الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

الموضوعـاتية عند بورديـو

-محمد ديلان
الموضوعـاتية عند بورديـو

يلاحظ أن أقوى نقد تعرضت له المنهجية الإثنوغرافية يكمن في مهاجمة تيار ما بعد الحداثة في الأنثروبولوجيا لتعبير "الملاحظة-المشاركة" وشكوكهم حول الاعتماد على هذه الوسيلة التي جرّدت الباحث من أي موضوعية في ممارسة بحثه وتحليلاته الميدانية.

البديل الذي طرحه "بورديو" هو منهج "الموضوعاتية بالمشاركة" Participant Objectivation، الذي يعني: كشف الآثار المتحيّزة التي تظهر في تحليلات الباحثين الاثنوغرافيين......ذكر ذلك "بورديو" في كتابه الموسوم "الإنسان الأكاديمي" Academics Homo ...... في هذا الكتاب ركّز "بورديو" على تحليل الإنجاز الثقافي للباحثين الفرنسيين من منظور الموضوعاتية على اعتبار أن هؤلاء الباحثين ينتمون إلى ثقافة معينة شكلّت على نحو ما خلفياتهم اللاشعورية والذي ظهر واضحاً في بحوثهم الوصفية والتحليلية.

ماذا تعني الموضوعاتية بالمشاركة؟...... ببساطة هي: تعمّق الباحث في تجاربه الاجتماعية السابقة لتحصيله العلمي وانعكاساتها اللاشعورية الذاتية على تفسيراته لما يدرس من جماعات وظواهر. أي أن الباحث يمكن أن يستفيد من تجاربه الشخصية السابقة وذلك بإخضاعها للضبط المنهجي على أساس أن الماضي الاجتماعي للباحث يمكن أن يولد منافع ابستمولوجية وظاهراتية للبحوث الميدانية.

إذن هو سلوك الباحث الاثنوغرافي في ممارسته للبحث الميداني، وهو سلوك يتقيد بوعي الباحث في عدم ممارسة اسقاطاته المعرفية المحلية الذاتية على سلوك وأفعال الآخرين الذين يدرسهم..... إنّ وعي الباحث بمشكلة "الإسقاطات السلوكية" تجعل منه على دراية بحيادية الممارسة البحثية...... كذلك أن الباحث يمكن أن يستفيد من خبرته في الحياة في معرفة طبائع السلوك وحقيقة الأفعال بالنسبة للمبحوث..... وهذه مسألة مهمة لأنها تخرج بنتائج أكثر صرامة وعلمية عن حقائق الظاهرة المدروسة..... بعيداً عن سياسات الإغراق في بحور التصنيفات والتشوهات العلمية التي تزخر بها معظم البحوث الأكاديمية.......

فالباحث مطالب هنا بمراقبة نفسه..... تحليل شخصية الباحث الاثنوغرافي نفسه..... الكشف بجلاء عن مضمون العلاقة الذاتية بالمبحوث..... هنا تواجه الموضوعاتية بعض التحديات ولكن لا بأس..... لنرى "بورديو" كيف يوسّع من مجال "الموضوعاتية"..... فهو يعتقد أن الذي يجب أن يخضع للموضوعاتية أيضاً –وهذا هو الأساس- العالَم الاجتماعي الذي صنع كلاً من الباحث الأنثروبولوجي وحقل الأنثروبولوجيا...... أي أن يتم التركيز على عالم تخصصهم المهني وهو الحقل الأنثروبولوجي الذي يعملون فيه بما ينطوي عليه من تقاليد وخصوصيات وعادات فكرية......

"بورديو" يدعو إلى تحرير الفرد الانثروبولوجي من التدخلات الخاصة والعقبات والانحيازات اللاشعورية في البنية التنظيمية للتخصص..... كذلك يدعو الى عدم إغفال القناعات والتفضيلات الشخصية للباحث الانثروبولوجي لأنها ليست مسألة تتعلق بشخصياتهم فقط وإنما هذه أمور تحتسب من خلالها الآثار العامة على موضوعية العلم نفسه كما يمثله الباحثون.....

فالموضوعاتية تهدف إلى تحقيق آثار علمية حقيقية كما إن عملية "الإصلاح الموضوعاتي" تتطلب منا مراجعة الكثير من الكتابات الاثنوغرافية المتحيزة وغير العقلانية التي حبلت بها كتابات الانثروبولوجيين الأوائل...... إذن الموضوعاتية هنا تحرير الكتابات الانثروبولوجية وجعلها أكثر تجرّداً في الفكر والممارسة، وهي بهذا المعنى تعني تحليل شخصيات الباحثين من خلال تحليل كتاباتهم عن طريق التحليل الدقيق والموضوعي لآرائهم وخلفياتهم الثقافية..... وبمعنى أخر: أن الموضوعاتية تعني ممارسة الباحث الاثنوغرافي في مراقبة نفسه ومعرفة نفسه بحيث عليه أن يمتلك المعرفة الملائمة عن تجاربه وخبراته الأساسية في الحياة..... لماذا؟......

لأن الباحث الذي يجهل معرفة نفسه ووضعه الاجتماعي سيكون عاجزاً –لا ريب- عن معرفة الآخرين..... فهو حتماً سينطلق من أمور مسبّقة ومسلمات ومسائل قبلية تفرض عليه نوعية أن يمارس في تحليله أفضلية للانطلاق هو يعتقدها، متخذاً عبر ذلك نموذجاً منطقياً محسوماً سلفاً...... إذن على الباحث أن تكون لديه رؤية شاملة لاكتساب مؤهلات الفهم الإنساني العالمي، وأن كل مجتمع أو شعب يتمتع برؤية منطقية وأصناف من الفكر مختلفة بحيث لا توجد أفضلية لرؤية على أخرى فكلها نماذج تعبر عن حقيقة الحياة الاجتماعية/الإنسانية.....

"بورديو" لم يسلم أحداً من نقده، فهذا "جيمس فريزر" مؤلف كتاب الغصن الذهبي Golden Bough نعته "بورديو" بالعرقية لتشويهه صورة الشعوب الأخرى غير الغريبة، فقد جرّدها "فريزر" من العقل والمنطق..... وعلى منواله أيضاً "ليفي برول" صاحب البحوث المتحيّزة بتعبير "بورديو".... وهذه البحوث بحاجة إلى تصحيح لكثير مما ورد فيها من أخطاء.....

ويرى "بورديو" أنه حتى ظاهرة الاختيار الموضوعي للدراسة كانت خاضعة لأهواء الإنتقائية التي كانت مثقلة كرواسب داخل المنظومة الفكرية التي صقل عليها الباحث الاجتماعي..... لماذا يفضّل البريطانيون المجتمعات الأفريقية ميداناً لدراستهم بينما يعكف الأميركيون على معرفة ودراسة المجتمعات الهندية (الهنود الحمر)؟...... نجد قليلاً فقط من اختار استراليا أو الاوقيانوس مكاناً للبحث والتنقيب الانثروبولوجي ولكن أيضاً هذه الدراسات لم تسلم من "الهشاشة" المنهجية وابتعادها عن عمليات الضبط المنهجي والسوسيولوجي.......

ويؤكد "بورديو" أن من أصعب الأشياء التي تواجه الباحثين هي: "فهم ما يلاحظون من أنشطة".... بمعنى: أن الصعوبة تكمن في عدم معرفة كيفية المواءمة بين تجربة الباحث العادية وبين حقيقة ممارسته غير العادية من خلال تجريد نفسه عن نفسه.....

هناك صراع في فهم وتفهّم التجربة الاجتماعية طرفيها هما: حياة الباحث العادية وقبل ممارسة التخصص العلمي الدقيق، والطرف الآخر: التجربة اللاحقة على التخصص العلمي..... بالتأكيد أن "بورديو" لا يريد إلغاء عمليات النقد السوسيولوجي النابعة من أفكار أكاديمية صرفة.... ولكنه يدعو إلى تأسيس تحرر في الفكر ينوء عن خرافة التحكم الموضوعي الأكاديمي بحيث ألاّ يسطر على أذهان الباحثين في تحليلهم وتفسيرهم للظاهرة الاجتماعية......

فالباحث مطالب –حسب بورديو- بالاحتفاظ بمنطق الممارسة الناتج من التجارب الاجتماعية المختلفة..... هنا الأستاذ الفرنسي يريد أن يقول: علينا التحرر من كل أفكار أو آراء ضلت عالقة بأذهاننا من مواقف مسبقة...... هذه خطوة أولى نحو مأسسة تجربة منهجية كفيلة بإعطاء نتائج أكثر ايجابية في التعامل مع الواقع الاجتماعي.....

"بورديو" يقول: على الباحث أن يسترشد بتجارب الطفولة السابقة ويستعين بها في فهم الراهن مما يبحث من ممارسات إلى جانب استثمارها لحماية نفسه من الوقوع في فخ التأويل العفوي الذي قد يتناقض والتحليل الموضوعاتي، ولتجنب ما قد يطرحه المخبر من معلومات غير دقيقة تحتاج إلى تمحيص وتصحيح.

ولكن "بورديو" عندما درس جماعات القبائل الجزائرية فوجئ بالتحولات التي تعرضت لها العشائر والقبائل والأقاليم والطبقات والأمم هناك بعيداً عن الصور الجامدة وغير المقنعة التي طرحها الباحثون الفرنسيون عنها في زمن مضى. إلى جانب ملاحظاته عن الشرف هناك وتأكيده ضرورة فهمه ليس عبر القواعد الشكلية الموضوعة لمسايرته بل ومن خلال الإحساس به كقوة تتفاعل مع الحس والعاطفة لدى السكان الأهليين......"أ.د. قيس النوري..... اتجاهات انثروبولوجية معاصرة..."

لنرتب أفكار "بورديو":

1-يرى أن الملاحظة بالمشاركة تعاني من "عيب منهجي"....السبب: أن الباحث لا يسلم من دوامة "التلفيق التحليلي" الصادر من قناعات شخصية/علمية/ أكاديمية/ عرقية/ دينية مسبقة..... فتجده –أي الباحث- يعمل على تفعيل إسقاطاته المعرفية على تحليلاته السوسيولوجية بما يتلاءم مع توجهاته الفكرية والتخصصية......هذه المشكلة تواجه الباحث الاجتماعي سواء كان جزءاً من مجتمع الدراسة أو غريباً عنه..... في الحالتين تفتقر هذه الوسيلة كأداة لتحقيق الضبطية المنهجية في عمليات الجمع والتحليل......

2-الموضوعاتية بالمشاركة أعمق منهجياً من الملاحظة بالمشاركة..... ولو دققنا النظر في مفهوم الموضوعاتية نجد أنه يحمل خاصية التشارك عن طريق الملاحظة وهذا يعني أن الإضافة المنهجية في الموضوعاتية تكمن في مراقبة الباحث لنفسه وتجريده لها من أي أملاءات مسبقة قد تؤدي إلى تشويه الصورة الاثنوغرافية الحية أو المعلومة الميدانية المستقاة من الواقع الاجتماعي...... هذا الحذر المنهجي ضروري عند "بورديو" لتنزيه البحث من أي شوائب يمكن أن تلحق به.

3-أن منهج الموضوعاتية بالمشاركة لا يحقق غاية العمل الأنثروبولوجي بتحقيق تجريد سليم للباحث وإنما مدار الاستعانة البحثية تكمن في تحصيل نتائج أكثر واقعية وعلمية من وسائل الضبط المنهجية الأخرى....

4-إن الموضوعاتية البورديوية تجعل آفاق النقد البحثي تطال حتى موضوعات دراسية كانت تعد مرجعيات للعلم الاجتماعي والانثروبولوجي في محاولة لاستئصال الأفكار المتحيّزة أو "الغرضية" التي كانت تمثل أهداف مشرعنة من قبل سياسات التخلف والاستيلاء......

5-الاستفادة من الماضي الشخصي للفرد الاجتماعي وتجاربه في الحياة وخبراته وأيام الطفولة وغيرها واستثمارها بطريقة غير منحازة في تعليل الظواهر الاجتماعية وتحليلها وفق أسس تتخذ من البناء والأمانة البحثية منطلقات لتجاوز الذاتية في التفسير الغائي والتي تميّز أغلب البحوث الاجتماعية راهناً.......

6-كذلك أن الموضوعاتية لا ترفض الخبرة التخصصية في العمل الأكاديمي وإنما تعلل استياءها فقط عندما يكون التخصص عاملاً في "تلاشي" مسببات الحرية البحثية أو التحليلية بناء على مبادئ تسير وفقها البحوث الأكاديمية..... بمعنى: أن العمل الأكاديمي كثيرا ما يعمل على تضييق الباحث وفرض مجموعة مسلمات أشبه بعملية "التداعي الاستمراري" الفض والمتكرر التي تسير عليه تلك البحوث.......

7-إن اكتشاف الباحث لذاته ومعرفته لنفسه مسألة ضرورية لعدم الوقوع في فخف التأويلات العفوية أو المقصودة.... وكلاهما يتمتعان بعيب أو قصور في عملية التأويل والتي تمثل محاولة من جانب الباحث في استخراج المقاصدية المفهومية للظاهرة الاجتماعية........

إذن الموضوعاتية: ملاحظة سلوك الباحث الاجتماعي ونقده أثناء عمليات التحليل والتفسير فضلاً عن سلوك المبحوث وهذا هو المائز الحقيقي بين مستوى "الملاحظة-المشاركة" و"الموضوعاتية-المشاركة" التي دعا اليها "بورديو" وحاول تطبيقها كمنهج جديد في مجال العلوم الاجتماعية........

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...