الأحد، 24 مارس 2024

 النص وتعدّد القراءات

محمد محمود إبراهيم

تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هناك قراءات متعددة للنص الواحد. وذلك لاختلاف القرّاء من ناحية، واختلاف أمزجتهم وميولهم وخلفياتهم الفكرية والأيديولوجية من ناحية أخرى. ومن هنا يمكن القول: إن القراءة فعل غير بريء لأنها تعكس مفاهيم مترسبة في ذهن القرّاء، وهذه المفاهيم لها خلفيات فكرية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية وقيمية[1]. وبالتالي فإن هذه الخلفيات الفكرية والأيديولوجية تختلف من قارئ لآخر حسب إطاره المعرفي؛ وبالتالي تتعدد القراءات للنص الواحد، ولذلك يمكن أن نحصر عدد أنواع القراءة بعدد القراء ذاتهم.


وتختلف أنواع القراءات طبقًا لاختلاف معايير ثلاث[2]:


المعيار الأول: معيار القارئ: وتكون القراءة طبقًا لهذا المعيار عبر التلقي المباشر حيث القراءة الاستدلالية، والاستبطانية التي يشارك فيها المتلقي في تشكيل وإنتاج معنى جديد للنص.


المعيار الثاني: معيار الغرض من القراءة: حيث القراءة التفسيرية أو التأويلية أو التحليلية/التركيبية.


المعيار الثالث: معيار المنهج: وفيه تأخذ القراءة طبيعة المنهج المتبع فيها ومنها: القراءة التاريخية، القراءة الاجتماعية، القراءة النفسية، القراءة البنيوية، القراءة التفكيكية.


ويميز “روبير اسكاربيت[3]” من منظوره الاجتماعي للأدب بين نوعين من القراءة:


القراءة العارفة: هي قراءة تجاوزية تنطلق من النص لتكشف خباياه، وتحلل أدواته، وتنقب عن مرجعياته التي تصنع قيمه الجمالية.

القراءة الذوقية: هي قراءة استهلاكية تعتمد على ذوق القارئ الذي يسجل إعجابه أو استهجانه بالعمل الأدبي، وهي خاضعة لذوق القارئ المتغير بفعل الدعاية والإعلان وهوى القارئ المتقلب في المكان والزمان، وطبقًا لذلك فإن هناك أعمالًا أدبية تكون مميزة ولكنها لا ترى النور بفعل هذه المعطيات.

ويعرض تزفتان تودروف[4](Todorov)  ثلاثة أنواع من القراءة:


النوع الأول: القراءة الإسقاطية: لا تلتزم بالنص، ولا تركز عليه، وتتجه ناحية المؤلف أو المجتمع، وتتعامل مع النص على أساس أنه وثيقة تاريخية أو اجتماعية تقرر إشكالية أو قضية معينة، فهي تنطلق من خارج النص حيث يسقط القارئ مرجعياته الاجتماعية والثقافية على النص.


النوع الثاني: قراءة الشرح: تلتزم بالنص، ولكنها لا تغوص في أعماقه لتكشف كوامنه وخفاياه، فهي أسيرة المعنى الظاهري للنص فقط، ولا شيء غيره، ولذا فإن شرح النص فيها يكون بوضع كلمات بديلة لنفس المعنى أو من خلال تكرار ساذج لنفس كلمات النص بدون أي إبداع، فهي قراءة تعيد صياغة المكتوب بلغة مغايرة.


النوع الثالث: القراءة الشاعرية: أصلها متحدر من الكلمة اللاتينية Poetica التي تعني عند الفرنسيين في القرن السادس عشر: كل ما هو مبتكر مبتدع خلاق، وخلال القرن السابع عشر ظهر المصطلح بالمفهوم الأرسطي الذي عنى به: فعل أو صنع، ثم أخذ المفهوم بعد ذلك في التطور من المعنى الواسع: الصنع والابتداع والابتكار إلى معنى ضيق ومحدود ليشير إلى: فن التأليف والأسلوب الخاص بالشعر. وعد كل من تودوروف ودوكرو الشاعرية باعتبارها “نظرية للأدب”. هذا المصطلح قديمًا ترجمة العرب إلى بوطيقا أوالى فن الشعر-وقد اعتبر عبد القادر الجرجاني أن اللغة المجازية هي نبض الشعرية ومع مرور الوقت أصبحت الشعرية أحد فروع علم الجمال الفلسفي في بداية القرن الثامن عشر. ويعرف ياكبسون مفهوم الشعرية: بأنه كل ما يجعل من رسالة لفظيه أثرًا فنيًّا. هذه القراءة وخاصة عند تودروف تركّز على البنى الداخلية للنصوص وكيفية انتظامها، والتزامها بشروط الإبداع باعتبار أن الشعرية لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل معرفة القوانين التي تنظم ولادة كل عمل إبداعي.


واقترح ريفايتر[5] قراءتين في سياق حديثه عن طبيعة العلاقة الجدلية بين النص والقارئ:


قراءة استكشافية: وهي قراءة لا تتعدى حدود المسح البصري للنص، أو الكشف المعجمي لألفاظه.

قراءة استرجاعية: وهي قراءة تتجاوز مرحلة فهم جسم النص إلى الولوج في العملية التأويلية وفهم روح للنص.

وكشف لنا جاك لينهاردت[6] عن ثلاثة أنماط من القراءة:


النمط الأول: القراءة الوقائعية Factual: وهي قراءة تتوقف عند سطح النص ولا تتخطاه، حيث يكتفي فيها القارئ بإعادة إنتاج الوقائع والأحداث كما هي في النص بدون تقييم نقدي فهي قراءة خطية للنص.


النمط الثاني: القراءة العاطفية Emotional : وهي القراءة التي يحكمها الحكم القيمي العاطفي، فعند قراءة النص الأدبي يقوم القارئ بترك العنان لعواطفه وقيمه في الحكم على العمل الأدبي ذاته، فيؤيد أو يلوم أو ينقد الشخصيات الماثلة في العمل الأدبي، ويؤكد الكاتبان جاك لينهاردت Jacques Leenhardt  وبيير يوجاPierre Jozsa أن هذه القراءة تتأسس على قيم اجتماعية/ثقافية/أخلاقية لدى القارئ، هذه القيم تقوم بوظيفة المثل الأعلى فقد يدين القارىء سلوكًا معينًا للشخصيات ويتهمهم بأنهم أكثر عنفًا أو قسوة، أو يتهمهم بالضعف أو بالليونة أو بالتردد، ويوضح غياب القوة والإصرار لديهم، فهذه الشخصيات تدان طبقًا للإطار القيمي للمتلقي.


النمط الثالث: القراءة التحليلية/التركيبية Analytico – Synthetique وهي القراءة التي  تعمل على شرح وتفسير سلوك الشخصيات في النص دون تأييدها أو إدانتها، ويسعى القارئ من خلالها إلى تفكيك وحدات النص ثم كشف علاقاته المتشعبة والوقوف على أسبابه وعلله.


وفي كتاب البنيوية وما بعدها يميز جون ستروك[7] بين نوعيين من القراءة:


النوع الأول: القراءة الكامنة: وهي التي يمكن استخلاصها من مجموع العلاقات القائمة في النص نفسه، أي إنها كامنة فيه.


النوع الثاني: القراءة المتعالية: هي القراءة التي تعتمد على معلومات في خارج النص كالسيرة والمعطيات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تكون حاضرة أثناء قراءة النص.


ويميز محمد عابد الجابري[8] بين ثلاثة أنواع من القراءة طبقًا لمعيار القارئ مع النص:


النوع الأول: القراءة الاستنساخية، أو ما يطلق عليها ذات البعد الواحد: هي قراءة تكون خاضعة للنص ترى وترصد ما يراه ولا شيء خارجه، فهي لا تكشف إلا ما يكشفه النص، ولا تتكلم إلا بلسان النص، لتقدّم لنا تعبيرًا مطابقًا لوجهة النظر الصريحة المكشوفة التي يتبناها صاحب النص دون سبر أغوار النص وكشف ألغازه، وهي قراءة تأويلية طبقًا لرأي الجابري.


النوع الثاني: القراءة الاستنطاقية: هي قراءة واعية لكونها تأويلًا تحاول بكل إخلاص أن تساهم في إنتاج معنى النص، وإعادة بناؤه في بنيان متماسك ومنسجم، ليكون معبّرًا عن رؤى وتصورات المؤلف والقارئ معًا، لأن هذه القراءة ذات بعدين: البعد الذي يتحدث منه مؤلف النص، والبعد الذي يتحدث منه القارئ، ومن هنا تكون القراءة ناجحة إذا استطعنا توظيف البعدين معًا في بناء جديد يبدو متناسقًا ومتماسكًا. وهذه القراءة لها مستويان: الأول: مستوى البناء الذي ينطق به النص، والثاني: مستوى استنطاق النص، وذلك للكشف عن بناء آخر ملازم للبناء المباشر المقدم. ورغم أهمية هذه القراءة إلا أنها كسابقاتها تعمل على إخفاء التناقضات والأيديولوجيات المتصارعة في النص بعد تبريرها وتذويبها عن طريق التأويل.


النوع الثالث: القراءة التشخصية: وهذه القراءة تحاول أن تكشف المستور، والمسكوت عنه في النص، كما تحاول أن تبرز عمليات التهميش والإقصاء في النص، وهي تجاهد لكي تقوم بموالفة بين القراءتين السابقتين: القراءة الاستنساخية، والقراءة الاستنطاقية، من أجل كشف وتشخيص تناقضات النص سواء على مستوى السطح أو العمق أو البناء، وكشف تناقضات ونقائض المتكلم في النص. ويتحدد هدف هذه القراءة في تفكيك النص والكشف عن تهافت النص وتعريته من تناقضاته ونقائضه. فالهدف الأسمى لهذه القراءة هو تشخيص العلامات اللامعقولية في النص.


لا جدال أنه يوجد عدد لا يمكن حصره من أنماط القراءة المختلفة طبقًا للمعايير السابقة الذكر مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المعايير ليست مطلقة وإنما هي نسبية، متغيرة، وليست ثابتة فيمكن أن يكون لها أو عليها، وبالرغم من ذلك فهي تشترك في هدف أساسي وهو الكشف عن المعنى والمقصد الذي يبغيه النص وصاحبه، فكل نمط قرائي  يكشف لنا عن جانب معين في النص، ولذلك نرى أن هذه القراءات لا تصارع بعضها البعض، ولكنها تنسجم وتتكامل ويبنى عليها، ويمكن صهرها في بوتقة واحدة من أجل الكشف عن المعنى والمغزى من النص، بشرط أن تكون منسجمة مع العقل والواقع، ولا تحرّف الكلام عن مقصده وموضوعه، ولا تلوي عنق النص لإيهام المتلقي بوقائع وقضايا معينة، هي أساسًا ليست موجودة في النص.


 


 


 


 


[1] حبيب مؤنسي، القراءة والحداثة: مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية، (دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، مكتبة الأسد، 2000)، الصفحة 216.


[2] اعتدال عثمان، إضاءة النص، (بيروت: دار الحداثة للطباعة والنشر، 1988)، الصفحة 217.


[3] حبيب مؤنسي، القراءة والحداثة، مرجع سبق ذكره، الصفحتان 211و 212.


[4] لمزيد من التفاصيل؛


عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2006)، الصفحتان77و78. – يوسف وغليسي، تحولات الشعرية في الثقافة النقدية العربية الحديثة: بحث في حفريات المصطلح (مقال) عالم الفكر(مجلة)، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، المجلد37، العدد الثالث2009،الصفحة8.                                                                                                         – عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص (مقال)، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة(مجلة)، عدد 298 نوفمبر2003، الصفحة 282.                                                                                                                                                 – حسين الأنصاري، شعرية الجسد في بنية الفضاء المسرحي: بلاغية النص ومركز الجذب، (مقال)في مجلة الرافد، الشارقة، دائرة الثقافة والأعلام، العدد161،يناير2011، الصفحتان 83و84.

[5] عزيز محمد عدمان، حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي(مقال) منشور بمجلة عالم الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مجلد37، العدد الثالث، يناير 2009، الصفحة 83.


[6] بيير زيما، النقد الاجتماعي، نحو علم اجتماع للنص الأدبي، ترجمة عايدة لطفي، (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع،1991)، الصفحتان 319-320.


[7] جون ستروك، البنيوية وما بعدها: من ليفي شتراوس إلى دريدا، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، عدد206 فبراير1996، الصفحة 17.


[8] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر: دراسة نقدية تحليلية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 5، 1994)، الصفحات 11-13.

الاثنين، 18 مارس 2024

 النقد المنهجي عند العرب: ومنهج البحث في الأدب واللغة - محمد مندور

الفصل الرابع

الآمدي والموازنة بين الطائيَّينِ

(١) منهجه في النقد وذَوقه الأدبي

يقول الآمديُّ عندما يصل في كتابه إلى باب الموازَنة التفصيلية بين الشاعرَين: «أنا أذكر — بإذن الله الآن في هذا الجزء — المعانيَ التي يتفقُ فيها الطائيَّان، فأُوازِن بين معنًى ومعنًى، وأقول أيُّهما أشعرُ في ذلك المعنى بعَينه، فلا تطلبني أن أتعدَّى هذا إلى أن أُفصِحَ لك بأيِّهما أشعَرُ عندي على الإطلاق؛ فإني غيرُ فاعلٍ ذلك.»١ وهذه بلا ريبٍ نَغْماتٌ جديدة في تاريخ النقد العربي؛ فالذي أَلِفْناه هو ألَّا يقف ذَوو البصر بالشعر عند تفضيلِ طبقاتٍ من الشعراء على طبقاتٍ أخرى، على نحوِ ما رأيناهم يجعلون من امرِئ القيس والنابغة وزُهير والأعشى الطبقةَ الأولى من الجاهليِّين، ومن جَريرٍ والفرزدَقِ والأخطَلِ الطبقةَ الأولى من الأُمويِّين وهكذا، بل يَعْدُون ذلك إلى المُفاضلة بين أفرادِ كلِّ طبقة. وفي مقدمة «جَمْهرة أشعار العرب»، لأبي زيدٍ محمد بن أبي الخطَّاب القُرشي، وغيرِها من كتب الأدب، كثيرٌ من تلك المفاضَلات التي أقاموها على تعميماتٍ لا استقصاءَ فيها ولا تحديد. وأما الآمدي فوِجهتُه وجهةٌ أخرى؛ فهو يبدأ الموازنةَ بين البُحتُريِّ وأبي تمامٍ بأن يُورِدَ حُجج أنصارِ كلِّ شاعر وأسبابَ تفضيلِهم له، ثم يأخذ في دراسةِ سَرِقات أبي تمام وأخطائه وعُيوبه البلاغية. ويفعل مِثلَ ذلك مع البُحتُري مُورِدًا سرقاته، خصوصًا سرقاته من أبي تمام، ثم أخطاءَه وعيوبَه. وأخيرًا ينتهي إلى الموازَنة التفصيليةِ بين ما قاله كلٌّ منهما في كلِّ معنًى من معاني الشعر؛ يقول: «وأنا أبتدئُ بما سمعتُه من احتجاج كلِّ فرقة من أصحاب هذين الشاعرَين على الفرقة الأخرى، عند تَخاصُمِهم في تفضيلِ أحدهما على الآخر، وما يَنْعاه بعضٌ على بعض؛ لتتأمَّلَ ذلك وتزدادَ بصيرةً وقوة في حُكمك، إن شئتَ أن تحكم، واعتقادِك فيما لعلك تعتقدُ احتجاجَ الخَصمَين به.» (ص٣)، ويورِدُ فعلًا حُججَ كلِّ فريق، وردَّ الفريقِ الآخَر عليه. وسوف نرى في الباب الذي سنَعقدُه لتلك الموازنة كيف أن الآمديَّ قد أورد تلك الحُجج كما انتهت إليه، وأنها لم تكن مِن وضعِه هو، وأن كلَّ فضله فيها هو فضلُ الجمع والعرض والربط. وعندما انتهى من هذا الفصل قال: «تم احتجاجُ الخَصمَين بحمد الله، وأنا أبتدئُ بذِكر مَساوئ هذين الشاعرَين لأختمَ بذكرِ مَحاسنِهما، وأذكر طرَفًا من سرقات أبي تمام وإحالتِه وغلَطِه وساقطِ شِعره، ومساوئ البحتريِّ في أخذِ ما أخَذه من معاني أبي تمام، وغير ذلك مِن غلطٍ في بعض معانيه، ثم أُوازن من شِعرَيهما بين قصيدتين إذا اتفَقَتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، ثم بين معنًى ومعنًى؛ فإنَّ مَحاسنهما تظهر في تضاعيفِ ذلك وتنكشف، ثم أذكر ما انفرد به كلُّ واحدٍ منهما فجوَّد مِن معنًى سلَكَه ولم يسلُكْه صاحبُه. وأُفردُ بابًا لما وقع في شِعرَيهما من التشبيه وبابًا للأمثال أختمُ بهما الرسالة، وأضعُ ذلك بالاختيار المجرَّد من شِعرَيهما، وأجعله مؤلَّفًا على حروف المعجم لِيَقرب مُتناوَلُه، ويَسهلَ حِفظُه، وتقعَ الإحاطةُ به.» (ص٢٢).

ونحن وإن كنَّا نحتفظ بالنظر في تنفيذ الآمديِّ لهذا المنهج أو عدم تنفيذه كاملًا، إلا أننا نستطيع أن نستخلصَ من أقواله هذه روحَه في الدراسة، فهي روحٌ ناضجة، روحٌ منهجية حَذِرة يَقِظة. وهو يتناول الخصومةَ كرجلٍ بعيد عنها يريد أن يجمعَ عناصرها ويَعرِضَها ويدرُسَها، فإنْ قصَرَ حُكمَه على الجزئيات التي ينظر فيها، فقد يكون البحتريُّ أشعرَ في بابٍ من أبواب الشعر أو معنًى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعرَ في ناحيةٍ أخرى، كما سنرى. وأما إطلاق الحكم وتفضيلُ أحدِهما على الآخَر، فهذا ما يرفضُه الآمدي؛ «ولستُ أُحب أن أُطلِقَ القول بأيِّهما أشعرُ عندي؛ لِتَبايُن الناس في العلم، واختلافِ مذاهبهم في الشعر، ولا أرى لأحدٍ أن يفعل ذلك فيستهدفَ لذمِّ أحد الفريقين؛ لأن الناس لم يتَّفقوا على أيُّ الأربعة أشعَر: امرِئ القيس والنابغةِ وزُهيرٍ والأعشى، ولا في جريرٍ والفرزدَق والأخطل، ولا بشَّارٍ ومَرْوان، ولا في أبي نُواسٍ وأبي العَتاهِيَة ومُسلِم؛ لاختلاطِ آراء الناس في الشعر، وتبايُنِ مَذاهبهم فيه. فإن كنتَ — أدام اللهُ سلامتَك — ممَّن يُفضل سهلَ الكلام وقريبَه، ويُؤثِر صحةَ السَّبْك، وحُسن العبارة، وحُلو اللفظ، وكثرةَ الماء والرَّونق؛ فالبحتريُّ أشعرُ عندك ضرورةً، وإن كنتَ تميل إلى الصَّنعة والمعاني الغامضة التي تُستخرَج بالغَوص والفكرةِ ولا تَلْوي على غيرِ ذلك، فأبو تمام عندك أشعرُ لا محالة. فأمَّا أنا فلستُ أُفصِحُ بتفضيل أحدهما على الآخَر، ولكني أُقارِن بين قصيدتَين من شعرهما إذا اتفَقَتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، وبين معنًى ومعنًى، فأقول أيُّهما أشعَرُ في تلك القصيدةِ وفي تلك، ثم احكُمْ أنت حينَئذٍ على جملةِ ما لكلِّ واحد منهما إذا أحَطتَ علمًا بالجيِّد والرديء.» (ص٣). وإذن فالآمديُّ لا يريد أن يتحيَّز لأيِّهما على غيرِ بيِّنةٍ أو عن هوًى، وإنما يُلاحظ أن مَن ينتصر لهذا الشاعر أو ذاك إنما يفعل ذلك لِمَيله إلى اتجاهٍ خاصٍّ في الشعر، وأمَّا هو فلا يريد أن يُفصِح بتفضيلِ أحدِهما على الآخَر تفضيلًا مطلقًا، ولكنه يُقارن بينهما مقارناتٍ مَوضعيةً ويترك الحكمَ الكُليَّ للقارئ. وهذا بلا ريبٍ منهجٌ عِلمي سليم؛ منهجُ رجلٍ يرى المذاهب المختلفة ويَقبلها ويُسجِّلها، ثم منهجُ ناقدٍ يرفض كلَّ تعميم مُخِلٍّ، ويَقصُر أحكامَه على ما يَعرِض له من تفاصيل.


وإذن فنستطيع أن نُقرر أن الآمديَّ لم يقصد إلى التحيُّز لأحدِ الشاعرَين ضدَّ الآخَر، وذلك إذا أخذنا بأقواله السابقة، ولكننا لا نستطيع أن نكتفيَ بتلك الأقوال؛ فقد تكونُ روحُ الناقد الفعلية مخالفةً للخُطَّة التي يُعلنها، وقد يكون في نقدِه ما يتعارض مع تلك الخُطة. وفي دراستنا للآمديِّ بنوع خاص يجب أن نفترضَ فرضًا كهذا؛ وذلك لأن كلَّ تلك الأقوالِ لم تمنع النقَّادَ اللاحقين من أن يتَّهموا الآمديَّ بالتعصُّب على أبي تمام، حتى بلغ الأمرُ أنْ رأى فيه الباحثون المُحْدَثون مقابلًا للصوليِّ في تعصبه لذلك الشاعر (راجع مقدمة أخبار أبي تمام، للصولي، بقلم الأستاذ أحمد بك أمين)، فمن أين أتَت هذه التهمة؟ وهل في كتاب الآمديِّ ما يُؤيدها؟


(٢) الذَّوق والتعصب

للفصلِ في هذه المشكلة الهامة يجب أن نُقرر أولًا أن التعصبَ معناه النفسيُّ هو الانحيازُ كُليةً إلى ما نتعصبُ له، فلا ترى فيه إلا الخير، ونقلبُ سيئاته حسَناتٍ مَسُوقين بالهوى، مُتمَحِّلين الأسبابَ لتجميل القبيح والمبالغةِ في قيمة الحسَن، وهذه حالةٌ نفسية لا وجودَ لها في كتاب الآمدي، لا صَراحةً ولا من وراءِ حجاب؛ فهو رجلٌ يتبع في النقد منهجًا مُحكَمًا، فيدرس ما أمامه مُورِدًا حُججَه، مُعللًا أحكامَه، قاصرًا لها على التفاصيل التي ينظر فيها، رافضًا إطلاقَ التفضيل. وكلُّ هذا ضد التعصب. وأما أن يُفضِّل — تمشيًا مع ذَوقه الخاص — الشعرَ الطبيعيَّ السهلَ على الشعر المتكلَّف المقتسَر، فهذا ليس تعصبًا، وهو من حقِّ كل ناقد. والذَّوق هو المرجعُ النهائي في كل نقد. وإنما يأتي خطرُ تحكيم الذَّوق عندما نتَّخذه سِتارًا لعمل الأهواء التحكُّمية التي لا تَصدُر في أحكامها عن نظرٍ في العناصر الفنِّية، وإحساسٍ صادق بما فيها من جمالٍ أو قُبح، أو عندما يكون ذوقًا غُفْلًا لم تجتمع فيه «الدُّرْبة إلى الطبع»، كما يقول الآمديُّ نفسُه. فالذوق الذي يُعتَدُّ به هو ذوقُ ذَوي البصَر بالشعر، وهؤلاء يستطيعون عادةً أن يُعلِّلوا الكثيرَ من أحكامهم، وفي التعليل ما يجعل الذوقَ وسيلةً مشروعة من وسائل المعرفة، وإن كنا لا نُنكر «أنَّ من الأشياء أشياءَ تُحيط بها المعرفةُ ولا تؤدِّيها الصفة.» على حدِّ قول إسحاقَ الموصلي، كما نؤمن «بأنه ليس في وُسْع كلِّ أحدٍ أن يَجعلك، أيها السائلُ المتعنِّت والمسترشِدُ المتعلِّم، في العلم بصناعته كنفسِه، ولا يجدُ إلى قذفِ ذلك في نفسك ولا في نفسِ ولَدِه ومَن هو أخصُّ الناس به سبيلًا، ولا أن يأتيَك بعِلةٍ قاطعة ولا حُجةٍ باهرة، وإن كان ما اعترضتَ فيه اعتراضًا صحيحًا، وما سألتَ عنه سؤالًا مستقيمًا؛ لأن ما لا يُدرَك إلا على طول الزمان ومرور الأيام لا يجوز أن يُحيط به في ساعةِ نهار.» وأخيرًا نؤمن بأنه «لن ينتفعَ بالنظر إلَّا مَن يُحسِن أن يتأمَّل، ومن إذا تأمَّل عَلِم، ومن إذا علمَ أنصَف.»٢

إلى كل تلك الحقائق فَطِن الآمديُّ على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب، وهو في هذا يعود بنا إلى التقاليد الأدبية الجميلة الصادقةِ النظر؛ تقاليدِ ابنِ سَلَّام الذي تحدَّث عن الذوقِ المثقَّف أصدقَ الحديث.


وبالرجوع إلى كتاب الموازنة نفسِه، نجد أن المؤلفَ لم يتعصَّب للبُحتري كما لم يتعصب ضدَّ أبي تمام، وإنما هذه تُهمةٌ اتهمَه بها النقادُ اللاحقون عندما فسَد الذوقُ وغلَبَت الصنعةُ والتكلفُ على الأدب العربي، ونظر هؤلاء الأدباءُ المتأخرون في بعض انتقادات الآمدي لسخافاتِ أبي تمام «ووَساوسه»، ولم يُوافقوا على تلك الانتقادات لمرضِ أذواقهم، فقالوا: إن الرجل متعصبٌ ضد أبي تمام. وهذا ظلمٌ يجب أن نُصلِحَه، والتهمة لا تقوم بعدُ على استقصاءٍ لأقواله، ولا تَصدُر عن نظرٍ شامل في كل ما قاله، وإلا لَرأَوا أنه قد أُعجب بأبي تمام في غيرِ موضع، ودافعَ عنه أكثرَ من مرة، كما أنه لم يُحجِم عن أن يَنقُدَ البحتريَّ نقدًا مُرًّا كلما وجَد فيه مَغمَزًا، وأن يُفضِّل عليه أبا تمام. وهذه وقائعُ يجب أن نُظهِرَها؛ لأنه لا يكفي لكي نتَّهم الآمديَّ بالتعصُّب أن نوردَ مَثلًا أو مثَلَين نُخالفه فيهما، ثم نستنتجَ أنه ضدُّ أبي تمام أو تعصَّبَ للبحتري.


والذي لم يزل فيه أن الآمديَّ لم يكتب كتابه أيامَ عنفِ الخصومة بين أنصار أبي تمام والبحتري؛ وذلك لأن أبا تمَّام تُوفِّي سنة ٢٣١ﻫ، والبحتريَّ سنة ٢٨٤ﻫ، والمعركة قد احتدَمَت — فيما يَظهر — بعد موتِهما مباشرة، حتى بلَغَت أقصاها في أواخرِ القرن الثالث وأوائلِ القرن الرابع. ونحن وإن كنَّا لا نملك من الكتب التي أُلِّفَت في تلك الفترة غيرَ «أخبار أبي تمام» للصولي (تُوفي سنة ٣٣٥ﻫ)، إلا أننا نجد في هذا الكتاب ما يكفي للدَّلالة على مبلَغِ الإسرافِ والعنف، اللذَين صَحِبا تلك المنازعاتِ حول الشاعرَين؛ فالصولي كما رأينا هو الذي يجب أن يُتَّهم بالتعصُّب لأبي تمام، وهو الذي يجب أن نرفض الكثيرَ من أحكامه، بل ومن أخباره؛ لوضوح هَواه، وفسادِ ذَوقه، وكثرةِ ادِّعائه. وأما الآمديُّ (تُوفي سنة ٣٧١ﻫ) فقد جاء بعد أنْ كان الزمن قد هدَّأ مِن حِدة الخصومة، وكان الأدباء قد أخَذوا في الاقتتال حول رجلٍ آخَر، هو المتنبِّي.


جاء الآمديُّ إذن بعد تراخي الزمن، فوجد عدةَ رسائل في التعصُّب لهذا الشاعر أو ذاك، كما وجد ديوانَيْهما قد جُمِعا، وتعدَّدَت منهما النسخُ قديمةً وحديثة، ونظر في كلِّ تلك الكتب فوجَد فيها إسرافًا في الأحكام، وعدمَ دراسةٍ تحقيقيَّة، وضعفًا في التعليل أو قُصورًا، فتناوَل الخصومةَ بمنهج عِلمي أشبهَ ما يكونُ بمناهجنا اليوم، بحيث نعتقد أن هذا الكتابَ خيرُ ما نستطيع أن نضَعَه بين أيدي الدارسين كمَثلٍ يُحتذَى للمنهج الصحيح.


(٣) تحقيق النصوص ونسبتها

فالمؤلفُ يرجع إلى النُّسخ القديمة ويُحقق الأبيات. وإلى هذا يُشير غيرَ مرةٍ في كتابه فيقول (ص٨٩): «حتى رجَعتُ إلى النسخة العتيقة التي لم تقَع في يد الصولي وأضرابِه.» وذلك عند نظره في قول أبي تمَّام:


دارٌ أُجِلُّ الهوَى عن أن ألمَّ بها في الرَّكْب إلا وعيني مِن مَنائحِها

وفي صفحة ١٦٥ يقول: «وما رأيتُ شيئًا ممَّا عيبَ به أبو تمام إلا وجدتُ في شعر البحتريِّ مثلَه، إلا أنه في شعر أبي تمام كثير، وفي شِعر البُحتري قليل. ومن ذلك اضطرابُ الأوزان في شعر أبي تمام، وقد جاء في شعر البحتري بيتٌ هو عندي أقبحُ من كل ما عِيبَ به أبو تمام في هذا الباب، وهو قوله:


ولماذا تتَّبعُ النفسُ شيئًا جعَل الله الفردوسَ منه بَواء؟»

ثم يُضيف: «وكذلك وجدتُه في أكثر النسخ، وهذا خارجٌ عن الوزن … وقد رأيتُ في بعض النسخ «جعَل اللهُ الخُلدَ منه بَواء.» فإن يكن هذا فقد تخلَّص من العيب.»


وهكذا نراه يرجع إلى النسخ الأخرى لتحقيق النصِّ قبل الحُكم عليه؛ وذلك سواءٌ أكان الشعرُ من أبي تمامٍ كما رأينا في البيت الأول، أم من البحتريِّ كما رأينا في البيت الثاني. وهذه أُولى مراحل النقد المنهجيِّ المستقيم.


والآمديُّ يملك كذلك روحَ النقد العلميِّ الذي ينظر في صحة نسبة الشعر، وهو في ذلك تلميذٌ لابن سلَّام؛ ومِن ثمَّ نراه لا يَقبل ما يُنسَب إلى الأعراب انتحالًا. ولدينا في الجزء الذي لا يزال مخطوطًا من الموازنة (اللوحة ١٣١) مثَل دالٌّ في هذا؛ يتحدث المؤلفُ بمناسبةِ أبياتٍ يَدرُسها عن التقسيم فيقول: كان بعض شيوخ الأدب تُعجبه التقسيماتُ في الشعر، وكان مما يُعجبه قولُ عبَّاس بن الأحنف:


وِصالُكمُ هَجْرٌ وحُبُّكمُ قِلًى وعَطفُكمُ صدٌّ وسِلمُكمُ حربُ

ويقول: هذا أحسنُ من تقسيمات إقليدس. وقال أبو العباس ثعلب: سمعتُ سيدَ العلماء يستحسنُه؛ يعني ابنَ الأعرابي. ونحو هذا ما أنشده المبرِّد لأعرابي، وليس هو عندي من كلام الأعراب، وهو بكلام المولَّدين أشبه:


وأَدْنو فتُقصيني وأبعَدُ طالبًا رِضاها فتعتدُّ التباعُدَ من ذنبي

وشَكْواي تُؤذيها وصبري يَسوءُها وتجزعُ مِن بُعدي وتَنْفرُ من قُربي

(٤) مراجعة السابقين

وهو لا يكتفي بمَلَكاته الخاصةِ في دراسة هذين الشاعرين والموازنةِ بينهما، كما لا يكتفي بنسخِ آراء السابقين على نحوِ ما فعل غيرُه ممَّن يَرْوون أحكامَ الغير، أو ينقلون عن السابقين مع إغفال ذِكر أسمائهم. لم يفعل الآمديُّ شيئًا من هذا، وإنما فعل كما نفعل نحن اليوم عندما نريد دَرْسَ مسألةٍ من المسائل؛ فنجمع الكتبَ التي وُضِعَت في تلك المسألة، وننظر فيها فنُقرُّ ما نقبله منها، ونعتمد ما نعتبره كَسبًا نهائيًّا، ثم نراجع ما يراه خطأً، ونكشف عمَّا ترك من الظلال.


ولقد جاء الآمديُّ — كما قلنا — بعد أن كانت الخصومة حول البُحتري كممثِّل لعمود الشعر، وبين أبي تمام كرأسٍ لمذهب البديع، قد أسالت مدادًا كبيرًا، وكانت الكتب العديدة قد أُلِّفَت في كل ناحيةٍ من نواحيها، فكان من مقتضَيات المنهج الصحيح أن يجمع كلَّ تلك الكتبِ ويدرُسَها قبل أن يأخذ هو في الموازنة بينهما. وهذا ما فعله.


نظر فوجدَ «أكثر مَن شاهَده ورآه مِن رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أبي تمام حبيبِ بن أوسٍ الطائي لا يتعلق بجيدِه جيدٌ مثله، ورديئُه مطروحٌ ومرذول؛ فلهذا كان مختلفًا لا يتشابه، وأن شِعر الوليد بن عُبَيد الله البُحتريِّ صحيحُ السَّبْك، حسَنُ الديباجة، ليس فيه سَفاسفُ ولا رديء ولا مطروح؛ ولهذا صار مستويًا يُشبه بعضه بعضًا.» ووجدهم «فاضَلوا بينهما لغزارةِ شِعرَيهما، وكثرة جيِّدهما وبدائعهما، ولم يتَّفقوا على أيُّهما أشعَرُ، كما لم يتفقوا على أحدٍ ممَّن وقع التفضيلُ بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمَن فضَّل البحتريَّ ونسَبَه إلى حلاوة النفس، وحُسن التخلص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقُرب المأتى، وانكشافِ المعنى، وهم الكُتَّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهلُ البلاغة، ومثل مَن فضَّل أبا تمام ونسَبه إلى غُموض المعاني ودقَّتها، وكثرة ما يورد ممَّا يحتاج إلى استنباطٍ وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراءُ أصحاب الصَّنعة ومَن يميل إلى التدقيق وفلسفيِّ الكلام، وإن كان كثيرٌ من الناس قد جعلهما طبقة. وذهب قومٌ إلى المساواة بينهما، فإنهما لَمختلفان؛ لأن البحتري أعرابيُّ الشعر مطبوعٌ على مذهب الأوائل، وما فارق عمودَ الشعر المعروف، وكان يتجنَّب التعقيدَ ومستكرَه الألفاظ ووحشيَّ الكلام، فهو بأن يُقاس بأشجعَ السُّلَمي ومنصورٍ وأبي يعقوبَ المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أَولى، ولأن أبا تمام شديدُ التكلف صاحبُ صَنعة، مُستكرِهُ الألفاظ والمعاني، وشِعره لا يُشبه أشعارَ الأوائل، ولا هو على حدِّ طريقهم؛ لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولَّدة؛ فهو بأن يكون في حيِّز مسلمِ بن الوليد ومَن حذا حَذْوه أحقُّ وأشبَه. وعلى أني لا أجد مَن أقرنه به؛ لأنه ينحطُّ عن درجة مُسلم؛ لسلامة شعر مسلمٍ وحُسن سَبكه وصحةِ معانيه، ويرتفع عن سائر مَن ذهب هذا المذهبَ، وسلك هذا الأسلوب؛ لكثرة مَحاسنه وبدائعه واختراعاته، ولستُ أحب أن أطْلِقَ الحكم بأيِّهما أشعر …» (ص٣).


وهذا كلامُ ناقدٍ مؤرِّخ يرى الخصائص، ويُفسر الظواهر، ويُحاول أن يُقيم التسلسلَ بين المذاهب المختلفة؛ فهو يُخبرنا عمَّن يُفضِّلون البحتريَّ «الكتَّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة»، وعمَّن يُفضلون أبا تمام «أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة ومَن يميل إلى التدقيق وفلسفيِّ الكلام»، أو هو يُحدثنا عن مذهب كلٍّ منهما: «عمود الشعر عند البحتري، والبديع عند أبي تمام»، وهو يربط بين الشعراء المعاصرين؛ «فالبحتريُّ من مذهب أشجعَ السُّلمي ومنصورٍ وأبي يعقوبَ المكفوف»، وأبو تمام «بأن يكون في حيِّز مسلم بن الوليد ومَن حذا حذْوَه أحقُّ وأشبه.» وهذا «ليس تعصبًا، وهو وإن فضَّل شعر مسلم على شعر أبي تمام، فإنه لم يُنكر على هذا الأخيرِ أكثرَ مَحاسنه وبدائعِه واختراعاته»، كما يرفض «أن يُطلِق الحكم بأيهما أفضل».


(٥) كيف عالج القضايا العامة؟

(٥-١) المحاجَّة بين الفريقين

وإذن فقد كان لكلِّ شاعر أنصارُه، وقد أورد كلُّ فريق حُججَه، وجاء الآمديُّ — كرجل محقِّق — في «موازنته» بأقوال كلِّ فريق؛ قولِ أصحاب أبي تمام بأن البحتريَّ تلميذٌ لأبي تمام، وردِّ الفريق الآخر بأن التلمذة لا تُفيد التخلفَ عن الأستاذ. وقولهم: إن أبا تمام انفرد بمذهبٍ اخترعه وصار فيه أولًا وإمامًا متبوعًا، وشُهر به حتى قيل: هذا مذهب أبي تمام وطريقة أبي تمام، وسلك الناسُ نهجَه واقتفَوْا أثرَه. ورد أصحاب البحتري بأن أبا تمام لم يخترع هذا المذهب، ولا هو أولٌ فيه ولا سابقٌ إليه، بل سلك في ذلك سبيل مسلم، واحتذى حَذْوه، وأفرط وأسرف وزال عن المنهج المعروف، والسَّنَن المألوف، بل إن مُسلمًا نفسه غيرُ مبتدع لهذا المذهب ولا هو أولٌ فيه، ولكنه رأى هذه الأنواعَ التي وقع عليها اسمُ البديع، وهي: الاستعارة والطِّباق والتجنيس؛ منثورةً متفرقة في أشعار المتقدمين، فقصَدها وأكثرَ في شعره منها، وهي في كتاب الله عز وجل موجودة. وهنا يورد الآمديُّ الأمثلةَ التي أوردها ابنُ المعتز في كتابه البديع، وينتقل من القرآن إلى أحاديثِ النبي ﷺ وإلى الشعر القديم فالشعرِ الأموي، ثم يقول: «فتبع مسلمُ بن الوليد هذه الأنواعَ واعتدَّها، ووشَّح شعره بها، ووضَعها في موضعها، ثم لم يَسْلم مع ذلك من الطَّعن حتى قيل: إنه أولُ مَن أفسد الشعر، ثم اتبعَه أبو تمام واستحسَن مذهبه، وأحبَّ أن يجعل كلَّ بيت من شعره غيرَ خالٍ من بعضِ هذه الأصناف، فسلَك طريقًا وَعْرًا، واستكرهَ الألفاظَ والمعاني، ففسَد شعرُه، وذهبَت طَلاوته، ونشف ماؤه. وقد حكى عبد الله بن المعتزِّ هذا الكتابَ الذي لقبه «البديع» أن بشارًا وأبا نُواس ومُسلمَ بن الوليد ومَن تقبَّلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كَثُر في أشعارهم فعُرف في زمانهم، ثم إن الطائيَّ تفرَّع فيه وأكثَر منه، وأحسَن في بعضِ ذلك وأساء في بعض. وتلك عُقبى الإفراطِ وثمرةُ الإسراف، قال: وإنما كان الشاعر يقول في هذا الفنِّ البيتَ والبيتين في القصيدة، وربما قُرئ في شعر أحدهم قصائدُ من غيرِ أن يوجد فيها بيتٌ واحد بديع. وكان يُستحسَن ذلك منهم إن أتى قدرًا، ويزداد حظوةً من الكلام المرسَل. وقد كان بعضُهم يُشبِّه الطائيَّ في البديع بصالح بن عبد القدُّوس في الأمثال، ويقول: لو كان صالحٌ نثر أمثاله في تضاعيفِ شعره وجعل منها فصولًا في أبياته؛ لسبق أهلَ زمانِه، وغلَب على مدِّ مَيدانِه. قال ابنُ المعتز: وهذا أعدلُ كلام سمعتُه.» (الموازنة، ص٦–٨).


وهنا يظهر لنا منهجُ الآمدي بوضوح؛ فهو يعتمد على ما أُلف قبلَه ويحسن استخدامه، ناسبًا كلامَ ابنِ المعتز إلى صاحبه. وأما سكوته عن ذِكر أسماء أنصارِ أبي تمام، فليس في ذلك دليلٌ على تعصب؛ لأنه يسكت أيضًا عن ذِكر أسماء المتعصبين للبحتري، وإنما يورِدُ أسماء المؤلفين الذين يأخذ عنهم. ونحن وإن كنَّا نعلم اليوم أن كثيرًا من أقوال أنصار أبي تمام ما هي إلا تلخيصٌ لأقوال الصولي في أخبار أبي تمام، فإننا لا نَعجَب من عدم إفصاح الآمديِّ عن اسمه؛ فالصولي في الحق رجلُ ادِّعاء، وأوضحُ ما يكون ذلك فيما أورَدْناه، في الفصل السابق، من زعمِه أن الأدباء قد اختصَموا أبا تمام لجهلِهم وعجزِهم عن فهمه، أو لرغبتهم في المخالفة ليُعرَفوا. وها هو الآمدي يشير إلى هذه الادعاءات فيقول: «وقال صاحبُ أبي تمام: إنما أَعرَض عن شعرِ أبي تمام مَن لم يفهمه؛ لدقةِ معانيه وقُصور فَهمه عنه، وفَهِمه العلماءُ والنقادُ في علم الشعر، وإذا عرَفَت هذه الطبقةُ فضيلتَه لم يَضِرْه طعْنُ مَن طعَن بعدها عليه.» ويردُّ الآمديُّ على هذا الادِّعاء بقوله: «قال صاحبُ البحتري: إن ابنَ الأعرابي وأحمد بن يحيى الشيباني، وقبلهما دِعْبل الخزاعي، قد كانوا علماءَ بالشعر وكلامِ العرب، وقد علمتم مذاهبَهم في أبي تمام وازدراءهم بشعره، وطعن دعبل عليه، وقولهم: إن ثُلث شعره مُحال، وثلثه مسروق، وثلثه صالح. وروى أبو عبد الله محمد بن داود الجرَّاح في كتاب الشعراء عن محمد بن القاسم بن مهرويه، عن الهيثم بن داود، عن دعبل أنه قال: ما جعله الله من الشعراء، بل شعره بالخُطباء والكلام المنثور أشبهُ منه بالشعر. ولم يُدخِلْه في كتابه المؤلَّف في الشعراء. وقال ابنُ الأعرابي في شعر أبي تمام: إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل؛ روى ذلك أبو عبد الله محمدُ بن داود عن البحتري عن ابن الأعرابي. وحكى محمد بن داود أيضًا، عن محمد بن القاسم بن مهروَيه، عن حُذيفة بن محمد — وكان عالمًا بالشعر — أنه قال: أبو تمام يريد البديعَ فيخرج إلى المحال. ورُوي عنه أنه قال: دخل إسحاقُ بن إبراهيم الموصليُّ على الحسَن بن وهبٍ وأبو تمام يُنشده، فقال إسحاق: يا هذا، لقد شدَّدتَ على نفسك. وذكر أيضًا أبو العباس عبدُ الله بن المعتزِّ في كتاب البديع غيرَ هؤلاء العلماء ممَّن أفسدوا شعره … وهذا أبو العباس محمدُ بن يزيد المبرد ما علمناه دوَّن له كبيرَ شيءٍ، وهذه كتبه وأماليه وإنشاداته تدلُّ على ذلك، وكان يُفضِّل البحتريَّ ويستجيد شعرَه، ويُكثر إنشادَه ولا يستمليه؛ لأن البحتريَّ كان باقيًا في زمانه. وأخبرنا أبو الحسن الأخفشُ قال: سمعتُ أبا العباس محمدَ بن يزيد المبرِّد يقول: ما رأيت أشعرَ من هذا الرجل، يعني البحتري، لولا أنه يُنشدني كما أنشدكم لملأتُ كتبي من أمالي شعرِه.»


وفي هذا الردِّ ما يدلُّ على مَبلغ معرفة الآمدي لما قيل قبله، ورجوعه إلى الكتب المؤلَّفة؛ ككتبِ ابن المعتز ودعبل وابن الجرَّاح والمبرد، كما يشهد بوقوفه على التيارات المختلفة، وتَفهُّمِه لها، وعدلِه بينها.


(٥-٢) السرقات

ونحن لا نترك هذا البابَ إلى بابِ السرقات حتى نجدَ هذا المنهجَ الدقيق والمعرفةَ التامة؛ فهو يُمهد لدراسةِ سرقاتِ أبي تمام بتفسيرِ الظاهرة التي يَرجِعُها إلى كثرة ما حفظه أبو تمام من شعر القُدماء والمحْدَثين، وكثرةِ ما دوَّنه منه في مُختاراته العديدة، ثم يأخذ في استعراض الموضوع معتمدًا على ما أُلِّف في ذلك؛ ينظر فيه ويُناقشه، فيَقبل ما يراه صحيحًا، ويرفض ما يراه باطلًا، ويُكمل ما يجدُه ناقصًا.


يقول (ص٣٢) عند بدءِ حديثِه عن سَرِقات أبي تمام: «وأنا أذكرُ ما وقَع إليَّ في كتب الناس من سرقاته، وما استنبطتُه أنا منها واستخرجتُه، فإن ظهَرتُ بعد ذلك منها على شيءٍ ألحقتُه بها، إن شاء الله.» ويأخذ في إيراد تلك السرقات ورَدِّها إلى أصولها التي يراها، حتى إذا انتهى من ذلك عاد في صفحة ٤٧ يقول: «وجدتُ ابنَ أبي طاهرٍ خرَّج سرقاتِ أبي تمام، فأصاب في بعضها وأخطأ في البعض؛ لأنه خلَط الخاصَّ من المعاني بالمشترَك ممَّا لا يكون مِثلُه مسروقًا.» وهنا يُراجع ما أورده أحمدُ بن أبي طاهر. وفي هذا ما يدلُّ على منهج الآمديِّ ونزوعه إلى التحقيق وبراءته من التعصُّب، ولَكَم من مرةٍ يردُّ اتهاماتِ ابن أبي طاهر عن أبي تمام؛ لأن المعنى الذي قصد إليه أبو تمام غيرُ المعنى الموصوفِ بالسرقة، أو لأنه معنًى شائعٌ تتواردُه الخواطر، أو لأنه قد قصد منه إلى غرضٍ مُباين. وهذا ليس مَنْحى التعصُّب، وإنما هو المنهجُ الصحيح، والنظر العادل المدقق.


وهل أدَلَّ على إنصافه من أن يقول (ص٥٥): «وقد سمعتُ أبا عليٍّ محمدَ بن العلاء السِّجِستانيَّ يقول: إنه ليس لأبي تمام معنًى انفرد به فاخترَعه إلا ثلاثةُ معانٍ، وهي:


تأبى على التَّصريد إلا نائلًا إلَّا يَكُن ماءً قُراحًا يُمذَقِ

نَزْرٌ كما استَكرَهتَ عابِر نَفحةٍ مِن فأرةِ المِسْك التي لم تُفْتَقِ

وقولُه:


بَني مالكٍ قد نبَّهَت خامِلَ الثَّرى قبورٌ لكم مُستشرِفاتُ المَعالمِ

رواكدُ قيسِ الكفِّ٣ من متناوِلٍ وفيها عُلًى لا تُرتقى بالسَّلالمِ

وقولُه:


وإذا أراد اللهُ نشْرَ فضيلةٍ طُوِيَت أتاح لها لِسانَ حَسودِ

لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَت ما كان يُعرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ

ولستُ أرى الأمر على ما ذكَره أبو علي، بل أرى أن له — على كثرة ما أخَذه من أشعار الناس ومعانيهم — مُخترَعاتٍ كثيرةً، وبدائعَ مشهورة، أذكرها عند ذِكر مَحاسنه، إن شاء الله تعالى.»


وكما فعل في سرقات أبي تمام، فعَل في دراسته لسرقات البحتري، فيقول (ص١٢٤): «وحكى أبو عبد الله بنُ الجرَّاح في كتابه، أن ابن أبي طاهرٍ أعلَمَه أنه أخرَج للبحتريِّ سِتَّمائةِ بيتٍ مسروق، منها ما أخَذه من أبي تمام، خاصةً مائة بيت، فكان ينبغي ألَّا أذكر السرقات فيما أُخرِجُه من مَساوئ هذَين الشاعرَين؛ لأنني قدَّمتُ القولَ في أن مَن أدركتُه من أهل العلم بالشعر لم يكونوا يرَون سرقاتِ المعاني من كبيرِ مَساوئ الشعراء، وخاصةً المتأخرين؛ إذ كان هذا بابًا ما تعرَّى منه متقدمٌ ولا متأخِّر، ولكن أصحاب أبي تمام ادَّعَوا أنه أولُ سابق، وأنه أصلُ الابتداع والاختراع، فوجَب إخراجُ ما استعاره من معاني الناس، ووجَب من أجل ذلك إخراجُ ما أخذه البحتريُّ أيضًا من معاني الشعراء. ولم أستقصِ البحتريَّ ولا قصَدتُ الاهتمامَ إلى تتبُّعه؛ لأن أصحاب البحتري ما ادَّعَوا ما ادَّعاه أصحابُ أبي تمام، بل استقصيتُ ما أخذه من أبي تمام خاصة؛ إذ كان من أقبح المساوئ أن يتَعمَّد الشاعرُ ديوانَ رجلٍ واحد من الشعراء، فيأخذَ من معانيه ما أخذه البحتريُّ من أبي تمام، ولو كان عشَرةَ أبيات. فكيف والذي أخذه منه يَزيد على مائة بيت؟» وهنا ينمُّ كلام الآمدي عن منهجٍ صحيح، وروحٍ عادلة؛ فهو يُنزل السرقات منزلَها الحقيقي في النَّيل من الشاعر، وبخاصةٍ في عصرٍ متأخر من عصور الشعر العربي الذي غلَب عليه التقليد، وأخذ اللاحقُ عن السابق. وهو يُعلل اهتمامَ النقاد بهذه المسألة تعليلًا تاريخيًّا صحيحًا، ويرجعُه إلى تلك الخصومة التي دفعَت أنصارَ الحديث إلى التعصب لأبي تمام كرأسِ مذهبٍ جديد؛ ممَّا دفع أنصار الشعر التقليدي إلى البحث عن مصادر هذا المجدِّد، وإرجاعِ الكثير من مَعانيه وصُوَره واستعاراته ومُحسِّناته إلى القُدماء الذين درَسَهم وجمَع لهم مختارات. وكان هذا بدْءَ إسرافٍ في الاتهام بالسرقة، ومُحاولةِ إثباتها، واستقصاء أوجُهِها الصريحة والملتوية، كما سنرى.


وهو إذ درَس سرقاتِ أبي تمام لم يكن له بدٌّ من دراسةِ سَرِقات البُحتري، وإن لم يكن لهذه المسألة في صددِ البُحتريِّ ما لها من أهميةٍ في صددِ أبي تمام؛ لأن أصحاب البُحتري لم يدَّعوا أن شاعرَهم مبدعٌ ولا رأسُ مذهب. وهذا حقٌّ لا نستطيع إلا أن نُقِرَّ الآمديَّ عليه، وهو على عكس ذلك يُعلق أهميةً كبيرة على ما اتُّهِم به البحتري من سرقةِ معاني أبي تمام، وهو يقول على لسان أنصارِ البحتري في باب حُجج الفريقَين (ص٣٢): «وأما ادِّعاؤكم كثرةَ الأخذ منه فقد قُلنا: إنه غير مُنكَر أن يكون أخَذ منه كثرةَ ما كان يَرِد على سمعِ البحتري من شعر أبي تمام، فيَعْتلقُ معناه قاصدًا الأخذَ أو غيرَ قاصد، لكن ليس كما ادَّعيتم وادَّعاه أبو الضياءِ بِشرُ بن تميم في كتابه؛ لأنَّا وجَدْناه قد ذكَر ما يشترك الناسُ فيه، وتجري طبائعُ الشعراء عليه، فجعَله مسروقًا، وإنما السرق يكون في البديع الذي ليس للناس فيه اشتراك. فما كان من هذا الباب فهو الذي أخَذه البحتريُّ من أبي تمام، لا ما ذكَره أبو الضياء وحشَا به كتابَه.» ويضيف الآمديُّ: «وأنا أذكر هذين الشيئَين في موضعِهما من الكتاب، وأُبيِّن ما أخذه البحتريُّ من أبي تمامٍ على الصحة دون ما اشترَكا فيه؛ إذ كان غيرَ مُنكَرٍ لشاعرَين متناسبَين من أهل بلدَين متقاربين أن يتَّفقا في كثيرٍ من المعاني؛ لا سيما ما تقدم الناسُ فيه وتردَّد في الأشعار ذِكرُه، وجرى في الطِّباع والاعتياد من الشاعر وغير الشاعر استعمالُه.» وهذا ما فعَله الآمديُّ في باب سرقات البحتري؛ فقد أورَد في عدة صفحات (ص١٢٠–١٣٩) ما رآه مسروقًا من الشعراء السابقين، ثم أفرَد لسرقاتِه من أبي تمام حديثًا خاصًّا ابتدَأه بقولِه (ص١٣٩): «ولعل قائلًا يقول: قد تجاوزتَ في هذا الباب وقصَّرْت، ولم تستقصِ جميعَ ما خرَّجه أبو الضياء بشرُ بن تميم من المسروقات. وليس الأمرُ كذلك، بل قد استوفيتُ جميعَه، فأوضحتُ، وسامحتُ بأن ذكَرت ما لعلَّه لا يكون مسروقًا، وإن اتفق المعنَيان أو تَقاربا، غيرَ أني اطَّرحتُ سائرَ ما ذكَره أبو الضياء بعد ذلك؛ لأنه لم يَقْنع بالمسروق الذي يَشهد التأمُّلُ الصحيح بصحتِه، حتى تعدَّى ذلك إلى الكثير، وإلى أن أدخَل في الباب ما ليس منه، بعد أن قدَّم مقدمةً افتتح بها كلامَه، وقال: ينبغي لمن نظَر في هذا الكتاب ألا يَعْجل بأن يقول: ما هذا مأخوذٌ من هذا، حتى يتأمَّل المعنى دون اللفظ، ويُعمِل الفِكر فيما خفي. وإنما السرقُ في الشعر ما نُقِل معناه دون لفظه وأُبعِد آخِذُه. قال: ومن الناس مَن بَعُد ذهنُه إلا عن مِثل بيتِ امرئ القيس وطَرْفة حين لم يختلفا إلا في القافية، فقال أحدُهما: «وتجمَّل»، وقال الآخَر: «وتجلَّد». قال: وفي الناس طبقةٌ أخرى يحتاجون إلى دليلٍ في اللفظ مع المعنى، وطبقةٌ يكون الغامضُ عندهم بمنزلة الظاهر، وهم قليل. فجعَل هذه المقدمةَ توطئةً لما اعتمده من الإطالة والحشد، وأن يقبل منه كل ما يُورده، ولم يستعمل مما وصَّى به من التأمل وإعمال الفكر شيئًا. ولو فعَل لرَجَوتُ أن يُوفَّق لطريق الصواب، فيعلم أن السرق إنما هو في البديع المخترَع الذي يختصُّ به الشاعر، لا في المعاني المشترَكة بين الناس التي هي جاريةٌ في عاداتهم، ومستعمَلةٌ في أمثالهم ومُحاوَراتهم؛ مما ترتفع الظِّنَّة فيه عن الذي يورده أن يُقال أخَذه من غيره، غير أن أبا الضياء استكثر في هذا الباب، وخلَط به ما ليس من السرق في شيء، ولا بين المعنيَين تناسُب ولا تقارُب، وأتى بضربٍ آخَر ادَّعى فيه أيضًا السرقَ والمعاني مختلفةٌ، وليس فيه إلا اتفاقُ ألفاظٍ ليس مِثلُها ما يحتاج واحدٌ أن يأخذه من آخر؛ إذ كانت الألفاظ مباحةً غيرَ محظورة، فبلغ غرَضَه في توفير الورق، وتعظيمِ حجم الكتاب. وأنا أذكر في هذه الأبواب أمثلةً تدلُّ على صحةِ ما ذكرناه، وتجعلها قياسًا على ما لم نذكره، فإن في البعض غِنًى عن الإطالة بذِكر الكل.» وهنا يورد الآمديُّ الأمثلةَ ويناقشها ويُحللها، كما فعَل في مناقشته لأحمدَ بنِ أبي طاهرٍ طيفور، الذي أسرف فرأى عند أبي تمام سرقاتٍ يمكن أن تكون مجردَ توارُدِ أفكار، أو اشتراكًا في المعاني الشائعة … إلخ.


وهكذا تتَّضح لنا روحُ الآمديِّ العلميةُ الدقيقة العادلة في دراسة هذَين الشاعرَين.


فهو يرجع إلى النسخ، كما يملك ملَكةً ناقدة لا تقبل الشعرَ إلا عن نظر، فما لاح له حضَريًّا يرفض نسبته إلى البدو. وهو قبل أن يدرس مسألةً يجمع المؤلفاتِ التي كُتبَت قبله في الموضوع ويدرسها ويناقشها. والنظرُ المنصِف لا يستطيع إلا أن يشهَد له بالاعتدال والدقَّة واستقامةِ الرأي؛ فهو لا يتعصب لأحدٍ ضد أحد، وإنما يتأمَّل ويدرس ويُناقش، وإذا كان هناك مَن تعصب فهم في الحقيقة سابِقوه الذين يُناقش آراءهم؛ كالصولي والسِّجِستاني وابن تميم وابن أبي طاهر ودِعْبل الخزاعيِّ وغيرِهم، ممن كانوا لا يزالون قَريبي عهدٍ بتلك الخصومة متأثِّرين بحرارتها.


(٦) دراسات النقد الموضعي

بعد أن فرَغ الآمديُّ من عرض الحُجج التي كان يحتجُّ بها أنصارُ الشاعرَين، ومن السرقاتِ التي نُسِبَت إلى كلٍّ منهما؛ أخذ في دراسات النقد الموضعي، فتحدَّث عن:

(١)أخطاء أبي تمامٍ وعيوبه، وأخطاءِ البحتريِّ وعيوبه.

(٢)مَحاسن أبي تمام ومَحاسن البحتري.

(٣)الموازَنة التفصيلية بين الشاعرَين بتتبُّع مَعانيهما معنًى معنًى.

وهذه الأبواب ليست متساويةً في القيمة ولا في الكمية؛ فباب الأخطاء والعيوب يَشغَل جانبًا كبيرًا من الكتاب (أخطاء أبي تمام وعيوبه من ص٥٤ إلى ١٢٤، وأخطاء البحتريِّ وعيوبه من ص١٥٠ إلى ١٦٦)، وأما باب مَحاسنهما فلا يَعْدو عدةَ صفحات (من ص١٦٥ إلى ١٧٤). وعلى العكس من ذلك باب الموازَنة التفصيلية واستقصاء المعاني؛ فهذا هو الجزء الأساسيُّ من الكتاب، ولقد نُشِر منه بعضه (من ص١٧٤ إلى ١٩٧ من الكتاب المطبوع)، وأما الباقي فلا يزال مخطوطًا. وقد استخدَمْنا صورةً فوتوغرافية لهذا الجزءِ موجودةً بدار الكتب المصرية ضِمن صورةٍ كاملة للكتاب من أربعةِ مجلدات: المجدان الأوَّلان يشتملان على الجزء المنشور من ص١ إلى ١٧٤، والمجلدان الأخيران يبدآن من ص١٧٤ من الجزء المنشور ثم يستمرَّان إلى أن ينتهيا عند باب المديح.


ومن الواضح أن الكتاب رغم هذا الجزءِ المخطوط ناقص؛ إذ إننا لا نجد فيه غيرَ الابتداءات والمعاني المختلفة التي تطرقها، ثم بابُ المديح، وحتى هذا البابُ الأخير ناقص؛ إذ يقف عند مدح الخلفاء، الذي أراد المؤلفُ فيما يقول أن يبتدئَ به ليَمُرَّ إلى غيره، فيقول في اللوحة ٢٠٢: «أول ما أبدأ به من مدائحِهما ذكرُ السُّؤْدد والمجد وعلُو القدر، ثم ما يخصُّ الخلفاءَ من ذلك دون غيرِهم. منه ذِكْر الخلافة وما يتصرَّف عليه القولُ من مَعانيها، ذكر الملك والدولة، ذكر ما يختصُّ أهلُ بيت النبوَّة من المدح دون سِواهم. من ذلك ذِكر طاعتهم، والمحبَّةِ لهم، والمعرفة لحقِّهم، ذكر الآلة التي كانت للنبيِّ عليه السلام فصارت إليهم، ذكر الآثار بالحرم، ذكر علوِّ القدر وعِظَم الفضل، ذكر تأييد الدين وتقوية أمرِه، ذكر الرأفة والرحمة، ذكر إضافة العدل وإقامة الحق، ذكر سَداد الرأي وحُسن السياسة والتدبير والهِبَة، ذكر كرم الأخلاق ولينها، ذكر ما ينبغي أن يُمدَح به الخلفاءُ من الجود والاضطلاع بالأمور والحِلم والعقل، ذِكر الجلال والجمال وما إليها، والجهارة والكرم، ذِكر ما ينبغي أن يُمدَح به من الشجاعة والبأس.»


وبالفعل يستعرض الآمديُّ كلَّ هذه المعاني بشأن الخلفاء إلى أن ينتهيَ المخطوطُ عند «الجلال والجمال وما إليها، والجهارة والهيبة. ذكر كرَم الأخلاق ولينها، وذكر ما ينبغي أن يُمدَح به الخلفاء من الجود والكرم، وذكر ما ينبغي أن يُمدح به من الشجاعة والبأس.» وهذه هي المعاني التي أكثَر فيها الشاعران، بل كلُّ شعراء العرب، كما لا نجد مدْحَ مَن هم دون الخلفاءِ من وُلاةٍ وأمراء ووزراء وغيرِهم ممَّن مدَح الشاعران، كما نرى في ديوانَيهما.


وإنها حقًّا لَخسارة كبيرة ألَّا نستطيع أن نعثرَ على بقية الكتاب، خصوصًا وأن الباقيَ منه يلوح جزءًا كبيرًا جدًّا. وفي الجزء الذي لدينا أدلةٌ وإشارةٌ واضحة للجزء المفقود؛ منها قولُ المؤلف في اللوحة ٢٤: وقال أبو تمامٍ في خالدِ بن يزيدَ بن مَزْيد (الشَّيباني):


وقد كان ممَّا يُضيء السريـ ـرَ والبَهْو يملؤُه بالبهاءِ

مضى خالدُ بنُ يزيدَ بنِ مَزْ يدٍ قمَرُ الليلِ شمسُ الضَّحاءِ

ويُضيف: «وهذا يمرُّ في المراثي.» وإذن فهناك بابٌ في المراثي التي قالاها والموازنةِ بينها لم يَصِلنا. وهنا ما هو أكثرُ من ذلك؛ فالمؤلف يقول (ص٢٣): «وأُفرِدُ بابًا لِما وقَع في شِعرَيهما من التشبيه وبابًا للأمثال أختم بهما الرسالة، وأضع ذلك بالاختيار المجرَّد من شِعرَيهما، وأجعله مؤلفًا على حروف المعجم؛ ليقربَ مُتناوَلُه، ويسهل حفظه، وتقعَ الإحاطةُ به إن شاء الله …» وليس لدينا لا في الجزء المنشور ولا في المخطوط هذان البابان عن التشبيهِ والأمثال؛ فهما لا ريبَ ضمن الجزءِ المفقود. وهذه كلُّها مسائلُ شائكةٌ نُرجئها إلى الحديث عن تأليف الكتاب وأجزائه التي قال عنها ياقوت الحموي: إنها عشَرة. وإنما أشَرنا إليها هنا لتدلَّ على أن الكتاب — مطبوعَه ومخطوطه — ناقص، وذلك إذا كانت هذه الحقيقةُ، التي يؤسَفُ لها، تحتاج إلى أدلةٍ من النصوص الموجودة.


(٧) دراسة الأخطاء

والناظر في دراسته للأخطاء والعيوب، وبخاصةٍ عند أبي تمَّام، يجد أن منهج الناقد هو رغبةٌ في الإنصاف، وحرصٌ على التحقيق، وإحاطةٌ بما كتب في الموضوع، ومناقشةٌ لآراء السابقين؛ فهو يقول (ص٥٥): «الذي وجَدتُهم ينعَوْنه عليه هو كثرة غلَطِه وإحالته وأغاليطه في المعاني والألفاظ. وتأمَّلتُ الأسبابَ التي أدَّته إلى ذلك، فإذا هي ما رواه أبو عُبيد الله بنُ داود بن الجرَّاح في كتابه «الورقة» عن محمد بن القاسم بن مهْرَوَيه عن حُذيفةَ بنِ أحمد: «إن أبا تمَّام يريد البديعَ فيخرج إلى المحال.» وهذا نحوُ ما قاله أبو العباس عبدُ الله بن المعتزِّ بالله في كتابه الذي ذكَر فيه البديع، وكذلك ما رواه محمدُ بن القاسم بن مهرويه عن أبيه: «إن أول مَن أفسَد الشعر مسلمُ بن الوليد، وإن أبا تمام تبعه فسَلَك في البديع مذهبَه فتحيَّر فيه.» كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطِّباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافَه في التماسِ هذه الأبواب وتوشيحِ شعره بها، حتى صار كثيرٌ ممَّا أتى من المعاني لا يُعرف ولا يُعلم غرَضُه فيها إلا مع الكدِّ والفكر وطول التأمُّل، ومنه ما لا يُعرَف معناه إلا بالظنِّ والحَدْس. ولو كان أخَذَ عفْوَ هذه الأشياء ولم يتوغَّل فيها، ولم يُجاذب الألفاظَ والمعانيَ مجاذَبةً، ويَقسُرْها مُكارهة، وتناولَ ما يسمح به خاطره وهو بِجَهامِه غيرَ متعصبٍ ولا مكدود، وأورَد من الاستعارات ما قَرُب في حُسن ولم يفحش، واقتصَر من القول على ما كان مَحذوًّا حذْوَ الشعراء المحسِنين؛ لِيَسلَم من هذه الأشياء التي تهجن الشعر وتُذهب ماءه ورونقَه — ولعل ذلك أن يكون ثُلثَ شعرِه أو أكبرَ منه — لَظننتُه كان يتقدَّم عند أهل العلم بالشعر أكثرَ الشعراءِ المتأخرين، وكان قليلُه حينئذٍ يقوم مقام كثيرِ غيرِه؛ لما فيه من لطيفِ المعاني ومستغرَبِ الألفاظ، لكنْ شَرِهَ إلى إيراد كلِّ ما جاش به خاطرُه، ولجلَجَه فِكرُه، فخلَط الجيدَ بالرديء، والعيِّنَ النادرَ بالرَّذْل الساقط، والصوابَ بالخطأ، وأفرط المتعصبون في تفضيله، وقدَّموه على مَن هو فوقه من أجلِ جيِّده، وسامَحوه في رديئه، وتجاوَزوا له عن خطئه، وتأوَّلوا له التأويلَ البعيد فيه، وقابَل المنحرفون عنه إفراطًا بإفراط، فبخَسوه حقَّه، واطَّرَحوا إحسانه، ونفَوْا سيئاته، وقدَّموا عليه مَن هو دونه.


وتجاوَز ذلك بعضُهم إلى القدح في الجيدِ من شعره، وطعن فيما لا يُطعَن عليه، واحتجَّ بما لا تقوم الحُجة به، ولم يَقنع بذلك مُذاكرةً ولا قولًا، حتى ألَّف في ذلك كتابًا، وهو أبو العباسِ أحمدُ بن عُبيد الله بنِ محمد بن عمارٍ القُطْربُّلي المعروفُ بالفريد. ثم ما علمتُه وضَعَ يدَه من غلطه وخطئه إلا على أبياتٍ يسيرة، ولم يُقِم على ذلك الحُجةَ، ولم يَهتدِ لشرحِ العلة، ولم يتجاوز فيما نعاه بعدها عليه الأبياتَ التي تتضمَّن بعضَ الاستعارة وهجين اللفظ. وقد بيَّنتُ خطأه فيما أنكَر من الصواب في جزءٍ مفرد — إن أحبَّ القارئ أن يجعله في جملةِ هذا الكتاب ويَصِله بأجزائه فعَل ذلك، إن شاء الله تعالى — فالذي تضمَّن يدخل محاسنَ أبي تمام التي ذكرتُ أني أختم كتابي هذا بها وبمحاسنِ البحتري.


وأنا الآن أذكر ما غلط فيه أبو تمام من المعاني والألفاظ ممَّا أخذتُه من أفواه الرجال وأهلِ العلم بالشعر عند المفاوَضة والمذاكَرة، وما استخرجتُه أنا من ذلك واستنبطتُه بعد أن أسقطتُ منه كلَّ ما احتمَل التأويل، ودخَل تحت المجاز، ولاحت له أدنى علَّة. وأنا أبتدئُ بالأبيات التي ذكرتُ أن أبا العباس أنكرَها ولم يُقِم الحُجة على تبيين عيبِها وإظهار الخطأ فيها، ثم أستقصي الاحتجاجَ في جميعِ ذلك؛ لعِلمي بكثرةِ مَن لا يُجوِّزه على الشاعر، ويوقع له التأويل، ويُورِد الشُّبَه والتمويه.»


وهذه أقوالٌ تُؤيد ما قرَّرناه — فيما سبَق — من أنه ناقدٌ نزيه، يتناول دراسةَ الشاعر ونقْدَ شعرِه بروحٍ عِلمية صادقة؛ فهو يُحدثنا عن كتاب محمد بن عمار القُطربُّلي، ويرى أن هذا المؤلفَ قد تجاوز إلى القدحِ في الجيِّد من شِعر أبي تمام، وطعَن فيما لا يُطعَن عليه، واحتجَّ بما لا تقوم الحُجة به. وهو في نظر الآمديِّ لم يضَع يده من غلطه وخطئه إلا على أبياتٍ يسيرة، ولم يُقم على ذلك الحُجة، ولم يهتدِ إلى شرح العلة. وقد بيَّن الآمديُّ نفسُه خطأه فيما أنكَر من الصواب في جزءٍ مفرَد، يدعونا إلى أن نعتبره في جُملة كتاب الموازنة، وأن نصِلَه بأجزائه؛ لأن الذي تضمَّنه يدخل في محاسن أبي تمام.


وكلُّ هذا لا يمنع الناقدَ من أن يذكر في الموازنة ما غلط فيه أبو تمَّام من المعاني والألفاظ، سواءٌ في ذلك ما استخرَجه غيرُه من العلماء أو ما استخرجه هو. وهو يفعل ذلك بروحٍ منصِفة؛ إذ يُخبرنا أنه قد أسقط ممَّا عِيبَ على الشاعر كلَّ ما احتمَل التأويلَ، ودخل تحت المجاز، ولاحت له أدنى علَّة، وهو يستقصي الاحتجاجَ؛ لعِلمه بكثرةِ مَن لا يُجوِّز الخطأَ أو العيبَ على الشاعر، ويوقِعُ له التأويلَ البعيد، ويورِدُ الشُّبَهَ والتمويه. فهو إذن لا يريد أن يترك لأحدٍ سبيلًا إلى اتهامه بأنه يعيبُ بغير دليل، ويحرص على أن يقطع على المتعصِّبين لأبي تمام سبيلَ التأويل البعيدِ والتمويه، والتماسِ الأشباه الباطلة. وهو في ذلك مُحِق؛ فما يجوز أن يدفعنا التعصبُ إلى تبرير المعيب، وتَمحُّل الأوجُه للقبيح، وإلا فسَدَ النقد.


وهكذا يتَّضح لنا هنا أيضًا نفسُ المنهج؛ فهو يردُّ ما أملاه التعصُّب، ولا يقبل من ابن عمار إلا ما يراه مُصيبًا فيه غيرَ مُكتفٍ بقَبوله، بل يورد الحُجج، ويُمعِن النظر، ويستقصي المناقشة، ولكنه في مناقشاته قد صدَر طبعًا عن مبادئَ وآراء. وهنا يقع الخلافُ بينه وبين النقَّاد الآخَرين الذين اتهَموه بالتعصُّب للبُحتري على أبي تمام.


ولكي نجْلُوَ تلك التهمة، لا بدَّ من أن ننظر في ثقافة الآمدي، وفي ذَوقه الأدبي؛ فهُما مصدرُ أحكامه؛ وذلك لما هو واضحٌ من أن كل نقدٍ يقوم على أمرَين:

(١)معلومات.

(٢)ذَوق أدبي.

فأما المعلومات فنستطيع أن نعرف نوعَها، وأما الذَّوق فهذه مسألةٌ شاقَّة، وما دام الناقد يُحاول أن يعلِّل ذوقَه، ويُمكِّن الغير من مراجعته؛ فقد أدَّى واجبَه. وهذا ما فعله الآمديُّ على نحوٍ يستحقُّ كلَّ إعجاب.


ولمعرفة ثقافة الآمدي، نستطيع أن نرجع إلى كتب التَّراجم، فنرى ياقوت يُحدثنا عنه فيقول: «أبو القاسم صاحبُ كتاب الموازنة بين الطائيَّينِ كان حسَنَ الفَهم، جيِّدَ الدراية والرواية، سريعَ الإدراك … وله شِعرٌ حسَن، واتساعٌ تام في الأدب، ودرايةٌ وحفظ وكتب مصنَّفة .. منها كتابُ «المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء»، كتاب «نَثْر المنظوم»، كتاب «الموازَنة بين أبي تمَّام والبحتري»، كتاب «في أن الشاعرَين لا تتفق خواطرهما»، كتاب «ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطأ»، كتاب «تفضيل امرِئ القيس على الجاهليِّين»، كتاب «في شدة حاجةِ الإنسان إلى أن يعرف نفسَه»، كتاب «تبيين غلَط قدامةَ بنِ جعفرٍ في كتاب نقد الشعر»، كتاب «معاني شِعر البُحتري»، كتاب «الرد على ابن عمَّار فيما خطَّأ فيه أبا تمَّام»، كتاب «فعلت وأفعلت»، وهو غايةٌ لم يُصنَّف مثلُه، كتاب «الحروف من الأصول في الأضداد»، وقد رأيتُه بخطِّه في نحوِ مائة ورقة، كتاب ديوان شعره في نحوِ مائة ورقة …


وكان مولدُه بالبصرة، ولكنه قَدِم على بغداد يَحملُ عن الأخفش والحامض والزجَّاج وابن دُرَيد وابن سرَّاج وغيرِهم؛ اللغةَ والنحو، وروى الأخبارَ في آخِر عمره … وكان يكتب بمدينة السلام لأبي جعفرٍ هارونَ بن محمد الضبِّي؛ خليفةِ أحمد بنِ هلالٍ صاحب عمَّان، بحضرة المقتدِر بالله ووزارته، ولغيره مِن بعده، وكتَب بالبصرة لأبي الحسن أحمد وأبي أحمد طلحةَ بنِ الحسن بن المثنَّى، وبعدهما لقاضي البلد أبي جعفرِ بن عبد الواحد الهاشمي على الوقوفِ التي تليها القُضاة، ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد لما وَلِي قضاءَ البصرة، ثم لزم بيتَه إلى أن مات. وكان كثيرَ الشعر، حسَنَ الطبع، جيِّد الصَّنعة … وكان عالمًا فاضلًا، ولكنه كان تمتامًا … مات ٣٧١ﻫ» (ج٣، ص٥٤ إلى ٦١).


ومن هذه المعلومات القليلة، نستطيع أن نستخلصَ أن الآمديَّ كان شاعرًا، وإن تكن الأمثلةُ التي أوردَها ياقوت من شِعره لا جودةَ فيها غيرَ اليسير، وهي بالنثر أشبَهُ، وكان كاتبًا من كُتاب الدواوين وكُتاب القُضاة — وهو في الحق ناثرٌ دقيق، قويُّ العبارة، متينُ الأسلوب، ناثرٌ من كِبار الكتَّاب الذين عرَفَهم العربُ — ثم عالمًا ناقدًا. وهذا ما يجبُ أن ننظرَ فيه عن قُرب.


وعِلْم الآمديِّ أوسعُ مما تنطق به أقوالُ ياقوت أو مَن تلاه من أصحاب الطبقات؛ كالسيوطي في «البُغية»، فهو لم يكن نَحْويًّا لُغويًّا حمَل على الأخفش والحامض والزجَّاج ومَن إليهم فحسب، بل كان أديبًا يُحيط بالأدب العربيِّ إحاطةً تكاد تكون تامة. والذي لم يزل فيه أنه قد أطال النظر في شعر الشعراء حتى تَكوَّن ذوقُه، وصَقَل طبعَه السليم. وفي قائمةِ كتبه التي فُقد معظمُها، والتي لا نملك منها اليوم غيرَ جزء من «الموازنة»، ثم «المؤتلف والمختلف»، ما يدلُّ على أنه شغَل نفسه بالنقد حتى لَكأنه تخصَّص فيه.


ولو أننا دقَّقنا في كتاب الموازنة لاستطعنا أن نستخلصَ — على نحوٍ دقيق — آراءه في الشعر ومقاييسه. ونحن وإن كنا سنعود بالتفصيل، في الجزء الثاني من هذا البحث، إلى مبادئ النقدِ عنده، إلا أننا نحرص في هذا الفصل على أن ندلَّ على منهجِه العام.


(٨) وسائل نقده

كلُّ منهجٍ روحٌ ووسائل، وروح الآمديِّ أظنُّها قد اتضحَت لنا ممَّا سبق؛ فهو رجلٌ منصف دارسٌ محقِّق لا يقبل شيئًا بغير بيِّنة، ولا يُقدم حكمًا بغير دليل. وأما وسائله فهي المعرفة ثم الذَّوق.


وهو فيما يبدو لم يكن يجهل شيئًا لا من علوم اللغة العربية وآدابِها التقليدية فحَسْب، بل ولا من العلوم الفلسفية المستحدَثة، وإن تكن العلومُ لم تُبهره ولا ضلَّلَت أحكامَه عن الأدب والشعر. وعنده — كما رأينا — أن أساس كلِّ نقدٍ صحيح هو الذوق، فمن حُرِمَه لا يمكن أن يَستعيض عنه بأيِّ شيء آخر: «لعلك — أكرمك الله — اغتررتَ بأنْ شارفتَ شيئًا من تقسيمات المنطق من الكلام والجدال، أو علمتَ أبوابًا من الحلال، أو حفظتَ صورًا من اللغة، أو اطلعتَ على بعض مقاييس العربية، وأنك لما أخذت بطرَفِ نوعٍ من هذه الأنواع بمعاناةٍ ومزاولة، ومتصلِ عنايةٍ فتوحَّدتَ فيه وميَّزت؛ ظننت أن كل ما لم تُلابسه من العلوم ولم تُزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرَّضتَ له وأمررتَ قَريحتَك عليه نفذتَ فيه وكشفتَ عن معانيه.


هيهات! لقد ظننتَ باطلًا ورُمتَ عسيرًا؛ لأن العلم — أيَّ نوع كان — لا يُدركه طالبُه إلا بالانقطاع إليه، والإكباب عليه، والجِدِّ فيه، والحرص على معرفة أسراره وغوامضه، ثم قد يتأتَّى جنسٌ من العلوم لطالبه ويسهل، ويمتنع عليه جنسٌ آخَرُ ويتعذَّر؛ لأن كل امرِئ إنما يتيسَّر له ما في طبعه قَبوله، وما في طاقته تعلُّمه؛ فينبغي — أصلحك الله — أن تقف حيث وُقِف بك، وتَقْنع بما قُسم لك، ولا تتعدَّى إلى ما ليس من شأنك ولا من صِناعتك» (ص١٧٠). ومن الواضح أنه في هذه الفقرة يريد أن يُقرر الحقيقةَ الثابتة من أن النقد ملَكةٌ مستقلَّة لا بدَّ من أن تُدرَّبَ على تلك الصناعة، وأنه لا يكفي أن يحفَظ المرءُ القصائد أو يعي أصول اللغة ليكونَ ناقدًا، كما وَهِم الصُّولي، أو أن يُردِّد أقوالَ أرسطو ليكتب كتابًا في «نقد الشعر»، كما فعَل قدامة. النقد ملَكةٌ تُدرَّب، بل هو أشقُّ من ذلك؛ لأن في الأدب أشياءَ «لا تَحْويها الصفةُ وإن أحاطت بها المعرفة»، أو على الأوضح وإن نفَذَ إليها الإحساس.


والشعر عند الآمديِّ غيرُ العلم، وقد ورَدَت في محاجَّة أنصارِ أبي تمام وأنصار البُحتري فقرةٌ توضح ذلك نورِدُها فيما يلي: «قال صاحبُ أبي تمام: فقد أقرَرتم لأبي تمام بالعلم والشعر والرواية، ولا مَحالة أن العلم في شِعره أظهرُ منه في شعر البحتري، والشاعر العالم أفضلُ من الشاعر غيرِ العالم، قال صاحبُ البحتري: فقد كان الخليلُ بن أحمد عالمًا شاعرًا، وكان الأصمعيُّ شاعرًا عالمًا، وكان الكسائيُّ كذلك، وكان خلَفُ بن حيان الأحمرُ أشعرَ العلماء، وما بلغ بهم العلمُ طبقةَ مَن كان في زمانهم من الشعراء غيرِ العلماء؛ فقد كان التجويدُ في الشعر ليست عِلَّتُه العلم. ولو كانت علتُه العلمَ لكان مَن يتعاطاه من العلماء أشعرَ ممَّن ليس بعالم؛ فقد سقَط فضلُ أبي تمام في هذا الوجه على البحتري، وصار أفضلَ وأولى بالسبق؛ إذ كان معلومًا شائعًا أن شعر العلماء دون شعر الشعراء، ومع ذلك فإن أبا تمام يعمل أن يدلَّ في شعره على علمه باللغة وكلامِ العرب، فيعمد لإدخال ألفاظٍ غريبة في مواضعَ كثيرةٍ من شعره، وذلك نحوُ قوله: «هنَّ البجاريُّ يا بُجَير» و«أهدى لها الأبْؤُس الغُوَير»، وقوله: «قدْكَ اتَّئِدْ أرْبَيتَ في الغُلَواء» وقوله: «أقدر بدر تُباري أيها الخَفَض» وهذا في شعره كثيرٌ موجود.


والبحتري لم يقصد هذا ولا اعتمَده، ولا كان له عنده فضيلة، ولا رأى أنه علم؛ لأنه نشأ بباديةِ مَنْبِج، وكان يتعمَّد حذف الغريب والحوشيِّ من شعره؛ ليُقربه من فَهم مَن يمتدحه، إلا أن يأتيَه طبعُه باللفظة بعد اللفظة في موضعِها من غير طلبٍ لها، ويرى أن ذلك أنفَقُ له، فنفقَ وبلغ المرادَ والغرَض، ويدلُّك على ذلك أنه كان يُكْنى «أبا عُبَادة». ولما دخَل العراق تَكنَّى «أبا الحسَن»؛ ليُزيل العُنْجهيَّة والأعرابية، ويساويَ في مذاهبه أهلَ الحاضرة، ويُقرِّب الكنيةَ إلى أهل النَّباهة والكتَّاب من الشيعة. وقد ذكر بعضُهم أنه كان يُكْنى «أبا الحسن»، وأنه لما اتصل بالمتوكِّل وعرَف مذاهبه عدَل إلى «أبي عُبادة»، والأولُ أثبت. وقد حكى أبو عبد الله بن داود بن الجرَّاح أن «أبا عُبادة» كُنية البحتريِّ القديمة، فشتَّان ما بينهما من حضريٍّ تَشبَّه بأهل البدو، فلم يَنْفَق بالبادية ولا عند أكثرِ الحاضرة، وبدويٍّ تحضَّر فنفق في البدوِ والحضَر» (ص١١ و١٢).


هذا عن العلم باللغة، وهو بَعدُ أمرٌ يقبل المناقشة، فإنه وإن يَكُن التكلفُ بغيضًا إلى النفس، إلا أن المقياس لا يصحُّ أن يكون بدويةَ الأسلوب أو حضَريته، وإنما دقَّته. وإذا لم يكن بُدٌّ من استعمال الألفاظ البدوية، فمن الواجب استعمالُها، وإن قَبُحَت أمثال تلك الألفاظ عندما يعدل إليها قصدًا ورغبة في الإغراب، كما كان يفعل أبو تمام أحيانًا؛ فالمعرفة باللغة — أكبر معرفة — مصدرُ يسرٍ وقوةٍ للشاعر، وإن كان من الصحيح أيضًا أن تلك المعرفة لا تجعل من غيرِ الشاعر شاعرًا، وأن العبرة في أغلبِ الأحيان ليست بكَثرة المفرَدات، بل بحُسن التصرُّف فيها، والقدرةِ على إدخالها في يسرٍ في الجمل، وإخضاعها للعبارة التامة الدقيقة عمَّا نُحِس به أو نُفكر فيه.


ونحن إذا كنا قد ناقَشْنا مبدأَ العلم باللُّغة، ولم نُوافق الآمديَّ على حذف الغريب لأنه غريب — وبخاصةٍ إذا كان أدلَّ من المألوف — إلا أننا لا نستطيع إلا أن نُوافقه معجَبين بما قاله عن علاقة الشعر بالفلسفة (ص١٧٣): «ووجدتُ أكثرَ أصحاب أبي تمام لا يدفعون البحتريَّ عن حُلو اللفظ، وجودةِ الوصف، وحُسن الدِّيباجة، وكثرة الماء؛ فإنه أقربُ مأخذًا وأسلمُ طريقةً من أبي تمام، ويحكمون — مع هذا — بأن أبا تمام أشعرُ منه. وقد شاهدتُ وخاطبتُ منهم على ذلك عددًا كثيرًا. وهذا مذهبُ جلِّ مَن يُراعي ممَّا يُراعيه من أمر الشعر دقيق المعاني، ودقيق المعاني موجودٌ في كلامه، وليس الشعرُ عند أهل العلم به إلا حُسنَ التأتِّي، وقُربَ المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورِدَ المعنى باللفظ المعتادِ فيه، المستعمَل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقةً بما استُعيرَت له، وغير منافرةٍ لمعناه؛ فإن الكلام لا يكتسي البهاءَ والرونَق إلا إذا كان بهذا الوصف. وتلك طريقةُ البحتري.


قالوا: وهذا أصلٌ يحتاج إليه الشاعرُ والخطيب صاحبُ النثر؛ لأن الشعر أجوَدُه أبلغُه. والبلاغة إنما هي إصابةُ المعنى، وإدراك الغرض بألفاظٍ سهلة عَذْبة مستعمَلة سليمةٍ من التكلُّف، لا تبلغ الهذر الزائدَ على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصًا يقفُ دون الغاية. وذلك كما قال البحتري:


والشعر لمحٌ تكفي إشارتُهُ وليس بالهَذْر طُوِّلَت خُطبُهْ

فإن اتفَق — مع هذا — معنًى لطيف، أو حكمةٍ غريبة، أو أدبٍ حسَن؛ فذلك زائدٌ في بهاء الكلام، وإن لم يتَّفق فقد قام الكلامُ بنفسه واستغنى عمَّا سواه. قالوا: وإذا كانت طريقةُ الشاعر غيرَ هذه الطريقة، وكانت عبارتُه مقصِّرةً عنها، ولسانُه غيرَ مدرِك لما يعتمد دقيقَ المعاني من فلسفةِ يونان، وحكمة الهند أو أدب الفُرس، ويكون أكثرُ ما يورده منها بألفاظ متعسَّفة ونسجٍ مضطرب، وإن اتفق في تضاعيفِ ذلك شيءٌ من صحيح الوصف وسليمه؛ قلنا له: قد جئتَ بحكمةٍ وفلسفة ومعانٍ لطيفة حسَنة، فإن شئتَ دعوناك حكيمًا، أو سمَّيناك فيلسوفًا، ولكن لا نُسميك شاعرًا، ولا ندعوك بليغًا؛ لأن طريقتك ليست على طريقة العرب ولا على مذاهبهم، فإن سمَّيناك بذلك لم نُلحِقْك بدرجةِ البُلَغاء، ولا المحسِنين الفصحاء، وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف ورديءَ اللفظ يَذهب بطَلاوة المعنى الدقيقِ ويُفسده ويُعميه، حتى يحتاجَ مستمِعُه إلى تأمُّل، وهذا مذهبُ أبي تمام في معظم شعره. وحُسن التأليف وبراعة اللفظ يَزيد المعنى المكشوفَ بهاءً وحُسنًا ورونقًا، حتى كأنه قد أحدَث فيه غرابةً لم تكن، وزيادةً لم تُعهَد. وذلك مذهبُ البحتري؛ ولذلك قال الناسُ لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك في شِعر أبي تمام. وإذا جاء لطيفَ المعاني في غير غرابة، ولا سَبْكٍ جيد، ولا لفظٍ حسَن، كان مِثلَ الطِّراز الجيِّد على الثوبِ الخَلَق، ونفثِ العَبير على خدِّ الجارية القبيحة.»


والناظر في هذه الصفحة يجدُ عدة حقائق بالغةِ الأهمية؛ فالآمديُّ قد فطن إلى أن الشِّعر غيرُ الفلسفة، وإنما يرفع الفلسفةَ إلى مستوى الشعر جمالُ الصياغة، وإلا فقائلها لا يعتبر شاعرًا، بل إن شئتَ حكيمًا أو فيلسوفًا، والمعنى اللطيف الذي لا تحسن صياغته يكون «مثل الطراز الجيد على الثوب الخلَق، أو نفثِ العبير على خدِّ الجارية القبيحة الوجه»، كما فَطِن إلى مبدأٍ آخَر في النقد الحديث؛ وذلك حيث قال: «إن حُسن التأليف وبراعةَ اللفظ يَزيد المعنى المكشوفَ بهاءً وحُسنًا ورونقًا، حتى كأنه قد أحدث فيه غرابةً لم تكن، وزيادةً لم تُعهَد»؛ فهذا هو رأيُ معظم نقاد أوروبا اليوم، الذين يرَون أن أمر المعاني في الشعر ثانويٌّ بالنسبة إلى الصياغة. ونستطيع أن نضربَ لذلك عدة أمثلةٍ لا من شعر البحتريِّ فحسب، بل من شعر أبي تمام نفسِه؛ فهو عندما يقول:


رعَتْه الفيافي بعدَما كان حقبةً رعاها وماءُ الرَّوض ينهلُّ ساكبُهْ

قد رفَع من هذا المعنى المكشوف القريب الدارج، وخلَق منه قيمةً فنية شِعرية جميلة باستعماله للفعل «رعَتْه» بمعنى حطَّمَت قُواه، بعد أن رعى كلَأَها، وماءُ الرَّوض ينهلُّ ساكبُه؛ أي: أيامَ الخِصْب.


ومرَدُّ كلِّ هذه الحقائق التي تجعل من الآمديِّ ناقدًا منقطعَ النظير بين العرب هو فِطنته إلى الأهمية الكبرى التي نُعلقها على الصياغة في الأدب.


فاللغة في الأدب ليست وسيلةً خادمة للفِكر والإحساس فحَسْب، بل هي إلى جانب هذه الوظيفة الأساسية غايةٌ في ذاتها، والكاتب أو الشاعر الماهر هو مَن فَطِن إلى هذه الحقيقة، ويكون من حُسن الذوق وسلامةِ الحس بحيث يُقيم النِّسَب الدقيقة بين اللغة كوسيلةٍ واللغة كغايةٍ في الأدب، فلا يُسرِف في اعتبارها وسيلة؛ لأنه يَحرم نفسَه من عناصرَ هامةٍ في التأثير؛ عناصر التصوير وعناصر الموسيقى، وكذلك يَحْذر من أن ينظر إليها كغاية؛ فيأتي أدبُه أو شعره وقد غلَبَت عليه اللفظية، وخلا من كلِّ مادة إنسانية فكرًا أو إحساسًا. والناقد لا يستطيع أن يدلَّ في مسألةٍ كهذه على حدود. وليس في قدرة أحدٍ أن يُعلِّم الآخرَ متى ينتهي عملُ الوسيلة في اللغة ومتى يبدأ عملُ الغاية. ومشكلةٌ كهذه لا يمكن أن تُحَلَّ نظريًّا، وإنما يكتسب الإنسانُ إحساسًا صادقًا بحدودها بكثرةِ المِران على النقد، والنظرِ في مؤلَّفات كِبار الكتَّاب والشعراء الذين نجَحوا في هذا السبيل. ولعل الدَّور الذي يلعبُه الذَّوق فيما «تُحيط به المعرفة ولا تؤدِّيه الصفة» أن يكون مستقرًّا في الإحساس بمسألةٍ فنيَّة كهذه. ولنضرب لذلك مثلًا بقول أبي تمام:


بيضاء تَسري في الظلام فيَكْتسي نورًا وتبدو في الضياءِ فيُظلِمُ

ملطومة بالورد أطلقَ طَرْفها في الخلق فَهْو مع المَنون مُحكَّمُ

فالآمديُّ يُعلق على البيت الأخير بقوله: «وقوله: ملطومة بالورد؛ يُريد حُمرة خدِّها، فلِمَ لَمْ يَقُل مصفوعة بالقار، يُريد سوادَ شعرها، ومخبوطة بالشحم، يريد امتلاءَ جِسمها، ومضروبة بالقُطن، يريد بياضَها؟! إن هذا لَأحمقُ ما يكون من اللفظ وأسخَفُه وأوسخه! وقد جاء مثلُ هذا في كلام العرب، ولكن على وجهٍ حسَن؛ قال النابغة: «مقذوفة بدخيس اللحم» يريد أنها قُذِفَت بالشحم؛ أي كأنه رُمِي على جسمها رميًا، وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أبي نُواس «وتلطم الورد بعُنَّاب»، وهذه كانت تلطم في الحقيقة في مأتمٍ على ميت بأناملَ مخضوبةِ الأطراف، فجعَلها عُنابًا تلطم به وردًا، فأتى بالظُّرف كلِّه، والحُسن أجمَعِه، والتشبيهُ على حقيقته، وجاء أبو تمام بالجهل على وجهِه، والحُمق بأسره، والخطأ بعينِه» (المخطوط، اللوحة ٧٤). وهنا يَظهر الذَّوق في استعمال اللغة وصياغةِ ما نريد العبارةَ عنه من معنًى، وهذا شيءٌ لا يمكن أن يُعلَّل، وإنما نستطيع أن نُحِسَّ به؛ فقول أبي تمام «ملطومة بالورد»، أي حمراء الخد، قولٌ يَمجُّه كلُّ ذوقٍ سليم.


وإذن فالآمديُّ قد فطن إلى مُعظم الحقائق الهامَّة عن الشعر، فقرَّر أنه غيرُ العلم، وأنه غيرُ الفلسفة، كما حدَّد العلاقة بين كلٍّ منهما، ولكن هل معنى هذا أنه لم يكن يُقيم وزنًا لعُلوم اللغة أو حكمة اليونان وغيرهم، أو كان يجهلُها أو يرفض الاستعانةَ بها في نقده؟


الواقع أن الذي يُراجع كتابَه يجد أنه قد استخدم المعارفَ المختلِفة التي انتهى إليها عصرُه خيرَ استخدام؛ كل نوع منها في بابه. ولْنأخذ لذلك مثلًا دراستَه لأخطاءِ أبي تمام وعيوبه، فنرى أنه يقسمها إلى ثلاثة أقسام:

(١)أخطاؤه في الألفاظ والمعاني.

(٢)ما في بديعه من إسرافٍ وقُبح.

(٣)ما كثر في شعره من الزحاف واضطرابِ الوزن.

(٩) دراسة الأخطاء في الألفاظ والمعاني

(٩-١) الرِّواية

وهو في دراسته للأخطاء يعتمد على تقاليدِ اللغة والأدب، فما خرَج عنها يراه خطأً. ومِن الواضح أنَّ نقدًا كهذا يقوم على المعرفة والرواية، فيقول مثلًا: ومِن خطئه في وصف الرَّبْع وساكنِه قولُه:


قد كنت معهودًا بأحسنِ ساكنٍ ثاوٍ وأحسَنِ دِمْنةٍ ورُسومِ

ويشرح هذا الخطأَ فيقول: «والرَّبْع لا يكون رسمًا إلا إذا فارقَه ساكِنوه؛ لأن الرسم يكون دارسًا وغيرَ دارس» (ص٨٩). فهذا إذن خطأٌ في استعمال اللفظ.


يا مَغاني الأحبابِ صِرتَ رُسومَا وغدَا الدَّهرُ فيك عِندي مَلومَا

وقال امرُؤ القيس: «وهل عند رسمٍ دارس مِن مُعوَّلِ؟» فقال: «ذلك لأن الرسم يكون دارسًا وغيرَ دارس» (ص٨٩). فهذا إذن خطأٌ في استعمال اللفظ «رسم» يوضِّحُه الناقدُ ويستشهد بما يَرويه من أشعار السابقين.


(٩-٢) الفطنة النفسيَّة

ولقد يرى الناقدُ خطأَ الشاعر في المعاني، وهنا لا يعتمد على ما يرويه فحَسْب، بل يعود إلى نفسه يستجلي حقائقها، فيتَّخذها سبيلًا للحُكم على إصابة الشاعر أو عدمِ إصابته فيما يذكر من حقائقَ نفسية. وهنا يُظهر الآمديُّ فِطنةً صادقة، ومعرفةً بالنفوس تستحقُّ الإعجاب. خُذ لذلك مثلًا قولَه: «ومِن خطئه في باب الفراق:


دعا شوقُه يا ناصرَ الشوق دعوةً فلبَّاه طَلُّ الدمعِ يَجري ووابِلُهْ»

ويشرح الخطأَ فيقول: «أراد أن الشوق دَعا ناصرًا ينصرُه فلبَّاه الدمع؛ بمعنى أنه يُخفف لاعِجَ الشوق ويُطْفي حرارتَه. وهذا إنما هو نُصرة للمشتاق على الشوق، والدمع إنما هو حربٌ للشوق؛ لأنه يَثْلمه ويتخوَّنه ويكسر من حدِّه؛ كما قال البحتري:


وبكاءُ الدِّيار مما يردُّ الشـ ـوقَ ذِكرًا والحُبَّ نضْوًا ضئيلَا

قوله: «يردُّ الشوق ذكرًا»، أي يُخفِّفه ويَثلمه حتى يصيرَ ذكرًا لا يُقلق ولا يُزعج كإقلاق الشوق، وقوله: «والحب نضوًا»، أي يُصغِّره ويَمحَقُه؛ فلو كان الدمعُ ناصرًا للشوق لَكان يُقويه ويَزيد فيه. ألا ترى أنك تقول: قد ذبحَني الشوقُ إليك؟ فالشوق عدوُّ المشتاق وحربُه، والدمع سلمٌ لتخفيفه عنه، وهو حربٌ للشوق. وليس بهذا الخطأ خَفاء، وقد تَبِعه في هذا الخطأ البُحتريُّ، فقال يَنْعَى الديارَ التي وقف عليها:

نصَرتُ لها الشوقَ اللَّجوجَ بأدمُعٍ تَلاحَقْنَ في أعقابِ وصلٍ تَصرَّما»

(ص٩١)

وفي الحق، إن الكثير من نقد الآمديِّ يقوم على مَعانٍ إنسانية، وذوقٍ دقيق، وإدراكٍ لنزعات النفوس، وهذه هي التي تقودُه أولَ الأمر إلى النقد، ثم تأتي الشواهدُ التي يرويها فتُعزز إحساسه. انظر مثلًا إلى نقده لقولِ أبي تمام:


لمَّا استَحرَّ الوداعُ المَحضُ وانصرمَت أواخِر السَّير إلا كاظمًا وَجِمَا

رأيت أحسنَ مرئيٍّ وأقبحَه مُستجمِعين لي التوديعَ والعنَمَا

إذ يقول: «كأنه استحسَن إصبَعَها واستقبَح إشارتها إليه بالوداع. وهذا خطأٌ في المعنى. أتُراه ما سمع قولَ جَرير:


أتنسى إذ تُودِّعنا سُلَيمى بفرعِ بشامةٍ سُقِيَ البشامُ؟

فدعا للبشام بالسُّقْيا؛ لأنها ودَّعَته به، فسُرَّ بتوديعها، وأبو تمام استحسَن إصبعَها واستقبَح إشارتَها. ولَعَمري، إن منظر الفراق منظرٌ قبيح (لو أنصَف الآمديُّ بدَوره لقال مُؤلم)، ولكن إشارة المحبوبة بالوداع لا يستقبحُها إلا أجهلُ الناس بالحب، وأقلُّهم معرفةً بالغزَل، وأغلظُهم طبعًا، وأبعدُهم فهمًا» (ص٩٤ و٩٥). وهذا نقدٌ إنساني سليم لا نرى فيه إلا الصدق. والآمدي رجلٌ يَعيب العيب حيث يجدُه. ولقد رأيناه ينتقدُ البحتريَّ أيضًا في المثَل السابق؛ إذ جارَى أبا تمامٍ في نظرته إلى الدمع كناصرٍ للشوق، وهو هنا ينتقد أبا تمام لِما في قوله من سخافةٍ وصَنعة كاذبة.


(٩-٣) الخبرة بالأشياء

وخبرة الآمديِّ لا تقف عند نفوس البشر، بل تعْدُوها إلى خصائص الحيوانات ذاتِها. وها هو مثلٌ واضح دقيق يشهد بذلك، فينقد قولَ أبي تمام:


واكْتَست ضُمَّرُ الجِيادِ المذاكي من لِباس الهَيْجا دَمًا وحَميمَا

في مَكَرٍّ تَلوكُها الحربُ فيهِ وَهْي مُقْوَرَّةٌ تَلوكُ الشَّكيمَا

فيقول: فهذا معنًى قبيحٌ جدًّا؛ إذ جعل الحربَ تلوك الخيلَ من أجل قولِه: «تلوك الشكيما»، وتلوك الشكيما أيضًا هنا خطأ؛ لأن الخيل لا تَلوك الشكيمَ في المكرِّ وحَومةِ الحرب، وإنما تفعل ذلك واقفةً لا مكرَّ لها. فإن قيل: إنما أراد أن الحرب تلوكُها كما تلوك هي الشكيمَ، قيل: هذا تشبيهٌ وليس في لفظِ البيت عليه دليلٌ، وألفاظ التشبيه معروفة. وإنما طرَح أبا تمامٍ في هذا قلةُ خبرةٍ بأمر الخيل. ألا ترى إلى قول النابغة:


خيلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ تحتَ العَجَاجِ وخيلٌ تَعلُكُ اللُّجُمَا

والصيام هنا النِّيام؛ أي: خيلٌ واقفة مُستغنًى عنها لكثرةِ خيلهم، فهي واقفة، وخيلٌ تحت العَجَاجِ في الحرب، وخيلٌ تَعلكُ اللُّجُما قد أُسرِجَت وأُلجِمَت وأُعِدَّت للحرب. والشاعر الحصيني كان أحذقَ من أبي تمام وأعلمَ بالخيل؛ قال:


وإذا احتبى قَرَبوسَه بعنايةٍ علَكَ الشَّكيمَ إلى انصرافِ الزائرِ

وإلا فمتى رأى فرسًا يجري وهو يلوكُ شَكيمة، فأما قولُ أنَس بن الريَّان:


أقودُ الجيادَ إلى عامرٍ عَوالك لجمٍ تَمُج الدِّماء

فإن القَود قد يكون في خلالِه تلبُّثٌ وتوقُّف تلوك فيه الخيلُ لُجمَها، والمكرُّ لا يستقيم ذلك فيه.


(٩-٤) معرفته النحوية

والآمديُّ ليس فقط لُغويًّا راويةً خبيرًا بالنفوس وبالأشياء، بل هو أيضًا نَحْوي منطقي دقيقُ التفكير والمُحاجَّة. ولْنستمعْ إليه يُناقش استعمالاتِ «هل» بمناسبة البيت:


رضيتُ وهل أرضى إذا كان مُسخِطي من الأمر ما فيهِ رِضَا مَن له الأمرُ؟

فيقول: «فمعنى هذا البيتِ التقرير، والتقرير على ضربين:

(١)تقريرٌ للمخاطَب على فعلٍ قد مضى ووقَع، أو على فعلٍ هو في الحال ليوجب المقررَ بذلك ويُحققه، ويقتضي مِن المخاطب في الجواب الاعترافَ به؛ نحوُ قوله: هل أكرمتُك؟ هل أحسنتُ إليك؟ هل أوَدُّك وأوثرك وأقضي حاجتك؟

(٢)وتقريرٌ على فعلٍ يدفعه المقرِّر، وينبغي أن يكون قد وقع؛ نحو قوله: هل كان قطُّ إليك شيءٌ كرهتَه؟ هل عرَفتَ مني غير الجميل؟ فقولُه في البيت: «وهل أرضى» تقريرٌ لفعلٍ يَنفيه عن نفسه، وهو الرِّضى، كما يقول القائل: وهل يُمكنني المقامُ على هذه الحال؟ أي لا يُمكنني، وهل يصبر الحرُّ على الذل؟ وهل يروى زيدٌ ويشبع عمر؟ وهذه أفعالٌ معناها النفي، فقوله: «وهل أرضى» إنما هو نفيٌ للرِّضا، فصار المعنى: ولستُ أرضى إذا كان الذي يُسخطني ما فيه رِضَا مَن له الأمر، أي: رِضا اللهِ تعالى. وهذا خطأٌ منه فاحش، فإنْ قال قائل: فلِمَ لا يكون قولُه: «وهل أرضى» تقريرًا على فعلٍ هو في الحال ليؤكِّدَه من نفسه؛ نحو قوله: هل أوَدُّك؟ ونحو قولِ الشاعر:

هَلُ اكْرِمُ مَثْوى الضيفِ إنْ جاء طارقًا وأبْذُلُ معروفي له دون مُنكَري؟

قيل له: ليس قولُ القائل لمن يُخاطبه: هل أودُّك؟ هل أوثرُك؟ وقوله: سَلْ عني هل أصلُحُ للخير، أو هل أكتم السر، أو هل أقنعُ بالميسور؟ مثلَ قولِ أبي تمام: «رضيتُ وهل أرضى»؛ فإنَّ صيغة هذا الكلام دالةٌ على أنه قد نفى الرِّضا عن نفسه بإدخاله الواوَ على هل، وإنما يُشبه قولَ القائل: وهل أوَدُّك إذا كانت أفعالُك كذا؟ أو هل أصلح للخير عندك إذا كنتَ تعتقد غيرَ ذلك؟ وهل ينفع في زيد العتاب؟ كقول الشاعر: «وهل يُصلِح العطَّارُ ما أفسَد الدهرُ؟» وقولِ ذي الرُّمَّة:


وهل يَرجع التسليمَ أو يَكشفُ العَمى ثلاثُ الأثافي والرسومُ البلاقعُ؟

لأن الواو هنا كأنها عطفَت جوابًا على قولِ قائل: إن فلانًا سيَصلح ويرجع إلى الجميل، فقال آخَرُ: «وهل يُصلح العطَّارُ ما أفسَد الدهر؟» وقول ذي الرُّمة:


أمُنْزِلتي ميٌّ سلامٌ عليكما هل الأزمُنُ اللائي مضَيْن رَواجِعُ؟

لما علم أن التسليم غيرُ نافع، عاد على نفسه فقال: «وهل يَرجع التسليمَ»، وكما قال امرُؤ القيس: «وإن شفائي عَبْرةٌ مُهَراقةٌ»، ثم قال: «وهل عند رسمٍ دارس من معوَّل»، وكذا قول أبي تمام: «رضيت»، ثم قال: «وهل أرضى إذا كان مُسخطي ما فيه رِضا اللهِ تعالى»، وكذا أراد فأخطأ في اللفظ، وأحال المعنى عن جهته إلى ضدِّه؛ فإن «هل» هنا بمعنى «قد»، وإنما أراد الطائيُّ «رضيت وقد أرضى» كما قال الله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ؛ أي: قد أتى. قيل: هذا إنما قاله قومٌ من أهل التفسير وتَبِعَهم قومٌ من النَّحْويين، وأهلُ اللغة جميعًا على خلافِ ذلك؛ إذ لم يأتِ في كلام العرب وأشعارهم «هل قام زيد» بمعنى «قد قام زيد». وإذا كان ذلك معدومًا في كلام العرب ولُغاتها، فكيف يجوز أن يؤخَذ به أو يعوَّلَ عليه؟! وقد قال أبو إسحاقَ الزجَّاجُ وجماعةٌ من أهل العربية في قوله عز وجل: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، معناه: «لم يأت» على سبيل التقرير. وهَبِ الأمرَ في هذا كما ذكَروا — والخلافُ ساقطٌ فيه — فإن بيت أبي تمام لا يَحتمل من التأويل ما احتمَلَته الآية؛ لأن هل شبَهُها بقد إذا وَلِيَت لفظ الماضي خاصَّة، وأبو تمام إنما أوقَعَها على الفعل المستقبل، فسقَط عنها أن تُضارعَ قد؛ لأن قد حينئذٍ قد تكون بمعنى ربما، وهل ليس فيها ذلك.


وبعدُ، فإن كان الرجلُ إنما أراد بهل معنى قد، فلِمَ لَم يَقُل: «رضيتُ وقد أرضى»؟ فيأتي بلفظةِ قد نفسِها؛ إذ إنما يريد الخبر، ولا يأتي بهل فيلتبس الخبرُ الذي إيَّاه قصَد بالاستفهام؛ فإن البيت كان يستقيم بها ويُغنينا عن الاحتجاج الطويل. وقد استقصيتُ القولَ في هذا البيت، وما ذكَره النحْويُّون وسيبويه وغيرُه في معنى قد وهل، ولخَّصتُه في جزءٍ مفرَد، وإنما فعلتُ ذلك لكثرة مَن عارضَني فيه، وادَّعى الدعاوى الباطلةَ في الاحتجاج لصحته» (ص٨٧ و٨٨).


وهذا مثلٌ يدل على فَهمٍ عميق دقيق لوسائل الأداء في اللغة، بل وأوجُه المعاني المختلفة. وأمر الاستفهام وخروجه إلى غير مقصوده مِن أرهف المشاكل في كلِّ اللغات، وباستطاعة القارئ أن يتَمعَّن في وظيفة «الواو» التي تسبق الاستفهامَ فتُخرجه من التقرير إلى النفي؛ فهذه ملاحظةٌ بالغةُ الدقة.


ثم انظر إلى تفريقه بين دلالة «هل» عند أبي تمام، ودلالتها في الآية: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، فهو يقول: إنه لو جاز أن تكون «هل» في الآية بمعنى «قد»، فإنها لا يمكن أن تُفيد ذلك المعنى في بيتِ أبي تمَّام؛ لأنها في الآية مستعمَلةٌ مع فعل ماضٍ «أتى»، والفعل الماضي بدلالةِ صيغته ذاتِها يوجِّه الاستفهامَ نحو التقرير؛ إذ ينصبُّ على حدثٍ مضى، و«هل أرضى» في البيت تُفيد الاستقبال، ونقلُ الاستفهام عن أمرٍ مستقبل إلى التقرير ليس كنقل الاستفهام عن أمرٍ ماضٍ، فالقياس لا ينعقد لمخالفته لخصائصِ اللغة.


هذه هي الوسائل التي يعتمد عليها الناقدُ في إظهار أخطاء أبي تمَّام في الألفاظ والمعاني: مزيجٌ موفَّق من الذَّوق والمعرفة؛ المعرفة بكافة أنواعها: إنسانية مباشرة وتقليدية مقررة، معرفة لُغوية ومعرفة أدبية، إحساسٌ ومنطق، بَداهةٌ ومُحاجَّة. وهذه هي الصفات التي تجعل من الآمديِّ أكبرَ نقَّاد العرب؛ نقده جامعٌ دقيق، ليست فيه سَفْسطةُ المناطقة، ولا تَفَيهُقُ اللُّغويِّين، ولا حشوُ الرواة، ولا فساد ذوق العلماء والفلاسفة؛ نقدٌ كخيرِ ما نعرف اليوم مِن نقد.


(٩-٥) اللغة لا يُقاس عليها

وإن يكن ثمة مَغْمزٌ في نقده — وهو لم يَخلُ من مَغامز — فإننا نراه في الباب الذي نُعالجه الآن — باب نقد الأخطاء — في نظرته إلى اللغة كشيء لا يُقاس عليه، ولا ينبغي التجديدُ فيه. وهذا فيما نرى وجهُ ضعف، كما سبق أن أشرنا. ويزداد الضعفُ وضوحًا عندما نذكر أن هذا الناقد المحافظ الذي يَعيب على الشاعر قولَه: «لا أنتَ أنت ولا الزمانُ زمان»، ويرى في قوله: «لا أنت أنت» تعبيرًا شَعبيًّا، وينكر عليه أن يَقيسه على «ولا العقيق عقيق»؛ لم يخلُ من التأثُّر بشقشقة أصحاب البديع، فجرَفَه التيَّارُ حتى أخذ يتمحَّلُ لاستعارة الشاعر في قوله: «ماء الملام» أوجهًا لا تصحُّ أمام عقلٍ ولا ذوق، كما سبق أن قرَّرنا.


وفي نقدِه لأخطاءِ أبي تمام أمثلةٌ أخرى تدلُّ على ما تورَّط فيه من تعنُّتٍ عندما تمسَّك بمذهبِه الضيق «اللغة لا يُقاس عليها». ولننظر في أحد تلك الأمثلة كنقدِه لقول هذا الشاعر:


هل فُرقةٌ مِن صاحبٍ لك ماجدِ فغدًا إذابةُ كلِّ دمعٍ جامدِ؟

فافْزَع إلى ذخر الشئون وغربِهِ فالدمع يُذهب بعضَ جهدِ الجاهدِ

وإذا فقدتَ أخًا فلم تفقد لهُ دمعًا ولا صبرًا فلستَ بفاقدِ

إذ يقول: «قوله: يذهب بعضَ جهد الجاهد؛ أي بعضَ جهد الحزن الجاهد، أي الحزن الذي جَهِدَك فهو الجاهدُ بك، ولو كان استقام له بعضُ جهد المجهود لكان أحسنَ وأليق. وهذا أغربُ وأظرف. وقد جاء أيضًا فاعل بمعنى مفعول؛ قالوا: عيشة راضية بمعنى مَرضيَّة، ولمح باصر، وإنما هو مُبصَرٌ فيه، وأشباهُ ذلك كثيرةٌ معروفة، ولكن ليس في كل حالٍ يُقال، وإنما ينبغي أن يُنتَهى في اللغة إلى حيث انتهَوا، ولا يُتَعدَّى إلى غيره؛ فإن اللغة لا يُقاس عليها» (ص٩٣). وهذا تعنُّتٌ من الآمدي؛ فهو ليس بحاجةٍ إلى أن يفترض «الحزن الجاهد»، وإنما الجاهد هنا هو الشاعرُ نفسُه؛ فهو الذي يُجاهد الألمَ لفراق صديقه المزمع السفر (الديوان، طبعة محمد جمال، ص٨٦). وأما أن الجاهد تُفيد المجهود أيضًا، فهو أمر لا يُسِيغه القياسُ فحَسْب، على نحوِ ما تفيد راضية مرضيَّة، بل يُجيزه العقل أيضًا، الذي هو أصلُ كلِّ قياس؛ فالشخص الجاهد لا بدَّ أن يكون مجهودًا أيضًا، أو على الأقل احتمال أن يكون «مجهودًا» أمرٌ طبيعي. فلماذا يُنكر الناقدُ على الشاعر استعمالًا كهذا؟ لم يزلَّ أن نظرته الضيقة في تقيُّدِه بما ورد عن القُدماء أو لم يَرِد، ورفْضَه الأخذَ بالقياس هو الذي أفسَد حُكمه هنا.


ومن غريب الأمر أنه يلوح أن الناقد قد تخبَّط في فَهم معنى البيت:


وإذا فقدتَ أخًا فلم تفقِدْ لهُ دمعًا ولا صبرًا فلستَ بفاقدِ

أساسُ هذا التخبُّطِ هو فَهمُه لدلالة اللام في «له»؛ فقد ظنَّ أنها تُفيد التعلُّق، ففَهِم البيت على أن معناه: وإذا فقدتَ أخًا فلم تفقد دمعًا له؛ أي دمعَه الذي يُريقه من أجلك، ولم تفقد صبرًا له؛ أي صبره الذي يأخذ نفسَه به عند فِراقك، فإنك في الواقع لم تفقده. وإذ فهم الفهم الخاطئ راح يفترض الفروضَ ويُفصل النقدَ فيقول: «لم تفقد له دمعًا ولا صبرًا» من أفحش الخطأ؛ لأن الصابر لا يكون باكيًا، والباكيَ لا يكون صابرًا، فقد نسَقَ بلفظةٍ على لفظة، وهما نعتان متضادَّان، ولا يجوز أن يكونا مجتمِعَين، ومعناه أنك إذا فقدتَ أخًا فأدام البكاءَ عليك فلستَ بفاقدٍ وُدَّه ولا أُخوَّته، وهو مُحصَّلٌ لك غيرُ مفقود وإن كان غائبًا عنك. وإلى هذا ذهب، إلَّا أنه أفسده بذِكرِه الصبرَ مع البكاء، وذلك خطأٌ ظاهر. ولو كان قال: فلم تفقد له دمعًا ولا جزعًا، أو دمعًا ولا شوقًا ولا قلقًا؛ لكان المعنى مستقيمًا. وظننتُه قال غيرَ هذا، وأنَّ خلطًا وقَع في كتابة البيت عند النقل، حتى رجعتُ إلى أصل أبي سعيدٍ الكرديِّ وغيرِه من الأصول القديمة، فلم أرَ دمعًا ولا صبرًا، وذلك غفلةٌ منه عجيبة. وقد لاح لي معنًى أظنُّه — والله أعلم — إليه قَصَد، وهو أن يكون أراد إذا فقدتَ أخًا فلم تفقد له دمعًا، أي يُواصل البكاءَ عليك؛ فلستَ بفاقدِه، على ما ذكَره، أي فقد حصَل لك وصار ذُخرًا من ذخائرك وإن غاب عنك وغِبتَ عنه. وإن لم تفقد له صبرًا؛ أي وإنْ صبر عنك فلستَ بفاقده؛ لأنه إن صبر وسلَاك فليس ذلك بأخٍ يُعوَّل عليه، فلستَ أيضًا بفاقده؛ لأنك لا تعتدُّ به موجودًا ولا مفقودًا. ولكن ذهب على أبي تمام أن هذا غيرُ جائز؛ لأنه وصَف رجلًا واحدًا بالوصفَين جميعًا، وهما متضادان. ولو كان جعَلهما وصفَين لرجلين فقال:


وإذا فقدتَ أخًا لفقدِك باكيًا أو صابرًا جادًا فلستَ بفاقدِ

أي لستَ بفاقدٍ ذاك لأنه مُحصَّلٌ لك، أو لستَ بفاقد هذا لأنه ناسٍ مودَّتَك؛ لكان المعنى سائغًا واضحًا. أو لو جعله شخصًا واحدًا وجعل له أحدَ الوصفين فقال:


وإذا فقدتَ أخًا فأسبَلَ دمْعَهُ أو ظلَّ مصطبِرًا فلستَ بفاقدِ

لكان أيضًا سائغًا على هذا المذهب، أو كان استوى له في ذلك اللفظِ بعينه أن يقول: «فلم تفقد له دمعًا ولا صبرًا»؛ حتى لا يجعلَ له إلا أحدَهما لساغ ذلك، لكنه نسق بالصبر على الدمع فجعَلهما جميعًا له؛ ففَسَد المعنى. فهذا وأشباهُه الذي قال الشيوخُ فيه: «إنه يريد البديعَ فيخرج إلى المحال» (ص٩٤). والذي أخطأ وخرَج إلى المحال هنا هو الآمدي؛ فقد راح يُجهد نفسَه ويفترض الفروض؛ لأنه لم يَفطِن إلى المعنى القريب، وكان فَهمُه لمعنى اللام هو سببَ كلِّ هذا الكلام الطويل الذي لا داعيَ له؛ فاللام من الواضح هنا أنها للسببية، وأن الدمع الذي سيُفقَد والصبر الذي سيُفقَد هما دمع المخاطَب وصبرُه، لا دمع الشاعر وصبره؛ فالمعنى هو فيما نرى: «وإذا لم يفقد الإنسان دمعه وصبره على صديقٍ له، فكأنه لم يفقد صديقًا؛ لأن الصديق هو من ينفَدُ صبرك لفراقه فتبكي». وعلى هذا النحو لا يكون هناك تعارضٌ بين نَفاد الصبر وفقدان الدموع؛ أي انهمارها.


وإذن فنحن لا نستطيع أن نبرِّئ الآمديَّ من الخطأ أو ضيقِ النظرة إلى اللغة، ولكن الذي نُنكره هو أن يُتَّهم بالتعصُّب والهوى.


(١٠) نقده للبديع عند أبي تمام

الآن وقد فرَغنا من دراسة الآمدي لأخطاء أبي تمام، فلننتقل إلى مناقشة نقدِه لما أتى به الشاعرُ من استعارةٍ وجِناس وطِباق ومُعاظَلة. وهذه هي المرحلة الثانية في نقدِه للشاعر، كما وضَّحنا فيما سبق.


(١٠-١) معرفته للنقد القائم على فلسفة أرسطو

وأول ما نُلاحظه هو أن الآمديَّ لم يكن يجهلُ ذلك النوعَ مِن النقد الذي أراد أمثالُ قُدامة أن يأخذوا به الشعر، أعني النقد العلميَّ الذي حاول أن يقوم على فلسفةِ أرسطو. لم يجهل هذا النقد، ولكنه كان أدقَّ ذوقًا وأفطنَ لحقيقة الشعر من أن يصدر عنه. وهل أدلَّ على معرفته لسفسطة هؤلاء النقاد الفلاسفة من قوله عند الكلام عن العلاقة بين المعاني والصياغة، وفي صدد الحديث عن فضل البُحتري (ص١٧٣): «وأنا أجمع لك معانيَ هذا الباب في كلماتٍ سمعتُها من شيوخ أهل العلم بالشعر؛ زعَموا أن صناعة الشعر وغيرَها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعةِ أشياء: جَودة الآلة، وإصابة الغرَض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة من غير نقصٍ فيها ولا زيادةٍ عليها. وهذه الخِلال الأربع ليست في الصناعات وحدها، بل هي موجودةٌ في جميع الحيوان والنبات. ذكرَت الأوائلُ أن كل مُحدَث مصنوع مُحتاجٌ إلى أربعة أشياء: علة هَيُولانية، وهي الأصل، وعلةٌ صورية، وعلة فاعلة، وعلة تمامية. وأما الهيُولَى فإنهم يَعْنون الطِّينة متى يبتدعها الباري تبارك وتعالى ويخترعها؛ ليُصوِّر ما يشاء تصويرَه من رجلٍ أو فرَس أو جَمَل أو غيرِها من الحيوان، أو بُرَّة أو كَرْمة أو نخلة أو سِدْرة أو غيرِها من سائر أنواع النبات. والعلة الفاعلة هي تأليفُ الباري جلَّ جلاله لتلك الصورة. والعلة التمامية هي أن يُتِمَّها تعالى ذِكرُه، ويَفرُغَ من تصويرها من غيرِ انتقاصٍ منها. وكذلك الصانع المخلوق في مصنوعاته التي علَّمه الله عزَّ وجلَّ إياها، لا تستقيم له وتجود إلا بهذه الأربعة؛ وهي آلةٌ يستجيدها ويتخيَّرها مثل خشب النجَّار، وفِضَّةِ الصائغ، وآجُرِّ البنَّاء، وألفاظ الشاعر الخطيب. وهذه هي العلة الهيولانية التي قدَّموا ذِكرها وجعلوها الأصل. ثم إصابة الغرض فيما يقصد الصانعُ صنعتَه، وهي العلة الصوريَّة التي ذكَرتُها. ثم صحة التأليف حتى لا يقعَ فيه خللٌ ولا اضطراب، وهي العلة الفاعلة، ثم أن ينتهيَ الصانع إلى تمام صنعته من غيرِ نقصٍ منها ولا زيادةٍ عليها، وهي العلة التمامية. فهذا قولٌ جامع لكل الصناعات والمخلوقات، فإن اتفَق الآن لكلِّ صانع بعدَ هذه الدعائم الأربع أن يُحدِثَ في صنعته معنًى لطيفًا مستغرَبًا، كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض، فذلك زائدٌ في حُسن صنعتِه وجودتِها، وإلا فالصَّنعة قائمةٌ بنفسها مستغنيةٌ عمَّا سِواها.» وهذا نصٌّ بالغُ الأهمية؛ لأنه يدلُّنا على طريقة فَهْم ناقدٍ عربي أصيل لفلسفة أرسطو في الخلق، وعلى النحوِ الذي حاوَل به أن يستخدمها في نقد الشعر؛ فالعللُ الأربع التي يذكرها هي عِللُ أرسطو الشهيرة: المادة والصورة والعلة الفاعلة ثم العلة الغائية. وهذه الأخيرة لم يفهَمْها الآمديُّ على وجهها، أو حوَّرها عامدًا ليستخدمَها في فَهم الشعر؛ ولذلك سمَّاها بالعلة التمامية، وحوَّل معناها إلى معنًى مُغاير، فلم تَعُد تُفيد الغايةَ التي يُصنع الشيء من أجل تحقيقها، بل كمال الصنعة وتمام الإجادة في صياغة المادةِ صورة.


(١٠-٢) معرفته لحِكمة الفُرس

والآمدي يحرص أيضًا على أن يدلَّنا على أنه عالمٌ بحِكمة الفُرس عِلمَه بحِكمة اليونان، فيُضيف في نفس الموضع من كتابه (ص١٧٣ و١٧٤): «وقد ذكَر بُزُرْجمهْر فضائلَ الكلام ورذائلَه، وبعض ذلك دليلٌ في الشعر، فقال: «إن فضائل الكلام خمس، إنْ نقَص منها فضيلةٌ واحدة سقط فضلُ سائرها؛ وهي: أن يكون الكلام صدقًا، وأن يوقع موقعَ الانتفاع به، وأن يتكلَّم به في حينه، وأن يَحسُن تأليفه، وأن يستعمل منه مقدار الحاجة. وقال: ورذائله بالضد، فإنه إن كان صادقًا ولم يُوقَع موقعَ الانتفاع به بطَل فصلُ الصدق منه، وإن كان صادقًا وأوقِعَ موقعَ الانتفاع به وتُكلِّم به في حينه ولم يحسن تأليفه؛ لم يستقرَّ في قلبِ مستمِعه، وبطل فضلُ الخِلال الثلاث منه. وإن كان صادقًا ووقع موقعَ الانتفاع به، وتكلم به في حينه، وأحسن تأليفه، ثم استعمل منه فوق الحاجة خرَج إلى الهذر، أو نقَص عن التمام؛ صار مبتورًا وسقط منه فضل الخلال كلها.»


وهذا إنما أراد به بزرجمهر الكلامَ المنثور الذي يُخاطَب به الملوك، ويقدِّمه المتكلم أمام حاجته. والشاعر لا يُطالَب بأن يكون قولُه صادقًا، ولا أن يوقِعَه موقعَ الانتفاع به؛ لأنه قد يقصد إلى أن يوقِعَه موقعَ الضرر، ولا أن يجعل له وقتًا دون وقت. وبقيَت الخَلَّتان الأُخرَيان، وهُما واجبتان في كل شاعر؛ أن يُحسن تأليفه، ولا يَزيد فيه شيئًا على قدرِ حاجته؛ فقيمة التأليف في الشعر وكلِّ صناعة هي أقوى دعائمِه بعد صحة المعنى، وكلما كان أصحَّ تأليفًا كان أقْومَ بتلك الصناعة ممَّا اضطرب تأليفُه.»


وهنا نرى الآمديَّ لا يستبقي من هذه الفضائل الخمسِ إلا اثنتَين؛ هما: صحة المعنى وصحة التأليف، وإن كنَّا لم نعرف ماذا يقصد بقوله: «والشاعر لا يُطالَب بأن يكون قولُه صدقًا»، ثم تمسُّكه بعد ذلك بصحةِ المعنى. والذي يبدو لنا هو أنه يقصد بالصدق صدورَه عمَّا وقع فعلًا؛ فالشعر كما هو معلومٌ ليس من الضروريِّ أن يكون صادرًا عن الواقع لكي لا يُتَّهَم بالكذب، وإنما يكفي أن يكون صادرًا عن واقعٍ نفسي. ولعل هذا هو المقصود بصحةِ المعنى؛ فالمعنى يصحُّ إذا استجابَت له النفس، أو أمكَنَها الاستجابةُ له عندما تتهيَّأ لذلك، وهو يصحُّ حتى ولو كان مجردَ احتمال أو إمكان.


(١٠-٣) عدمُ تأثُّره بفلسفة اليونان أو الفُرس

ومع هذا، فكلُّ هذه النظريات لم تكَد تُؤثر في الآمديِّ شيئًا. وقد كان هذا من حُسن حظِّ الأدب العربي؛ إذ لو أنه صدَر عن هذه التقاسيم الشكليَّة لَذهبَت قيمةُ كتابه كما ذهبَت قيمةُ كتاب قدامة. ومصدر الخطر كما دلَّت القرون اللاحقة لم يكن من فلسفةِ الفُرس، بل من فلسفة اليونان؛ فهي التي انتهَت بأنْ جفَّفَت ماء النقد وجعلَته علمًا — علم البلاغة — الذي لم يلبث أن تَحجَّر وأفسَد العقولَ والأذواق.


(١٠-٤) ردودُه على قُدامة بن جعفر

لقد كان الآمديُّ سليمَ النظرة، صادقَ الذوق، واسعَ الخبرة بالأدب والشعر؛ ولهذا لم يَصدُر في نقدِه إلا عن الذَّوق المستنير بالمعرفة الموضعية الدقيقة، ولا أدَلَّ على ذلك من أنه قد أخذ نفسَه بعناء الردِّ على قدامة في كتابٍ سمَّاه «تبيين غلَط قُدامة بن جعفر في كتاب نقد الشعر»، وإنه وإن يكن هذا الكتابُ مفقودًا لسوء الحظ، إلا أننا نستطيع أن نُدرك روحَه العامَّة بفضلِ ما نجدُه من إشاراتٍ إليه في كتاب الموازَنة.


فممَّا يأخذه على قدامة مخالفتُه مَن تقدَّمه كابن المعتزِّ في وضع الاصطلاحات، فيقول في الكلام على المطابق (ص١١٦ و١١٨): «وهو مقابلة الحرف بضدِّه أو ما يُقارب الضدَّ، وإنما قيل مُطابق لمساواة أحدِ القسمَين صاحبَه وإن تضادَّا أو اختلَفا في المعنى. وما علمتُ أن أحدًا فعل غيرَ أبي الفرَج؛ فإنه وإن كان هذا اللقبُ يصحُّ لِمُوافقته معنى الملقَّبات، وكانت الألفاظُ غيرَ محظورة، فإني لم أكن أحبُّ له أن يخالف مَن تقدَّمه مثلَ أبي العباس عبدِ الله بن المعتزِّ وغيرِه ممَّن تكلَّم في هذه الأنواع وألَّف فيها؛ إذ سبَقوه إلى اللقَب وكفَوْه المئونة. وهذا بابٌ — أعني غير المطابق — لقَّبه أبو الفرَج قدامةُ بن جعفر في كتابه المؤلَّف في نقدِ الشعر «المتكافئ»، وسمَّى ضربًا من المجانس «المطابق»، وهو أن تأتيَ الكلمةُ مثلَ الكلمة سواءً في تأليفها واتفاقِ حروفها، ويكون معناها مُخالفًا؛ نحو قول الأفْوَه:


وأقطَعُ الهَوْجلَ مستأنسًا بهَوْجلٍ عَيْرانةٍ عَنْتريس

والهوجل الأولى الأرضُ البعيدة، والهوجل الثانية الناقةُ العظيمة الخلقِ الموثَقة.»٤

فإشارةُ الآمدي هذه لها دلالتها من حيث إنه قد درَس ما كتبه قدامةُ وما كتبه ابنُ المعتز، وأمعَن في كلِّ ذلك حتى أقام المقابَلاتِ بين اصطلاحات الرجلَين، وانتقد عدمَ أخذِ قدامة بما سُبِق إليه مِن تعاريف.


والآمديُّ في تبيينِه أخطاءَ قدامة لم يقف طبعًا عند مناقشة الاصطلاحات، بل عرَض لغير ذلك من أقوال المؤلف. وفي الجزء المخطوط من الموازنة (ص١٧)، نراه يردُّ على ما زعَمه قدامةُ من أن المدح لا يكون إلا بالفضائل النفسية، وأن المدح بالحُسن والجمال عيبٌ في الشعر، فيقول: «فأما الجلال والبهاء والهيبة وسائرُ ما مضى من ذلك في هذا الباب، فإنه واجبٌ في مدح الخلفاء والملوك والعظماء؛ لأنه من الأوصاف التي تخصُّهم، ويَحسُن موقعُ ذِكرها عندهم، وكذلك جمال الوجهِ وحُسنه ممَّا يجب المدحُ فيه؛ فإن الوجه الجميل يَزيد في الهيبة، ويَتيمَّنُ به العرب؛ فإنه يدلُّ على الخِصال المحمودة، كما أن قُبح الوجه والدمامة يُسقِط الهيبة، ويدلُّ على الخصال المذمومة. وذلك ما تكرهه العرب وتتشاءم، بل أول ما نلقاه من الإنسان ونُعاينه وجهُه.


وقد غلط بعضُ المتأخرين في هذا الباب ممَّن ألَّف في نقد الشعر كتابًا غلطًا فاحشًا، فذكَر أن المدح بالحُسن والجمال، والذمَّ بالقُبح والدمامة ليس بمدحٍ على الحقيقة، ولا ذمٍّ على الصحة، وخطَّأ كلَّ مَن يمدح بهذا أو يذمُّ بذلك، فعَدَل بهذا المعنى عن مذاهب الأمم عرَبِها وعجَمِها، وأسقط أكثرَ مدْحِ العرب وهجائها. وقد بيَّنتُ قُبح غلَطِه في هذا تبيينًا شافيًا مُستقصًى في كتابٍ مفرَد.»


ومن الواضح أن الإشارة هنا إلى قدامة الذي يقول في عيب المدح: «لما كنا قدَّمنا من حال المديح الجاري على الصواب ما أنبأنا أنه الذي يُقصَد فيه المدحُ للشيء بفضائله الخاصة به، لا بما هو عرَضيٌّ فيه، وجعَلْنا مديحَ الرجال مثالًا في ذلك، وذكَرنا أن مَن قصد لمدحهم بالفضائل النفسيَّة كان مُصيبًا، وجَب أن يكون ما يأتي به من المدح على خِلاف الجهة التي ذكَرْناها في النُّعوت مَعيبًا. ومن الأمثلة في هذا الموضوع ما قاله عبد الملك بن مروان لعُبيد بن قَيس الرُّقيَّات؛ حيث عتَب عليه في مدحِه إيَّاه فقال له: إنك قلتَ في مُصعبِ بن الزبير:


إنما مُصعبٌ شِهابٌ من اللهِ تجلَّتْ عن وجهِه الظَّلْماءُ

وقلتَ فيَّ:


يأتلقُ التاجُ فوقَ مَفْرقِهِ على جَبينٍ كأنَّه الذهَبُ

فوَجْهُ عتب عبد الملك إنما هو من أجل أن هذا المادح عدَل به عن بعض الفضائل النفسية، التي هي العقل والعفة والعدل والشجاعة إلى ما يليقُ بأوصاف الجسم في البهاء والزينة، وقد كنا قدَّمنا أن ذلك غلطٌ وعيب.»٥ وهذا مثلٌ واضح لغباءِ قُدامة، وفسادِ ذَوقه، وفَهاهة نقدِه؛ فهو لم يفهم شيئًا من نقدِ عبد الملك بن مروان، ولا فَهِم شيئًا من بيتَي عُبيد الله، وإنما هي رغبةٌ باطلة في أن يُقيم نفسَه ناقدًا للشعر، مع أنه لا يفهم في الشعر شيئًا، وقد وَهِم أن ترديدَه لتقاسيم أرسطو كافيةٌ لتجعلَ منه ناقدًا. ونحن لا نستطيع إلا أن نغتبط باحتقارِ الآمدي لناقدٍ كهذا، وتبيينِه لأخطائه وإن كانت من الحُمق والسخف بحيث لا تحتاج إلى تبيين. ومَن مِنَّا لا يُحِس بالفرق القويِّ في نغمات عُبيد الله عندما مدَح مصعبَ بنَ الزبير، الذي جاهد الشاعرُ إلى جواره عن إيمانٍ ومَحبة، ومدحِه لعبد الملك الذي ساقته إلى جواره مِحنُ الأيام، وأين «الشهاب من الله الذي تتجلَّى عن وجهه الظَّلْماء» من «الجَبين الذي كأنه الذهب والتاج يتألَّق فوقه»؟ أين تلك الحاسةُ الدينية التي تجري في الصورة الرائعة؛ صورةِ الشهاب المقدَّس تتبدَّد عنه الظلمات؟ أين هذا من «الجبين الذي كأنه الذهَب»، وما في التشبيه من ابتذالٍ ورَكاكة وكذب؟ وهل يظنُّ الأحمق قدامةُ أن عبد الملك قد عتب على عبد الله؛ لأنه مدَحه بالجمال ولم يمدحه بالعقلِ والعدل والعفَّة وما إلى ذلك من تقاسيمِه المضحِكة التي يريد أن يَقصُر عليها المدح؟

(١٠-٥) تحديده لبعضِ الاصطلاحات البلاغية

ولكن نقد الآمديِّ لأقوال قُدامة لم يمنَعْه من أن ينظر في علم البلاغة نفسِه، وأن يُحاول تحديد بعضٍ من اصطلاحاته التي لم يكن له بدٌّ من استعمالها في دراسته لمذهبِ رجلٍ كأبي تمام يُعتبر رأسًا للبديع. ولعله حدَّد الكثيرَ من هذه المبادئ في كتابه الذي وضعه ردًّا على قدامة. ولو أننا استطعنا أن نعثر عليه لاهتدَينا إلى كثيرٍ من الآراء المصيبة التي يَصدُر عنها هذا الناقدُ الكبير. وفي «الموازنة» ما يُشير إلى ذلك؛ فهو يقول (ص١١٨): إن من المعاظلة التي لخَّصتُ معناها في الكتاب الذي ردَدتُ فيه على قدامة؛ شِدةَ تعليقِ الشاعر ألفاظَ البيت بعضَها ببعض، وأن يُداخل لفظةً من أجل لفظةٍ تُشبهها أو تُجانسها، وإن اختلَّ المعنى بعضَ الاختلال؛ وذلك كقولِ أبي تمام:


خان الصفا أخٌ خان الزمان أخًا عنهُ فلم يتَخوَّنْ جِسمَه الكمَدُ

فانظر إلى أكثرِ ألفاظ هذا البيت، وهي سبعُ كلمات … ما أشدَّ تشبُّثَ بعضِها ببعض! وما أقبحَ ما اعتمده من إدخال ألفاظٍ في البيت من أجل ما يُشبهها! وهو خان، خان، ويتخوَّن، وقوله أخٌ وأخًا. فإذا تأمَّلتَ المعنى مع ما أفسده من اللفظ لم تجد له حلاوة، ولا فيه كبيرَ فائدة؛ لأنه يُريد خان الصفا أخٌ خان الزمان أخًا من أجله؛ إذ لم يتخون جسمَه الكمَد … إلخ. وبالرجوع إلى كتاب قُدامة، نجد أنه قد تحدَّث عن المُعاظَلة، ولكنه لم يفهم معناها ولا حدَّد مدلولها؛ ولعلَّ ذلك لأن أرسطو لم يتحدث عنها، فيقول:٦ «ومن عيوب اللفظِ المعاظلة، وهي التي وصَف عمرُ بن الخطاب زهيرًا بمُجانبتِه لها أيضًا؛ حيث قال: وكان لا يتَعاظلُ بين الكلام. وسألتُ أحمد بن يحيى عن المعاظلة فقال: مُداخَلة الشيءِ في الشيء، يقال: تعاظَلَت الجرادتان، وعاظَل الرجلُ المرأة؛ إذ رَكِب أحدُهما الآخَر. وإذا كان الأمر كذلك؛ فمن المحال أن نُنكر مداخلةَ بعض الكلام فيما يُشبهه من وجه، أو ما كان من جنسه. وبقي «النكير»، وإنما هو في أن يدخل بعضه فيما ليس من جنسه وما هو غيرُ لائق به. وما أعرف ذلك إلا فاحشَ الاستعارة؛ مثل قولِ أوس:

وذاتِ هدمٍ عارٍ نَواشِرُها تُصْمِتُ بالماءِ تَوْلبًا جَدِعَا

فسمَّى الصَّبي تَوْلبًا؛ وهو ولَدُ الحِمار، مثل قولِ الآخر:


وما رقَد الوِلْدانُ حتى رأيتُه على البَكْر يُمْريهِ بساقٍ وحافرِ

فسمَّى رِجْل الإنسان حافرًا. فإن ما جرى هذا المجرى من الاستعارة قبيحٌ لا عذرَ فيه.» وهذه التعريفات تُظهِرُنا على مَبلغ خَلْط قُدامة وعدمِ قدرتِه على فَهْم شيء بنفسِه، أو تحديد معنى لفظ؛ فهو يخلط بين «المعاظَلة والنَّكير» الذي سمع أنهما من «عيوب اللفظ»، وبين «الاستعارة القبيحة» التي تخصُّ المعانيَ وما يُداخلها من مجاز.


ومن الواضح أن اللاحِقين لم يأخذوا بخَلطِ قُدامة، بل أخذوا بأقوالِ الناقد العالم ذي الذَّوق العربي السليم ابن المعتز، ثم بأقوالِ مَن خلَفَه مِن نقَّاد العرب أمثالِ الآمديِّ والجُرجاني، كما سنرى في آخِر بحثنا عند نظرنا في تحوُّل النقد إلى بلاغة.


وبالرغم من أن الآمديَّ كان رجلًا يأخذ بما يجدُّ من حقٍّ عند كل كاتب، كما فعل في مناقشته لكتبِ سابقيه الذين ألَّفوا في أخطاءِ أبي تمام وسَرِقاته أو سرقات البُحتري، بل يأخذ ببعض حُجج الصوليِّ نفسِه، كما فعَل في مناقشته لقول أبي تمام «ماء المَلام»؛ نقول: إننا بالرغم من ذلك لا نجدُ في كتابه أثرًا لتأثُّرِه بقدامة.


(١٠-٦) تأثره بابن المعتز

وأما الذي لم يزلَّ فيه، فهو تأثرُه بأقوال ابن المعتز، وهو لا يذكر اسمَه في كتابه إلا ويُردِفُه بصفاتٍ تدلُّ على عظيمِ ثقته بأقواله؛ ومن ذلك قوله (ص١٤) على لسان صاحب البُحتري:

«فأما ما عِبْتم به البحتريَّ في قوله:


يُخْفي الزجاجةَ لونُها فكأنها في الكفِّ قائمةٌ بغيرِ إناءِ

فما زالت الرواة والشيوخ من أهل الأدب والعلم يستحسنون هذا البيتَ ويستجيدونه.»


ثم يضيف: «وذكَره عبدُ الله بن المعتز — وقد علمتم فضلَه وعِلمه بالشعر — في بابِ ما اختاره من التشبيه من كتابه الذي نسَبَه إلى البديع.» ومن الواضح أنه قد أخذ في كل هذا الجزء من كتابه الذي يتحدَّث فيه عن البديع بأقوال ابنِ المعتز؛ فهو يتكلَّم عن الاستعارة والتجنيس والمطابق. وهذه هي أهمُّ الخصائص التي ميَّز بها ابنُ المعتز مذهبَ البديع، كما رأينا في الفصول السابقة، بل إنه لم يأخذ عنه مجردَ الاصطلاحات أو حَصْر المميِّزات فحسب، وإنما أخذ أيضًا أساسَ نقده ذاته في هذا الباب. والأدلة على ذلك كثيرة؛ كقوله: «وأنا أذكر في هذا الجزء الرَّذْل من ألفاظه، والساقطَ من معانيه، والقبيحَ من استعاراته، والمستنكَر المتعقِّد من نَسْجه ونظمِه، على ما رأيتُ في أشعار المتأخرين يتذاكرونه وينعَوْنه عليه ويَعيبونه. وعلى أني وجدتُ لبعض ذلك نظائرَ في أشعار المتقدِّمين، فعلمتُ أنه بذلك اغترَّ، وعليه في العذر اعتمد؛ طلبًا منه للإغراقِ والإبداع، ومَيلًا إلى وحشيِّ المعاني والألفاظ، وإنما كان يبدو مِن هذه الأنواع المستكرَهة على لسانِ الشاعر المحسِن البيتُ والبيتان، لا يتَجاوز عن ذلك؛ لأن العربيَّ لا يقول إلا على قريحتِه، ولا يعتصمُ إلا بخاطره، ولا يستقي إلا من قلبِه … فإن الشاعر قد يُعاب أشدَّ العيب إذا قصَد بالصَّنْعة سائرَ شعرِه، وبالإبداع جميعَ فنونه .. كما عِيبَ صالحُ بن عبد القدوس وغيرُه ممَّن سلك هذه الطريقة حتى سقط شعره» (ص١٠٥). وهذه الآراء قد أورَدها كلَّها أو مُعظمَها ابنُ المعتزِّ في الصفحة الأولى من كتابه «البديع»؛ إذ نبَّه إلى أن أبا تمام قد اتخَذ مما ورَد في بعض أشعار السابقين من استعارةٍ ومطابق وتجنيس مذهبًا غلا فيه وتصنَّعَه تصنُّعًا، بل هو يَقيسه بصالحِ بن عبد القُدُّوس. وكل هذا لا يترك مجالًا للشكِّ في عِظَم تأثير ابن المعتز في الآمديِّ فيما يختصُّ بالبديع. ولقد سبق أن أوضَحنا أهميةَ ابن المعتز في تاريخ النقد، وإنما أردنا هنا أن نُدلِّل على دخوله كعنصرٍ هام في نقد الآمدي.


ولو أننا نظَرْنا فيما عابه ناقدُنا على بديع أبي تمَّام، لَوجدناه معتدلًا كلَّ الاعتدال؛ بحيث لا نستطيع إلا أن نُقِرَّه على معظمِ ما عابه، بل قد نكون أقسى منه حُكمًا، كما رأينا في تبريره ﻟ «ماء الملام». والذي يلوح لنا — كما أشرنا فيما سبق — أنه هو نفسُه قد تأثَّر بالبديع إلى حدٍّ ما، فأخذ يَستسيغ منه ما قد لا نستسيغُه اليوم.


بل إن الآمديَّ أكثرُ تسامحًا من ابن المعتزِّ نفسِه؛ ففي كتاب البديع نجدُ المؤلِّف يذكر من بينِ أمثلة الاستعارة المعيبة قولَ أبي تمام (ص٢٤):


فضَرْبتُ الشتاءَ في أخْدَعَيهِ ضربةً غادَرَتْه عودًا ركوبَا

ويأتي الآمديُّ فيقول في الموازَنة (ص١١٠): «فأما قولُه: فضربت الشتاء في أخدعَيه، فإنَّ ذِكر الأخدعين على قُبحِهما أسوغ؛ لأنه قال: ضربةً غادَرَته. وذلك أن العود المسنَّ من الإبل يُضرَب على صفحَتَي عُنقه فيَذِل، فقرَّبَت الاستعارةُ هنا من الصواب قليلًا.» وهكذا يلتمس الآمديُّ لأبي تمام كلَّ وجهٍ ممكن.


والواقع أن الحدَّ بين الاستعارة الجميلة والاستعارة القبيحة دقيق، وابن المعتز لم يُعِد في كتابه تعريفَها بقوله: «هي استعارة الكلمة لشيءٍ لم يُعرَف بها من شيء قد عُرِف بها.» ثم أورَد أمثلةً للاستعارات الحسَنة وأمثلةً للقبيحة دون أن يُحلِّلها، أو يُظهِر قبحَها أو جمالها، ثم جاء الآمديُّ من بعدِه فأشار (ص١١٢) إلى أن: «للاستعارة حدٌّ تصلح فيه، فإذا جاوَزَته فسَدَت وقَبُحَت.» وبعد ذلك بأسطرٍ يقول: «فإنَّ حدود الاستعارة معلومة.» ولكنَّا لا ندري مَن عَلِم بتلك الحدود. كلُّ ما نجده في كتابه لا يعدو الإشاراتِ العامةَ؛ كقوله (ص١١٧): «وإنما استعارت العربُ المعنى لما ليس له إذا كان يُقاربه أو يُشبهه في بعض أحواله، أو كان سببًا من أسبابه، فتكون اللفظةُ المستعارَة حينئذٍ لائقةً بالشيء الذي استُعيرت له وملائمةً لمعناه.» في الحق، إن مُشكلةً كهذه لا يمكن أن توضَع لها قواعد، ولا أدلَّ على ذلك من أنه برغم محاولات علماء البيان لا يزال المرجعُ النهائيُّ حتى اليوم هو الذَّوقَ الذي طال مِرانُه بالنظر في أقوال الشعراء المجيدين، وفي نقد النقاد الصادقي الذوقِ لهؤلاء الشعراء نقدًا موضوعيًّا. ونحن إذا استطعنا أن نُعلل ما نراه من جمالٍ وعيب في هذا البيت أو ذاك، فإننا لن نستطيعَ أن نضعَ قواعدَ عامة؛ لأن العبرة بموضع اللفظ من المعنى المعبَّر عنه وقصدِ الشاعر. ولهذا كان نقدُ رجلٍ كالآمدي أجْدى في تعريفنا بالجمال والقُبح في الاستعارة من كثيرٍ من مجلَّدات البيانيِّين؛ فهو تدريبٌ للذوق، وتبصيرٌ بمواضعه.


والملاحَظ على أقوال الآمدي في هذا الباب (باب ما عِيبَ من الاستعارة عند أبي تمام) أنه متأثرٌ إلى حدٍّ كبير بابن المعتز؛ فهو يقول: «وعلى هذا جاءت الاستعاراتُ في كتاب الله تعالى اسمُه؛ نحوُ قولِه عز وجل: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، لما كان يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئًا فشيئًا حتى يُحيلَه إلى غيرِ حالته، كالنار الأولى التي تشتعل في الجسم من الأجسام فتُحيله إلى النقصان والاحتراق، وكذلك قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار، لما كان انسلاخُ الشيء من الشيء، وهو أن يتبرَّأ منه ويتذيَّل منه حالًا فحالًا؛ كالجِلد من اللحم وما شاكَلَهما، جعل انفصال النهار عن الليل شيئًا فشيئًا حتى يتكاملَ الظلامُ انسلاخًا، وكذلك قولُه عز وجل: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، لما كان العذاب بالسَّوط من العذاب استُعير للعذاب سَوْط؛ فهذا مَجْرى الاستعارات في كلام العرب.» فنحن نجد في كتاب البديع (ص٣) الأمثلةَ الآتية: وقال وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا. قال: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ، وقال: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار. وإذن فالآمديُّ قد أخذ من ابنِ المعتز مثالَين، واستبدلَ بالثالث مثالًا في نفس المعنى، وإن تكن الاستعارةُ فيه أوضح؛ استبدل فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﺑ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. ثم شرَحها مُوضِّحًا وجْهَها. وكذلك أخذ عن نفس المؤلف الكثيرَ من أمثلته في الشعر؛ أخذ قولَ زُهير: «وعُرِّيَ أفراسُ الصِّبا ورَواحلُه» (ص١٠٨ من الموازنة، وص٨ من البديع)، وقول طُفيل:


وجَعَلتُ كُوري فوقَ ناجيةٍ يَقْتاتُ شَحْمَ سَنامِها الرَّحْلُ

(ص١٠٨ من الموازنة، و١٠ من البديع)، وأضاف إليهما أمثلةً أخرى، وشرَح الجميعَ شرحًا واضحًا دقيقًا.


وكذلك تأثَّر بكتابٍ آخَر لابن المعتزِّ عن «سرقات الشعراء»، وإليه يُشير (ص١١٠) في صدَدِ نقدِه لقول أبي تمَّام:


يا دهرُ قَوِّمْ أخدَعَيك فقد أضجَجْتَ هذا الأنامَ من خَرْقِكْ

فيتساءل: أيُّ ضرورةٍ دعَته إلى الأخدعَين، وكان يُمكنه أن يقول: مِن اعوِجاجك أو قوِّم مِن تعوُّجِ صنعتِك؛ أي يا دهرُ أحسِنْ بنا الصنيع؛ لأن الأخرَق هو الذي لا يُحسن العمل، وضدُّه الصَّنَع؟! وكذلك قوله:


تحمَّلتُ ما لو حُمِّل الدهرُ شَطْرَه لَفكَّر دهرًا أيُّ عِبْأَيه أثقَلُ

فجعل للدهرِ عقلًا وجعله مُفكرًا في أيُّ العِبأَيْن أثقَل. وما معنًى أبعد من الصواب من هذه الاستعارة، وكان الأشبهُ والألْيقُ بهذا المعنى لما قال: «تحمَّلتُ ما لو حُمِّل الدهر شطره» أن يقول: لتَضعضَع أو لانْهَدَّ، أو لَأَمِن الناسُ صُروفَه ونوازلَه، ونحو هذا ممَّا يعتمده أهلُ المعاني في البلاغة. وإنما رأى أبو تمام أشياءَ يسيرةً من بعيد الاستعارات، متفرِّقةً في أشعار القدماء، كما عرَّفتُك، لا تنتهي في البُعد إلى هذه المنزلة، فاحتذاها وأحبَّ الإبداعَ والإغراقَ في إيرادِ أمثالها، واحتطَب واستكثَر منها؛ فمِن ذلك قولُ ذي الرُّمة:


تيمَّمنَ يافُوخَ الدُّجى فصَدَعْنَهُ وجَوْزُ الفَلا صَدْع السيوفِ القواطعِ

فجعل للدُّجى يافوخًا. وقولُ تأبَّطَ شرًّا:


نحزُّ رقابَهمْ حتى نزَعْنا وأنفُ الموتِ مِنخَرُه رَئيمُ

فجعل للموتِ أنفًا. وقولُ ذي الرُّمة:


يعزُّ ضِعاف القوم عزةَ نفسِه ويقطع أنفَ الكِبرياء عن الكِبْرِ

فجعل للكبرياء أنفًا. وقال مَعقِل بن خُوَيلد الهُذَليُّ أو غيرُه:


تُخاصِم قومًا لا تَلَقَّى جوابهم وقد أخذَتْ من أنفِ لِحْيتِك اليدُ

فجعل لِلِّحية أنفًا؛ أي قبَضتَ يدَك على طرَفِ لحيتك كما يفعل النادمُ أو المهموم. وما أظنُّ ذا الرُّمة أراد بالأنف إلا أولَ الشيء والمتقدِّمَ منه، كما قال يصفُ الحمار:


إذا شمَّ أنفَ الصيف ألحقَ بطنَه مِراسَ الأواسي وامتحانَ الكرائمِ

قال أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتاب سرقات الشعراء: «هذا البيتُ غرَّ الطائيَّ حتى أتى بما أتى به، وإنما أراد ذو الرُّمة بقوله أنف الصيف كقولهم: أنف النهار؛ أي أوله … ومثل هذا قليلٌ جدًّا مما يعتمد ويُجعل أصلًا يُحتذى عليه ويُستكثَر منه.»


(١٠-٧) الذَّوق والتعليل في نقد الآمدي

فهو إذن يستندُ إلى آراء ابن المعتز، ولكن بإمعان النظر في هذا المثَل نستطيع أن نَنفُذَ إلى حقيقةِ منهج الآمدي؛ ومِن ثَم وجب أن نتمهَّل عنده؛ لنرى أمُتعصِّبٌ هو على أبي تمام في نقدِه لمِثل قوله: «يا دهر قوِّمْ أخدَعَيك» وأنه قد أخذ يتخبَّط ليُبرر تعصبه، أم أن هناك حقيقةً أخرى تُفسر هذا التخبُّط والتماسَ الحجج؟


ولو أننا سمَوْنا إلى أعلى الصفحة التي نُناقشها (ص١١٠)، لوجدناه يبتدئُ بقوله: ولو أنه أتى به (أي بهذا القول أو التشبيه) في غيرِ هذا الموضع، أو أتى به حقيقةً ووضَعه في موضعِه ما قَبُح؛ نحو قول البُحتري: وأعتَقتُ من ذُلِّ المطامع أخْدَعي، ونحو قولِه: ولا مالت بأخدَعِك الضِّباعُ.


وممَّا يَزيد على كل جيدٍ قولُ الفرزدق:


وكُنَّا إذا الجَبَّارُ صَعَّر خدَّهُ ضرَبْناه حتى تستقيمَ الأخادعُ

وهذه هي أولُ محاولة لتفسير نقدِه لاستعارة أبي تمامٍ هذه؛ فهو يرى أنه لو استعمل الأخدعَين على الحقيقة لاستُسيغ قولُه. وهذا فرضٌ لا محلَّ لإيراده. وفرضٌ آخَرُ هو أن يأتيَ بالاستعارة في موضعها، ولكنه لا يُبين سبب قَبولها هنا، بل يُورد أمثلةً من البحتريِّ ومن الفرزدق دون أن يوضِّح الفروق بين هذه الاستعارات المختلفة، مع أن الأمر واضح؛ فالأخادع عند هذين الشاعرَين تفيد معنى الكبرياء، والاستعارة قائمة على هذا المعنى؛ فالفرزدق «يفتخر بأن قومه يضربون الجبَّار إذا صعَّر خدَّه حتى تستقيمَ أخادعه»، والبحتريُّ يزهو «بأنه قد نجا بكِبريائه من ذلِّ المطامع»، والأخدع عنده هو رمزُ هذه الكبرياء، وكذلك في دعائه للممدوح «بأن لا تَميل الضِّباع بأخادعه»، أي لا تَذلَّ كبرياؤه على الحقيقة أو المجاز. واستعارةُ أبي تمام لا تحملُ شيئًا من هذا المعنى؛ فهو يدعو الدهرَ إلى أن يقوم من أخدعَيه؛ لأن الأنام قد ضجُّوا من خرقِه، «ولم يقُل من كبريائه»؛ فالأخدعان هنا رمزٌ لسوء التصرف وتَعوُّج الصُّنع. وهذه إحالةٌ وخروج بالألفاظ عمَّا توحي من معنًى تخصَّصَت به. هذا تكلفٌ من أبي تمام وصنعةٌ فاسدة.


ولكن هل معنى هذا أن الآمديَّ ما دام قد عجز عن إعطائنا التفسيرَ الصحيح لما في الاستعارة من عيب، هل معناه أنه متعصبٌ ضد أبي تمام، وأنه يتمَحَّل له العيوب؟ ذلك ما لا نراه. والذي يبدو لنا هو أن الرجل كان صادقَ الذوق، وأن أساس نقده هو هذا الذوق الصادق، وأن تخبُّطه في التعليل إنما كان لمحاولتِه تبريرَ ذوقه. وهو أحيانًا يُصيب في تبريره، وأحيانًا لا يصل إلى ما يريد.


ويعود ناقدُنا فيلتمس وجهًا آخَر لنُفوره من «يا دهرُ قوِّمْ أخدَعَيك»، فيُحاول أن يجدَ ذلك في تشخيص الشاعر للدهر، ويَقيس ذلك ببيته الآخَر:


تحمَّلتُ ما لو حُمِّل الدهرُ شطْرَهُ لَفكَّر دهرًا أيُّ عِبأَيْه أثقلُ

وقد جعل للدهر عقلًا، وجعله مُفكرًا في أيُّ العِبأَين أثقل. ونحن وإن كنَّا لا ننكر ما في أمثالِ هذه الاستعارات من تكلُّفٍ وإسراف، إلا أننا لا نرى العيب في تشخيص المعنويَّات؛ بدليل أن قول ذي الرُّمة: «تيمَّمْن يافوخَ الدُّجى فصدَعْنه» استعارةٌ جميلة دالَّة؛ استعارةٌ من صميم الشعر. وإنما نرى الفارقَ في قوةِ دلالةِ استعارة ذي الرمَّة، ولا كذلك تفكيرُ الدهر، أو «تقويمه خرقه بتقويمه أخدَعَيه». وتفكير الدهر فلسفةٌ باطلة، وتقويمُه خرْقَه بتقويمه أخدعَيه استعارةٌ لا تؤدِّي المعنى، ولا ينسجمُ جُزآها، ومع ذلك فالآمديُّ لم يُخطئ هنا إلا في التعليل، وأما ذَوقه فسليم.


ومحاولته الثالثة هي قياسه الأخادعَ بغيرها من أعضاء الجسم كالأنف. وهذا خطأٌ صريح؛ فللأنفِ دلالته، وهو وإن اتفق مع الأخادع في الدلالة على الكبرياء، فإن له معانيَ أخرى؛ فهو يُعبر عن الموت في قولنا: «حَتْف أنفه» وهو في قول الشاعر: «وقد أخَذَت من أنفِ لحيتِك اليدُ» يدلُّ في وضوحٍ على طرَف اللحية، وفي قول ذي الرُّمة: «أنف الصيف» يرمزُ لأوله، وأما في الشطر: «ويقطع أنفَ الكبرياءِ عن الكِبْر»، فمِن البيِّن أن الآمديَّ قد أخطأ إذ فسَّره بأنه «أول الشيء ومقدمته»، وهنا الأنف بمعناه، والشاعر يقصد ﺑ «قطعِ أنف الكبرياء»: «قطعَ أنف المتكبِّر»، وهذا استعمالٌ شائع في اللغة العربية، فلا محلَّ إذن لقياسه بغيره «كأنف اللِّحية» أو «أنف الصيف»، وهنا أيضًا نرى تعليلَ الآمديِّ ومحاجَّتَه لا يُصيبان الهدف، ولكن حُكمه الذَّوقي يبقى دائمًا.


وينتقل الآمديُّ إلى دراسةِ ما في شعر أبي تمام من تجنيسٍ قبيح، ومُطابق مَعيب، ومُعاظلة يَدرُسها في صفحاتٍ قليلة (من ص١١٤–١٢٢).


(١١) دراسته للزحاف والأوزان

ثم يتحدَّث في ثلاث صفحات عمَّا كَثُر في شعره من الزحاف واضطرابِ الوزن، فيُورِد أمثلةً تؤيد قولَ دعبل وغيرِه من المطبوعين من «أن شعر أبي تمام بالخُطَب وبالكلام المنثورِ أشبهُ منه بالكلام المنظوم»؛ كقوله:


وأنت بمِصْر غايَتي وقَرابتي بها وبَنو أبيك فيها بَنو أبي

ويُفسر الآمديُّ نثريَّة هذا البيت من الناحية الموسيقية بقوله (ص١٢٤٢): «وهذا من أبيات النوع الثاني من الطويل، ووزنه: فَعُولُن مَفاعيلُن، وعَروضُه وضَرْبه مَفاعِل، فحذَفَ نون فَعولُن من الأجزاء الثلاثة الأُوَل، وحذَف الياء من مفاعيلن التي هي المِصْراع الثاني. وذلك كلُّه يُسمى مقبورًا؛ لأنه حذَف خامِسَه.»


ونحن وإن كنَّا نقبل ملاحظةَ الآمدي على ضَعْف الموسيقى في هذا البيت، إلا أننا نظنُّ أن العيب أوضحُ في هَلْهلة النَّسج وسوءِ الصياغة.


(١٢) هل تعصَّب للبحتريِّ ضد أبي تمام؟

والآن وقد رأينا في شيءٍ من التفصيل أوجُهَ نقدِه لأبي تمام، نستطيع أن نعود فننظر فيما اتُّهم به من تعصُّبٍ للبحتري ضد أبي تمام. وهذا رأيٌ سبَق لنا أن قُلنا بشُيوعه عند معظم النقَّاد والعلماء والمؤرِّخين اللاحقين. وها هو ياقوت يقول في معجمه (ج٣، ص٩٥): «ولأبي القاسم تصانيفُ كثيرةٌ جيدة مرغوب فيها، منها كتاب الموازنة بين البحتريِّ وأبي تمام في عشَرة أجزاء. وهو كتابٌ حسن، وإن كان قد عِيبَ عليه في مواضعَ منه، ونُسِب إلى الميل مع البحتري فيما أوردَه، والتعصبِ على أبي تمام فيما ذكَره. والناسُ بعدُ فيه على فريقَين: فرقة قالت برأيه حسَب رأيهم في البحتري وغلَبةِ حبِّهم لشعره، وطائفةٌ أسرفَت في التقبيح لتعصُّبِه؛ فإنه جَدَّ واجتهد في طمسِ مَحاسن أبي تمام وتزيينِ مرذول البحتري. ولَعَمْري إن الأمر كذلك، وحسبُك أنه بلَغ في كتابه إلى قول أبي تمام: «أصمَّ بك الناعي وإن كان أسمَعا» وشرَع في إقامة البراهين على تزييفِ هذا الجوهر الثمين، فتارةً يقول: هو مسروق، وتارةً يقول: هو مَرْذول. ولا يحتاج المنصِفُ إلى أكثرَ من ذلك، إلى غير ذلك من تعصُّباته. ولو أنصفَ وقال في كلِّ واحد بقدرِ فضائله لكان في مَحاسن البحتري كفايةٌ عن التعصب بالوضع من أبي تمام.» وإذن فياقوت يتَّهمُه بالتعصُّب، ودليله على ذلك هو ما يقول من اتهامه لأبي تمامٍ بسرقة «أصمَّ بك الناعي» وإرذالِه. وبالرجوع إلى كتاب الآمدي، نجدُه يقول فعلًا (ص٤٣): إن أبا تمام أخذ بيته:


أصمَّ بك الناعي وإنْ كان أسْمَعا وأصبح مَغْنَى الجُودِ بعدَك بَلْقَعَا

مِن قول سفيانَ بنِ عبد يَغوث النَّصري:


صمَّت له أُذنايَ حين نعَيتُه ووجدتُ حزنًا دائمًا لم يذهَبِ

ومن الواضح اتحادُ المعنيَين (أن نعي الممدوح قد صعق الشاعرَ أو الناسَ فأصابه أو أصابهم الصمَم)، فأيُّ تعصب في أنْ دلَّ على ذلك، وقد رأيناه في السرقات يحتاط ويردُّ عن أبي تمام وعن البحتري سواءً بسواء ادِّعاءاتِ خُصومهما؟ وإذا كان هذا المعنى بالذات قد يقعُ لأي شاعرٍ بغير حاجةٍ إلى تأثُّره بسِواه، فإن هذه الطريقة، طريقةَ اعتبارِ المعنى مسروقًا لمجرد التوارُد، كانت شائعةً في النقد العربي، سواءٌ عند الآمديِّ أو سِواه، بل لعل الآمديَّ كان أقلَّ إسرافًا من غيره. وأما إرذالُه للبيت فذلك ما لا وجودَ له في الموازنة؛ لا في الجزء المطبوع ولا في الجزء الذي لا زال مخطوطًا، ولكنه قد يكون في الجزء المفقود. وقد سبَق أن ذكَرْنا أن الجزء الخاصَّ بالمراثي لم يصل إلينا حتى اليوم رغم أن المؤلِّف أنبأَنا بوجوده.


والواقع أن ياقوتًا هو الذي يدَّعي مع غيره على الآمديِّ هذه الدعوى الباطلة؛ دعوى التعصُّب. ولقد سبَق أن فسَّرنا ذلك بفساد ذَوق اللاحقين وإعجابِهم بالصَّنعة والمبالغات والإحالات. وفي ياقوت نصٌّ آخر يفيد ذلك؛ هو قولُه (ج٢، ص٥٧): «قال لي أبو الفرَج: كان الآمديُّ صاحبُ كتاب الموازنة يدَّعي المبالغات على أبي تمام ويُحيلها استطرادًا لِعَيبه؛ إذ ضاق عليه المجالُ في ذمِّه، وأورد في كتابه قولَه من قصيدته التي أولها «من سجايا الطُّلول ألا تُجيبا»:


خضَبَت خدَّها إلى لُؤلؤِ العِقْـ ـدِ دمًا أنْ رأتْ شَوَاتي خَضيبَا

كلُّ داءٍ يُرجى الدواءُ له إ لَّا الفظيعَين مِيتةً ومَشيبَا

ثم قال: هذه من المبالَغات المسرفة. ثم قال أبو الفرَج: هذه واللهِ المبالغةُ التي يبلغ بها السماء.»


وما ذكره أبو الفرج هذا صحيحٌ من حيث ما رآه الآمديُّ في أبيات أبي تمام من إسراف، ولكننا نستطيع أن نرجع إلى المخطوط (لوحَتَي ١٤٩ و١٩٥٠)، فنجد إلى جانب ملاحظةِ الناقد عن الإسراف دفاعًا عن الشاعر ضدَّ اتهاماتٍ أخرى. وإليك السياق: وقال أبو تمام:


لعب الشَّيب بالمفارق بل جدَّ فأبكى تُمَاضرًا ولَعوبَا

خضبَت خدَّها إلى لؤلؤ العِقـ ـدِ دمًا أنْ رأت شَواتي خَضيبَا

كل داءٍ يُرجى الدواءُ له إلَّا الفظيعَين مِيتةً ومَشيبَا

يا نسيبَ الثَّغام ذنبُك أبقى حسَناتي عند الغَواني ذُنوبَا

ولئن عِبْن ما رأينَ لقد أنـ ـكرنَ مستنكَرًا وعِبْن مَعيبَا

أو تصدَّعنَ عن قِلًى لَكفى بالشَّـ ـيْبِ بيني وبينَهن حَسيبَا

لو رأى الله أنَّ في الشيب خيرًا جاورَتْه الأبرارُ في الخُلد شِيبَا

ويُعلِّق الآمديُّ على هذه الأبيات بقوله: «وهذا البيتُ الأخير من شعره الجيد المشهور، ومَن تعصَّب عليه يقول: إنه ناقَضَ في هذه الأبياتِ قولَه: «فأبكى تُماضرًا ولَعوبَا»، وقولَه: «خضبَتْ خدَّها إلى لؤلؤ العِقْد دمًا»، ثم قال: «يا نَسيب الثَّغام ذنبُك أبقى حسناتي عند الحِسان ذنوبًا»، وقولَه: «ولئن عِبْن ما رأينَ»، وقالوا كيف يَبْكين دمًا على مَشيبِه ثم يَعِبْنه! وليس هنا تناقض؛ لأن الشيب إنما يبكي تُماضرَ ولَعوبًا أسفًا على شبابه، والحِسان اللواتي عِبْنه غيرُ هاتين المرأتَين.


لما رأتْ بدَلَ الشبابِ بكَت له إنَّ المشيب لَأرذلُ الأبدالِ

ومَن لم تكن هذه حاله عابه وهو مستقيمٌ صحيح، وقول الأخطل: بكت له؛ أي الشيب، ولكن أبا تمام لم يرضَ أن يقول: بكت، فيكون أمرًا قريبًا مشبهًا، حتى قال: «بكت الدم» على مذهبه في الخروج عن الحدِّ في كل شيء.»


وهذا نقدٌ أشبهُ بالصدق، بل بالمحاباة، منه بالتعصب؛ فالناقد قد يُقرر ما يراه ويراه الجميعُ من أن البيت: «لو رأى الله أنَّ في الشَّيب خيرًا جاوَرَته الأبرارُ في الخُلد شِيبَا» فيه معنًى مبتكَر، له جماله، وإن كان بعيدًا عن حياتنا الراهنة وإحساسِنا المباشر، بحيث يُعجبنا، ولكنه لا يهزُّنا. والآمدي بعدُ يَلفت النظرَ إلى أنه من «شعره الجيِّد المشهور»، لا يكتفي بذلك، بل يأخذ في الدفاع عن الشاعر محاولًا التوفيقَ بين ما في شعره هذا من تناقض وتنافر وانتقالات وتخبُّط لا يمكن اليوم أن نستسيغَها. والذي لم يزل فيه أن مَن عابه كان مُحقًّا. ودَعْك من أشخاص النساء، ثم انظر في تفاوُت النَّغمات والنسب؛ أين بكاء الدم من العيب الفاتر؟! ثم أيُّ مبالغة سخيفة في هذا الدم، وفي الجمع بين الموت والمشيب؟!


وبالرغم من دفاع الآمدي، يأتي ياقوت فيتَّهمه بالتعصُّب! ونحن بعدُ نتَّهم الآمديَّ بالتهاوُن والتماسِ الأعذار لِما هو واضح! ولكن ألم نَقُل: إن فَساد الأذواق التي ترى في بكاء الدم على المشيب «المبالغة التي يرتفع بها الشاعرُ إلى السماء» هو سببَ هذه التهمة الباطلة؟!


وبعدُ، فالذي لم يزل فيه هو أن الآمديَّ كان له ذَوقه الخاصُّ في الشعر، وهذه مسألةٌ غيرُ التعصب، وإنه لَمن العبث أن ندعوَ النُّقاد إلى أن يكونوا علماء فيتجرَّدوا عن كل ذَوقٍ شخصي؛ وذلك لأنه ليس في الأدب قواعدُ عامةٌ نستطيع أن نُطبقها آليًّا، كما وضَّحنا في الفصل الأول من بحثنا، وإنما هناك ذَوق هو أساسُ كلِّ نقدٍ أدبي، وهناك خِبرة بالشعر ومعرفةٌ بالأدب وباللغة نُحاول أن نُعزِّز بها أذواقنا ونُعللها، كلما وجَدْنا إلى ذلك سبيلًا. ولقد حدَّثَنا الآمديُّ عن ذَوقه في كل موضع؛ سواءٌ بطريقة غير مباشرة — أعني بنقده ذاتِه ومَنْحاهُ في ذلك النقد — أو بصريح العبارة؛ كقوله (ص٢٢): «المطبوع الذي هو المستوي قليلُ السَّقط لا يتبيَّن جيده من سائر شعره بينونةً شديدة. ومن أجل ذلك، صار جيدُ أبي تمام معلومًا، وعددُه محصورًا. وهذا عندي هو الصحيح؛ لأني نظرتُ في شعر أبي تمامٍ والبحتريِّ وتلَقَّطتُ مَحاسِنَهما، ثم تصفَّحتُ شِعرَيهما بعد ذلك على مَرِّ الأوقات، فما من مرةٍ إلَّا وأنا أُلحِقُ في اختيار شعر البحتري ما لم أكن اخترتُه من قبل، وما أعلم أني زدتُ في اختيار شِعر أبي تمام ثلاثين بيتًا على ما كنتُ اخترتُه قديمًا.»


فهو إذن يُفضِّل الشعر المطبوع، ولكنَّ ذلك لم يمنعه من أن يُقِرَّ بما وُفِّق إليه أبو تمام من إصابة معنًى أو عبارة، بل لم يَدْعُه إلى الجهر بأي الشاعرَين أفضل إطلاقًا. وقد رفَض صراحةً أن يقول بشيءٍ كهذا. وهو إذا كان قد درَس سرقات أبي تمام وسرقات البحتري، فإنه قد عمد في كلِّ دراسة إلى موضع القَصيد؛ فأنصارُ أبي تمام قد ادَّعَوا أنه رأسُ مذهب؛ ولذلك اتجه النقادُ إلى النظر في هذه الدعوى، فوجدوا أنهم قد سُبِقوا إلى ذلك، وكان ابنُ المعتز هو البادئَ في هذا الاتجاه، وتتبَّعه مَن ذكَرنا، حتى إذا جاء الآمديُّ تناول كلَّ الدعاوى بالتمحيص، فردَّ من إسراف المسرفين في التهمة، ولم يَصدُر إلا عن بينة. وقد وضَع للسرقات أحكامًا عامة منصِفة، سنراها في الجزء الثاني من بحثنا. وأما سرقاتُ البحتري فلم يتمهَّل عندها؛ لأن الجميع كانوا يعرفون أنه قد سار على عَمود الشعر، وأنه لم يدَّعِ التجديد. وهو على العكس من ذلك قد أمعَن النظر فيما اتُّهِم بأخذه عن أبي تمام؛ لأن هذا يَعيبه. والآمدي منصفٌ في كل ذلك، وهو إذ تناول أخطاءَ أبي تمام وعيوبَه فقد شفعَها بأخطاء البحتري وعيوبِه، كما سنرى في باب الموازنة في الجزء الثاني من بحثنا، وإذا كان أبو تمام قد شغَله أكثرَ ممَّا شغله البحتري؛ فذلك لكثرة سقطِ أبي تمام كما يُسلِّم جميعُ النقاد.


وأخيرًا انتهى إلى محاسن كلٍّ منهما، فكتب عن كل شاعرٍ صفحتَين أو ثلاثًا يُلخص فيها حُججَ أنصار كلِّ شاعر.


وإلى هنا ينتهي جزءٌ من الكتاب، ثم يبدأ الجزء الهام؛ جزءُ الموازَنة التفصيليَّة بين الشاعرَين معنًى معنًى.


(١٣) الموازنة التفصيلية بين الشاعرَين

ومعظم هذا الجانب لم يُنشَر حتى اليوم، كما قلنا، ولكننا لا نستطيع — مهما قُلنا — أن نُوفِيَ هذا الجزء حقَّه؛ ففيه خيرُ نقدٍ نجده في كتب العرب، كما أنه مُرتَّب وَفْق منهجٍ دقيق محكَم.


(١٣-١) خُطَّته في الموازنة

لقد رأينا الناقدَ يُحدثنا في أوائل كتابه (ص٢٣) في صدد رسم خُطته عن تلك الموازنة فيقول: «ثم أُوازِن من شِعرَيهما بين قصيدتَين إذا اتفَقتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، ثم بين معنًى ومعنًى؛ فإن مَحاسنهما تَظهر في تضاعيفِ ذلك وتنكشف.» وإذن فقد كانت فكرتُه الأولى أن يعقد نوعَين من الموازنة: (١) نوعًا من القصيدتَين إذا اتفَقتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، وذلك طبعًا بصرف النظر عن موضوع القصيدتين ومعانيهما. (٢) الموازنة بين المعاني معنًى معنًى.» ونحن ندرك طبعًا أن الموازنة الثانية هي المعقولة، وأما الموازنة الأولى فلا يمكن أن تنعقدَ وأن تأتيَ بفائدة، أو تُبصِّرنا بشيء عن الشاعرَين؛ لأن الوزن والقافية وإعرابَ القافية ليست إلا ثوبًا خارجيًّا لما في الشعر من فكرٍ أو إحساس أو تصوير. ولقد فَطِن الآمديُّ نفسُه إلى هذه الحقيقة، فلم يكَد ينتهي إلى تنفيذ خُطته حتى أحسَّ بخطئه فقال (ص١٤٧): «وقد انتهيتُ الآن إلى الموازنة، وكان الأحسن أن أُوازن بين البيتين أو القطعتين إذا اتفَقتا في الوزن والقافية وإعرابِ القافية، ولكن هذا لا يتَّفق مع اتفاق المعاني التي إليها المقصد، وهي المرمى والغرَض. وبالله أستعينُ على مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى، وترك التحامُل، فإنه جلَّ اسمُه حسبي ونعم الوكيل. وأنا أبتدئ بإذن الله من ذلك بما افتتَحا به القولَ من ذِكر الوقوف على الديار والآثار، ووصفِ الدِّمَن والأطلال والسلام عليها، وتَعْفيةِ الدهور والأزمان والرياح والأمطار إياها، والدُّعاء بالسُّقيا لها والبكاء فيها، وذِكر استعجامها عن جواب سائلها، وما يخلف قَطِينها الذين كانوا حَلُّوا بها من الوحش، وفي تعنيف الصِّحاب ولومهم على الوقوف بها، ونحو هذا مما يتَّصل به من أوصافها ونُعوتها، وأُقدِّم في ذلك ابتداءاتِ قصائدهم في هذه المعاني.» ويأخذ المؤلفُ في استعراض المعاني المختلفة: ما قيل في الابتداءات أولًا، ثم ما قيل في وسط الكلام، ثم ينتقل إلى طرُق خروجهما من مقدمة القصيدة إلى المدح. وأخيرًا يتناول المدحَ أو جزءًا منه. وهنا ينتهي المخطوط؛ لأنه كما قلنا غيرُ كامل.


(١٣-٢) نزاهته

وإنه لمن الواضح منذ الصفحات الأولى المطبوعةِ من هذه الموازنة التفصيليةِ أن الناقدَ غيرُ متعصب لأحدٍ من الشاعرين ضدَّ الآخر؛ فهو يُورد أبياتَ كلٍّ منهما، بل أبيات غيرهما من الشعراء القدماء أو المحْدَثين، ويُقارن بين الكل مُظهرًا إصابةَ هذا وضعفَ أو خطأَ ذلك، والمقياس عنده هو الذَّوق، وتقاليدُ العرب، والحقائق النفسيَّة، وأصول اللغة، ووسائلُ الأداء.


خذ لذلك مثلًا المعنى الأولَ وهو «الابتداءات بذِكر الوقوف على الديار»، فتراه أورد لأبي تمام الأبياتَ الآتية (ص١٧١ وما بعدها):


ما في وقوفِك ساعةً من باسِ نَقْضي حقوقَ الأربُعِ الأدْراسِ

قِفوا جدِّدوا مِن عَهدِكم بالمعاهدِ وإن هي لم تَسمع لِنِشْدان ناشدِ

قِفْ بالطُّلول الدَّارِسات عُلاثَا أضحت حِبالُ قَطينِهنَّ رِثَاثَا

قفْ نُؤبِّن كِناسَ هذا الغزالِ إن فيها لَمسرحًا لِمقالِ

ليس الوقوف يكفُّ شوقَك فانزلِ وابلُلْ غليلك بالمدامعِ يَبلُلِ

ويرى الناقد أن كل هذه المطالع إما جيدةٌ أو صالحة أو ظريفة، وهو لا ينقد منها شيئًا.


ويُورِد للبحتري:


ما على الرَّكْب من وُقوفِ الرِّكابِ في مَغاني الصِّبا ورَسْم التَّصابي

ذاك وادي الأراكِ فاحبِسْ قَليلَا مُقْصِرًا من مَلامتي أو مُطيلَا

ويرى أن هذين الابتداءين في غايةِ الجودة.


ثم يورد للبحتريِّ أيضًا قوله:


قِفِ العِيسَ قد أدنى خُطاها كَلالُها وسَلْ دارَ سُعدى إنْ شَفاك سُؤالُها

ولا يمنعه كونُه للبحتريِّ من أن ينتقدَه، وأن يستقصيَ في ذلك الحِجَاج على ضوءِ ما قاله الشعراءُ في ذلك، وما جرَت عليه تقاليدُهم، فيقول: «وهذا لفظٌ حسن، ومعنًى ليس بالجيِّد؛ لأنه قال: أدنى خُطاها كَلالُها؛ أي قارَب مِن خَطوِها الكَلالُ، وهذا كأنه لم يقف لسؤال الدِّيار التي تَعرِض لأن الوقوف يشفيه؛ وإنما وقَف لإعياء المَطِي.


والجيدُ قولُ عنترة:


فوقَفتُ فيها ناقتي وكأنَّها فَدَنٌ لِأقضِيَ حاجةَ المتلوِّمِ

فإنه لما أراد ذِكرَ الوقوف احتال بأنْ شبَّه ناقته بالفدَن، وهو القصر؛ ليُعلِم أنه لم يَقِفْها ليُريحَها.» وهذا نقدٌ دقيق يدلُّ على فطنةٍ وذوق. ولا يقف الناقدُ عند هذا الحد، بل يستعرض كلَّ الردود الممكِنة فيقول: «فإن قيل: إنما قال: أدنى خُطاها كَلالُها؛ ليُعلم أنه قصَد الدارَ من شُقةٍ بعيدة، قيل: العرب لا تقصد الديارَ للوقوف عليها، وإنما تجتاز بها، فإن كانت على سَنن الطريق قال الذي له أربٌ في الوقوف لصاحبه أو أصحابه: قِفْ، وقِفَا، وقِفُوا، وإن لم تكن على سَنن الطريق قال: عُوجَا، وعرِّجَا؛ وعُوجوا، كما قال امرُؤ القيس:


عُوجا على الطلَل المحيلِ لعلَّنا نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِزامِ

وإذا عرَّجوا كان التعريج أشقَّ على الرَّكْب والركاب؛ لأن لهما في الوقوف حيث انتهت راحة، والتعريج فيه زيادة في تعبها وكَلالها وإن قلَّت المسافة.» ونحن وإن كنَّا لا نوافق الآمديَّ دائمًا على أخذه الشعراءَ المحْدَثين؛ كأبي تمام والبحتري، بتقاليد القدماء في تفاصيل المعاني، إلا أننا لا نستطيع إلا أن نُقِرَّه على نقده هنا؛ فالعرب لم تَقُل بالسير إلى الديار عمدًا، بل قالت بالوقوف أو التعريج؛ لأن هذا هو المعقول الجميل، وأما السَّير إليها فمُبالغةٌ كاذبة سَما عنها ذوقُهم. ويأبى الآمديُّ — الناقد القوي الدقيق — إلَّا أن يَسُد على المعترض كلَّ وجه، فيقول بعد ذلك (١٧٨): «فمن زعم أن البحتريَّ بهذا القول كان قاصدًا للدار وغيرَ مجتاز، احتاج إلى دليلٍ من لفظ البيت يدلُّ عليه.» ويأبى ذَوق الناقد الذي يُحس بكل ما في هذا البيت من جمال إلا أن يُحاول التماس وجهٍ له، فيقول في النهاية (ص١٧٩): «ولم أقل: إنه خطأ، وإنما قلت: إن المعنى غيرُ جيد، فإن التمست العذر للبحتري قلنا: إنه وصف حقيقةَ أمر العيس عند الوصول إلى الدار، وهذا مذهبٌ من مذاهب العرب عامة في أن يصفوا الشيءَ على ما هو، وعلى ما شوهد، من غير اعتمادٍ لإغرابٍ ولا إبداع، وإنما وقع فيه مثلُ هذا الخلل لقلة التجوُّز.»


ويورد أبياتًا للبُحتري، وينتقد من بينها قولَه:


قِفا في مَغاني الدار نسأَلْ طُلولَها عن النفَر اللائين كانوا حُلولَها

قائلًا (ص١٧٩): «وهذا الابتداء ليس بالجيِّد من أجل قوله اللائين؛ لأنها لفظةٌ ليست بالحُلوة، وليست مشهورة.» ويختتم الفصل بقوله: «واجعلهما فيه مُتكافئَين من أجل براعة بيتَي البحتري الأوَّلين، وأنهما أجودُ من سائر أبيات أبي تمام.» هو يقول ذلك عن إيمان؛ لأنه لو كان يعتقد أن أبا تمام أشعرُ لقال ذلك، كما فعل في غيرِ موضع؛ ومن ذلك ما حكم به في باب «التسليم على الديار»؛ إذ أورد بيتَ أبي تمام:


دِمَنٌ ألمَّ بها فقال سَلامُ كم حلَّ عُقدةَ صبرِه الآلامُ!

وأورَد أبياتًا للبحتري أغلبُها جميلٌ جيد، ومع ذلك يختتم الباب بقوله: «وأبو تمام عندي في قوله: «دِمَنٌ ألمَّ بها فقال سلامُ» أشعرُ من البحتريِّ في سائر أبياته.» وهكذا يستمرُّ الناقد مُفضِّلًا هذا الشاعرَ في معنًى، ومفضلًا الثانيَ في معنًى آخَر، أو مُقررًا تكافؤهما بعد إظهارِ حسَنات كلٍّ وعيوبِه. وهذا ليس من التعصُّب في شيء، وإنما هو النقد الصحيح، والمنهج المستقيم، والذَّوق المرهَف.


(١٣-٣) دراسة مقارنة

ونحن وإن كنا لا نريد أن نستقصيَ هنا القول في منهج الموازنة عند الآمدي؛ لأن ذلك سيأتي في مكانه، إنما نودُّ أن نُشير إلى أن هذا الناقد العظيم لم ينظر إلى الموازنة نظرةَ مُفاضلةٍ وحُكمٍ لهذا وذاك فحسب، بل جعل منها قبل كل شيء دراسةً مقارنةً للشاعرَين. وكثيرًا ما تتَّسع المناقشةُ فتشمل كلَّ ما قاله العرب في معنًى من المعاني؛ يوضِّح مناهجَه وتفاصيله، بحيث نخرج من كتابه بمحصولٍ أدبي لا حدَّ لغِناه.


(١٣-٤) اقتصاده في الحكم

ولقد سبق أن رأيناه يرفض الحكم بأفضلية أيِّ الشاعرَين على الآخر أفضليةً مُطلقة. أين هذا مما نراه عند النُّقاد الأوائل، شعراء كانوا أم علماء، عندما كانوا يُفضلون هذا الشاعرَ أو ذلك لبيتٍ قاله. بل لقد بلغ من دقةِ هذا الرجل أن يتجنب نفسَ الألفاظ التي تُفيد الإطلاق؛ فنراه مثلًا (لوحة ٨٩) يعرض لما كانوا يُسمُّونه أحسنَ بيت لهذا الشاعر أو ذاك، فلا يُورِدُها على هذا النحو، بل على أن قائلها كان يعتزُّ بها، فيقول:


كان أبو تمام يقول: أنا آتٍ قولي:


نقِّلْ فؤادك حيث شئتَ من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ

كم مَنزلٍ في الأرض يألفُه الفتى وحنينُه أبدًا لأولِ منزلِ

كما كان أبو نُواس يقول: أنا آتٍ:


إذا امتَحَن الدنيا لبيبٌ تكشَّفَت لهُ عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ

وكان مُسلم بن الوليد يقول: أنا آتٍ:


يجود بالنفس إذْ ضنَّ الجَوادُ بها والجُود بالنفس أقصى غايةِ الجُودِ

وكما كان دِعبل يقول: أنا آتٍ:


لا تَعجَبي يا سَلْم من رجلٍ ضَحِك المشيبُ برأسِه فبكى

وهذا يدلُّ على روحٍ جديدة؛ روح عِلمية لم يعرفها النقدُ من قبل.


(١٣-٥) الموازنة سبيلٌ لتحديد الخصائص

وأوضحُ من ذلك في الدلالة أن نرى الناقد يتخذ من تلك الموازنة سبيلًا إلى تحديد خصائص كلٍّ من الشاعرَين، وتوضيح مَنْحاه، فنراه مثلًا يستقصي موقفَ الصاحب من الشاعر عند بكاء الديار، وينتهي إلى ملاحظة أن مذهبَ أبي تمامٍ في الغالب هو أن يجعل الصاحبَ لائمًا، بينما البحتري يجعل صاحبَه مُسعِدًا؛ أي: شريكًا في البكاء، وذلك مع استثناءاتٍ قليلة. وكذلك يُلاحظ انفراد البحتري بكثرة ذِكر الطيف، سواءٌ في أوائل قصائده، أو في أثناء الكلام، ويُعدِّد له أربعًا وعشرين قصيدةً يبتدئها بذِكر الطيف ابتداءً جميلًا، بينما أبو تمام ليس له في ذلك إلا القليل، وهكذا ممَّا سنراه بالتفصيل فيما بعدُ.


وكلُّ هذا ينتهي بنا إلى نتيجةٍ هامة، هي أن الآمدي ناقدٌ لا يَصدُر إلا عن ذوقه ومعرفته، وأن التعصب لا أثرَ له في أقواله، روحه روحٌ علمية؛ بمعنى أنه لا يحكم إلا على ما أمامه، وقد خلَت نفسُه من كل مَيلٍ أو هوًى، وهو يقصر أحكامه على التفاصيل التي يعرض لها، ويحاول دائمًا أن يُعلِّل ما يُدركه أولًا بذوقه. وأما أن في مقاييسه أو تعليلاته ما يُناقَش، فهذا أمرٌ آخر، وهو غير التعصب.


ولو أردنا أن ندلَّ على النزعة التي يجب أن تظلَّ بعيدةً عن كل نشاط روحي، سواءٌ في علم أو في أدب، لوجدناها عند رجلٍ كالصولي.


(١٣-٦) مقارنة بالصولي

في كتاب «الموشَّح في مآخذ العلماء على الشعراء»، لأبي عبد الله محمد بن عمران المرزباني، المتوفَّى سنة ٣٨٤ﻫ (طبع جمعية نشر الكتب العربية سنة ١٣٤٣ﻫ)، فصلان هامَّان بالنسبة لموضوعنا: أحدُهما عن أبي تمام (٣٠٣–٣٢٩ﻫ)، والآخرُ عن البحتري (٣٣٠–٣٤٣ﻫ)، والذي نقصد إليه منهما هو أقوالُ الصولي التي تدلُّ على ضعف الروح العلمية، بل وعلى التعصب ضدَّ البحتري، كما رأينا تعصُّبَه لأبي تمام، فنرى عندئذٍ الفارقَ الواضح بين منهج الإطلاق والتعصب، وبين منهج النقد الصحيح الذي أخذ الآمديُّ به نفسَه.


ففي ص٣٣٥ و٣٣٦ من الموشح نجد ما يأتي:


قال الصولي: وله (أي: للبحتري) يهجو المستعينَ من قصيدة:


أعاذِلَتي على أسماءَ ظلمًا وإجراءِ الدموع لها الغِزارِ؟

ثم تعليق الصولي: «وهذه الأبيات من أقبح الهجاء وأضعفِه لفظًا، وأسمَجِه معنًى، وهي أيضًا خارجةٌ عن طريقة هجاء الخلفاء والملوك المألوفة، وهي بهِجاء سِفْلة الناس ورَعاعِهم أشبه، بما جمعَت من سخافة اللفظ، وهلهلة النَّسج، والبُعد من الصواب. وكثير من أهل الأدب مَن ينكر خبثَ لسان عليِّ بن عباس الرومي، ويطعن عليه بكثرة هجائه، حتى جعلوه في ذلك أوحدَ لا نظير له، ويُضرِبون عن إضافة البحتري إليه وإلحاقِه به، مع إحسان ابنِ الرومي في إساءته وقصورِ البحتري عن مَداه فيه، وأنه لم يبلغه في دقَّة معانيه، وجودةِ ألفاظه، وبدائع اختراعاته، أعني في الهجاء خاصة؛ لأن البحتري قد هجا نحوًا من أربعين رئيسًا ممَّن مدحَهم، منهم خليفتان؛ وهما المنتصر والمستعين، وساق بعدهما الوزراءَ والرؤساء والقوَّاد ومَن جرى مَجراهم من جِلَّة الكُتاب والعمَّال ووجوهِ القضاة والكبراء، بعد أن مدَحهم وأخذ جوائزَهم. وحاله في ذلك تُنبئ عن سوء العهد، وخُبث الطريقة. وممَّا قَبح فيه أيضًا، وعدَل عن طريق الشعراء الممدوحة أني وجدتُه قد نقل نحوًا من عشرين قصيدةً من مدائحه لجماعةٍ توفَّر حظُّه منهم عليها إلى مدحِ غيرهم، وأماتَ أسماءَ مَن مدَحَهم أولًا، مع سَعة ذَرعِه بقول الشعر واقتدارِه على التوسُّع فيه. ولم أذكر حالَه في ذلك عن طريق التحامل، مع اعتقادي فضلَه وتقديمه، ولكنني أحببتُ أن أُبيِّن أمره لمن لعلَّه استتَر عنه. وحسبُنا الله ونعم الوكيل.»


ونحن لا نُنكر أن القصيدة المنقودة من أقبح الهجاء وأشدِّه إسفافًا، وأنها سوقيةٌ مرذولة، ويكفي للحكم عليها أن تراه يدعوَ فيها «المستعين» «بالمستعار»، ويُسمِّيَه «بالحمار»، وأنه يبول في ثياب المُلك! وما شاكلَ ذلك مما يَمجُّه كلُّ ذوق، ومتى كانت المعاني في هذه السماجة بدَت الألفاظ قبيحةً ضعيفة لتفاهتها. وإذن فنحن نُسلم للصولي بنقده لهذه القصيدة، ولكن الروح التي نلومها هي تلك التي أمْلَتْ أحكامَه الأخرى؛ كتفضيله ابن الرومي إطلاقًا في الهجاء على البحتري؛ فهذا إنْ صحَّ في جملته، فهو لا يمكن أن يكون استقصاءً، ولربما كانت للبحتري في ذلك أبياتٌ تَفضُل أبياتًا لابن الرومي في جزئيةٍ من الجزئيات، وعن إطلاقٍ كهذا يتورَّع الآمدي. ثم إنه يعيب البحتريَّ بأخلاقه وهجائه لمن سبَق أنْ مدَحَهم، ونقل قصائده من شخصٍ إلى شخص بعد تغيير أسماء الممدوحين. وهذه التُّهَم إن صحَّت — وبعضها صحيح — لا تدخل في النقد الفني؛ بدليل قول الصولي نفسِه في «أخبار أبي تمام» (ص١٧٢): «وقد ادَّعى قومٌ عليه الكفر (يعني على أبي تمام)، بل حقَّقوه وجعَلوا ذلك سببًا للطعن على شعره، وتقبيحِ حسَنِه. وما ظننتُ أنَّ كفرًا ينقص من شعر، ولا أن إيمانًا يَزيد فيه.» فكيف لا ينقص الكفرُ من شعر أبي تمام بينما ينقص انحطاطُ الخُلق شِعرَ البحتري؟! أمَا كان أجدرَ بالصولي أن يوحِّد حُكمه في الحالتَين، فينظرَ إلى الشعر في ذاته، أو يُضيف إلى الشعر قائلَه ويحكم عليهما معًا؟! وأمَّا أن يُفرق بين الحالتَين ويتناقضَ في أقواله، فهذا هو التعصُّب البغيض.


ومن البيِّن أن هذا غيرُ منهج الآمدي العلمي الحذِر الدقيق المنصِف.


وأوضحُ ما تكون روح الآمدي العلميةُ في طريقة تأليفه لكتابه، وتبويبه لأقسامه؛ فهي فريدةٌ بين الكتب العربية التي أُلِّفَت في الأدب. الآمديُّ رجلٌ يعرف كيف يدرس المسائلَ ويجمع المؤلفاتِ التي كُتِبَت في الموضوع، ثم هو فوق ذلك يعرف كيف يبني كتابه، لا بناءً منطقيًّا مقتسَرًا كما فعل رجلٌ كقُدامة، بل وَفْقًا لموضوعات دَرسِه. ولننظر في هذا؛ فهو يستحقُّ النظر، كما أنه سيُعِيننا على إدراك خُطتِه العامة ومنهجِه التفصيلي.


(١٤) منهج تأليف الكتاب وأجزاؤه

يبتدئ المؤلِّف باحتجاج الخَصمَين فيما يُشبه مُناظرةً بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتريِّ (١–٢١)، ويختتمُها بقوله: «تم احتجاج الخَصمين بحمد الله.» ثم يقول: «وأنا أبتدئ بذكرِ مساوئ الشاعرَين لأختتمَ بذِكر مَحاسنهما، وأذكر طرَفًا من سرقات أبي تمَّام، وإحالاته، وغلطِه، وساقطِ شعره، ومساوئِ البحتري فيما أخذه من معاني أبي تمام، وغير ذلك من غلطٍ في بعض معانيه، ثم أُوازن بين شِعرَيهما … وأُفرِد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه، وبابًا للأمثال.»


وإذن فمُحاجَّة الخَصمَين بمثابةِ مقدمةٍ نعرف منها أنَّ لأبي تمام أنصارًا، وأن للبحتريِّ أنصارًا، وأن كلًّا من الفريقين يُفضل صاحبَه على الآخَر، ويورِدُ في ذلك حُججَه كما يوردُ حُجج خَصمِه. أما الآمديُّ فمنهجه منهجٌ آخَر. وما له يقف عند تلك اللَّجاجة! إنه يريد أن يدرس الشاعرَين، وأن يتَّخذ من هذا الدرس سبيلًا للموازنة بينهما. وهو يتناول كلًّا منهما ليرى ما في شعره من مَغامز؛ وَفْقًا لما كان النقاد قد استقرُّوا عليه في ذلك الحين. ومن البيِّن أن المسائل التي كان الشعراء يُهاجَمون من أجلها هي: السرقات والأخطاء والعيوب. وهذا ما فعَله الآمديُّ مع الشاعرَين مبتدئًا بأبي تمام، ومُعقبًا بالبحتري. حتى إذا انتهى من مَساوئهما ذكَر محاسنهما مُجمَلة؛ وبذلك يَفرُغ من هذه الموازنة التي اعتمد فيها على المساوئ والمحاسن. وهذا المنهج — بلا ريب — خيرٌ من منهج المحاجَّة القائمِ على التعصب، ولكنه مع ذلك لا يُجْدي في المقارنة بين الشاعرَين؛ لأن المقارنة إنما تنعقد فيما يتفقانِ فيه؛ ومن ثَم كتَب المؤلف ذلك الجزء الهام الذي يبتدئ من ص١٧٤ إلى آخر الكتاب المطبوع، ثم يستمرُّ في المخطوط الذي ينتهي دون أن تنتهيَ المقارنة؛ لأن الكتاب ناقصٌ — كما قلنا سابقًا — والمقارنة التي بين أيدينا لا تشمل إلا على المطالع والخروج وجزءٍ من المدح. وأما بقية أغراض الشعر فغيرُ موجودة، مع أن المؤلف قد أشار إلى بعضِها — كما قلنا — مثل المراثي. والظاهر أن المؤلف قد رأى أن التشبيهات والأمثال لا تختصُّ بمعنًى من المعاني التي قارن بينها، ولا تدخل في غرضٍ بذاته من أغراض الشعر، بل تأتي — كما جرَت عادةُ الشعراء — في سياق المعاني والأغراض الأخرى؛ ولذلك خصَّهما ببابَين مُنفردَين. وهما أيضًا مفقودان.


ودراسة المؤلف في هذا الجزء أشبهُ بالمقارنة وتوضيح الخصائص منها بالموازنة وإصدارِ الأحكام، أو قُل: إنها من الأمرَين.


هذه هي خُطة الكتاب العامَّة، وهي خطةٌ كما نرى سليمةٌ واضحة؛ إذ يتناول المؤلفُ موضوعَ درسِه في مراحلَ ثلاث، لكلِّ مرحلة منهجُها: مُحاجَّة فمُوازنة فمُقارنة.


خطة الكتاب واضحة، ولكن توزيعه في أجزاء مضطرب؛ فياقوت قد نصَّ في معجم الأدباء (جزء ٣، ص٥٩) على أن الكتاب في عشَرة أجزاء، ولكننا لا نتبيَّن أساس التقسيم: أهو عدد الأوراق أم وحدة الموضوع؟ وآثارُ ذلك واضحة في الكتاب؛ فالمؤلف نفسُه قد وقف بالأجزاء عند مواضع لا ندري سرَّ اختياره لها. وننظر في تلك الأجزاء فنرى أن المؤلف قد جعل الجزءَ الأول مكوَّنًا من مُحاجَّة الخصمَين ثم سرقات أبي تمام. وهذا الجزء ينتهي عند ص٥٤ من الكتاب المطبوع؛ بدليل أن المؤلف في تلك الصفحة يستأنفُ الحديث بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبِه وسلم. قال أبو القاسم الحسنُ بن بِشرٍ الآمدي عفا الله عنه: قد ذكرتُ في الجزء الأول احتجاجَ كلِّ فرقة من أصحاب أبي تمام حبيبِ بن أوسٍ الطائيِّ وأبي عُبَادة الوليدِ بن عبد الله البُحتري على الأخرى في تفضيلِ أحدِهما على الآخَر، وقلتُ إني أبتدئ هذا البابَ بذكر معايبهما لأختم الكتاب بوصف محاسنهما، فأتبعتُ ذلك بما خرَّجتُه من سرقات أبي تمام، وبيَّضت آخرَ الجزء لأُلحِق به ما وجدتُه منها في دواوين الشعراء، فعلَّمت عليه، وما أجده بعد ذلك.» وهذا نصٌّ يُستفاد منه أنه قد أضاف سرقات أبي تمام (ص٢٣–٥٤) إلى احتجاج الخصمَين، وجعل منهما الجزءَ الأول. وهذا لا يتمشَّى مع منطق التأليف؛ إذ إن سرقات أبي تمام كان من المنتظر أن تُضاف إلى أخطائه وعيوبه، لا أن تُفصَل لتُضاف إلى فصل احتجاج الخصمين.


وفي ص١٠٥، يعود المؤلف فيستأنفُ من جديدٍ بقوله: «قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي: قد ذكرتُ في الجزء الثاني من الموازنة بين شعرِ حبيبٍ الطائي وشعر أبي عُبادة الوليد بن عبيد الله البحتري؛ خطأَ أبي تمام في الألفاظ والمعاني، وبيَّنتُ آخِرَ الجزء لأُلحِقَ به ما يمرُّ من ذلك في شعره، وأستدركَه من بعدُ في قصائده. وأنا أذكر في هذا الجزء الرَّذْلَ من ألفاظه، والساقطَ من معانيه، والقبيحَ من استعاراته، والمستكرَهَ المتعقد من نسجِه ونظمه.»


وإذن فالجزء الثاني هو ما يشتمل على أخطاء أبي تمام (٥٥–١٠٥) في الكتاب المطبوع، والجزء الثالث هو ما يشتمل على عيوب أبي تمام (ص١٠٥–١٢٢) من المطبوع.


وفي ص١٢٤، يستأنف المؤلف مرةً ثالثة فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبِه أجمعين. قال أبو القاسم الحسنُ بن بشر الآمدي: لما كنتُ خرجتُ مساوئَ أبي تمام وابتدأتُ بسرقاته، وجَب أن أبتدئ من مساوئ البحتريِّ بسرقاته. فأمَّا مساوئ البحتريِّ من غير السرقات، فقد دقَّقتُ أن أظفر له بشيءٍ يكون إزاء ما أخرَجتُه من مساوئ أبي تمام من سائر الأنواع، فلم أجد في شعره — لشدة تحرُّزه، وجودةِ طبعه، وتهذيبِه ألفاظَه — إلا أبياتًا يسيرةً أنا أذكرُها عند الفراغ من سرقاته، فإنْ مرَّ بي شيءٌ منها ألحقتُه بها إن شاء الله تعالى.»


والظاهر من هذا النصِّ أن المؤلف قد جمَع دراسته للبحتري في جزءٍ واحد، يذهب من ص١٢٤ إلى ص١٦٦، وفيه يدرس سرقاته، وبخاصةٍ ما كان منها من أبي تمام، ثم أخطاءه في الألفاظ والمعاني، وما عِيبَ عليه من أوجُه البديع واضطرابِ الأوزان. ويكون هذا الجزء الرابع، يُضمِّنه كلَّ انتقاداته على البُحتري، بينما رأيناه يوزع انتقاداته لأبي تمام في الثلاثة الأجزاء السابقة. وليس لهذا وجهٌ سوى أن ما وجده من المآخذ على أبي تمام كثير، بينما مآخذُه على البحتري محصورةٌ كما قال هو نفسُه، وإن كنَّا نرى أنه كان من الأصحِّ أن يجمع ما يختصُّ بكل شاعر في جزءٍ بمفرده، رغم طول هذا وقِصَر ذاك.


وفي ص١٦٦، يعود المؤلف فيستأنف: «قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي: «وأنا أذكرُ في هذا الجزء المعانيَ التي يتفق فيها الطائيَّان، فأُوازِنُ بين معنًى ومعنًى، وأقول أيُّهما أشعر».» ولكنه لا يفعل شيئًا من ذلك، بل يأخذ في الحديث عن النقد وأصوله في بضع صفحات، ثم يتحدث عن فضلِ أبي تمام وفضل البحتري، وكل هذا لا يَشغَل إلا ثمانيَ صفحات (من ص١٦٦–١٧٤)؛ حيث يستأنفُ من جديد: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وآلِه وسلَّم. وقد انتهيتُ الآن إلى الموازنة، وكان الأحسنُ أن أوازنَ بين البيتين …» وهنا يأخذ فعلًا في الموازنة التي تستمرُّ إلى آخر الجزء المطبوع والمخطوط معًا.


وننظر في هذه النصوص، فنرى أن الأجزاء الأربعة الأولى معروفةٌ لدينا على وجهٍ نظنُّه ثابتًا؛ إذ دلَّنَا المؤلفُ نفسُه عليها، وهي:

(١)ص١–٥٤ في المطبوع، ويشمل الخُصومةَ وسرقات أبي تمام.

(٢)ص٥٤–١٠٥ في المطبوع، وبه أخطاءُ أبي تمام.

(٣)ص١٠٥–١٢٤ في المطبوع، وبه عيوبُ أبي تمام.

(٤)ص١٢٤–١٦٦ في المطبوع، وهو خاصٌّ بالبحتري: سرقاته وأخطائه وعيوبه. وأما بعدَ هذه الأجزاء فالأمرُ مضطرب، وليس لدينا أيُّ نصٍّ يوجِّهنا بعد ذلك إلا ما نجده على غلاف الجزء المخطوط الذي يبتدئ بالموازنة، التي نُشر جزءٌ منها في المطبوع ابتداءً من ص١٧٤؛ إذ نجد «الكتاب الثامن من الموازنة»، فإذا صحَّ أن الموازنة تبتدئ من الجزء الثامن، وجب علينا أن نتساءل عن الأجزاء الخامس والسادس والسابع. والذي نراه للجواب على هذا السؤال هو أن الجزء الخامس هو ذلك الذي يذهب من ص١٦٦ إلى ص١٧٤. وقد كانت خُطة المؤلف الأصلية، كما رأينا، أن يذكر في هذا الموضع محاسنَ الشاعرَين بعد أن فرَغ من ذِكر مساوئهما، ولكنه عندما وصل إلى التنفيذ لم يجد ما يقوله بعد أن استنفَد خصومُ الشاعرَين في المحاجَّة ذِكرَ ما لكلٍّ منهما من فضل؛ ولهذا أخذ المؤلف في مَلْء هذا الجزء بالحديث عن النقد عامَّة، كما يراه هو، وكما يراه اليونانيون والهنود، مُردِفًا ذلك ببعض عباراتٍ عامة مختصَرة عن فضل أبي تمام وفضل البحتري. ويُعزز هذا الفرضَ ما نراه في منهج الآمدي بوجهٍ عام من تفاوُتٍ بين الخطة الأولى والخطة التي نفَّذها فعلًا.

وهو نفسُه يُنبِّهنا إلى ذلك عندما يقول ص١٧٤ عند بَدْئه للموازنة التفصيلية: «وكان الأحسن أن أوازنَ بين البيتين أو القطعتين إذا اتفَقتا في الوزن أو القافية وإعراب القافية، ولكن هذا لا يكاد يتَّفق مع اتفاق المعاني التي إليها المَقْصَد، وهي المرمى والغرَض.» وإذا ذكرنا أن خطته الأولى كانت المقارنةَ بين القصائد والمقطوعات إذا اتفقت في الوزن والقافية وإعراب القافية؛ وضَح لنا أنه قد غيَّر عند التنفيذ منهجَه، وإذن فلا غرابةَ في أن يختصر الحديثَ عن مساوئ الشاعرَين عندما لم يرَ داعيًا للإطالة، وأن يجعل من ذلك الباب رغم إيجازه جزءًا مفردًا. وفي استئنافه ص١٦٦ وص١٧٤ ما يدلُّ على ذلك. وهذا إذن هو الجزءُ الخامس.


وأما الجزءان السادس والسابع، فالذي نُرجحه هو أن أحدَهما عبارةٌ عن ردِّ الآمدي على القطربُّلي في كتابه عن أغلاط أبي تمام وخطئه. والآمديُّ نفسُه هو الذي يدعونا إلى اعتبار هذا الردِّ جزءًا من الموازنة يدخل في باب مَحاسن أبي تمام؛ إذ يقول: «وقد بيَّنتُ خطأه (خطأ القُطْربلي) فيما أنكره من الصواب في جزءٍ مفرد — إن أحب القارئ أن يجعله من جملةِ هذا الكتاب ويصِلَه بأجزائه فعَل ذلك إن شاء الله تعالى — فالذي تضمَّنَه يدخل في محاسن أبي تمام الذي ذكرتُ أني أختتم كتابي هذا بها وبمحاسن البحتري» (ص٥٦).


وأما الجزء السابع فالأمر فيه أشق، وإن كنا نميل إلى الاعتقاد بأنه كان يشتمل على مناقشة المؤلف لمعاني «هل» و«قد» بمناسبة بيت أبي تمام:


رضيتُ وهل أرضى إذا كان مُسخطي من الأمر ما فيه رِضَا مَن له الأمرُ؟

وإلى هذا الجزء يشير المؤلف نفسُه بقوله (ص٧٨ مطبوع): «وقد استقصيتُ القولَ في هذا البيت وما ذكَره النَّحْويون وسيبويه وغيرُه في معنى قد وهل، ولخَّصتُه في جزءٍ مفرد.» وتعبيره (بجزء مفرد) يدلُّ على أنه يعتبره جزءًا من الموازنة لا كتابًا منفصلًا، وهو لم يكتبه إلا تعليقًا على بيتٍ لأبي تمام؛ أحد أطراف الموازنة، كما أنَّ أحدًا من أصحاب التراجم أو الفهارس لم يذكر هذا (الجزء) ككتابٍ للمؤلف. وإذن فمن المعقول أن نعتبرَه جزءًا يُقابل السابع مثلًا، وإن كنا لا نستطيع أن نجزم بمكانه في التسلسل.


على هذا النحو نستطيع أن نُسلِّم بأن عبارة «الكتاب الثامن» الموجودةَ على غلاف المخطوط الذي يبتدئ بالموازنة التفصيلية صحيحة.


وأما الجزءان التاسع والعاشر، فنظن أنهما كانا يشملان بابَي التشبيه والأمثال اللذَين تحدث عنهما المؤلف، وبذلك تكون إشارة «ياقوت» إلى أن الكتاب في عشَرة أجزاء صحيحة.


ونُلخص الأجزاء الستة الأخيرة:

(٥)من ص١٦٦ إلى ١٧٤ من الكتاب المطبوع، وهو باب محاسن الشاعرين.

(٦)دراسة الآمدي لمعاني «هل» و«قد».

(٧)رد الآمديِّ على القُطربلي.

(٨)الموازنة التفصيلية تبدأ من ص١٩٤ من الكتاب المطبوع، وتستمرُّ في المخطوط دون أن تنتهي. وهذه تقع فيما يقرب من ٢٠٠ صفحة من حجم الكتاب المطبوع.

(٩)باب التشبيه، وهو مفقود.

(١٠)باب الأمثال، وهو مفقود أيضًا.

والذي نريد أن نَلفِت إليه النظرَ هو أن الكتاب — كما وصل إلينا — مستقيمٌ لا نقص فيه غير البقية الضائعة من آخره؛ وذلك لأن ردَّ الآمدي على القطربلي ودراسته لمعاني «قد» و«هل» لا دخل لهما بصُلب الكتاب.


وإنه وإن يكن التقسيم إلى أجزاء غيرَ محكَم ولا واضح؛ لأنه لا يستند إلى أساسٍ حتى ولا من عدد الورقات — بدليل أنها تتفاوتُ من مائتي صفحة أو يزيد (جزء الموازنة التفصيلية) إلى ثماني صفحات (الجزء الخاص بتفضيل الشاعرَين) — أقول: إنه برغم ذلك يتَّضح لنا منهج المؤلف في بناء كتابه بناءً محكمًا. وأما مسألة الأجزاء فمسألةٌ شكلية لا تؤثر على سياق الحديث في شيء. ونحن لم نقف عندها إلا لتوضيح إشارة ياقوت.


•••


هذا هو الآمديُّ الناقد، بحَثْنا في منهجه وروحه وثقافته، وعلاقته بالنقَّاد السابقين له، وحدَّدنا أهميتَه من الناحية التاريخية، وفصَّلنا القول في كتابه الهام. وأما موضوعات نقدِه والنظريات التي نستطيع أن نستخلِصَها من دراسته لهذين الشاعرين ومن مقارنته لهما بغيرهما من الشعراء القدماء والمعاصرين؛ فذلك ما سوف نراه في الجزء الثاني من بحثنا عندما نَعرِض للسرقات والموازنة والمقاييس التي انتهى إليها النقاد. وقد أصبح النقدُ منهجيًّا — كما رأينا عند الآمدي، وكما سنرى عند علي بن عبد العزيز الجُرجاني. فهذان الرجلان — على تفاوُتٍ في النسَب — هما ناقدا العرب اللذان لا نظير لهما.


وقبل الكلام على الجُرجاني، لا بدَّ من استعراض الخصومة التي نشأَت حول المتنبي، والتمييزِ بين ما فيها من عناصرَ شخصية وعناصر فنِّية؛ لنستطيع أن نفهمَ موقفَ صاحب الوساطة منها. وكتابه الهامُّ لم يُكتب إلا بعدَ أن اتضح الموقف وهدَأَت حِدةُ النقاد بموت المتنبي. وهو في هذا كلِّه كالموازنة؛ ومن ثَم عَظُمَت قيمة هذين الكتابين. ولئن كان كتاب الجرجاني (تُوفِّي سنة ٣٦٦ﻫ) قد كُتب في زمنٍ قريب من الخصومة (تُوفي المتنبي سنة ٣٥٥ﻫ)، إلا أن هذا القاضيَ النبيلَ قد وجد في هدوء طبعه، وسلامة حكمه، وخبرته بالعدل، ما أمكنه من أن ينظر في شعر الشاعر وآراء النقاد فيه نظرةً نزيهة، نجَتْ بدفاعه عن المتنبي من كلِّ تعصُّب أو مُغالطة.


١  الموازنة، ص١٧٦.

٢  راجِع كلَّ هذه الحقائق وتفاصيلها في الموازنة، من ص١٧٦–١٨٠.

٣  وفي رواية: «قيد الشِّبر.»

٤  قارن قدامة، ص٦٠.

٥  نقد الشعر، ص٧٢.

٦  ص٦٩ من كتابه.

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...