الاثنين، 5 سبتمبر 2011

التداولية والنظرية النقدية"

"التداولية والنظرية النقدية"




د. معن الطائي




تهدف هذه الدارسة الى بحث امكانية توظيف التداولية منهجا للتحليل النقدي للنص الادبي يقوم الى جانب المناهج النظرية النقدية التي تتخذ من النظريات اللسانية الحديثة منطلقا لمرجعيتها المعرفية والاجرائية في تحليلها للنص.كما وتسعى الى الكشف عن الامكانيات التأويلية التي من الممكن ان يتيحها لنا التحليل التداولي ومدى فاعليته في اضاءة مستويات جديدة من النص الادبي لم تتمكن الدراسات الاسلوبية والشكلية والبنيوية من الوصول اليها ، ثم تحديد الفضاء المعرفي الذي من الممكن ان تكتسب فيه التداولية اهمية خاصة داخل النظرية النقدية لما يعرف بما بعد- البنيوية.

لقد كان للتطورات الحاصلة في حقل الدراسات اللسانية اثراً حاسماً على تبلور ما يعرف الان بالنظرية النقدية الحديثه. حيث حدثت القطيعة مع المناهج النقدية التقليدية مثل الرومانسية والانطباعية والطبيعية بدعوى تجاهلها لموضوعها النقدي، وهو النص الادبي، وانشغالها بعناصر واشكاليات خارج نصيه مثل السيرة الذاتية و الدراسات النفسية والاجتماعية.

لقد كان الحدث الاهم تاريخياً هو نشر دراسات العالم اللساني دي سوسير عام ( 1916) تحت عنوان (محاضرات في اللسانيات العامه) والتي ساهمت في وضع اسس نظرية جديدة للدراسات اللسانية، ثم توالى في الثلث الاول من القرن العشرين ظهور مدارس نقدية تعتمد على دراسة العناصر الداخلية للنص الادبي واقصاء اي حقائق خارجية. أهتمت تلك المدارس بالمستوى اللساني للنص على اعتبار انه المستوى الوحيد الذي من الممكن اخضاعه لشروط الدراسة العلمية المنهجية التحليلية والوصول الى نتائج يمكن التحقق منها علمياً واجرائياً والركون الى مصداقيتها. اذ ظهرت دراسات المنظرون الروس مثل (فكتور شكلوفسكي) و (بوريس اخنباوم) و (يوري تاينانوف) فشكلت اساس المدرسة الشكلية الروسية في الربع الاول من القرن الماضي. وفي الحقبة نفسها ظهر (النقد الجديد) في امريكا على يد عدد من النقاد الاكادميين امثال (كلينث بروك) و (روبرت مارن) و (جون بورسر) و (الن تيت). وقد كان لمؤلفات الناقد الانكليزي اي.أ. رتشاردز اثراً كبيراً على نقاد مدرسة النقد الجديد او ما يعرف بالنقد النصوصي، خصوصاً كتابه (معنى المعنى) المنشور عام (1922) بالاشتراك مع الناقد سي. كي.اوغدن. وشكلت حلقة براغ نقطة تحول هامة عن الاسلوبية والشكلية الروسيه. فقد انتقلت دراسات هذه الحلقة من مستوى الجملة او الوحدات الصغرى للمظهر الاسلوبي الفردي الى مستوى البنية الكلية التي تتضمن مستوياته التركيبية والصوتية و الدلالية.

وابرز ما اتفقت عليه تلك المدارس النقدية هو التركيز على دراسة (الادبية)، وهي مجموعة العناصر الشكلية الداخلية التي تجعل من نص معين نصاً ادبياً. وقد شاع مصطلح (الشعرية) بدلاً من الادبية بتأثير مباشر من كتابات (رومان ياكبسون)، وعرفت دراسته (بعلم الاسلوب الشعري ) التي تسعى الى اكتشاف قوانين النصوص الادبية على نحو عام (1). وخلال اكثر من نصف قرن من الزمان تزايدت الاتجاهات النقدية ذات المرجعيات الاسلوبية والشكلية والبنيوية وتراكم عدد كبير من الدراسات المهمة التي اخذت تشكل ارثاً علمياً رسم حدود واضحة لمقاربات نصوصية تحليلية وطرح اشكاليات جديدة دفعت بالجدل النقدي نحو درجات اعلى من العلمية والموضوعية. ولعل من ابرز الاسماء التي حققت لنفسها حضوراً متميزاً في هذا المضمار ، بالاضافه الى الاسماء المذكوره سابقاً، (جان كوهين) و (ميشيل ريفارتير) و (ستانلي فيش) و (رولان بارت) و (تودوروف) و (يوري لوتمان) و (ماكاروفسكي) و (جوليا كريستيفا).

وعلى الصعيد النظري استثمرت المدارس النقدية الحديثة التطورات الحاصلة على دراسة الجملة اللسانية بمستوياتها التركيبية والصوتية والدلالية. فقد تجاوزت الدراسات اللسانية الحديثة، من دي سوسير و بلومفيد الى تشومسكي، دراسة (المعنى) في الجملة بسبب عدم امكانية اخضاعه للدراسة العلمية الموضوعية كباقي العناصر الشكلية التركيبية للجملة، كما يقول تشومسكي(2). وعلى غرار تقسيم دي سوسير، اللساني الشهير، اللغة الى مستويين هما لغة ((Lang و كلام ( (Parl، قسم تشومسكي الدرس اللساني الى القدرة ((Competence والاداء ((Performance. وتمحورات دراساته العلمية حول المظهرالمادي للجملة ودراسة اللغة دراسة علمية بحته تتميز بالتجريد الشديد وتحليل المستويات التركيبية وكذلك اقسام الدماغ البشري التي تتدخل في عمليات فهم وانتاج الفعاليات اللسانية باعتبارها جزءاً من (القدرة). والتزم البنيويون الأمريكيون بهذا المستوى من الدراسات اللسانية وهو ما يعرف (بعلم القواعد التوليدية).

ومع ان معظم العلماء اللسانين قد اكدوا على دراسة المستويات المحسوسة المتجسده في اللغة، الا انهم لم يقصوا (المعنى) كمستوى متحقق من مستويات الجملة. فقد اشار اليه دي سوسير في دراساته، وجعله الفيلسوف الامريكي بيرس (1839-1914) مدخلاً لدراسته (علم العلامات)، وكذلك فعل العالم (بنفنست). وأقر تشومسكي بوجود مستويين متمايزين للجملة وهما (البنية السطحية) او الظاهرة التي تشير الى المستوى التركيبي او النحوي لها و(البنية العميقة) والتي ترتبط بالمعنى والدلالة. وكمحصلة للدرس اللساني النظري الحديث طرأ تحول جوهري على النظر الى (اللغة) وآليات دراستها وتحليلها. فأصبحت (اللغة) عند سوسير ولغويي براغ والبنائيين الامريكيين (هي نظام من العلاقات، او بمعني ادق مجموعة من الانظمة المترابطة فيما بينها، اذ لا تتمتع العناصر، الا صوات والكلمات، بأية قيمة مستقلة خارج علاقات التعارض او الترادف التي تربطها بالعناصر الاخرى، فيظهر هذه النظام النحوي المضمر في كل لغة من اللغات وعند كل المتكلمين بهذه اللغة) (3).

ومع سعي المدارس النقدية الحديثة في مطلع القرن الماضي نحو مقاربة علمية ومنهجية للنص الادبي، تحول الاهتمام الى دراسة النص باعتباره محصلة نظام من العلاقات المتشكلة في بنية ذات طبيعة شمولية. وقد اتفقت هذه المدارس ضمنياً على ان ( المادة الوحيدة التي يطرحها النص الشعري للتحليل هي لغته. هي وجوده الفيزيائي المباشر على الصفحة او في الفضاء الصوتي، ومن هنا كانت الامكانية الوحيدة لتحليل الشعريه في النص هي اكتناه طبيعة الماده الصوتية و الدلالية، اي نظام العلامات، وهي جسده وكينونته الناضجة والتي هي شروط وجوده ايضا)ً(4).

وتميزت مقاربة الدراسات التي قام بها نقاد المدرسه الشكلية والروسية للنصوص الادبية باهمال (المعنى) على غرار ما قامت به الدراسات اللسانيه، مثل تحليل رائد المدرسه الشكلية (شكلوفسكي) لنصوص ادبية متنوعة ومتباينة (كدون كيشوت) و (هاملت) ورواية الكاتب الانجليزي لورنس ستيرن (ترسترام شاندي)(5). واجرائياً اهتمت المدرسة الشكلية بدراسة ما يعرف (بالأنزياح الأسلوبي)، وهو عبارة عن خرق لمعايير الأستخدام الدلالي للكلمات التي ترد في لغة الحديث اليومي. ويؤكد علماء النحوعدم جواز حدوث الأنزياح على مستوى قواعدي او نحوي لانه خروج على المعيارية النحوية للغة. أما الأنزياح الدلالي فهو كسر شبكة العلاقات التقليدية التي تنشأ بين الكلمات خلال عملية استخدامها العادي ووضعها ضمن شبكة علاقات جديدة خاصة بالنص الادبي. (وقد حدده جان كوهين بانه انحراف عن معيار، هو قانون اللغة الاعتيادية او المألوف، يحمل قيمه جماليه... فهو خطأ ولكنه كما يقول برونو"خطأ مقصود")(6). ان المدرسة الشكلية بتأكيدها على مفهوم (الانزياح) والقيمة الجمالية، تشتغل على المستوى الدلالي من مستويات التحليل اللساني للجمله وليس النحوي أو التركيبي، ومنظورها الدلالي للكلمات يقوم على اساس انها علامات لا تعني شيئاً بذاتها وليس لها اهمية او دلالة خارج حدود شكبه العلاقات الداخلية التي تنشأ بينها داخل الجملة او النص الادبي.

وظل مفهوم الدراسات الاسلوبية والشكلية مقتصراً على تحليل المميزات الاسلوبية للنص عن طريق دراسة الجملة. وحتى دراسات الناقد (ميشيل ريفاريتر) الاسلوبية الحديثة في سيميائيات الشعر لم تتجاوز المظاهر التركيبية و النحوية والدلالية للنص الادبي.

ان ظهور مدرسة براغ وطرح ياكبسون لمفهوم (الشعرية) قد ساعد على الانتقال من مستوى الجملة الى مستوى البنية، فبينما اقتصرت الاسلوبية والتشكلية على المستوى الفردي للتجربة الادبية والبعد الدلالي متداخلاً مع التأثير الانفعالي في نفس المتلقي، قامت حلقة براغ، والدراسات البنيوية من بعدها، بالانتقال الى المستوى النحوي العلائقي والنزوع نحو البنية كنظام شمولي من العلاقات الداخلية بين عناصر النص الادبي، وبذلك ظهرت سلسلة من الدراسات التي تبحث في المستوى الهيكلي العام لنوع معين من النصوص الادبيه، ولعل اوضح مثال على ذلك النوع من النشاط النقدي النظري الدراسات النقدية السردية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي.

فقد وجد نقاد السردية، وهي فرع من فروع الشعرية، ان هناك تماثلاً بنيويا بين عناصر النص وعناصر الجملة على المستوى التركيبي(7). وقاموا بدراسة (الخطاب السردي)، وهو يقوم على اقصاء اي مستوى من مستويات (المعنى) او المضمون وتحليل هيكلية البناء السردي شكلياً والكشف عن طبيعة العلاقات الداخلية التي تربط بين عناصر السرد، فاطلق على هذه النوع من الدراسات (بالسردية اللسانية) و أهم ممثليه جيرار جينيه و رولان بارت و تودوروف. وقد ظهر حقل مقابل من الدراسات السردية حاول اعادة الاعتبار الى اهمية الدلالة والمعنى بالاضافة الى التحليل النبائي، ويعرف هذا الاتجاه (بالسردية السيميائية)، و يهتم هذا التيار (بسردية الخطاب، من خلال عنايته بدلالاته، قاصداً الوقوف على البنى العميقه التي تتحكم به، ومتجاوزاً المستوى اللساني المباشر. ويهدف هذا التيار الى تقديم قواعد وظائفيه للسرد. ومن ابرز اقطاب هذا الاتجاه (فلاديمير بروب) و (كلود بريمون) و(غريماس)(8). وبذلك يكون من اهم اهداف الدراسات السردية بشقيها، البنيوي و السيميائي، هو الكشف عن مجموعة القوانين العامة التي تتحكم بانتاج الجملة وهي ما يعرف (بقواعد اللغة).

وبذلك تكون المدرسة الاسلوبية والشكلية والبنيوية قد تحركت وبشكل متناظر مع اتجاهات البحث اللساني بين المستويات المختلفة للجملة التركيبي والصوتي والدلالي. غير ان كل تلك المناهج اللسانية والنقدية لم تستطع تجنب الأشكالية الأهم في الحديث عن علاقة الدلالة بالسياق.

لقد اقصت الدراسات الحديثة اللسانية والنقدية السياق من دراستها لمستويات الجملة.وقامت بعزل الجملة او النص عن السياق ووضعها بين اقواس نظرية تمهيداً لتحليلها علمياً. ومع تراكم الدراسات وتنوع مجالاتها اللسانية، وصل البحث العلمي الى الضفاف نفسها التي غادرها من بدايه القرن الماضي. ولكنه اصبح الان يتمتع بمعرفة منهجية واسعة وعميقة وشاملة تمكنه من استثمار انجازاته المعرفية في فهم الاشكالية التي تواجهه. اصبح من الواضح ان على المنهج النقدي واللساني الحديث ان يخوض في مستوى جديد من مستويات الجملة وهو مستوى حاسم على صعيد تحديد الدلالة وفهم تحولاتها وتغيراتها. هذا المستوى الجديد هو الذي يطلق عليه (التداولية).

في الستينيات من القرن الماضي تسارعت التطورات الحاصلة في مجال الدراسات اللسانية وطرحت فكرة امكانية دراسة (المعنى) في اطار نظرية لغوية شكلية. ولقد أنجزت البدايات على يد الفلاسفة وليس علماء اللغة. فقد شكلت دراسات (أوستن) 1962 و (سيرل) 1969 نقطة تحول هامة. ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي بدأ العلماء اللغويون أمثال (لاكوف) و (فرث) و (هاليدي) التوسع بدراسة اللغة منتقلين من العناصر النحوية و التركيبية في الجملة الى دراسة المعنى و السياق. ثم توالت الابحاث مع (جرايس) 1975 و (جيوفري ليتش).

الاشكالية من الناحية اللسانية كانت في أمكانية ادخال دراسة (المعنى) في حقل الدراسات اللغوية الحديثة بشكل عام. وبعد أن قبل تشومسكي، من خلال دراسته، للغموض و المرادفات في اللغة، ادخال و دراسة المعنى كجزء من البنية اللغوية الاساسية للجملة، لم يعد بالامكان تجاوز السياق، وبذلك قادت الدراسات المتعلقة بالمعنى أو مايعرف بعلم المعاني (Semantics) الى الدراسات التداولية (Pragmatics)(9).

لقد وضع تشومسكي أساس المدرسة البنيوية الأمريكية وشكلت أعماله أقوى الخطوط الدفاعية النظرية لتلك المدرسة التجريدية. غير أن الكثير من الدراسات بدأ بالظهور مهاجما و ناقدا لتصورات تشومسكي اللسانية. فقد نقضت الدراسات السوسيولسانية (Sociolinguistics مفهوم الناطق المثالي للغة ( Ideal Native Speaker). و أكدت الدراسات السايكو- لغوية ((Psycholinguistics على عملية التطور في اللغة، على العكس مما ذهب اليه تشومسكي، ورفضت نظريات تحليل الخطاب و تحليل النص التقيد بقواعد الجملة عند تشومسكي. بينما أظهر تحليل المحادثات اللغوية اهمية البعد الاجتماعي في دراسة اللغة.

وجاءت الدراسات التداولية لتبتعد كثيرا عن نظريات تشومسكي من خلال دراسة المعنى المتداول في الجملة بدلا من المعنى المجرد للمفردات المكونة للجملة. ويفترض العالم اللساني (ليتش) أن دراسة النحو ( النظام الشكلي المجرد للغة) و التداولية (دراسة اللغة على أساس ا لتداول او التخاطب) هما حقلان متكاملان في الدراسات اللغوية وليسا متعارضين تماما (10).

ويعتمد التفسير التداولي على المظاهر الأتصالية للغة، فبينما تكون التفسيرات النحوية شكلية أساسا تتحرك التداولية على المستوى الادائي ( (Functional للجملة. ويعرف (المعنى) في التداولية بالأحالة على المتكلم او مستخدم اللغة، بينما يعرف (المعنى) دلالياً عند المدارس الشكلية و البنيوية على أنه احدى خصائص الجملة في لغة معينة و بصورة مجردة عن اي موقف معين او متكلم او مستمع (11).

وهذا التطور التداولي (للمعني) لا يفترض تلازما بين (الشكل النحوي لمنطوق ما وما يحققه من حدث كلامي. فالجمل المتماثلة نحوياً يمكن ان تعبر عن احداث كلام متعددة وبالمقابل، فحدث كلام معين يمكن تحقيقه في اكثر من شكل).على حد قول هايمز. و بذلك يصبح المعنى كامناً في السياق التداولي وليس خصيصة داخلية للجملة. ولتوضيح ذلك يتساءل العالم الرياضي واللساني الشهير(فيثغشتاين) (هل بأمكاني ان اقول bububu وانا اود القول انه اذا لم يكن الجو ماطرا، فأنني ساخرج في نزهة) ويجيب: "داخل اللغة وحدها نستطيع التعبير عن شيء من خلال شيء اخر" (12). ان التداولية تتجاوز محددات الدلالة الى دراسة مدى امكانية الكشف عن قصدية المتكلم من خلال احالة الجملة الى السياق التداولي لمعرفه مدى التطابق او اللاتطابق بين دلالة الجملة لسانياً وظروف السياق، ومثلما درست النظريات اللسانيه السابقه مستويات الجملة التركيبية والصوتية والدلالية للكشف عن مجموعه القوانين العامه التي تتحم بتحديد دلالة المنطوق سياقياً. وقد حاول كل من (جرايس)و (ليتش) وضع قواعد للتأدب والمخاطبه والمحاورة مستمدة من السياق الاجتماعي والثقافي وتتجسد لسانياً من خلال المنطوق. وان أي خرق أو كسر لمجموعة القوانين السياقية ينتج عنه عدم التماثل بين المنطوق والسياق، وهو ما يسمى بانعدام الملائمه السياقيه. ان ما يحدث في حالة غياب الملائمة السياقيه وهو (خطأ تداولي)، وهذا الخطأ لا يخرق قوانين صوتية او نحوية او دلالية وانما يحصل نتيجة خرق احدى مبادئ محددات السياق الاجتماعية والثقافية. وحتى يتوافر عنصر التطابق بين المنطوق والسياق يجب تأمين عدة شروط تعطي للمنطوق قوته الادائية. فالكلام بالنسبة للتداولية ليس مجموعة جمل متراصفة مع بعضها ولكنه (حدث)، والتداولية بذلك تنقل حقل دراستها من القدرة (Competence) الى الاداء (Performance) بحسب تقسيم تشومسكي. ويرى (سيرل) ان اللغة سلسلة احداث في العالم وكان أول من وضع ما يعرف (بافعال لكلام) (Speech Acts) وتحدد نظرية افعال الكلام ثلاثة مستويات لكل منطوق؛ وهي (فحوى الكلام) (locution) ومقصد الكلام (Illocution) (اثر الكلام) (per locution). وكل منطوق مهما كان يتحدد بهذه المستويات الثلاثه والسياق الذي يحيط بها. ولتوضيح ذلك يورد العالم اللساني (ديفيد كريستال) المثال الاتي في موسوعته: ( اذا نطلق احدهم بجملة "اغلق الباب" فهذا يجب ان يتضمن على صعيد السياق أن الشخص المتكلم أعلى مرتبة من المستمع، وأن الباب في الغرفه مفتوح اساسا، وأن المستمع بوضع جسدي يمكنه من القيام بفعل غلق الباب)(13). اذ أن خرق أو غياب أي واحدة من تلك المحددات السياقية سيحدث حالة من اللاتطابق بين المنطوق والسياق ومن ثم يحدث ما يمكن تسميته (بالأنزياح السياقي) فمثلا في حاله التطابق السياقي يصبح المنطوق (أغلق الباب) جملة فعية أمرية عادية ، وفي حالة كون:

أ- المتكلم اقل مرتبة اجتماعية او تراتبية معينة من المستمع فعندها تصبح جملة اغلق الباب ذات مقصدية خاصة تشير الى خرق في قواعد التأدب وتدل على نوع من الأهانه أو التحقير.

ب- الباب مغلق اساسا من قبل لحظة النطق بالجملة، عندها يشير الخرق السياقي الى انحراف في دلالة الجملة نحو قول ذي مقصديه مغايره لغلق الباب. وقد يكون مقصد المتكلم "اغلق الموضوع"او "توقف عن الحديت بهذا الموضوع" مثلاً.

جـ- المستمع في وضع لا يسمح له بالقيام بفعل غلق الباب، فقد يكون مقيداً او لا يستطيع التحرك لسبب ما. عندها ايضاً يشير اللاتطابق الى خرق سياقي او انحراف يتمثل في وجود مقصدية مغايرة لدلالة المنطوق الحرفية.

وهنالك جمل لا تكتسب دلالتها الا من خلال مكانة الشخص المتكلم، مثل اعلان الحرب او اقامة صلاة او الحكم على متهم، وعند غياب الشخص المناسب اجتماعياً او دينياً او قانونياً او سياسياً يصبح المنطوق مفرغاً من الدلالة.

ان كل ما سبق ذكره عن التداولية في هذه الدراسة كان قد ورد في العديد من الدراسات والكتب اللسانية سواء باللغة الانكليزية او العربية، وان كان حقل التداولية ما زال يعد حقلاً جديداً على صعيد الدراسات اللسانية العربية. غير ان ما تحاول ان تنفرد به هذه الدراسة هو كيفية نقل آليات التحليل التداولي من المستوى اللساني او المجرد الى المستوى الادبي. يوجد هناك عدد من الدراسات في اللغة الانكليزية، و ان كان محدودا جدا، قد تطرق لتطبيقات التداوليه على النصوص الادبيه (14)، وقام النقاد واللغويون في تلك الدراسات بتطبيق نظريات التواصلية اللغوية والوظائفية (Communicative and Functional)على النص السردي وعلى مستوى الجملة. اما ما تقترحه هذه الدراسة فهو الانطلاق من نفس مبادئ (الشعرية) كما جاءت عند جان كوهين، وهي عبارة عن (خصيصة علائقية، أي انها تجسد في النص لشبكة من العلاقات التي تنمو من مكونات اولية سمتها الاساسية ان كلا منها يمكن ان يقع في سياق اخر دون ان يكون شعرياً، لكنه في السياق التي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى لها السمة الاساسية ذاتها يتحول الى فاعلية خلق شعرية)(15).

ابتداء تقر الدراسة بوجود شبكة علاقات داخليه بين عناصر النص، الذي يعادل الرسالة او(فحوى الكلام) (locution)، غير ان هذه الرسالة لا تحمل اي (معنى) محدد بذاتها الا بعد موضعتها في سياق تداولي يتضمن المتكلم (المؤلف) او المستمع(المتلقي)، وبذلك يتوافر العنصران الاخران (مقصد الكلام) (Illocution) وأثر الكلام (Per locution).

ويبدأ التحليل التداولي نقدياً من البحث عن حالة لا تطابق بين المنطوق و السياق او مايعرف بغياب المواءمة. وهي هنا ان وجدت تمثل (انزياحا سياقيا) (Contextual Deviation) يماثل (الانزياح الدلالي) الذي تدرسه الدراسات الاسلوبية والشكلية على انه خطأ مقصود ذو قيمة جمالية فائضة. وبذلك يصبح (الانزياح السياقي) مصدر (الفجوه:مسافه توتر) على حد وصف الناقد الدكتور كمال ابو ديب، ويمكن ان يصبح الانزياح السياقي مؤشراً لقياس مدى الشعرية في النص الادبي تماما مثلما يكون الانزياح الدلالي مؤشراً جمالياً.

ومثلما اكد هايمز على عدم الترابط الشرطي بين التركيب النحوي للمنطوق ومايحققه من حدث كلامي، نستطيع القول ان الأدبية او الشعرية (ليست خصيصة في الاشياء ذاتها بل في تموضع الاشياء في فضاء من العلاقات. بدقه اكبر:لا شيْ يمتلك الشعرية، ماهو شعري هو الفضاء الذي يتموضع بين الاشياء)(16). اي بدلاً من اي يكون النص شعرياً يصبح السياق التداولي هو الشعري. وبهذا يكون حتى الانزياح الدلالي الذي ركزت عليه الدراسات الاسلوبية والشكلية كمعطى جمالي ليس خصيصة داخلية في النص. فتحديد جمالية النص يخضع لمعيارية ذوقيه ذات مرجعيات اجتماعيه وثقافيه وفرديه. وهذه المعيارية تتشكل في كل عصر بشكل مختلف ومن اتخاذ التحليل التداولي منهجياً نقدياً تطبيقياً يمكن ان نعيد ادخال السياق الى التحليل النصوصي وذلك بعد ما تم اقصاءه من النظرية النقدية للنقد الجديد والدراسات الشكلية والبنيوية لوقت طويل. فقد اطلقت عليه الشكلية الروسية (ميتافيزيقيا النص) واستبعدت امكانية دراسته دراسة علمية موضوعية. كما ويمكن ردم الفجوه القائمه بين النقد النصوصي والنقد السياقي.اي بين الشكلية والبنيوية وبين الدراسات الماركسية والتاريخية الجديده والتحليل النفسي.

وقد يتبادر الى ذهن القارئ ان وجود مثل تلك المدارس النقدية السياقية التي تؤكد على الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية لا يدع جديداً امام التحليل التداولي، اذ ان تلك المناهج النقديه قد سبقت التداولية بالتأكيد على السياق بوقت طويل، غير ان الجديد الذي تطرحه التداولية باستخدامها منهجاً نقدياً هو دراسة السياق انطلاقاً من التحليل اللساني للنص.

فالتداولية لا تتجاوز مبدأ دراسة المظهر الفيزيائي للنص الذي يتجسد من خلال اللغة، ولكنها تتحرك الى مديات ابعد من الدلالة المباشرة للكلمات المكونة للمنطوق. اي ان التحرك التداولي ينطلق من النص لسانياً الى الكشف عن الانساق الثقافيه والفكريه التي تشكل سياق النص.

وتقترح هذه الدراسه كذلك امكانيه اشتغال التحليل التداولي ضمن الفضاء النقدي المعرفي الخاص (بالنقد الثقافي). اذ ان التداولية تهتم بالكشف عن قصدية المتكلم ، كما سبق ان ذكر، وفي حالة دراسة النص الادبي فان المؤلف يحل محل المتكلم في السياق التداولي. وتقوم الدراسات التداولية النقدية باعادة الاعتبار ( لقصدية المؤلف) كأحد اهم منطقات التحليل التداولي. ان التأمل المعرفي لما هية (قصديه المؤلف) يحيلنا الى (منطقة الوعي) عنده كفرد عاقل يقوم بانجاز فعل(وهو انتاج النص الادبي). وقد اكدت الدراسات الايديولوجية والماركسية الجديدة والمادية الثقافية والتاريخانية الجديدة والنسوية جميعها على اشكالية مركزية، وهي خضوع وعي الفرد في مجتمع معين وفي لحظة تاريخية معينة لسلطة الخطاب المؤسساتي والذي يمارس هيمنة تتمثل في سلطة الاقصاء والتهميش لبعض المقولات والمبادئ والانساق الفكرية والثقافية التي تعارضه. واذا سلمنا بذلك ندرك ان مصطلح (قصدية المؤلف) يصبح محدوداً جدا من الناحية الثقافية وان الخطاب الثقافي المهيمن او الانساق الثقافية العامة تصبح هي المؤلف الحقيقي. ويشير الدكتور الغذامي الى دور الخطاب المؤسساتي في (ترويض الجمهور ودفعهم الى القبول بالانساق المهيمنه والرضى بالتمايزات الجنسية والطبقية) (17). ان التطابق او الانسجام بين المنهج النقدي التداولي والنقد الثقافي لا يقتصر على صعيد التحليل النظري المنطقي ولكن يتعداه الى المصطلحات المستخدمه نفسها. (فسيرل) يعتبر اللغة سلسلة احداث. اي ان الجملة هي حدث كلامي. بينما يعرف النقد الثقافي النص الادبي على انه حادثة ثقافية (18). للنص اثر فاعل على المستوى الثقافي و الذهني للمتلقي يمثل ما يسمى (اثر الكلام) (Per locution)، بينما تتجاوز مقصدية النص القصدية المباشرة للمؤلف (Illocution)، اذ يكون وعي المؤلف جزءا من الوعي الجمعي لطبقته ومجتمعه الواقع تحت هيمنة خطاب مؤسساتي ما، كما أكد ميشيل فوكو.

ومما سبق يمكننا ان نقترح باطمئنان الفضاء النقدي الثقافي مجالا لاشتغال اليات التحليل النقدي التداولي للنص. وبذلك يمكن للتداولية مساءلة النص الادبي تماما كما تصور الناقد المابعد-بنيوي (جوثان كلر)(19). أي ان بامكاننا احلال التحليل التداولي كآلية منهجية علمية محل التأويل المضاعف عند (كلر) لضبط عملية التأويل الحر والاعتباطي مع التمتع بنفس الفاعلية على مساءلة النص الادبي والانتقال من المستوى الدلالي المقيد للتأويل الطبيعي الى مستوى السياق الثقافي والتاريخي والاجتماعي.





المراجع:

ا- د. بشرى موسى صالح :"المرآة والنافذة"، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2001، ص16.

2- Geoffrey n. Leech: "principles of pragmatics", Longman 1983, p1

3- نصر حامد ابو زيد وسيزا قاسم (اشراف): "مدخل الى السيميوطيقيا- مقالات مترجمة ودراسات"، دار الياس العصريه- القاهرة، ص354.

4- كمال ابو ديب: "في الشعريه"، مؤسسة الابحاث العربية، ط/لبنان 1987، ص 15

5-Fredric Jameson: "The prison-house of Language", Princeton university press, Princeton n.j.1972, p71

6-د. بشرى موسى صالح: "المرآة والنافذة"، ص13.

7-Roger Fowler: "Linguistics and the Novel", Routledge 1985, p123

8- د. عبدالله ابراهيم:"المتخيل السردي:مقاربات نقديه في التناص والرؤى والدلالة"، المركز الثقافي العربي ط/،199 ،ص 146

9-, p2. "Geoffrey. N. Leech: "Principles of Pragmatics

10-Ibid, p5

11- Ibid, p6

12- أمبرتو ايكو: "التأويل بين السيميائيات والتفكيكيه"، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي ط/2000 ،ص187

13-David Crystal:" Cambridge Encyclopedia of language", p121

14-راجع مثلا:

- Teun A. Van Dijk: "Pragmatics of Language and Literature".

- Richard J. watts: "The Pragmalinguisic Analysis of Narrative Texts"

15- كمال ابو ديب: "في الشعرية"، ص14

16- نفس المصدر، ص58

17- د. عبدالله الغذامي: "النقد الثقافي ، قراءة في الأنساق الثقافية العربية"، المركز الثقافي العربي ط/2001، ص 22.

18- نفس المصدر ص 56

19- أمبرتو ايكو: "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية"، ص179.


ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...