و يتمخض عن الوظيفة الشعرية, لذا فأن كوهن يقترح مفهوما شاملا و عميقا للبنية , يفرق فيها مع – يا مسليف – بين الشكل والمادة, ويعد الشكل في مضمونه البنيوي : مجموعة العلاقات المعقودة بكل عنصر داخل النسق, و مجموع هذه العلاقات هو الذي يسمح بأداء وظيفته اللغوية (1)

        وقد يكون عبد القاهر الجرجاني اول من أدرك حقيقة ان اللغة ليست مجموعة من الألفاظ, بل هي مجموعة من العلاقات (2)

        أما كلود ليفي شتراوس إذا كان هو اول من تناول مفهوم البنيوية , فان النقاد العرب لم يستعملوا مفهوم البنيوية او البنية على نحو واضح و مباشر و إنما أشاروا الى مفهوم مقارب للبنية هو (البناء) او (المبنى) او (النسيج) (3)

        واذا كان من المفروض ان لكل بنية شعريتها الخاصة او قوانينها, فأن (كمال ابو ديب) يشكك في جدوى تحديد الشعرية على اساس الظاهرة المفردة المستقلة, كالايقاع و القافية و الايقاع الداخلي والصورة و الرؤيا, كعناصر يقوم عليها التشكيل الشعري, و يرى الى ان الحل يكمن في البنية الكلية, اذ ((هي وحدها القادرة على امتلاك طبيعة متميزة, بازاء بنية اخرى مغايرة لها )) (4) وهو يرى ان البنية تقوم على خاصيتين أساسيتين, بل يؤكد على ذلك وهما: الكلية والعلائقية (5)

      تشتغل دراستنا البنيوية في هذه المجموعة على ثلاث بنى :

بنية اللغة الشعرية 

     ان اللغة هي هاجس العمل الفني و ظاهرته الاولى منذ البدء , و مع الشعر الحديث , ظهر التعامل الجديد والخاص مع اللغة (6) , و لم تعد الكلمات دوال و مدلولات بل اتحدت مع الوجود , فلم تعد تترجم المشاعر و تنقل المعاناة الذاتية بالتجسيد , بل اصبحت تخلق هذا الوجود وفق رؤى , وهذه هي النقلة والانعطاف في رؤية الشاعر للغة الشعر الحديث(7)

      ويرى تشومسكي ان ((اللغة واحدة من الخصائص المقصورة على النوع الانساني في مكوناتها الاساسية, فهي جزء من الاعداد الاحيائي المشترك الذي لا يختلف فيه اعضاء النوع الانساني , الا من اصيب بعيب عضوي شديد , و يضيف ان اللغة تدخل بطريقة جوهرية في الفكر و الفعل في العلاقات الاجتماعية))(8)

      ان الشاعر عبد الجبار الجبوري له اشتغالات داخل اللغة بالغة الاهمية , اذ استطاع ان يشق لنفسه طريقا ابداعيا متطورا و لغة هي لغته الخاصة , و المتتبع لشعره , في مجاميعه (ما قاله السيف العراقي) و(رحيل امرأة اللوتس) و مجموعته الشعرية الاخيرة (البحر ليس اسمي) , سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين الفاظه

       وهي علاقات تحتاج الى الوقوف عندها , نظرا لصعوبة ايراد جميع الصيغ التي وردت عليها الكلمة عند الشاعر عبد الجبار الجبوري , و في بعض الاحيان نأخذ بعين الاعتبار المترادفات و المعنى او الجزء , وهكذا بامكان كل كلمة ان تمثل حقلا دلاليا فرعيا مثل الحقل الاساس و الانسان له حقل فرعي (الفاظ الجسد) كما له حقل فرعي اخر لعضو الجسد بكل مترادفاته و معانيه و اجزائه :

الفاظ الموت و الجدب         الخصب و الحياة   الفاظ الطبيعة        الفاظ الجسد

موت /جوع / بكاء / قلق ظلام / فقر / جفاف / انكسار / ضياع        حياة / انبعاث / ماء / نهر / سحاب / بحر / ينابيع / زرع / زهر / حب           شجر / ارض / عاصفة / تل / نار / صخر / جبل         عين / يد /ثدي /قلب / شرايين / فم

1 – ابكي ظمأ السنوات

2 – و تضيعني الفلوات

3 – بجوف الموت

4 – اتنفس من خلل الموت

5 – و تقوس طهر الليل

            1 – يصلي ركعة عشق (حب)

2 – كوني وردا و حدائق

3- يا وردة هذا الليل

4 – الريح تسلمني للبحر

5 – اعني احبك

6 – احبك

7 – لون البحر

8 – بالورد و بالقبلات

            1 – ذاكرة النار

2 – بحرائق تولد

3 – و بكى الشجر

            1 - النزف الفاتن في

قلبي

2 – قلبي الموجع

3 – جرح اخر في القلب

4 – انك نبضي

5 – القلب اسير هواك

6 – الداخل قلبي

التحليل:

    1 – ان النظرة المتفحصة في جدول (الفاظ الجسد) تخرج بالملاحظات التالية :

    آ – الفاظ الجسد ذات دلالة ايجابية لانها توحي بقدرة الانسان على متابعة الكون و الاتحاد به عبر حاستي    (العين و اليد) التي تترجمها حركات (القلب)

    ب – الفاظ جردت من دلالتها الحقيقية ( انك نبضي ) و ( القلب اسير هواك )

    ج – الواضح ان الشاعر يميل الى الفاظ الجسد التي تبين حركية الوعي الانساني للبحث عن (حب كبير).

    2 – اما الجدول الثاني ( الفاظ الطبيعة ) , فكلمة ( النار ) حاضرة على اوسع ما يمكن لانها الشغل الشاغل للشاعر , اذ وردت اكثر من مرة , في كل مرة لها استعمال و معنى جديد . 

    و حضرت ( النار ) ايضا بصورة ( حرائق ) , و النار وفق دلالاتها المثيولوجية هي نار ( برومثيوسية ) تحمل معنى التمرد و الاشتغال الذاتي ايضا - الي بنار الحب - .

    3 – جدول ( الفاظ الخصب و الحياة ) و هو جدول مهم في اختزال رؤى الشاعر و الفاظ هذا الجدول تنسب الى الانسان اولا ثم الطبيعة ,نحو ( ابكي ظمأ السنوات ) و ( تضيعني الفلوات ) .

    4 – الجدول الرابع : تتشيأن فيه المفردات , حيث تخرج من صبغتها الانسانية الى شكلها اللاانساني الجديد منها ( اتنفس من خلل الموت ) و غيرها .

الثنائيات الضدية :

   تكتنز قصائد عبد الجبار الجبوري في مجموعته ( البحر ليس اسمي ) بالضديات التي تصنع الدراما في القصيدة الطويلة و القصيرة على حد سواء, وفي قصائده تتضاد الثنائيات لتلتقي و كثير شهوة القراءة (9)

   و بهذا يتحقق التماس و التداخل و التنافر بين الشيء و ضده , فمن تنافر الليل و النهار يولد الفجر الذي هو ليس ليلا ولا نهارا (10).

    وحين يقول كوهين ان (( الشعر يولد من المنافرة )) (11) فان المنافرة لها القدرة على صناعة نوع الدراما المتطورة في النص , حتى يصل تأثيره الى صناعة الايقاع الداخلي للقصيدة و هي - المنافرة – شرط من شروط هذا الايقاع :

ضدها     المفردة او الجملة

1 – فلا تجيء

2 – قمرا و حدائق

3 – الصمت يبلله الحزن

4 – الداخل روح

5- مطرا و سماء

6 – لا تأت

7 – بلا ثمر

8 – و مضت بمواكبها الفرسان

            1 – قلت لها تعالي

2 – وردا و حرائق

3 – جزر الصمت

4 – لا تسحبي هذا ال

5 – حرائق تناى

6 – تعال

7 – هذا شجر

8 – الفارس اغواه الليل

المعجم الشعري:

    تتجرد الالفاظ من دلالتها المعجمية , لتدخل دلالات جديدة داخل سياق خاص ب (الشاعر – الكاتب) , و في اسلوب خاص به , و ان اللغة قبل ان تكون شعرية هي معجمية في دلالاتها الخام , لذا فان (( كل بحث في مجال الشعرية يفترض معرفة اولية بالدراسة العلمية للغة )) (12) , كما اننا نستطيع تمييز لغة شاعر عن اخر , اعتمادا على قراءات متكررة (13) و (( يتشكل المعجم الشعري من لازمة نفسية هي بلا شك اسقاطات اللاوعي على الوعي , و ما يترشح من ذلك عبر تكرارات ( نفسية – فلسفية – فنية ) تتبلور على هيئة الفاظ سلطوية لا قدرة للناص على تجاوزها)) (14)

عدد مرات تكرارها            المفردة او الجملة

(7) سبع مرات

(3) ثلاث مرات

(5) خمس مرات

(4) اربع مرات

(3) ثلاث مرات

(3) ثلاث مرات

            1 – الفعل الماضي ( نأت)

2 – الحزن

3 – الليل

4 – البلاد – الديار

5 – الوجه

6 – الظمأ

بنية الصورة الشعرية :

   ترتبط الصورة بالباعث الذي يثير المشاعر , فيهيج كل التراكمات المخزونة في تجارب سابقة , فيسعى الى تصويرها (15)

      ولكي يستطيع الشاعر ان ينقل الصورة بكل ما يمتلكه من احساسات للمتلقي يجب ان يوصل هذا الباعث حيث يثير في نفس المتلقي ما اثاره في نفسه من اعجاب او محبة او حماس (16)

      والصورة في التراث النقدي العربي (( قدرى الشاعر في استعمال اللغة استعمالا فنيا يدل على مهارته الابداعية , و من ثم يجسد شاعريته في خلق الاستجابة و التأثير في المتلقي , و هي الوعاء الفني للغة الشعرية شكلا و مضمونا )) (17)

1 – التكثيف : ان مهمة الشاعر هي البحث في ما خلف الاشياء  , فلم تعد الدراسات البلاغية تعتني بالعناصر من تشبيه او استعارة او شكل فني , بل توسعت الى دراسات بنيوية من كيفية بناء الصورة اسلوبيا (18)

      يشتغل الشاعر عبد الجبار الجبوري في مجموعته ( البحر ليس اسمي ) على معالجة هموم و انشغالات انسانية و كونية ايضا , اكثر مما توحي به شعرية الكون بعوامل التصدع و التفكك التي تضربه بعنصر الزمان و المكان:

والمشتعلات بالجراح

والراحلات

المرهفات كالصباح

سيبحر الليل البعيد.. في دمي

ويرتدي خوذته المحارب الجديد

         ويخلق الشاعر عبد الجبار الجبوري صورته الشعرية بذكاء فكري عال , حيث تنعكس موروثاته الابتكارية و ثقافاته المتسعة على شعره , لترسم صورا تميزه عن سواه من الشعراء , و بخاصة تلك الجرأة ( المباشرة /غير المباشرة ) في طرح الية اسئلة جديدة :

( تمهل )

فجنود الغزو الامريكي

تملأ كل الطرقات

-----------------------------

هذه جثة عمي

عفوا ..

هذا المغدور اخي

هذا جاري.......

2 – التفاعل النصي :

     لا شك ان التناص هو اليوم (( بمثابة اداة مفهومية بقدر ما هي علامة , و رواق ايبستمولوجي يشير الى موقف و الى حقل مرجعي و الى اختيار رهانات معينة )) (19)

     ان للتناص تعالق بين النص و النصوص السابقة , حيث (( يمثل تبادلا , حوارا , رباطا , اتحادا , تفاعلا بين نصين او عدة نصوص , اي في النص تلتقي عدة نصوص , تتصارع , يبطل احدهما مفعول الاخر, تتساكن , تلتحم , تتعانق , اذ ينجح في استيعابه للنصوص الاخرى و تدميرها في ذات الوقت , انه اثبات و نفي و تركيب )) (20)

المتفاعل النصي    البنية النصية

تناص ( شعر مسرحي )

تناص انجيلي (الكتاب المقدس)

تناص ( شعري )

تناص ( ديني )

تناص ( شعري )

تناص ( ديني )

تناص (فني )

تناص ( شعري )

تناص ( ديني )

تناص ( تاريخي )

تناص ( شعري)

1– يبست شفتي و انا اصرخ

2 – تعلن بدء التكوين

3 – فاجأني حزن العصافير

4 – سمع الله لمن حمده

5 – لا تعذيليه

6 – و سورة القدر

7 – سيمفونيتك الاولى

8  - اشارات الولد السبع

9 – و الناس سكارى

10 – و لا سيف الحجاج

11 – نام الحراس على سطح الموت

3 – تمرد الاسطورة :

     ان من حق الشاعر ان يفيد من الر موز كافة بحسب ما تنطوي عليه من ايحاءات و دلالات انسانية وترابط وظيفي لبناء القصيدة (21)

الرمز : يشتغل عبد الجبار الجبوري في بناء قصيدته ذات الاشارات العميقة و التلميحات الحادة كوسيلة من وسائله الفنية في خلق الصورة الجديدة من ( الديني / التاريخي / الاسطوري ) من الترميزات الذكية :

اما الاسطورة فلها استعمالات واسعة في المجموعة تجاوزناها اختصارا

بنية الايقاع الشعري

أ – الوزن

ب- القافية

ج – التكرار – التدوير

د – الايقاع الداخلي

أ– الوزن:

       تقوم القصيدة الحديثة في تشكيل بنيتها الموسيقية  - ضمن ما تقوم به – على عنصرين اساسيين هما الايقاع و الوزن (22) اذ يكمل احدهما في تناسب و تلاحم شديدين (( على ان ثمة فارقا دقيقا يعرف اصطلاحا بالوزن وما يدعى فنيا بالايقاع و لكي يتضح هذا الفارق ينبغي ان نميز بين الصوت باعتباره وحدة نوعية مستقلة , و الصوت باعتباره حدثا ينطقه المتكلم )) (23) .

      يستعمل الشاعر عبد الجبار الجبوري بصورة عامة في تشكيل قصائده ثلاثة اوزان هي :

( مستفعلن / مستفعلن = بحر الرجز ) و ( فعلن فعلن = بحر الخبب ) و (متفاعلن / متفاعلن =  بحر الكامل ) .

بحر الرجز:

مرتبكا..

مستعلن

اتيت من ليل الجراح

متفعلن مستفعلن

فاجأني

مستعلن

بحر الخبب :

هذا وجهي

فعلن فعلن

جزر الصمت

فعلن فعل

ب – القافية : تعد القافية واحدة من الظواهر الفنية السائدة في الشعر العربي لعدة قرون , و ربما دعى البعض الى التخلص منها نهائيا (24) , و بالرغم من ذلك فقد ظل الشاعر العربي الحديث مشدودا اليها , وقد يتخلى عنها حينا ليعود اليها بعد حين :

       وقبل ال ندخل في ضروب القافية , لنا ان نذكر ان الدكتور فيصل القصيري احصى في كتابه ( بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة ) (25) ثلاثة انواع من القافية هي :

القافية المتواطئة

القافية المتناوبة  ( او المتوالية )

القافية المتجاوبة ( او المتداخلة )

القافية المتجاوبة   القافية المتناوبة    القافية المتواطئة

سلاما

سلاما

1 – اراهما مثل قامة النخيل

تجيء فوق

راحة الصهيل

2 – المحبوس في ذاكرتي

و صوتها المحزون

قاتلتي

1 – و بالوجع المر

و برائحة الزهر

اني اشتهي عطر

2 – النهدين

كل العينين

ج – التكرار : يمكننا ان نضيف الموسيقا اللغوية الى الايقاع الشعري الحديث و التي تتأتى من حسن اختيار الالفاظ (25) مع حسن التجاوز في الالفاظ .

و قد يكون التكرار في القصيدة :

أ – تكرار الحرف

ب – تكرار الكلمة

ج – تكرار الجملة

د – تكرار العبارة

التكرار ( قصيدة: رقيم يشبه المطر: مثالا ):

1 – تكرار الحرف: تكرار حرف الجر ( الواو ) ( 10 مرات )

( و هنا / و تسافر / و لظى / و اهلته / و ابي / و اراه / و الليل / و يقهقه / و دماء / و العمر حزين )

2 – تكرار الكلمة : ( مطر اسود / مطر اسود / لا يشبهه مطر / خاصرة المطر الاسود / يصيح مطر اسود / قلت : مطر اسود ) حيث تكررت كلمة ( مطر ) – 6 مرات )

3 – تكرار الجملة – حيث تكررت جملة ( مطر اسود ) – 5 مرات.

د – التدوير : مارس شعر الحداثة العربية التجديد و تجاوز الذاكرة الشعرية , و ابدع ايقاعا يتجاوز ان يكون وزنا و قافية , و قام بابدالات تلغي رتابة بعض الموروث و تؤسس لشعرية مغايرة وفق اوليات انتاج الراهن (26)

     والتدوير ظاهرة ايقاعية واسعة الانتشار في شعرنا الحديث , و يسمى (( التضميت )) (27) فالتدوير على هذا الاساس يلبي (( حاجة تعبيرية , و موسيقية لتحقيق ايقاع التجربة )) (28)

بعيون تطفو فوق

فعلن فعلن فعلن ف

ظلام الليل

علن فعلن

الدهشة تخطف لون

فعلن فعلن فعلن ف

الحزن

علن ف

ه – الايقاع الداخلي :

      لايقتصر الايقاع في النص الشعري على العروض , و اعني الوزن و القافية , و انما ثمة موسيقا اخرى تنبع من اعماق هذا النص من خلال العلاقات التي تربط بين عناصره او تكويناته الداخلية (29) و لعل القوافي الداخلية و التجمعات الصوتية , كلها عناصر تتضافر فيما بينها لانتاج الموسيقا الداخلية , و يعتمد شعر عبد الجبار الجبوري في مجموعته الاخيرة ( البحر ليس اسمي ) على تركيز الايقاع في بؤر صوتية معينة , و الافادة من النشاط الصوتي المتميز لكل تجمع صوتي من هذه التجمعات , فصوت (السين ) بترديده العالي , و اثارته اللافتة , و ضغطه الايقاعي الواضح , يتكرر على نحو مثير للانتباه , و يمكن حشده خطيا بالشكل الافقي الاتي ( قصيدة : هكذا احبها ) : (( مساء / المغول / الساعة / المرسومة / الوقت مساء / اسرار / بسحر / يا سيدة الزمن / الناس / شمس / مسراها / مواسمها / اسرج / السنوات / سنيني / سنين العمر / السهد / اسير ))

   فضلا عن صوت ( الشين ) الذي يقاربه و يعاضده و يعمق حسه الايقاعي : (( عشق / الشكوى / شمس .....الخ ))و كذلك صوت ( الراء ) المتضامن معهما في علو هذه الاصوات التي تحيل القصيدة على اجوائها الموضوعية :

(( القمر / ركعة / ثراها / البرق / المرسومة / تحترق / براريها .....الخ ))

       كما يمكن متابعة اصوات اخرى على هذا الصعيد شكلا بؤرا استجابت لايقاع الفكرة التي نهضت عليها القصيدة , كما توافقت مع ايقاع السرد الذاتي الذي قاده الراوي الشعري , ان تفعيل عناصر السرد المختلفة كالمكان و الزمان و الشخصية و ارتفاع الحكي الى مستوى تسريع الافعال اشاعت مزيدا من البؤر الصوتية التي اتاحت فرصة للمتلقي / القارىء ان ينوع في اساليب تلقيه القرائي للمجرى اللغوي الذي تسير فيه القصيدة .



المصادر و المراجع

البحر ليس اسمي , عبد الجبار الجبوري , قصائد , دار نينوى للدراسات , دمشق , 2010

** ناقد من العراق

بنية اللغة الشعرية , جان كوهين , ترجمة محمد عبد الولي و زميله , دار توبقال للنشر  , الدار البيضاء, ط1 , 1986 , ص24..............(1)

دلائل الاعجاز , عبد القاهر الجرجاني , مطبعة احمد مصطفى , مصر , د.ت , ص5 …....(2)

تاريخ النقد الادبي , إحسان عباس , دار الحرية , بغداد , 1987 , ص33 ......(3)

في الشعرية , د.كمال ديب , مؤسسة الابحاث العربية , ط1 , بيروت , 1987 , ص 13 ..........(4)

م.ن : ص14 ................(5)

شعر ادونيس , البنية و الدلالة , راوية يحياوي , منشورات اتحاد الكتاب العرب , سلسلة دراسات 1 , 2008 , ص13 ...................(6)

الرمز و انزياحاته , د.وجدان عبد الإله الصائغ , مجلة الفن و التراث الشعبي , الإمارات – رأس الخيمة, ع 15 تموز 2003 , ص48 .......................(7)

اللغة و مشكلات المعرفة , تشومسكي , ت :حمزة بن قبلن المزيني , ص14.....(8)

شعر ادونيس , البنية و الدلالة , ص49 .......(9)

جدلية الانسنة و الشيئنة في قصة ( أبونا ) , كمال عبد الرحمن , بحث مخطوط , ص3 .....(10)

بنية اللغة الشعرية , جان كوهين , ص129 .........(11)

الاسلوبية و الاسلوب , عبد السلام المسدي , دار العربية للكتب , تونس , 1982 , ص115…....(12)

شعر ادونيس , البنية و الدلالة , ص72 .......(13)

ثنائيات المعجم الشعري في ( عندما اشتبك الضوء بالياقوت ) , كمال عبد الرحمن , جريدة الزمن , لندن , العدد 1562 , 21/7/2003 , ص9 .........(14)

نظرية الشعر عند الجاحظ , أطروحة دكتورة , مريم محمد جاسم المجمعي , بأشراف : د.محمد  صابر عبيد الجبوري , جامعة تكريت , 2008 , ص93 ........ (15)

مستقبل الشعر و قضايا نقدية , عناد غزوان , دار الشؤون الثقافية , 1994 , ص115 …..(16)

م.ن : ص116 .......................(17)

شعر ادونيس ,البنية و الدلالة , ص114 ...........(18)

تودوروف , رولان بارت , أبمرتو تواكسو , مارك انجينو , في أصول الخطاب النقدي , ت :احمد ألمديني , دار الشؤون الثقافية , ط1 , بغداد , 1987 , ص155 .........(19)

لذة النص أو مغامرة الكتابة عند بارت , عمر اوغان , أفريقيا للنشر , المغرب , 1991 , ص29. (20)

مرايا جديدة , عبد الجبار عباس , ص109 ........(21)

القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية و البنية الإيقاعية , أ.د.محمد صابر عبيد , منشورات اتحاد الكتاب العرب , دمشق , 2001 , ص19 .............(22)

ظاهرة الإيقاع في الخطاب الشعري , محمد فتوح احمد , مجلة البيان , العدد 4 , مج:6 , 1986 , ص49.(23)

بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة , د.فيصل ألقصيري , دار مجدلاوي , عمان , 2006 , ص192 (24)

في العروض و الإيقاع الشعري , صلاح يوسف , شركة الأيام , ط1 , الجزائر , 1996 ,

ص160 ...........(25)

شعر ادونيس , البنية و الدلالة , ص206 ........(26)

بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة , ص204 ، (27)م.ن : ص204 ....(28)

في حداثة النص الشعري , دراسة نقدية , د.علي جعفر العلاق , دار الشؤون الثقافية , ط1 , 1990 , ص101

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...