المؤثرات البيئية والشخصية في شعر ابن الرومي ـــ د.محمد عبد القادر أشقر(*)
شعْرُ ابن الرومي انعكاس لما كان يعانيه في مجتمعه، ولما كان يعانيه في نفسه وجسمه، ولعله أهم شاعر انصرف إلى التعبير عما يحس به من مشاعر تجاه زمانه وأهل زمانه، وإلى الكشف عما يعانيه من هموم ومتاعب بسبب ضعف جسمه وبنيته، أو ما يحس به من مخاوف وأوهام وظنون. والشعراء عموماً لا يتحدثون كثيراً عن أحوالهم وما يمر بهم من دقائق حياتهم اليومية، لأنهم منصرفون إلى الفن، ينظمون الشعر ويجوِّدونه ويعتنون به، معتقدين أن همومهم الشخصية مِلْكٌ لهم فحسب، وأنه من غير اللائق إطْلاع الآخرين عليها، لذا لا نستطيع الحصول على صور واضحة للشعراء من خلال دواوينهم، لكن الأمر مختلف مع ابن الرومي، لأن شعره انعكاس لكل دقيقة كان يعيشها في مجتمعه، ولكل همّ كان يحسه ويعيشه، إنه باختصار يعرض حياته العامة والخاصة بكل تفاصيلها من خلال الشعر، وهو بذلك يهيئ الشعر ليكون قريباً من روح الحياة والناس، وأكثر تعبيراً عن نفس قائله، كما أنه يهيئه ليكون تعبيراً عن الأحاسيس والمشاعر الخاصة أكثر من كونه وصفاً للممدوح، ومهنةً يتكسب الشاعر منها قوت يومه. إنه يحاكي مختلف مظاهر الحياة، ويحاكي مشاعره أكثر من محاكاته للفن الشعري ذي الأصول الراسخة التي تعارف عليها النقاد. وهذه المحاكاة هي جوهر الشعر، لأن الشعر تعبير عن النفس أولاً. وإن فهمه لوظيفة الشعر على هذا النحو تجديد حقيقي في الشعر، لأنه أبعده قليلاً أو كثيراً عن دائرة الرسميات وما تعارف عليه النقاد وأهل البصر بالشعر. ولعل هذا الموقف سبب من أسباب ابتعاد ممدوحيه عنه، لأنه انصرف عنهم إلى نفسه وأحواله، فبدت قصائده مزيجاً من مشاعر متباينة، فيها وقوف طويل عند ذاته المعذبة المقهورة التي أصابها نُوَبُ الزمان، وفيها وقفات قصار متفرقة عند الممدوح، حتى لتصبح أحوال الشاعر الغرض الرئيس من القصيدة، ويصبح المدح تابعاً أو ذيلاً لها. ولم يترك ابن الرومي صغيرة ولا كبيرة تتعلق بحياته إلا أحصاها في شعره، بل إنه أحصاها في الشعر الموجه إلى الآخرين، فلم يكتفِ بعرض همومه ومشكلاته وكل ما يعانيه في قصائد ذاتية مستقلة، بل إنه جعل تلك الهموم موضوعاً أساسياً في قصائده المدحية التي توجه بها إلى الممدوحين.
لذا سأحاول البحث عن المؤثرات التي تركت صداها في شعره، سواء أكانت عامة تتعلق ببيئته وعصره، أم خاصة تتعلق بشخصيته جسماً ونفساً. وسأرى كيف تجلت في شعره. وإنني أعترف أن الفصل بين تلك المؤثرات غير علمي، لأن تلك المؤثرات متداخلة متشابكة فيما بينها، تَشابُك المشاعر والأحاسيس، لكني سأفصل بينها فصلاً مؤقتاً لأتلمّس مظاهر كل أثر على حدة، وأنا أعلم أن استقلالية الأثر أحياناً قد ينتج عنها تشابهٌ في المظاهرات التي تجلت فيها مع مؤثرات أخرى، لكن لا حيلة أمامي إلا أن أفعل ما سأفعل تتبعاً للأثر من مصادره، ورصداً له في مظاهره التي تجلى فيها.
أولاً: مؤثرات عامة (البيئة والعصر):
عاش ابن الرومي في عصر مضطرب أشد الاضطراب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً، كما عاش في بيئة أسرية منكوبة، بل إن المصائب أحاطت بها من كل حدب وصوب. وكان لابد لهذا الاضطراب أن ينعكس في شعره، أو أن يترك آثاره فيه، وأن يستجيب استجابات مختلفة للواقع الذي عاشه في مجتمعه. وقد تجلت هذه الاستجابات في الإكثار من أشعار المناسبات كالمديح والتهاني والمراثي ذات الطابع الرسمي، وفي الاستجابة للتطور العقلي الذي شهده العصر العباسي الثاني، وفي ظهور مفردات أعجمية في شعره، وفي التعبير عن قضايا خاصة به.
1 ـ كثرة أشعار المناسبات:
استجاب ابن الرومي لأحداث عصره المختلفة وشارك فيها من خلال رصده لها وتعبيره عن مشاعره تجاهها، وهي مشاعر غير صادقة أملتها طبيعة مهنته بوصفه شاعراً مداحاً يعيش على مهنة الشعر وما فيها من مديح وتهانٍ ورثاء؛ فقد شارك في أحداث عصره مهنئاً بالخلافة وبالوزارة وبولاية العهد، وبالقدوم من السفر، والشفاء من المرض، وبناء الدُّور، وبالأعياد المختلفة، وبالزفاف والولادة والخِتان، وأشاد بالأعمال الإيجابية للخلفاء ووزرائهم وقوادهم، كالقضاء على الخارجين على الخلافة، والانتصار على الروم واستعادة ما اغتصبوه من بلاد المسلمين، والإصلاحات الإدارية والاقتصادية، كما رثى من مات من أقرباء الخلفاء والوزراء وغيرهم.([1">)
والشعر الذي قاله في هذه المناسبات شعر ضعيف القيمة والأهمية، لأن ابن الرومي هدف من ورائه إلى التكسب والمجاملة، ولم ينطلق فيه من ثوابت أخلاقية أو من مشاعر صادقة، كما يغلب عليه التكلف والتكرار والإطالة.
لكن ابن الرومي وقف موقفاً أخلاقياً صادقاً من محنة تعرضت لها ديار المسلمين، وتأذى منها الناس جميعاً، هي ثورة الزَّنج على الخلافة العباسية سنة خمس وخمسين ومئتين للهجرة، وما تبع تلك الثورة من سفك للدماء ونهب للثروات وتخريب للبلدان وقطع للطريق، إلى أن استطاع الموفق ـ أخو الخليفة المعتمد ـ القضاء على ثورة الزنج قضاء تاماً سنة سبعين ومئتين للهجرة، بعد أن استمرت خمس عشرة سنة، وذهب فيها خلقٌ كثير، عدا ما تهدم من بلدان، وما دُمر من زروع، وما هلك من مواشٍ، كما يقول المؤرخ الطبري([2">).
وقد تأثر ابن الرومي كثيراً لما أصاب الناس ولما أصاب مدينة البصرة من خراب، وصوّر ما فعله الزنج بالناس من تعذيب وإذلال، وما ألحقوه بالبصرة من تخريب في قصيدة طويلة هي من أجمل ما قيل في رثاء البلدان، لأن ابن الرومي رثاها من خلال إحساسه بالفاجعة التي أصابتها وأصابت أهلها، ومن خلال خوفه من الشر والموت والدمار.
وقد صور في هذه القصيدة خراب المدينة وتشرد أهلها، وما لحقهم من شر، وتأسّى على تلك المدينة العظيمة وتذكر ماضيها الزاهر:
ذاد عن مُقْلَتي لذيذَ المنامِ شُغْلُها عنه بالدموعِ السِّجَامِ
أيّ نومٍ مِنْ بعدِ ما حَلَّ بالبَصْـ ـرَةِ مِنْ تِلْكُمُ الهَنَاتِ العِظام؟
أيّ نومٍ من بعدِ ما انْتَهَكَ الزَّنْـ ـجُ جِهاراً مَحَارِمَ الإسلام؟
وينتقل إلى الحديث عما أصاب الناس على أيدي الزنج من قتل وتشريد، ويفصّل في كل مشهد على عادته في التفصيل؛ فقد باغت الزنج أهل البصرة وهم نيام، وأعملوا فيهم السيف، ولم يراعوا كبيراً ولا صغيراً، ولا رجلاً ولا امرأة، بل إنهم بالغوا في إلحاق الأذى بالناس؛ فاغتصبوا العذارى علانية، وفضحوا النساء المصونات المحجبات، وفرقوا بين أفراد الأسرة الواحدة بين قتل وسَبْيِ واغتصاب([3">):
ومن هنا يكون مديحه للموفق عرفاناً بالفضل وإحقافاً للحق، وليس مديح مجاملة أو تكسب، فقد رأى ابن الرومي في الموفق فارساً مغواراً لا يخاف الأعداء مهما بلغوا من قوة، وهو رجل ترك نعيم العيش ورغده والخمر والنساء لغيره، وسَمَتْ هِمَّتُهُ إلى قيادة الجيش وإعداده للفتك بأعداء الدين، لذا انتصر عليهم وشتت شملهم. وإسرافُه في الشجاعة والفتك بخصومه لا يقل عن إسرافه في إنفاق المال على الشعراء وغيرهم. وقد كان الموفق كما قال ابن الرومي تماماً؛ فارساً مغواراً حمل هَمَّ الخلافة، واستطاع أن يقضي على ثورة الزنج وعلى تسلط القواد الأتراك، فلم يجرؤوا على ارتكاب المظالم والاستبداد بالسلطة ما دام حياً([4">):
2 ـ بروز ثقافة العصر في شعره:
تثقف ابن الرومي بثقافات عصره المختلفة، فلسفية وغير فلسفية، وبرع فيها، ولاسيما الاعتزال، وأغلب الظن أنه لم يكن معتزلياً، لكننا لا نستطيع إنكار معرفته بالاعتزال وتمكّنه من أدواته ومادته ومنهجه، لأنه لون من ألوان الفكر الخصب. والمعتزلةَ أصحاب فكر حر مستنير منفتح على كل الثقافات العربية والأجنبية ولاسيما اليونانية، لأنهم تسلحوا بتلك الثقافات للرد على أصحاب النحل والأديان الوضعية والمُلْحِدَةِ والزنادقة. وقد بلغ ابن الرومي من تلك الثقافات الغاية حتى قيل: إن الشعر كان أقل أدواته. وكان لابد لتلك الثقافة من أن تظهر في شعره، وتتجلى فيما يلي:
آ ـ الخصب في المعاني:
في شعر ابن الرومي معانٍ كثيرة جداً، غنية وعميقة، تدل على تمكنه من ناصية الفلسفة والمنطق في عصره. وهذه السمة لم ينفرد بها ابن الرومي عن الشعراء في تاريخ الأدب العربي، فقد سبقه أبو تمام (231هـ)، وجاء من بعده أبو العلاء المعري (449هـ)، لكن ابن الرومي زاد كثيراً على أبي تمام ـ وإن كان متمكناً مثله من شاعريته ـ ولم يسمح للفلسفة أن تطغى على شعره وتفسده، بل استطاع أن يقدم الفلسفة من خلال الفن، على عكس المعري الذي لم يستطع تقديم الفلسفة من خلال الفن، فبدت نابية قبيحة، لأنها جاءت على حساب الفن الشعري. لكن ابن الرومي لم يستطع أن يقدم الفلسفة والمنطق دائماً في إهاب الفن، بل إنه كان يقع أحياناً فريسة للمعنى الفلسفي من غير أن يقدر على تذليله لفنه، فيبدو المعنى نابياً وبعيداً عن روح الشعر. من ذلك قوله يمدح:
إذا صَبَتْ زُهْرَتُهُ صَبْوَةً قال لها هِرْمِسُهُ هَنْدِسِ
وإن عَدَا هِرْمِسُهُ حَدَّهُ قالت لـه زُهْرِتُهُ نَفِّس([5">)
((والزُّهْرَةُ هي رَبّةُ الجمال واللهو، وهِرْمِس هو اسم عُطارِد عند الفُرْس وهو رَبُّ الكتابة والحكمة... يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيبُ به الحكمة والمعرفة، ويُرهق نفسه بهذه فتدعوه الزُّهرَةُ إلى التنفيس))([6">).
وهذا المعنى صعب، ويبدو التكلف واضحاً فيه، لكن ابن الرومي آثر أن يقدم ذلك المعنى البسيط تقديماً فلسفياً إظهاراً للمقدرة وإثباتاً للشاعرية والمعرفة بالفلسفة، وإن جاء كل ذلك على حساب الفن.
أو كقوله يعاتب ممدوحاً آخر عليه بالعطاء الذي كان قد وعده به:
كنتَ مِمَّنْ يَرى التَّشَيُّعَ لكنْ مِلْتَ في حاجتي إلى الإرْجاءِ([7">)
يريد أن يقول لممدوحه إنك تنكرت لأصدقائك وأرجأت حاجتي لديك فلم تقضها لي، لكنه عبّر عن هذا المعنى من خلال مصطلحين سياسيين دينيين، أولهما مصطلح التشيع: ويعني تأييد أبناء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأحفاده في حقهم في خلافة المسلمين، لم يكفروا أحداً من أهل السنة والشيعة وغيرهم، وإنما أرجئوا الأمر كله إلى الله لينظر فيه.
أو كقولـه في مصطلحي الجبر والاختيار في معرض معاتبته لأحد ممدوحيه على تأخره في عطاء كان قد وعده به:
لَئِنْ خَيَّبْتَني ورَفَدتَ غيري لقد صَدَّقْتَ عندي قَوْلَ (جَهْمِ)
ألا لا فِعْلُ حَيٍّ باخْتِيارٍ متى خَيَّبْتَني لكن بِحَتْمِ([8">)
فَجَهْمُ المذكور هو جَهْمُ بن صَفْوانْ (128هـ) ـ كان يقول: إن الإنسان مجبر في كل أفعاله، وليس حر الإرادة في فعل ما يريد، يريد ابن الرومي أن يقول لممدوحه: إنني سأهجوك مُجْبَراً على هجائك على مذهب جهم هذا لأنك حرمتني وأعطيت غيري.
وابن الرومي لا يقبل بعرض المعنى وتقديمه بلا تعليل، لأن التعليل عنده جزء مهم من أجزاء توضيح المعنى؛ فقد تكلم الشعراء ـ قبل ابن الرومي وبعده ـ على الصداقة ورأوا أن الصديق قد يتحول إلى عدو، لذا يجب الحذر من الصديق أضعاف الحذر من العدو، لكن ابن الرومي لم يرضَ بتقديم هذا المعنى كما يقدمه غيره، بل لجأ إلى التعليل والقياس، فقاس الصديق على الطعام، والغدر على الداء، فوجد أن الداء يكون خطيراً عندما يكون داخل الطعام لا نراه، لأننا لو رأيناه ما أكلناه، وكذلك الصديق الذي يتحول إلى عدو فيأتي خطره من حيث لا نتوقع الخطر:
عَدُوَّكَ مِنْ صديقِكَ مُسْتَفادٌ فلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فإنَّ الداءَ أكثرُ ما تَراه يَحُولُ مِنَ الطعامِ أو الشَّراب
ثم يتكلم عن كثرة الأصدقاء، ويرى أن كثرتهم لا تغني شيئاً، وأن الخير في القليل منهم. وهذا المعنى مألوف، لكن ابن الرومي لا يرضى به على هذه الصورة، بل يعلله بقوله: إن البحر على اتساعه وعظمه مالح لا ينفع العطشان، على عكس القطرة من الماء الصافي العذب:
ولو كان الكثيرُ يَطِيْبُ كانت مُصاحَبَةُ الكثيرِ مِنَ الصَّوابِ
فَدَعْ عنكَ الكثيرَ فكم كثيرٍ يُعافُ وكم قليلٍ مُسْتَطاب
وما اللُّجَجُ المِلاحُ بِمُرْوِياتٍ وتَلْقَى الرِّيَّ في النُّطَفِ العّذاب([9">)
وثقافته الواسعة المتنوعة، وقدرته على الجدل والاحتجاج جعلتاه يقف عند المعنى الواحد المألوف فيفصل القول فيه مادحاً، ثم يذمه مفصلاً في ذكر عيوبه، دون أن يخلَّ بالمعنى في كلتا الحالين. وهذا الصنيع من ابن الرومي لم يكن مقصوراً عليه وحده، فقد سبقه إليه المعتزلة والمتكلمون ولاسيما الجاحظ، حتى إن ـ البَيْهَقِيَّ ـ أحد معاصري ابن الرومي ـ ألف كتاباً في ذلك عنوانه: المحاسن والمساوئ، ذكر فيه أشياء كثيرة، ممدوحة حيناً ومذمومة حيناً آخر ـ . وقد عُرف عن ابن الرومي هذا الصنيع.
فالحقد داء يكرهه كل الناس ويذمونه كما ذمه ابن الرومي، لكن أحداً لم يمدح الحقد ويبين مزاياه، مثلما فعل ابن الرومي؛ فهو يرى أن الحقد توأم الشكر، ولكلٍّ موضعٌ، فهنالك أشخاص يستحقون أن نحقد عليهم لإساءتهم للناس، مثلما يستحق آخرون الشكر لإحسانهم إليهم، لأن المسألة مسألة دَيْنٍ واستحقاق، ثم يضيف إلى هذا المعنى معنى آخر أكثر عمقاً وجِدَّةً من سابقه، فيرى أن الحقد محمود لأنه يوصل صاحبه إلى ثأره، ولولا الحقد لنسي صاحب الثأر ثأره:
وما الحِقْدُ إلاَّ تَوْأَمُ الشُّكْرِ في الفتى وبعضُ السَّجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعضِ
فحيثُ تَرَى حِقْداً على ذي إساءَةٍ فَثَمَّ تَرَى شُكْراً على حَسَنِ القَرْض
ولا عَيْبَ أنْ تُجْزَى القُروضُ بمثلِها بل العَيْبُ أنْ تَدَّانَ دَيْناً فلا تَقْضي
وخَيْرُ سَجِيَّاتِ الرجالِ سَجيَّةٌ توفّيكَ ما تُسْدي مِنَ القَرْض بالقَرض
ولولا الحُقودُ المُسْتَكِنَّاتُ لم يَكُنْ لِيَنْقُضَ وِتْراً آخِرَ الدهرِ ذو نَقْض([10">)
ب ـ تقصي المعاني:
قادته ثقافته الواسعة وقدرته على الجدل والحجاج إلى تقصي المعاني واعتصارها اعتصاراً شديداً لا يبقى فيه زيادة لمستزيد، مع المحافظة على الوحدة العضوية فيها، فكل بيت يرتبط ـ غالباً ـ بأخيه من قبل ومن بعد، لأن المعنى لا يكتمل إلا إذا قرأنا ما قبله وما بعده، فالمعاني عنده متولد بعضها من بعض، ولا سبيل إلى الفصل بينها في كثير من الأحيان. وهذا سبب من أهم أسباب إطالة القصائد في شعره.
وهذا التقصي واضح كل الوضوح في شعره، لا تكاد تخلو قصيدة منه، فالشيب مثلاً موضوع تكلم فيه الشعراء كثيراً منذ الجاهلية، لكن ابن الرومي لم يترك معنى يمكن أن يقال في الشباب والمشيب إلا أتى به، من خلال تفصيل زائد يعتصر فيه المعنى ولا يترك فيه شيئاً. من ذلك قوله في رثاء شبابه، وقد جعله مقدمة لقصيدة مدحية من مئة وخمسة وسبعين بيتاً، منها سبعون بيتاً في رثاء الشباب والتفجع عليه، وفي هذه الأبيات السبعين يكرر عبارة (يُذَكِّرني الشبابَ...) ثماني مرات؛ فمرة يذَكَره الشبابَ عطشُه الطويل إلى رضاب النساء الجميلات فيفصّل القول في ذلك، ومرة أخرى يذكّره الشبابَ انصرافُ النساء عنه لشيبه، ومرة ثالثة يذكّره الشبابَ ما فعلته أحداق النساء بقلبه، وهكذا قبل أن يصل إلى المديح:([11">)
يُذَكِّرُني الشَّبابَ صَدىً طويلٌ إلى بَرَدِ الثَّنايا والرُّضابِ
وشُحُّ الغانياتِ عليه إلا عن ابنِ شَبيْبَةٍ جَوْنِ الغُراب
فإن سَقَّيْنَني صَرَّدْنَ شُرْبي ولم يَكُ عن هَوىً بلْ عنْ خِلاب
يذكرني الشبابَ هَوَانُ عَتَبْي وصَدُّ الغانياتِ لدى عِتابي
لكن ابن الرومي لم يكن موفقاً في تقصي المعاني وتفصيلها وتقليبها على وجوهها دائماً، بل إنه في كثير من الأحيان يقع في التكلف والرّكَّة وهو يفصّل في المعنى الواحد. من ذلك التقصي غير الموفق قوله في أحد ممدوحيه:
لكَ مَكْرٌ يَدِبُّ في القومِ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ الغِذاءِ في الأعضاءِ
أو دبيبِ المَلالِ في مُسْتَهامَيْـ ـنِ إلى غايةٍ مِنَ البَغْضاء
أو مَسِيْرِ القضاءِ في ظُلَمِ الغَيْـ بِ إلى مَنْ يُريدُهُ بالتَّواء
أو سُرَى الشيبِ تحت لَيْلِ شبابٍ مُسْتَحِيْرٍ في لِمَّةٍ سَحْماء
دَبَّ فيها لها ومنها إليها فاكتستْ لَوْنَ رَثَّةٍ شَمْطاء([12">)
فهو يصف مكر ممدوحه بأنه خفي لا يشعر به أحد كدبيب الغذاء في أعضاء الجسد، لكنه لا يكتفي بهذا المعنى، بل يأتي بأربعة أبيات بعده يوضح فيها معنى المكر ويتفنن في تصويره، حتى إنه راح يلتمس التفصيل والتوضيح في حروف الجر أيضاً؛ فذكر الحروف (في واللام ومن وإلي) في شطر واحد، فماذا بقي من معنى المكر بعد أن اعتصره ابن الرومي هذا الاعتصار الشديد؟
وكذا الأمر في المديح، بل إنه يلجأ إلى الإطالة قاصداً ليستوفي المعاني:([13">)
كلُّ امرئٍ مَدَحَ امرَأً لِنَوَالِهِ فأطال فيه فقد أراد هجاءَهُ
لو لم يُقَدِّرْ فيه بُعْدَ المُسْتَقى عند الوُرُودِ لما أطالَ رِشاءه
غيري فإني لا أُطيْلُ مدائحي إلا لأُوْفِيْ مَنْ مَدَحْتُ ثَناءه
وأَعُدُّ ظُلْماً أنْ أُقِلَّ مديحَه عَمْداً وأَسْخَطُ إنْ أَقَلَّ عَطاءه
3 ـ ظهور مفردات أعجمية في شعره:
في شعر ابن الرومي مفردات أعجمية ليست بالقليلة، معظمها فارسي، وأغلب الظن أن ابن الرومي كان يجريها على لسانه لكثرة ما يسمعها في اليوم من العامة، ومن المعلوم أن العصر العباسي هو عصر تمازج الأعراق والأمم والثقافات، أو أنه كان يقولها تظرفاً ومجاراة لذوق معاصريه العام الذي يميل إلى التملّح بالألفاظ الأعجمية. ولا أستطيع أن أُرجع هذا الأعجمي إلى أمه الفارسية الأصل التي لا نعلم كثيراً عن أصلها أكثر مما ذُكر في أخبار ابنها، لكن وجودها في حياته مع أخت وأخ لها تَسَرُّبَ شيء من الأعجمي الفارسي إلى لسان ابنها، وإن كنت لا أمتلك دليلاً على ذلك. وأغلب الظن أن جريان الأعجمي على لسان ابن الرومي كان بسبب تأثير البيئة المحيطة به، ولأن في اللغة العربية كثيراً من الألفاظ الأعجمية منذ العصر الجاهلي، وقد تأثر الشعراء من العرب وغيرهم بهذه الألفاظ، وأوردوها في أشعارهم، وإن اختلف التأثر من شاعر لآخر، ومن عصر لآخر.
ومن نماذج الأعجمي في شعر ابن الرومي قوله على سبيل المثال في قصيدة يمدح بها أبا القاسم الشِّطْرَنْجِيّ ويعاتبه على مَطْلِهِ في تنفيذ وعدٍ كان قد وعده إياه:
تَهْزِمُ الجَمْعَ أَوْحَدِيّاً وتُلْوي بالصَّناديدِ أَيَّما إلْواءِ
وتَحُطُّ (الرِّخاخَ) بعد (الفَرازِيْـ ـنِ) فَتَزْدادُ شِدَّةَ اسْتِعْلاء
غَلِطَ الناسُ لستَ تَلعبُ (بالشِّطْـ
ـرَنْجِ) لكنْ بِأَنْفُسِ اللُّعَباء
تَقْتُلُ (الشَّاهَ) حيثُ شِئْتَ مِنَ الرُّقْـ ـعَةِ طَبّاً بالقِتْلَةِ النَّكْراءِ
غيرَ ما ناظِرٍ بعينِكَ في (الدَّ ـتِ) ولا مُقْبِلٍ على الرُّسلاءِ([14">)
فهو يمدحه من خلال مصطلحات الشطرنج، وهي مصطلحات أعجمية ابتداء من اسم اللعبة (الشطرنج) وانتهاء بأحجارها ورقعتها. ومعاني هذا المديح من المعاني التي جَدَّتْ في العصر العباسي بعد أن كان الرجل يمدح بالقيم المعروفة من كرم وشجاعة ونجدة وحمية وحلم... أما هذا الممدوح فهو بطل في ميدان جديد، ليس فيه إلا المنافسون من اللاعبين، وليس فيه أسلحة إلا العقول، وأرضُ المعركة هي رقعة الشطرنج بأحجارها المختلفة الموزعة بين الجنود والخيول والفرسان والوزراء والملوك، وهذا الممدوح متفوق على أقرانه في لعبة الشطرنج، فلا ينظر إلى الرقعة أو إلى اللاعبين عندما يلعب، وكأنه حفظها عن ظهر قلب([15">).
4 ـ التعبير عن قضايا خاصة به:
التفت ابن الرومي إلى أحواله كثيراً وتأملها وعبر عنها في شعره، مبيناً ما لحقه من ظلم وغَبْنٍ على أيدي أبناء مجتمعه، أو على أيدي الطبيعة التي زادت في مصائبه ونُوَبِهِ؛ فقد أشار إلى زرعه الذي قضى عليه الجراد، وإلى ممتلكاته التي أتى عليها الحريق، كما أشار إلى محاولات عدة لاغتصاب ممتلكاته، مرة على يد أحد المتسلطين، ومرة على يد إحدى النساء ذوات اليد الطولى في الدولة. وهذا الشعر يضيء جوانب كثيرة في حياة ابن الرومي، ويساعد في الكشف عن كثير من أخباره التي ضاعت عبر الزمن، فتغدو أشعاره عندئذ وثيقة تاريخية لا تقل أهمية عما جاء به المؤرخون من أخبار عن ذلك العصر المضطرب.
لكننا لا نستطيع أن نسلّم بكل ما كان يقوله في هذا المجال، لما عُرِفَ عنه من مبالغات وافتراءات، غير أن ما قاله يخفي خلفه كثيراً من الحقيقة، ولابد أن نعتمد على ما قاله بسبب ندرة أخباره، فليس أمامنا إلا ما قاله من أشعار في ممتلكاته أو في جسمه أو في نفسه، وإن كنا لا ننظر إلى كل ما يقوله في هذا المجال بعين التصديق.
فقد أتى الجراد على زرعه فقضى عليه، فلم يجد ابن الرومي إلا ممدوحه يستعطفه على ما أصابه من أضرار:
ليَ زرعٌ أتى عليه الجرادُ عادَني مُذْ رُزِْتُهُ العُوَّادُ
كنتُ أرجو حَصَادَهُ فأتاه قبل أنْ يَبْلُغَ الحصادَ حصادُ([16">)
ثم جاء الحريق فقضى على ما بقي من أملاكه:
وبعدُ فإن عُذري في قُصُوري عنِ البابِ المُحَجَّبِ ذي البَهاءِ
حُدوثُ حَوادثٍ منها حريقٌ تَحَيَّفَ ما جَمَعَتُ مِنَ الثَّراء
أُعاني ضَيْعَةً مازلتُ فيها بِحَمْدِ اللهِ قِدْماً في عَناء([17">)
لكن معاناته الكبيرة كانت مع جباة الخراج، فقد كان المسؤول عنه رجلاً ظالماً متسلطاً اسمه (ابن بَسْطام)، لم تأخذه رحمة ولا شفقة بما حل بزرع ابن الرومي وبضيعته، بل طالبه بالخراج واشْتَطَّ في الطلب وجار، فلم يجد ابن الرومي إلا أن يتوجه إلى ممدوحه الوزير عبيد الله بن عبد الله ليسقط عنه خراج تلك الضيعة الفقيرة، وليكفَّ يد ابن بسطام عنه، فاستجاب الوزير له وأسقط عن ضيعته الخراج، وكفَّ يد ابن بسطام عنه، فقال ابن الرومي يشكره:
حَطَّ مِنْ ثِقْلِ الخَراجِ عني وقد كا نَ كأركانِ يَذْبُل وشَمَامِ
وأراني الضِّياعَ مالاً وقد كنـ ـتُ أَرى مُلْكَها كبعضَ الغَرام
كَفَّ مِنْ سَوْرَةِ ابنِ بَسْطَامَ عني وهْي مَشْبُوبَةٌ كَحَرِّ الضِّرامِ
وأراه بنوره حَقَّ مِثْلي وهْو مُذْ كان مُوْقِظُ الأفهام
فقضى حاجتي وكان كَسَيفٍ هُزَّ فاهْتَزَّ وهْو غيرُ كَهَامِ([18">)
وما قاله ابن الرومي عن تسلط جباة الخراج على الناس صحيح تؤيده الأخبار؛ إذ كان هؤلاء الجباة يبالغون في تعذيب المزارعين وأصحاب الضياع ليستخلصوا منهم أموال الخراج، وقد صور ابن المُعْتَزِّ (عبد الله بن محمد 296 هـ) في أرجوزته المشهورة ما كان يفعله هؤلاء الجباة في المزارعين، مِنْ ضَرْبٍ بالسِّياط، وجَرٍّ على الوجوه وهم مقيدون بالأغلال، ومن المبالغة في تعذيبهم كصبِّ الزيت المغلي أو النفط على رؤوسهم، ومن تعليقهم بالجدران من أيديهم وأرجلهم حتى يدفعوا ما عليهم وزيادة، من غير أن يُقَدِّرَ أولئك الجباة الظالمون سوء أحوال المزارعين والكوارث التي لحقت بهم، وأقلّها شُحُّ المطار وغلاءُ الأسعار والآفاتُ التي لحقت زروعهم..([19">)
ويبلغ هَوَانُ ابن الرومي عند الناس ـ لضعف سلطة العدل والقانون ـ حداً مخزياً عندما تتجرأ عليه امرأة فتسلبه بيته الذي يسكنه، ويدهش ابن الرومي لهذه الجرأة التي تصدر من امرأة من المفترض أن تكون ضلعاً قاصراً ضعيف الأركان والقوى، فيستغيث بممدوحه من آل وهب ليرد له بيته من براثن هذه المرأة الضعيفة القوية([20">):
أجِرْنْي وزيرَ الدِّينِ والملْكِ إنني إليكَ بحقّي هاربٌ كلَّ مَهْرَبِ
تَوَثَّبَ خَصْمٌ واهِنُ الرُّكْنِ والقُوَى على أَيِّدِ الأركانِ لم يَتَوَثَّب
أريدُ ارتجاع َالدارِ لي كيف خَيَّلَتْ بِحُكْمِ مُمَرٍّ أو بِلُطْفٍ مُسَبَّب
وتا للهِ لا أرضَى برَدِّ ظُلامَتي إلى أن أَرى لي ألفَ عَبْدٍ ومَرْكَب
والعصر العباسي كما هو معلوم عصر امتزاج عرقي بين العرب والأعاجم ولاسيما الفرس والترك الذين استعان بهم الخلفاء العباسيون لتوطيد حكمهم، فبرزت مشكلة كبيرة تتعلق بهذا الامتزاج هي الاعتداد بتلك الأصول على حساب الأصول العربية، والزراية بها والسخرية من معيشة الأعراب، وقد عُرف هؤلاء بالشعوبيين. لكن العرب لم يسكتوا، بل تصدوا للشعوبيين وحاوروهم وحاجُّوهم ودافعوا عن الأصول بين الطرفين. وقد غُمِزَ ابن الرومي في أصله غير العربي، فاهتاج ورَدَّ عن نفسه ضَعَةَ نسبه بأنْ وصل نسبه بملوك الفرس من جهة أمه، وبملوك اليونان من جهة أبيه، من غير أن يتعالى على العرب أو يسخر منهم ومن حضارتهم كما يفعل الشعوبيون. ومن اللافت للنظر أن جميع الأعاجم كانوا يربطون أنسابهم غير العربية بالملوك من الفرس والروم أو اليونان والترك، وهم في الحقيقة ليسوا من أحفاد أولئك الملوك، بل إن معظمهم من عامة الأعاجم، لكن الرغبة في التباهي والتعالي على العرب جعلتهم يزعمون هذا الانتساب، فكل فارسي هو من سلالة كسرى والساسانيين، وكل رومي هو من سلالة قيصر، وكل تركي هو من سلالة خاقان. وليس الأمر كذلك، لكنه الكَيْدُ والتباهي.
من ذلك قول ابن الرومي يباهي بأصله الرومي أو اليوناني كما سماه من جهة أبيه، وبأصله الفارسي الساساني من جهة أمه، مشيراً إلى أنه سيصل إلى الأمجاد التي وصل إليها أجداده:
إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ به فلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ
بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِنُ سِياسَتَها فلم يَلِدْنيْ أبو السُّوَّاسِ ساسان([21">)
ثم يرى أن الروم أهل أمجاد وقوة وحكمة، وانه وقومه لا يرون وجوههم في المرايا كالنساء، وإنما يرونها في صفحات السيوف البيض القاطعة:
ونحن بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجاً ومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِلابُ المَعاجِمِ
وحِلْمٌ كأركانِ الجبالِ رَزانَةً وجَهْلٌ تَفادَى منه جِنُّ الصَّرائِم
وما تتراءى في المَرايا وجوهُنا بلى في صفاحِ المُرْهَفاتِ الصَّوارم([22">)
ثانياً: المؤثرات الشخصية (جسمه ونفسه):
وصف ابن الرومي جسمه ونفسه بكل ما فيهما من عيوب وأوجاع ومآخذ. وأسرف في ذلك الوصف حتى لم يستطع أحد من الشعراء غيره اللحاق به في هذا المجال، بل إن معظم شعره يمكن أن يحمل على هذا الوصف. وثمة نماذج شعرية كثيرة له في وصف جسده بما فيه من علل وعيوب، ونفسه بما فيها من مخاوف وأوهام وظنون، لكنني سأقف عند شاهد واحد هاهنا يصور فيه ابن الرومي جملة من المصائب التي نزلت به في جسده وفي نفسه، وهذه المصائب هي التي ركز عليها في شعره أكثر من غيرها، وفصل القول فيها. كقوله يمدح الوزير القاسم بن عبيد الله ويعاتبه، في قصيدة تتألف من مئتين وستة عشر بيتاً، ثلثاها في تصوير سوء حاله:([23">)
أنا مَولاكَ أنت أَعْتَقْتَ رِقّي بعدما خِفْتُ حالةً نَكْراءَ
فَعَلامَ انصرافُ وجهِكَ عني وتَنَاسيْكَ حاجتي إلْغاء
أنا عارٍ مِنْ كلِّ شيءٍ سوى فَضْـ لِكَ لا زلْتَ كِسْوَةً وغِطاء
أنا مَنْ خَفَّ واسْتَدَقَّ فما يُثْـ ـقِلُ أرضاً ولا يَسُدَّ فضاء
أنا لَيْثُ اللُّيوثِ نَفْساً وإنْ كُنْـ ـتُ بجسمي ضَئِيْلَةً رَقْشاء
لستُ باللُّقْطَةِ الخَسِيْسَةِ فاعرِف ليَ قَدْري واسألْ به الفُهَماء
أنا ذاك الذي سَقَتْهُ يَدُ السُّقْـ ـمِ كُؤوساً مِنَ المُرَارِ رِوَاء
ورأيتُ الحِمامَ في الصُّوَرِ الشُّنْـ ـعِ وكانتْ لولا القضاءُ قَضاء
ورَماهُ الزمانُ في شُقَّةِ النَّفْـ ـسِ فَأَصْمَى فُؤَادَهُ إصْماء
وابتلاهُ بالعُسْرِ في ذاكَ والوَحْـ ـشَةِ حتى أَمَلَّ منه البَلاء
وثكِلْتُ الشبابَ بعد رَضَاعٍ كان قبلَ الغِذاءِ قِدْماً غِذاء
كلُّ هذا لَقِيْتَهُ فَأَبَتْ نَفْـ ـِيَ إلاَّ تَعَزُّزاً لا اخْتِتاء
وأَرى ذِلَّتي تُرِيْكَ هَوَاني ودُنُوِّي يَزيدُني إقْصاء
إن هذه الأبيات تصور حقاً حال ابن الرومي تمام التصوير، وتعبر عما يحسه من هموم وعذاب في جسده وفي نفسه، وقد توجه بهذه الأبيات إلى ممدوحه الذي وصفه بأنه سيده ومالك أمره الذي سيقضي له حوائجه، ثم يشير إلى أن ضعف بنيته لا يؤثر في همته وشجاعة نفسه وإبائه، وأنه ذو أصل عريق، وليس لقيطاً لا يُعرف والدُه أو أصله، وهو الذي تكالبت عليه الأمراض والعلل حتى طحنت جسده، وهو يكره الأشكال القبيحة ويراها كالموت الذي يكرهه ولا يحب لقاءه، وهو فوق كل ذلك مُعْسِرٌ وحيد في حياته، فقدَ الشباب في سن مبكرة. لكن كل ما أصابه لم يجعل ممدوحه يَحِنُّ عليه أو يقدّر سوء حاله، بل ظن أن ما به من تذلل وخضوع له هو مِنْ هَوانِ نفسه، فما زاده ذلك التذلل إلاَّ إبعاداً له عن مجالسه وتنكراً له.
وهذه المعاني تصور ما أصاب ابن الرومي في حياته، وإن كان فيها بعض المبالغة، لكن هذه المبالغة تخفي خلفها حقيقة ما أصابه.
وقد أثرت هذه الأوضاع التي ذكرها ابن الرومي في شعره كثيراً، لكن تأثيرها لم يكن واحداً، بل أخذ منحنين اثنين؛ أولهما التعبير عن هذه الأوضاع تعبيراً حقيقياً من خلال مئات القصائد والمقطعات التي تدور في معظمها حول هذه المعاني، وثانيهما تجاوز هذه المعاني والبحث عن معانٍ مناقضة لها على سبيل التعويض، فادعى أشياء لم تكن فيه، وصور نفسه بصورة بعيدة عما هي عليه، كما حوّل ضعف بنيته إلى قوة مبالَغ فيها. ولم يقف عند هذا الحد بل أثرت أحواله الجسدية والنفسية في طبيعة شعره أيضاً.
وسأَفْصِل بين جسده ونفسه فصلاً مؤقتاً لأبحث ـ في كل قسم على حدة ـ عن المؤثرات التي أثرت فيهما، وعن المظاهر التي نتجت عن تلك المؤثرات. وإن كان هذا الفصل غير علمي، لأن كلاً من جسده ونفسه كان يستجيب للآخر، ويحركه، ويتحرك به.
1 ـ جسمه:
كان ابن الرومي ضعيف البنية، يُغَرْبِلُ في مشيته، ويستند على العصا في آخر أيامه، ضعيف البصر والسمع، يشكو من ضعف جنسي، ومن شيب غزا رأسه في سن الشباب، علاوة على نهمه الشديد إلى الطعام([24">).
وقد عبر عن هذه الأحوال بالصدق حيناً من خلال أشعار كثيرة، وبالادعاءات الكاذبة حيناً آخر ليخفي ضعفه، لكنه بادعاءاته تلك قدم لنا تحليلاً دقيقاً لنفسه وإن كان تحليلاً معكوساً، لكنه لا يقل أهمية عن الأشعار التي وصف فيها أحواله الجسدية والنفسية فمن بين ادعاءاته الكثيرة قوله يصف شجاعته وفروسيته وبطولاته، على الرغم مما عرف عن بنيته من ضعف واعتلال، وعن نفسه من جبن وخوف وتوهم([25">):
وإني لَلَيْثٌ في الحروبِ مُظَفَّرٌ مُعَارٌ أَداةَ الهَصْرِ بالظَّفْرِ والعَضِّ
إذا ما هَزَزْتُ الرُّمْحَ يومَ كَريهةٍ لِجَمْعٍ فذاكَ الجَمْعُ أولُ مُنْفَضّ
تَضاءَلُ في عيني الجُموعُ لدى الوَغَى وإنْ هي جاءتْ بالقَضِيْضِ وبالقَضّ
وما ضَرْ بِيَ الأقْرانَ عند لقائِهمْ بِذَبّ ولا طَعْنِي هنالك بالوَخْض
فهو أسد في الحروب، مظفر دوماً، وسلاحه في انتصاره على الأعداء، كسرهم أظافره وأسنانه، وهو قادر على تفريق الجموع برمحه مهما كانت كبيرة وكثيرة العدد، وهو يهجم على أعدائهم ويضربهم، ولا ينتظر هجومهم عليه ليدافع عن نفسه. وهذا الافتخار مبني على الادعاء الكاذب على شاكلة كثير من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وينسبون إلى أنفسهم أشياء ليست فيها. ولعل ابن الرومي أراد بهذه الأبيات أن يدفع عن نفسه تُهَمَ العجز والضعف والجبن التي كان يراها في نظرات معاصريه وغمزاتهم، ولعله أراد الخوض في موضوع الفخر بالشجاعة كما خاض فيه غيره من الشعراء.
ولـه قصيدة أخرى طويلة ضاع معظم أبياتها، ولم يبق منها إلا اثنان وعشرون بيتاً كلها على هذا النحو من الادعاءات الكاذبة بالقوة والشجاعة.([26">)
وفي موضع آخر في شعره يتحول ابن الرومي الجبان الذي يخاف مما لا يخيف إلى واعظ يعظ الناس بألا يجبنوا أو يخافوا، ويحضهم على الشجاعة والاستهانة بالنفس لأن العمر واحد والموت واحد، وأن الذي يخاف من الموت هو ناقص الإيمان، لاعتقاده أنه لن يُبْعَثَ من جديد بعد موته. وكل هذا ليظهر نفسه شجاعاً لا يخاف الموت، وأنه ليس جبانا ًكما يظن الناس:
لا تَجْبُنَنَّ لأنَّ النَّفْسَ واحدةٌ فإنما الموتُ أيضاً واحدٌ فَقَدِ
ما يَجْبُنُ المرءُ إلا وهْو مُعْتَقِدٌ أو مُشْفِقُ أنه إن مات لم يَعُد([27">)
وكان له شأن مهم مع أصحاب اللحى الطويلة، لأنه كان يكره إطالة اللحية، ويراها تعبيراً عن الحمق والنقص في صاحبها، وهذا أمر مألوف من شاعر ينفر من مظاهر القبح في كل شيء.
واللحية الطويلة الزائدة في طولها أو كثافة شعرها عن الحد أمر قبيح حقاً، لكن ابن الرومي في هجومه على أصحاب اللحى الطويلة كان يشعر بعقدة النقص تجاههم لأن لحيته هو كانت قصيرة، ولا سبيل إلى إطالتها، فلابد إذاً أن يقصروها هم. ومن هاهنا نستطيع أن نفهم سر هجومه على أصحاب اللحى الطويلة، لأن نصف شبر منها يكفي علامة على الرجولة كما يقول، فما الداعي إلى تلك الإطالة؟
أو فَقَصِّرْ منها فَحَسْبُكَ منها نِصْفُ شِبْرٍ علامةَ التذكيرِ([28">)
فالقضية لم تعد نفوراً من منظر قبيح فحسب، بل صارت تعويضاً نفسياً، وتعالياً على تهمة قد تُوجَّه إليه بسبب قصر لحيته، فبادر بالهجوم على الآخرين قبل أن يهاجموه هم، بل راح يُزَيِّنُ في أعينهم اللحية القصيرة، حتى لا يظن أحد منهم أن قِصَرَ لحيته عيبٌ فيه، بل لأنه هو يريدها أن تكون قصيرة، كالثعلب الذي قُطِعَ ذيلُه فلم يجد أمامه إلا أن يُزَيِّن ذلك الذيل القصير المقطوع في أعين الثعالب حتى يقطعوا أذياله مثله، لأنه ليس باستطاعته أن يعيد ذيله إلى ما كان عليه، أو كقولِهِ إن العِنَبَ حِصْرِمٌ حامض لأنه لم يستطع الوصول إلى كرمته.
وكان ابن الرومي نهماً إلى الطعام نهماً شديداً أفسد عليه صحته، حتى قيل: إن نهمه تسبب في هلاكه([29">). وقد عبر عن هذا النهم تعبيرين مختلفين، وإن كان بينهما خيط دقيق واضح؛ فقد وصف شهوته الجامحة إلى الطعام ـ بمختلف صنوفه ـ من خلال كثير من القصائد والمقطعات، وتفنن في وصف أصنافه وأشكاله وطعومه وطرائق تحضيره... ويضيق بنا المجال لو رحنا نتبع الأصناف التي ذكرها منه في شعره، لكنه شهر بحبه للسمك([30">). من ذلك قوله في قصيدة مدحية تتألف من اثنين وعشرين بيتاً، منها سبعة أبيات باهتة في المديح، والباقي في ذكر السمك:
واعلمْ وُقِيْتَ الجهلَ أنك في قَصْرٍ تَلِيْهِ مَطارِحُ السَّمَكِ
وبَناتُ دِجْلَةَ في فِنائِكُمُ مَأْسُوْرَةٌ في كلِّ مُعْتَرَكِ
بيْضٌ كأمثالِ السَّبائِكِ بلْ مَشْحُونَةٌ بالشَّحْمِ كالعُكَك
تُغْنِي عن الزَّيَّات قالِيَها وتُبَخِّرُ الشاوِيْنَ بالوَدَك
والهازِباءُ هَدِيَّةٌ ذهبتْ مذ جاوزتْ أسْكُفَّةَ الحَنَكِ
وافَى فألْفَيْناهُ في مِعَدٍ لم نُلْقِهِ للنَّسْلِ في بِرَك([31">)
فما يطلبه من ممدوحه هو أكلة سمك من نهر دجلة المجاور لقصره، ثم يصف ذلك السمك وهو في النهر قد طُبِّقَ شحماً يغني عن الزيت، وتفوح منه رائحة الدسم إذا قلي، لكن هذه الأكلة الهدية قد ذهبت إلى المعدة بعد المضغ، وهذا خير من أن تظل الأسماك في النهر لتتكاثر وتتناسل.
وهذا المزج بين الطعام والمرأة نقله أيضاً إلى أركان الصورة نفسها، فاستعان به ركناً من أركان التشبيه؛ فالأطعمة والأشربة عناصر مهمة من عناصر الصورة الشعرية عنده، ويكفي للتدليل على ذلك أن نتذكر ما قاله في قصيدته المشهورة في المديح التي مطلعها:
أَجْنَتْ لك الوَجْدَ أغصانٌ وكُثْبانُ فيهنّ نوعانِ تفاحٌ ورمان
وفوقَ ذَيْنِكَ أعْنابٌ مُهَدَّلَةٌ سُوْدٌ لهنَ مِنَ الظَلْماءِ أَلْوان
وتحت هاتِيْكَ أعنابٌ تَلُوْحُ به أَطْرافُهُنَّ قُلوبُ القومِ قِنْوان([32">)
فهو يركّب صوراً جميلة من الطبيعة والثمار الطيبة؛ فقامة المرأة غصن، وردفاها ضخمان يرتّجان ككثيب الرمل الناعم، وخداها لونهما أحمر كالتفاح، ونهداها بارزان مستديران كالرمان، وشعرها أسود مرسل فاحم كالعنب الأسود، وأطراف أصابعها محمرة كأنها عنب أحمر، أو (عنّاب) كما في رواية أخرى، لذا كان لابد لامرأة بهذه الأوصاف أن تجني ثمار الوجد لعاشقيها، أو أن تتجنى عليهم وتمزق قلوبهم، لأن لكلمة (جَنَى) معنيين؛ أحدهما من الجَنْيِ يكون للثمار، والآخر من الجِنايَةِ بمعنى الذنب والجُرْم. والمعنيات جائزان في البيت السابق.
وإمعان ابن الرومي في الطعام ونهمه الشديد فيه من أهم أسباب إطالته في المعاني أو في القصائد، وكأنه لا يريد أن يترك المعنى حتى يشبع منه، ولا يبقي منه إلا الفضلات التي لا تنفع أحداً. وقد دفعه ضعفه الجنسي إلى التعويض أيضاً بعدة طرق؛ منها وصف بعض المغامرات مع النساء، وأنه محبوب مرغوب فيه على طريقة عمر بن أبي ربيعة في الغزل المعكوس، بل إن النساء يتهالكن عليه وهو يرفضهنّ ولاسيما إذا كن مغنيات، ومنها الهجاء الفاحش الذي يذكر فيه السوءات ويسمي الأشياء بمسمياتها([33">)، كما دفعه هذا الضعف إلى تَشَهِّي المرأة، وتخيلها في كل شيء كالطبيعة والطعام، لكن الحقيقة بعد كل ذلك أن المرأة كانت تنفر منه لقبحه ولشيبه، وربما لضعفه الجنسي، مما زاده كرهاً لها، وإمعاناً في هجائها ونفي كل فضل عنها.
فهو يصور نفسه محبوباً من النساء اللواتي يخطبن وده ويتهالكن على وصاله، وهو يتأبى عليهن ويتمنع، وله قصيدة كتلك القصائد التي نظمها عمر بن أبي ربيعة في وصف النساء اللواتي يسعين خلفه، فحاول ابن الرومي أن يقلده، ونجح في ذلك إلى أبعد حدود النجاح، حتى ليخيل إلى القارئ أن القصيدة لعمر وليست لابن الرومي:([34">)
كتبتْ رَبَّةُ الثنايا العِذابِ تَتَشَكَّى إليَّ طُوْلَ اجْتِنابي
وإذا قرأنا القصيدة بتمامها رأينا كيف يخدعنا ابن الرومي بادعائه الجديد هذا، فهو يزعم أن صاحبته أرسلت إليه خطاباً تدعوه إليها، وتشتكي له من طول غيابه عنها، وتصف حبها الذي أضنى فؤادها، فاستجاب لخطابها ورحل إليها مقتحماً المخاطر، ومتجاوزاً الحراس في الليل بعد أن هجعوا من التعب، فاستقبلته صاحبته مع أترابها وهنّ كاشفات عن وجوههن وقد أمضين الليل ساهرات ينتظرن قدومه، وتسلَّلْنَ إليه خوفاً من الحراس والبواب، ورُحْنَ يتحدثنَ عنه أحاديث تَشِفُّ عن عشقهن له وعدم قدرتهن على الصبر على فراقه، وهن يتمنْينَ أن يَرِقَّ لأحوالهن، ثم جلس إلى صاحبته فراحت تعاتبه على هجره لها، فأعلمها أنه ما هجرها طائعاً ولا سالياً عنها بالخمر والطرب، بل لأنه كان مثلها يشكو من نار الهوى التي كَوَتْهُ فلم يستطع أن ينام ليله، وكأن فراشه حشي بالحجارة الحادة الناتئة. وبعد هذا العتاب تصالحا وتواعدا على اللقاء من جديد.
إنها حكاية جميلة بلا شك، لكن ابن الرومي مُدَّعٍ في كل كلمة قالها، فهو لم يكتف بالقول إن صاحبته تشتاق إليه، وأنها متيمة به، بل زعم أن صويحباتها متيمات به أيضاً، ثم صور ما لحق بصاحبته من عذاب بسبب هجرانه، حتى راحت تتمنى هي وصويحباتها أن يرق لها. لكنه ختم القصيدة بخاتمة لا تناسب ادعاءاته فيها، فقد أشار إلى أنه متيم بصاحبته كما هي متيمة به، حتى إنه قَلِقٌ يتقلب على فراشه ولا يستطيع أن ينام لشدة حبه لها واشتياقه إليها. وكان من المفترض ـ بعد كل تلك المقدمات التي ساقها ليؤكد محبة المرأة له وسعيها خلفه وهجرانه لها ـ أن يخفي مشاعره نحو صاحبته ويتلذذ بعذابها وسعيها خلفه، أو يظهر عدم اهتمامه بحالها وقلة مبالاته لما أصابها.
ويزعم في مواضع أخرى كثيرة مزاعم كهذا الزعم، لكنه يضيف إليه مزاعم جديدة تؤكد فحولته وقوته الجنسية([35">).
ونستطيع أن نعلل ـ بعد هذا الفهم لحقيقة علاقته بالنساء ـ أسباب سوء ظنه بالمرأة، والمبالغة في هجاء النساء ولاسيما المغنيات، لأن المرأة نفرت منه لقبحه ولشيبه، أو لعنانته، أو لأمراضه وعلله، أو لكل هذه الأسباب معاً، فكان رد ابن الرومي عليها أنْ سلب منها كل فضيلة، وصورها فاجرة، أو على أقل تقدير خائنة لا تعرف الوفاء بالعهود. وهذا الكلام ينطبق على كل النساء في زعمه كما يقول:
ولا يَدُمْنَ على عَهْدٍ لِمُعْتَقِدٍ أنّى وهُنّ كما شُبِّهْنَ بُسْتانُ
يَمِيْلُ طَوْراً بِحِمْلٍ ثم يُعْدَمُهُ ويَكْتَسي ثم يُلْفَى وهْو عُرْيان
حالاً فَحالاً كذا النَّسْوانُ قاطِبَةً نَوَاكِثٌ. دِيْنُهُنَّ الدَّهرَ أدْيان
يَغْدُرْنَ والغَدْرُ مَقْبُوحُ يُزِّيُنهُ للغاوِياتِ وللغافِيْنَ شَيْطان
تَغْدو الفتاةُ لها حِلٌّ فإنْ غَدَرَتْ راحتْ يُنافِسُ فيها الحِلَّ خِلان
فإنْ تُبِعْنَ بَعَهْدٍ قُلْنَ مَعْذِرةً إنا نَسِيْنا وفي النّسْوان نِسْيان
يكفي مُطالِبَنا للذّكْرِ ناهِيَةً الغالِبَ المشهورَ نِسْوان
فَضْلُ الرجالِ علينا أنَ شِيْمَتَهم جُوْدٌ وبَأْسٌ وأحْلامٌ وأَذْهان
وأنَّ فيهم وَفاءٌ لا نَقومُ به ولن يكونَ مع النُّقْصانِ رُجْحان([36">)
________________________________________
* أستاذ مساعد في كلية الآداب بجامعة حلب ـ سورية.
([1">) انظر ديوان ابن الرومي: 1/232، 331، 298, 341، 374، 2/637، 668، 789، 3/954، 968، 5/1957.
([2">) انظر تاريخ الطبري: 9/660 ـ 663.
([3">) ديوان ابن الرومي: 6/2377. السجام: التي تسيل. الهنات: الأشياء.
([4">) نفس المصدر السابق.
([5">) ديوان ابن الرومي: 3/81283.
([6">) ابن الرومي حياته من شعره: 88 ـ 89ز
([7">) ديوان ابن الرومي: 1/71.
([8">) المصدر السابق: 6/241.
([9">) ديوان ابن الرومي: 1/231 ـ 232. يعاف: يترك. اللجج: جمع لُجَّة: معظم البحر وتردد أمواجه. النطف: جمع نُطْفة: الماء الصافي أو القطرة منه.
([10">) ديوان ابن الرومي: 4/1380. المستكنات: المختبئات. الوتر: الثأر.
([11">) ديوان ابن الرومي: 1/257. صَدى: عطش. الثنايا: الأسنان. الرضاب: الريق. شُحٍّ: بخل. الغانيات: النساء الجميلات. ابن شبيبة: الشاب. جَوْن: أسود. وجون الغراب: كناية عن الشباب لأن الغرابُ أسود اللون وكذلك الشعر أيام الشباب. صَرَّدْنَ: سقينني جرعات متفرقة أو قَلَّلْنَ في السقاية. خِلاب: مخادعة وافتتان قلب. عَتْبي: معاتبتي.
([12">) ديوان ابن الرومي: 1*67. التَّواء: الهلاك. مُسْتَحِير: آخذ من الحسب كلَّ مأخذ. اللَّمَّة: شعر الرأس المجاور شحمة الأذن. سَحْماء: سوداء. رَثّة: هيئة قبيحة. شمطاء: عجوز شعرها مختلط سواده ببياض.
([13">) المصدر نفسه: 1/111. المُسْتَقَى: السقاية، يريد الفهم. الورود: القدوم على الماء للشرب. الرَّشاء: حبل الدَّلْو.
([14">) ديوان ابن الرومي: 1/66 ـ 67. تلوي: تصرع وتهزم. الصناديد: الشجعان الشرفاء. الرخاخ: جمع رُخَّ: حجرة من حجارة الشطرنج. الفرازين: جمع فِرْزان: الوزير. الشاه: الملك. القِتْلة: النظراء في القتال وغيره، يريد خصومه من اللاعبين. الدست: رقعة الشطرنج. الرسلاء: الناس الذين يلعبون معه.
([15">) انظر ما جمعه العقاد من الأعجمي في كتابه: ابن الرومي حياته من شعره: 94.
([16">) ديوان ابن الرومي: 2/667.
([17">) المصدر نفسه: 1/56 ـ 57.
([18">) ديوان ابن الرومي: 6/2376، يَذْبُل وشَمَام: جبلان. الغَرام: الغُرْم. سَوْرَة: سَطوة. مَشْبوبة: مشتعلة ومتوهجة. الضِّرام: لهب النار. غير كَهام: قاطع وحاد.
([19">) انظر ديوان ابن المعتز: 494. والعصر العباسي: 21.
([20">) ديوان ابن الرومي: 1/252 ـ 253. واهِن: ضعيف. أيَّد: قوي. خَيَّلَتْ: التبست أو كان بها شبهة. مُمَرَّ: قاطع أو غالب.
([21">) ديوان ابن الرومي: 6/ 2425.
([22">) المصدر نفسه: 6/2272. الحِجا: العقل. المعاجم: المُمْتَحَنِ. الصَّرائم: الأماكن المنقطعة. المرهفات: السيوف. الصوارم: القواطع. والبيت الثاني مأخوذ من قول الشاعر الفَرَزْدَق:
أحلامُنا تَزِنُ الجبالَ رَزانَةً وتَخالُنا جِنّاً إذا ما نَجْهَلُ
والبيت في: شرح ديوان الفرزدق: 2/321.
([23">) ديوان ابن الرومي: 1/82 ـ 91. خَفّ: صار خفيفاً. اسْتَدَقَّ: صار دقيق البنية. رَقْشاء: أفعى. اللُّقْطَة: اللقيط له أب أو أصل. رِواء: الشرب حتى الشبع. الحِمام: الموت. أَصْمَى: أصابه بالصمم. اخْتِناء: حيلة ومخادعة.
([24">) انظر ابن الرومي حياته من شعره: 97.
([25">) ديوان ابن الرومي: 4/1381. في الديوان: [وما ضرَّ بي">. والصواب ما أثبتناه. وانظر أيضاً: 6/2343. مُعار: من الإعارة. الهَصْر: الكَسر من غير فَصْل. كريهة: حرب. جاء القوم بِقَضِّهِمْ وقَضِيْضِهِم: أي جاؤوا كلهم. الذْبُّ: الدفع والمنع. الوَخْض: إذا خالطت الطعنة الجَوْفَ ولم تنفذ.
([26">) انظر المصدر نفسه: 4/1709 ـ 1710.
([27">) المصدر نفسه: 2/694. قَدِ: اسم فعل بمعنى يكفي.
([28">) ديوان ابن الرومي: 3/928.
([29">) ديوان ابن الرومي: 3/928.
([30">) انظر زهر الآداب: 2/395.
([31">) ديوان ابن الرومي: 5/1811. وانظر نماذج أخرى لأطعمة أخرى في المصدر نفسه: 1/61، 205، 209، 6/2648. العُكَك: جمع عُكَّة: زِقٌّ صغير يوضع فيه السَّمن. الوَدَك: الدَّسَم. الهازِباء: نوع من أنواع السمك. أُسْكُفَّة: عَتَبَةُ البيت، يريد أوَّل الحَنَك.
([32">) المصدر نفسه: 6/2416. كثبان: رمال مجتمعة مُحْدَوْدِبَة، يريد الأرداق. قنوان: مقسومة.
([33">) انظر ديوان ابن الرومي: 5/1846، 1985.
([34">) انظر القصيدة كاملة في المصدر السابق: 1/330، وانظر فيه أيضاً: 2/746.
([35">) ديوان ابن الرومي: 4/1707. وانظر فيه أيضاً: 4/1617، 5/1932، 1984.
([36">) ديوان ابن الرومي: 6/2421.
وهذه القصيدة إدانة للمرأة كما يراها ابن الرومي، ودفاع فارغ محموم عن الرجل الذي وصفه ابن الرومي بالوفاء والحلم والجود والقوة والعقل. وهو في هذه القصيدة يلتمس كل توضيح ممكن لكي يرسخ في الأذهان صور المرأة الغادرة الناكثة للعهود.
وعلاوة على هذه النظرة الدُّونية إلى النساء رأى ابن الرومي في المرأة كائناً جميلاً يحقق له المتعة، لذا كان يحاكي جمالها الخارجي ولا يحاكي تأثيره في نفسه، فعندما وصف المغنية (وحيد) حاكَى ظاهر حسنها ولم يحاكِ تأثيره في نفسه، أما غزله الرقيق العفيف فمحاكاة فنية في الغالب؛ إذ جعل قسماً منه مقدمات لقصائده، والقسم الآخر محاكاة لغيره من الشعراء في غرض مهم كالغزل، أو أنه كان يُعِدُّ هذا الغزل الرقيق للغناء. ومن هاهنا يمكن أن نفهم بعضاً من أسباب هجومه على المغنين والمغنيات، وهجائه الفاحش لهم، فمن الممكن أن يكون أولئك المغنون والمغنيات ـ الذين هجاهم ابن الرومي ـ رفضوا أن يتغنوا بأشعاره، وإن كنا لا نمتلك أدلة على هذا الزعم، بل إن الأدلة على نفيه أقوى من الأدلة على إثباته.
وأنا لا أستبعد أن يكون ابن الرومي قد أحب مرةً في حياته، لأنه ذو مشاعر طيبة فياضة، فقال ما قاله من غزل رقيق في التعبير عن مشاعره تلك، ولا أستبعد أيضاً أن يكون قد صُدِم بحبه، فغدرت به المرأة التي أحبها، مما جعله لا يعيد التجربة ثانية، ويسيء الظن بالنساء جميعاً. ومن المعروف عن ابن الرومي أنه يتوقع الشر والأذى في كل شيء، بل في الأشياء التي لا يمكن أن يأتي منها الشر، لذا لم يُعِد التجربة العاطفية مع امرأة أخرى تَوَجُّساً لشرٍّ أكيد سيأتي منها ومن غيرها، لأنه في الحالة العادية كان يتوجس الشر في الأشياء المحيطة به قبل أن يختبرها، فكيف سيكون موقفه منها بعد أن اختبرها ورأى الشر والغدر فيها؟ مما هَيّأ لهذا الهجوم السافر على المرأة عموماً.
لكن موقف ابن الرومي من المرأة يتحول إلى نقيضه إذا كانت المرأة إحدى اثنتين، أماً أو محبوبة؛ فأما الأم فرمزٌ للطهر والعفة والفضيلة، صوامةٌ نهارها قوامةٌ ليلها، حاضنةٌ مرضعةٌ حنون([1">)، وأما المرأة فطاهرة إن أحبها وبادلته حبه بحب، فعندئذ يخلع عليها كل صفات العفة والطهر ونقاء السريرة، ويصورها وفية بعهودها، كقصيدة رثاء المغنية (بستان) وكان يحبها، ويبدو من كلامه أنها كانت تحبه، أو لم تكن تصده على أقل تقدير:([2">)
2 ـ نفسه:
انعكست نفس ابن الرومي في شعره تمام الانعكاس، وأثرت فيه تأثيراً واضحاً، حتى ليصِحّ أن نقول: إننا لا نستطيع فهم شعره ما لم نفهم نفسه حق الفهم. وانعكاسُ نفسه في شعره أخذ عدداً من الأشكال أو المظاهر؛ منها ما كان تعبيراً صادقاً عن تلك النفس في مختلف أحوالها، ومنها ما كان تعويضاً عن هزائم وانتكاسات نفسية أخذت شكل ادعاءات مختلفة، كتلك الادعاءات التي رأينا بعضاً منها عندما تكلمنا عن بيئته وعصره وجسمه.
وابن الرومي لا يلتزم خطاً واحداً أو نهجاً واحداً في وصف أحواله أو في التعبير عنها، لأن أحواله نفسها لم تكن تسير على نهج واحد، فقد كانت مضطربة أشد الاضطراب، تَمْتَحُ من مَعين نفسه المضطربة ومن جسمه المضطرب ومن عصره المضطرب، فحياته كلها اضطراب في اضطراب، لذا انعكس هذا الاضطراب في شعره من خلال تناوله لما يشعر به. إن نفسه أشبه ما تكون ببيت اليَرْبُوع الذي يحفر فيه خطوطاً في مختلف الاتجاهات ليحمي نفسه من المتطفلين والأعداء، ونَفْسُ ابن الرومي كانت كبيت اليربوع، بل إن ابن الرومي أمعن في الاحتراز والتخّفي من الآخرين فزاد في حفر تلك المداخل والمخارج، وتفنن في ذلك حتى أوقعنا في كثير من الأحيان في متاهات نفسه، فاختلطت علينا مداخلها ومخارجها، حتى لم يجرؤ أحد منا ـ نحن دارسي شعره ـ على تأكيد حُكِم، أو توثيق حالة شعورية مرت بالشاعر، من غير أن يقدم بين يديه أكثر من افتراض، متعللاً بعبارات الترجيح من مثل قوله: أظنُّ، ويخيَّل إلي، وعلى الأرجح، وأَغْلَبُ الظن، ولعل، ويَلُوْحُ لي...
وتزداد حيرة الباحث كلما توغل في نفس ابن الرومي، لأن الأخبار التي وصلت إلينا عنه شحيحة جداً، ينقلها اللاحق عن السابق بكثير من التكرار والتَزيُّد وعدم التدقيق، فلا نجد أمامنا إلا أن نضرب شعره بعضه ببعض، ونقيس شيئاً على شيء، نَحْزِرُ حيناً ونُخَمِّن أحياناً أخرى، وقد نجزم أحياناً قليلة، من غير أن نصل إلى قناعة أكيدة بالأحكام التي أطلقناها عليه.
وتعترضنا صعوبة أخرى ـ سبق أن أشرنا إليها من قبل ـ تتعلق بطبيعة المؤثرات التي أثرت في ابن الرومي، في جسده ونفسه، وفي طبيعة المظاهر التي تجلت فيها، فتَقَصِّي المعاني مثلاً مظهرٌ جَلِيٌّ في شعره لكن أسبابه أو المؤثرات فيه متعددة، كثقافتِه الواسعة ونهمِه الشديد إلى الملذات نهماً انتقل إلى المعاني، وإحساسِه بتميزه من أقرانه من الشعراء، مما يدفعه إلى تقصي المعاني وإطالة القصائد ليثبت لهم أنه متميز حقاً، وأن ما به من عيوب جسدية ونفسية لم يمنعه من التفوق... كما أن تطيره أدى به إلى التحديق الدائم في الأشياء، وتقليبها على مختلف وجوهها، واستخراج دفائن المعاني منها، مما سبب في إطالة القصائد وتقصي معانيها. لكنني سأحاول تتبع تلك المؤثرات التي أثرت في نفسه لأصل إلى مظاهرها التي تجلت فيها في شعره.
كان ابن الرومي مرهف الحس، يهتاج لأدنى سبب مما قد لا يهتاج له الآخرون من الأسوياء، فقد كان يكبّر الأشياء ويضخمها لينفّر الناس منها، لأنه هو ينفر منها لقبحها في ذاته أو لقبحها في نظره، كما تجلت رهافة حسه أيضاً في ضيق صدره وسرعة غضبه وتبرمه بالناس وعدم القدرة على تحملهم، حيث كان ابن الرومي يشتكي من الناس باستمرار ويهجوهم أشد الهجاء، من ذل قوله يرد على رجل عيَّره بلبس العمامة في كل أوقات السنة على سبيل التحرش والاستهزاء به، فغضب ابن الرومي منه أشد الغضب وانتفض منزعجاً يهجوه أشد الهجاء، مؤكداً أنه أصلع لكنه صاحب فضل وعفة، ولا يخلف وعوده:
يُعَيِّرُني لُبْسَ العمامةِ سادِراً ويَزْعُمُ لُبْسِيْها لِعَيْبٍ مُكَتَّمِ
فقولا لـه: هَبْنِيْ كما أنا صَلْعَةٌ أَلَستُ حَصِيْنَ الخَلْفِ عَفَّ المُقَدَّم([3">)
ثم يهجوه هجاء فاحشاً، ولم يكتف بذلك، بل حاول أن يدفع عن نفسه تُهمَاً كثيرة، كضيق الصدر والتبرم بالناس وسرعة الغضب، وكأنه يريد أن يتعالى على ما فيه من عيوب نفسية، أو أن يعوض تلك النقائص والعيوب بفضائل يمتدحها الناس في كل الأزمنة والأمكنة؛ فقد ادعى أنه ذو حلم وصبر وأناةٍ، على الرغم مما سيُلْحِقُهُ صبرُه به من أضرار في جسده، وأن صدره واسع لا يضيق بالناس وإن ضاقت صدورهم وأخلاقهم هم، لكنه سيؤذي الآخرين ويجهل عليهم إن هم أساءوا إليه:([4">)
وإني لَذو حِلْمٍ وجَهْلٍ وراءَه فَمَنْ كان مُخْتَلاً رَضِيْتُ له حَمْضي
وفيَّ أنَاةٌ لا تُفاتُ بفُرْصةٍ لها سِيْرَةٌ مَوْضُوعَةٌ وهْي كالرَّكْض
وإني لَصَبّارٌ على الحقِّ يَعْتَري ولو كان في صَبْري له ما بَرَى نَحْضي
إذا ضاقتِ الأخلاقُ أَفْضَتْ خَلائِقي إلى سَعَةٍ مِثلي إلى مِثِلها يُفْضي
وهذه ادعاءات باطلة لا تستند إلى حقائق، بل إن ما عرف عن ابن الرومي في هذا المجال ينقضها نقضاً.
وابن الرومي ـ كما مرّ بنا ـ رجلٌ يحب الحياة مادامت تحقق له ما يريد من لذائذ، فإن ضَنَّتْ عليه بها سخط عليها من غير أن يكرهها، لأنه يؤمّل أن تصفو له بعد عبوسها، وهو رجل يخاف من الأشياء التي لا تخيف خوفاً مَرَضِيّاً، يجعله يتوجَّس الشر في كل شيء غامض، ولا يحسن الظن به.
وقد تجلّى حبه للحياة في الإقبال على ملذاتها والعَبِّ من أطايبها ما شاء له جسده العليل أن يعب منها، لكنه لم يكن يتأمل الحياة تأملاً فلسفياً ـ وهو القادر على هذا التأمل بحكم ثقافته الفلسفية الواسعة ـ بل كان ينظر إليها بعينه غالباً، ويسجل دقائقها تسجيلاً بعيداً عن مشاعره؛ فالخباز الذي يرقّق عجينة الخبز بيديه بسرعة يذكّره بمشهد عادي يعرفه الجميع، وهو مشهد رمي الحجر في الماء، حيث تتوسع الدائرة التي يسقط فيها الحجر بسرعة، فتشبه بذلك رُقاقَةَ العجين وهي كرة في يد الخباز عندما تتحول بسرعة إلى قرص يكبر ويستدير بسرعة لمهارة ذلك الخباز:([5">)
ما أَنْسَ لا أنسَ خبازاً مررتُ به يَدْحُوْ الرُّقَاقَةَ وشْكَ اللْمْحِ بالبَصَرِ
ما بين رُؤْيَتِها في كَفِّهِ كُرَةً وبين رُؤْيَتِها قَوْراءَ كالقَمر
إلا بِمِقْدارِ ما تَنْداحُ دائِرَةٌ في صَفْحَةِ الماءِ يُرْمَى فيه بالحَجَر
أو كقوله يصف قالي الزَّلابِيَةِ (نوع من أنواع العجين المَبْسُوْسِ بالسَّمن والسُّكِّر):([6">)
ومُسْتَقِرٌ على كُرْسِيِّهِ تَعِبٍ رُوْحي الفِداءُ لـه مِنْ مُنْصَبٍ نَصِبِ
رأيتُه سَحرَاً يَقْلي زَلابيَةً في رِقَّةِ القِشْرِ والتَّجْوِيْفُ كالقَصَب
كأنما زَيْتُهُ المَغْلِيُّ حين بَدا كالكِيْمِياءِ التي قالوا ولم تُصَب
يُلْقِي العَجِيْنَ لُجَيْنَاً مِنْ أَنَامِلِهِ فَيَسْتحِيْلُ شَبابِيْطاً مِنَ الذَّهب
فقالي الزلابية متعب يقوم بعمله في وقت مبكر، ثم يصف ابن الرومي رقة الزلابية ولونها الأبيض الفضي قبل أن توضع في الزيت المغلي الذي سيحول لونها الفضي ـ بعد أن تنضج ـ إلى لون الذهب، والعجينَ إلى ما يشبه أسماك الشَّبوط ذات الجسم العريض اللين الملمس، وكأن ذلك الزيت قادر على تحويل الأشياء من حال إلى حال كالكيمياء التي تحول المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة.
وابن الرومي في هذين الشاهدين، لا يلتفت إلى مشاعره تجاه المشهد الذي يصوره، لأنه لا يريد الامتزاج به أو التعبير عنه ممزوجاً بمشاعره، بل يسجله بعينه اللاقطة لخفايا الأشياء، وكأنه مصور يحمل آلة تصويره، فيصور ما يعجبه أو يستوقفه من مناظر، من غير أن نراه فيها أو نرى ظلاله على الأقل، فمحاكاته هاهنا لظاهر الشيء وليس فيها جوهر فكري، فإذا كانت "تَبْهَرُ العين فإنها لا تجاوزها إلى القلب أو العقل"([7">)،وإن كان الالتفات إلى هذه الموضوعات تجديداً حقيقياً في وظيفة الشعر، بعيداً عن القصور وما يجري فيها، أو ما تقتضيه من ضروب الشعر الرسمي.
وابن الرومي رجل يخاف كل شيء مما لا يخيف، بل إنه يتوهم أشياء ثم يخافها، وأن يُعَبِّرَ عن خوفه شعراً فهذا شيء عادي ومألوف، لأنه في هذه الحال يصف ما يشعر به وصفاً صادقاً، لكن من غير العادي أن يتناسى ما قاله عن الخوف ولاسيما من السفر ـ هذا الخوف الذي جعله يحرم نفسه عطاء الممدوح لأنه خاف السفر إليه وبقي في بيته ـ ويدعي ادعاءات تخالف طبعه وما عرف عنه ليدفع عن نفسه تهمة الخوف، وليريَ الناس أنه شجاع لا يخاف الأسفار في سبيل الوصول إلى الأمجاد، في حين ينام أصحاب الهمم الضعيفة عنها([8">):
وإني لَرَحَّالُ المَطِيِّ على الوَنَى قليلُ مُبالاةٍ بِإنْضاءِ ما أُنْضي
أبيعُ بَمكْروهِ السُّرى لذَّةَ الكَرى إذا رَوِيَتْ عينُ الدَّثُوْرِ مِنَ الغَمْض
أشُدُّ لنيلِ المجدِ رَحْلِي مُشَمَّراً وهل بعده شيءٌ أشُدُّ لـه غَرْضي
وابن الرومي كان يخاف كثيراً من الحكام ولاسيما القواد والأتراك، فلم يكن يتجرأ على هجائهم، وإن عُزلوا من مناصبهم خوفاً من أن يعودوا إليها مرة ثانية. وهذا الموقف تعبير صادق عن خوفه وتوجسه الشر في غده، وإن كان هذا الشر بعيد الحصول أو مستحيلاً، لكن من الغريب أن يبلغ الخوف حداً بابن الرومي يجعله يتغاضى عن مظالم القواد الترك ومفاسدهم التي أشار إليها كل من تحدث عنهم، بل يتزلف إليهم ويمتدحهم مشيراً إلى شجاعتهم في الحروب، وأنهم كالأسود المتعطشة لدماء فرائسها، يحاربون أعداءهم بكل قوة وبكل سلاح ماض، فيقضون عليهم قضاء تاماً، وهم أيضاً دهاة وذوو حلوم، فإن كنت تجهلهم فاسأل عنهم أعداءهم تعرفْ ما فعلوه بهم وبديارهم([9">).
وكان ابن الرومي يخاف الموت خوفاً شديداً ملك عليه نفسه، لكثرة مَنْ وَدَّع من أحباب وأهل وأصحاب، حتى أيقن أخيراً أنه مخصوص بالمصائب، وأن الموت يقصده دون غيره، لذا أجاد إجادة عظيمة في المراثي، فهي الموضوع الأقرب إلى نفسه البائسة التي طحنتها المصائب؛ فقدْ فَقَدَ كلَّ من يحب في الدنيا؛ أباه وخاله وخالته وشقيقه وأولاده الثلاثة وزوجته وأمه. ثم فقد المغنية (بستان) التي كان يأنس بها ويرتاح إليها، وفقد صحته وشبابه. وهذا الشعور العميق بالفَقْدِ، وما جُبلت عليه نفسه من مخاوف وتَطُّير، وما لحقه من مصائب في ممتلكاته جعل مشاعره ترق وتصفو ليحلق عالياً في فن الرثاء.
ولعل أهم موضوع من موضوعات الرثاء التي شغلته وملأت ديوانه بنغمات حزينة رحيلُ الشباب عنه في سن مبكرة قبل أوان الرحيل عند أقرانه، فقد أصابه الشيب وهو في الحادية والعشرين من عمره كما يقول:
فَظُلْمُ الليالي أنهن أَشَبْنَني لعشرينَ يَحْدُوهنّ حَوْلٌ مُجَرَّمُ([10">)
ويقيم ابن الرومي مآتم على شبابه الذي رحل عنه فرحلت معه البشاشة والسعادة والهناء، لذا يطلب من الناس أن يعزّوه به. ويتفنن في عرض حزنه على الشباب وبيان أثر رحيله في نفسه. ولا أبالغ إذا قلت إن بكاءه على شبابه أخذ ثلث ديوانه، وأخذت الشكوى الثلث الآخر، وتوزع الثلث الأخير على هجائه وما تبقى من مديحه التي توجه بها إلى الممدوحين، بداعٍ وبغير داعٍ، وقد يقدم به لقصائده في المديح، وقد يجعله غرضاً مستقلاً يُدِير حوله القصائد الطويلة. ولا أعتقد أنه ترك معنى يمكن أن يقال في رثاء الشباب إلا أتى به، لذا يتعذر حصر معانيه فيه، ولكن يمكن أن نشير إلى أبرزها؛ فالشباب عنده حياة وحيوية ونشاط وقوة، واقتناص ملذات، وانغماس في الشهوات من شرب للخمر وسماع للغناء ومصاحبة للنساء. الشباب باختصار يعني عنده دوام الحياة السعيدة بشهواتها وملذاتها، لذا كان هجومه عنيفاً على الشيب لأنه حرمه كل تلك الشهوات واللذائذ، ولاسيما النساء، فالمرأة تكون حيث الشباب والغنى والقوة، وكل هذه الأشياء سُلِبَ منه بالمشيب في غير أوانه، والمصائب التي حلت بممتلكاته، وبالعلل والأمراض التي تكالبت على جسده. بل إن مصيبة فقد الشباب لا تعادلها مصيبة. ولو أنه رُزِئ به فحسب لكفاه:
ولو لم يُصَبْ إلا بِشَرْخِ شبابِهِ لكانَ قدِ اسْتَوْفَى جميعَ المصائبِ([11">)
وزاد في حجم حزنه على الشباب إحساسه بدنو الأجل، لأن الشيب نذير سوء إذا عَدَدْنا الموت سوءاً كما كان يَعُدُّه ابن الرومي، فعندئذ نستطيع أن نفهم تمام الفهم سر حزنه الشديد على الشباب، وكثرة ما قاله فيه من أشعار.
ويبكي ابن الرومي الشباب في قصيدة بديعة قلَّ نظيرها في تاريخ الأدب العربي، من خلال مشهدين رائعين؛ أولهما مشهد الشمس الآفلة التي حان موعد غروبها، فودعت الدنيا والكائنات الحية لتقضي نحبها، بين بكاء تلك الكائنات وحزنها على فراقها، وثانيهما مشهد الطائر الصريع الذي سقط في شباك الصياد فيما كان يبحث عن طعامه وهو وسط جماعته من الطير. يريد ابن الرومي أن يقول في هذه القصيدة البديعة إن الشباب رحل ولن يعود مثلما رحلت تلك الشمس فرحل معها يوم لن يعود مرة أخرى، ومثلما مات ذلك الطائر ولن يعود إلى الحياة، أو إلى حريته وسط أقرانه. وقد افتتح القصيدة بالبكاء على الشباب:
بكيتَ فلم تَتْرُكْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعا زَماناً طَوَى شَرْخَ الشبابِ فوَدَّعا
ثم يبدأ بتوضيح حزنه على فقد الشباب من خلال مشهد الشمس الآفلة، فيقول:
إذا رَنَّقَتْ شَمْسُ الأَصيلِ ونَفَّضَتْ على الأُفقِ الغربيِّ وَرْساً مُذَعْذَعا
ووَدَّعَتِ الدُّنيا لِتقْضِيَ نَحْبَها وشَوَّلَ باقي عُمْرِها فَتَشَعْشَعا
ولاحَظَتِ النُّوَّارَ وهْي مَريضةٌ وقد وضَعَتْ خَدّاً إلى الأرضِ أََضْرَعا
كما لاحظتْ عُوَّادَهُ عَيْنُ مُدْنَفٍ تَوَجَّعَ مِنْ أَوْصابِهِ ما تَوَجَّعا
وظلتْ عُيونُ النُّوْرِ تَخْضَلُّ بالنَّدَى كما اغْرَوْرَقَتْ عينُ الشَّجِيِّ لِتَدْمَعا
يُراعِيْنَها صُوْراً إليها رَوانِياً ويَلْحَظْنَ ألحاظاً مِنَ الشَّجْوِ خُشَّعا
وبَيَّنَ إِغْضاءُ الفِراقِ عليهما كأنهما خِلاّ صَفاءٍ تَوَدَّعا
فهو يرسم منظراً رائعاً للغروب، حيث لم يبق من عمر الشمس إلاَّ القليل، ومال لونها إلى الاصفرار وكأنها أمسكت بيدها ورساً أحمر مصفرّاً ونثرته على الأفق (لون الشمس عند الغروب)، ومضت مودعة الدنيا والكائنات الحية، لكن تلك الكائنات حزنت لفراقها، ولاسيما النوار، تلك الزهرة البيضاء الرقيقة التي آلمها الفراق فانحنت ووضعت خدها على الأرض متضرعة إلى الشمس ألا تغيب، مثلما يتضرع المريض إلى زواره لئلا يتركوه وحيداً مع أحزانه، وكأنه يستمد مِنْ بقائهم الشفاء، وتحول الجو إلى مأتم حقيقي، إذ راحت زهور النوار تبكي بحزن على فراق الشمس، وامتلأت محاجرها بالندى كما تمتلئ عيون الحزين المهموم بالدمع، وظلت هذه الزهور تراقب الشمس وتتجه نحوها مودعةً إياها بألحاظ حزينة خاشعة، وقد ظهرت آثار الفراق على الشمس والنوار وكأنهما خلان متصافيان جمعتهما المودة والمحبة ثم افترقا. وهذا المشهد بديع حقاً، لأن الشاعر لجأ إلى التشخيص وإخراج ما بداخله من مشاعر الحزن العميق على الشباب؛ فقد أقام علاقة إنسانية عفيفة بين الشمس والكائنات الحية ولاسيما النوار، وجعلهما إنسانين يستجيبان للمحبة ويتجرعان غصص الفراق. وفي هذا المشهد يجمع ابن الرومي كل عناصر الحزن والفجيعة على شبابه الراحل؛ من مشاعر حزينة أقامها بين الشمس الراحلة والكائنات الحية ولاسيما النوار، وألوانٍ تجلت في لون الشمس المصفرّ عندما تميل إلى الغروب، وفي لون الورس الأحمر المصفرّ، وفي لون المرض الذي أصاب النوار وذلك المُدْنَف، وفي مفردات الحزن التي حشدها في هذا النص مثل: (ودعت، نَحْبَها، مريضة، أضرعا، عُوَّاده، إغضاء الفراق، تودَّعا)، وكل ما في هذا المشهد حزين؛ وادعٌ، ودموعٌ، وحزنٌ، واصفرارٌ، وتضرُّعٌ، وزاد فيه الشاعر بأن جعل رويَّ القصيدة حرف العيد الممدودة بألف (عا)، وكأنه يصرخ في وادي الحياة بأعلى صوته ليعيد إليه شبابه الراحل، فلا يسمع إلا الصدى. لكن ابن الرومي أبى إلا أن يُظْهِرَ تشاؤمه وتطيره في هذا المشهد؛ فلم يَرَ في رحيل الشمس بدايةً ليوم جديد، وإنما رأى في رحيلها موتاً لها، بل موتاً للكائنات الحية والحياة كلها.
ولم يكتفِ ابن الرومي بهذا المشهد إظهاراً لحزنه على رحيل الشباب، بل عاد من جديد ليؤكد حزنه عليه من خلال مشهد آخر لا يقل روعة عن المشهد الأول، الغاية منه كما الغاية من المشهد الذي سبقه، لكن ابن الرومي لا يقبل بتقديم المعنى فقط، بل يحرص على اعتصاره من كل جوانبه، ويتقصى كل صغيرة وكبيرة فيه حتى لا يترك فيه لغيره من الشعراء شيئاً([12">):
هنالك تَغدو الطيرُ تَرتادُ مَصْرَعاً وحُسْبانُها المكذوبُ يَرتادُ مَرْتَعا
وجَدَّتْ قِسِيُّ القَوْمِ في الطيرِ جِدَّها فظلتْ سُجوداً للرُّماةِ ورُكَّعا
فظل صِحابي ناعِمينَ بِبُؤْسِها وظلتْ على حَوْضَ المنيّةِ شُرَّعا
فكم ظاعِنٍ منهن مُزْمِعِ رِحلةٍ قَصَرْنا نَوَاهُ دونَ ما كان أَزْمَعا
وكم قادمٍ منهم مُرْتادِ مَنْزِلٍ أَناخَ به منّا مُنِيْخٌ فَجَعْجَعا
مُتاحٌ لِرامِيْها الرَّمايا كأنما دَعاها لـه داعي المنايا فَأَسْمَعا
تَؤُوْبُ بها قد أَمْتَعَتْكَ وغادرتْ مِنَ الطيرِ مَفْجُوعاً به ومُفَجَّعا
لها عَوْلَةٌ أَوْلى بها ما تُصِيْبُهُ وأَجْدَرُ بالإغْوالِ مَنْ كان مُوْجَعا
وما ذاكَ إلا زَجْرُها لِبَناتِها مَخافَةَ أنْ يَذْهَبْنَ في الجوِّ ضُيَّعا([13">)
وفي هذا المشهد البديع يصف ابن الرومي الطيور في السماء سعيدة بحريتها مع أقرانها، لكن الجوع يعمي أبصارها فلا تنتبه لشباك الصياد وأسلحته التي أخفاها بين الحب الذي نثره على الأرض، فهوت تلك الطيور المسكينة لتأكل، وما دَرَتْ أن الهلاك في الطعام، أما من أحس بالخطر ولم يقع في الشرك وطار فقد تناولته رماح الصيادين وسهامهم.
واستبشر الصيادون بهذا الصيد الوفير وسعدوا به فيما كان الطيور تتجرع كؤوس الموت، ثم يتأمل ابن الرومي في فعل أصحابه بالطيور فيرى أنه ظلمٌ لها وغدرٌ بها، لأنهم حالوا بينها وبين آمالها، وكأنها أهداف مشرعة للصياد يرميها متى شاء، ويميتها متى شاء. وعاد الصيادون بما صادوا من الطيور وهم سعداء، فيما كانت تلك الطيور المسكينة تبكي بصوت مرتفع على أقرانها، وما منهم إلا من فقد عزيزاً منها، وكل ذلك لأن الطيور الصغيرة التي سقطت في الفخ لم تستمع لنصائح أمهاتها في عدم الابتعاد عن السرب، حتى لا يضعن في الجو الفسيح.
وابن الرومي في هذه القصيدة هو زهرة النوار التي فقدت الشمس ففقدت يوماً لن يعود، وشبابُه هو الشمس التي أضاءت حياته لفترة قصيرة كما تضيء الدنيا في النهار، لكنها سرعان ما تغيب ليحل الظلام من جديد، والطائرُ الصريع هو شباب ابن الرومي أيضاً، والناس سعداء بشبابهم وهو تعيس برحيله عنه، كما سَعِدَ الصيادون وشَقِيَتِ الطيور بوقوعها فريسة لهم.
لكن إجادته العظمى في المراثي تجلت في قصيدته التي رثى فيها ابنه الأوسط محمداً، وقد مات هذا الابن وهو صغير لم يتجاوز سن الطفولة بسبب مرض أصابه، لم يشر ابن الرومي إلى نوعه، وإن أشار إلى بعض أعراضه، كالصُّفرة والنزف.
وابن الرومي في هذه القصيدة يحلق عالياً في سماء فن الرثاء، ويثبت أن ما أصابه من مصائب في أهله ونفسه وممتلكاته كان له عظيم الأثر في تلك الإجادة. والقصيدة ليست طويلة قياساً على قصائده الأُخَر، ولاسيما في فن الرثاء نفسه، فقد بلغت واحداً وأربعين بيتاً، في حين رثى المغنية (بستان) بقصيدة تتألف من مئة وخمسة وستين بيتاً. ويبدو أن الحزن اعتصر قلب ابن الرومي وهو يرثي ابنه حتى سَدَّ عليه منافذ القول، فلم يُطِلْ قصيدته على عادته في الإطالة.
وقد بدأ ابن الرومي قصيدته بذكر البكاء، وكأنه يفتتح به حزنه على ولده، ثم رأى أن هذا البكاء سيشفيه من أحزانه، لذا يأمر عينيه بأن تجودا بالبكاء على ابنه الذي يَعْدِلُ عنده تلك العينين، لكن ذلك البكاء لن يعيد محمداً إلى الحياة:
بكاؤُكُما يَشْفي وإنْ كان لا يُجْدِي فَجُودا فقد أَوْدَى نَظِيْرُكُما عندي
ثم يرى أنّ الموت تَوَخْى ابنه هو من بين كل الأبناء، على عادته في توهم الاضطهاد والشعور بأنه مخصوص دون غيره بالظلم، وهذا الولد كان أوسط إخوته سناً، فهو كالجوهرة الكبيرة الغالية التي تكون في وسط العقد، لكن الموت قصد هذه الجوهرة دون غيرها، ليفرط عقد ابن الرومي:
تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أَوْسَطَ صِبْيَتي فَلِلَّهِ كيف اختارَ واسِطَةَ العِقْدِ
طَواه الرَّدى عني فأضحى مَزارُه بعيداً على قُرْبٍ قريباً على بُعْد
والأمر في البيت الثاني ليس لعباً بلاغياً، بل هو حقيقة يؤمن بها ابن الرومي، لأن الحياة في نظره قائمة على أساس التناقض كما أشرنا من قبل، فابنه مَطْوِيّ تحت طبقات الثرى، بعيدٌ كل البعد عنه على الرغم من قرب قبره، فهو قريب بعيد، بعيد قريب([14">).
وابن الرومي كما مر بنا في هذه القصيدة يعتقد أن الموت توخَّى ابنه توخّياً من بين كل الأبناء، أي أن هذا الموت قصده هو دون غيره من الآباء. وهذا الاعتقاد مقصود بالظلم مخصوصٌ به وحده راسخُ في نفسه تمام الرسوخ، حتى عندما رثى المغنية (بستان)، إذ رأى أن الموت قصده هو لأنه عرف بحبه لها، فأراد أن يفجعه بها، وكأن له ثأراً عنده. وهكذا يصبح موت هذه المغنية انتقاماً شخصياً من ابن الرومي وثاراً منه([15">):
لو كان فِعْلَ الوَرَى لقد ذَئِرَتْ له المَساعِيْرُ أَيَّما ذَأَرِ
لكنه وِتْرُ مالِكٍ مَلِكٍ يَعْلُوْ على الطَّالِبِينَ بالثَّؤَر
وكان ابن الرومي يشعر بالتميز والتفوق على أقرانه من الشعراء والكتاب معاً، ويرى أنه أهل لكل فضل وخير:
ألم تجدوني آلَ وهْبٍ لِمَدْحِكُمْ بِنَظْمِيْ ونَثْري (أخْطلاً) ثم (جاحِظاً)([16">)
وأنْ يعبر عن هذا الإحساس بالتميز فأمرٌ طبيعي من رجل يرى في نفسه الرفعة ويعبر عن ذلك بشعره، لكن ابن الرومي لجأ إلى أساليب أخرى ليؤكد فيها هذا التميز، وإن أخذت شكل ادعاءات مختلفة، لكن الغاية منها واحدة هي تأكيد ذلك التميز، وإن كان هذا التأكيد على حساب الحقائق. فقد أكَّده تميزه واستحقاقه عبر عدد من الأساليب هي:
1 ـ الإشارة إلى اختلال الموازين في عصره اختلالاً قدّم الجهلة وأدعياء الفكر والثقافة إلى السطح، وأخَّر أصحاب الفضل الحقيقيين فجعلهم في القاع:
طار قومٌ بخفَّةِ الوزنِ حتى لحِقوا رِفْعَةً بِقابِ العُقابِ
وَرِسا الرَّاجِحُوْنَ مِنْ جِلّةِ النَّا سِ رُسُوَّ الجبالِ ذاتِ الهِضابِ
هكذا الصَّخْرُ راجِحُ الوزنِ راسٍ وكذا الذّرُّ شائِلُ الوَزْنِ هاب([17">)
2 ـ نفي الفضل عن أهل زمانه كلهم بلا استثناء، ليؤكد للناس جميعاً أن أحكامهم فيه ليست صحيحة؛ فهم جَهَلَةٌ ولِئامٌ وخِساسٌ ودَوابٌّ وبِهائمُ وكلابٌ وذِئابٌ غادرةٌ، ليس أعراضهم مَطْعَنٌ لكثرة ما فيها من معايب، وليس فيهم من يستحق المديح:
آيَسْتُ مِنْ دَهري ومِنْ أهلِهِ فليس فيهم أَحَدٌ يُرْضَى
إنْ رُمْتُ مَدْحَاً لم أجِدْ أهلَهُ أو رُمْتُ هَجْواً لم أجِدْ عِرْضا([18">)
3 ـ الإدعاء أن معاصريه يرفضون شعره لبخلهم في العطاء لا لسوء فيه:([19">)
حَلَفْتُ بِمَنْ لو شاءَ سَدَّ مَفَاقِري بما ليَ فيه عن ذوي اللؤم مَرْغَبُ
لَمَا آفَتي شِعْرٌ إليهم مُبَغَّضٌ ولكنه مَنْعٌ إليهم مُبَغَّضُ
وابن الرومي بهذه الادعاءات يُمَهِّد للهجوم على معاصريه، وكأنه يُهَيَّئ الناس ليَقبلوا كل ما سيقوله في معاصريه من هجاء، ما داموا قد صدّقوه في كلامه عنهم. إنه يريد استمالة الناس إليه ليؤيدوه في هجومه، بعد أن حاول إقناعهم بجهل ممدوحيه وبخلهم ولؤمهم وخِسَّتهم...
وقد أثّر سوء ظن ابن الرومي بمعاصريه في شعره؛ فكان يشرح لهم غريب شعره في القرطاس ليفهموا معانيه، كما أدى به سوء ظنه بفهمهم لأشعاره إلى تعمُّد الإطالة وإعادة المعنى الواحد وتقليبه على وجوهه، لأن الناس ـ حسب رأيه ـ ليسوا على درجة من الفهم والذكاء حتى يفهموا شعره، وما عليه هو إلا أن يسعى إلى تفهيمهم ما غمض عليهم. وهذا الصنيع من ابن الرومي أطال شعره إطالة ليست في موضعها، ولا تُحْمَدُ له، لأنه قدّم المعنى الواحد في عشرات الأبيات بينما قدمه غيره من الشعراء في بضعة أبيات، مما جعل شعره في كثير من الأحيان باردَ العاطفة، يميل مَيْلاً واضحاً إلى الشرح والتفصيل. والشعرُ لُمَحٌ وَوَمَضاتٌ وإيجاز.([20">)
كما اضطر إلى تكرار المديح وتكرار معانيه لإعراض ممدوحيه عنه، ولتباطئهم في عطائه:
سَيَضْطَرُّني حتى أُكَرِّرَ مَدْحَهُ تَتَابُعَ كَرّاتٍ لـه بالفَواضِلِ([21">)
وأدى تقلب مزاجه واضطرابه على مدح الشيء وذمه، والتماس الأدلة في حالتي المدح والذم، كما أدى به ذلك أيضاً إلى التذبذب السياسي والعقائدي، فمرة كان مع الشيعة ومرة كان مع العباسيين. والمرجح أنه لم يكن شيعياً، لكن الأمر يبقى تذبذباً سياسياً في النهاية، ثم إنه يمدح الشيعة حيناً ويعاتب بعض رؤوسهم حيناً آخر عتاباً هو في حقيقته هجاء، لكنه مُبَطَّنٌ بالعتاب، ويمدح مواليه من العباسيين مرة، ويعاتبهم مرة أخرى، وهكذا، حتى يحار المرء في حقيقة شخصيته في كثير من الأحيان.
لكن تقلب المزاج هذا أفاد شعره من ناحية أخرى؛ فقد فتح له أبواباً جديدة للمعاني، وفتح أمامه المجال لتفتيق كثير منها واستخراج دفائنها، عن طريق عرض المعنى وضده في آن معاً.
وعُرف عن ابن الرومي تطيُّرُه الشديد، فكانت خواطره تتداعى بسرعة عجيبة في أثناء تطيره من الشيء، فيُديم النظر فيه من كل جوانبه، ويقلبه على وجوهه كلها بحثاً عن شر متوقع. وهو في أثناء بحثه يَعْثُر على موضوعات جديدة، فيتوقف عندها، وينسى ما كان قد شرع به من قبل.
فالشجر اليابس أو الذي لا ثمر له مشهد نراه جميعاً فلا يحرك فينا شيئاًَ سوى الشعور بالجفاف وانعدام الحياة، لكن الأمر عند ابن الرومي مختلف بسبب تطيره وتداعي خواطره وتقليبه الشيء على مختلف وجوهه، فقد رأى في هذا الشجر اليابس شيئاً عديم النفع، فليس له ظِلٌّ ينفع وقت الظهيرة، ولا ثمرٌ لِمُجْتَنٍ، ولا نَفْعٌ لحاطِبٍ، ولا عُشٌّ لطير. وإلى هنا يبدو الموقف من هذا الشجر مقبولاً، لكن ابن الرومي يتوجس الشر من هذا الشجر اليابس، فيظن أن بين أشواكه أفاعي ستعضه لو اقترب منه، لذا ابتعد عنه داعياً عليه بالموت وبألا يُسْقَى من ماء السحاب:([22">)
أيا شجراً بين الرَّسيْسِ فَعَاقِلٍ مَنَحْتُكَ ذَمِّي صادِقاً غيرَ كاذبِ
نَدَيْتَ ولم تُوْرِقْ ولستَ بِمُثْمِرٍ فكنْ غَرَضاً مُسْتَهْدَفَاً للنَّوائِب
فما فيكَ مِنْ ظلٍّ لِغُلِّ ظَهيرةٍ وما فيكَ مْنْ جَدْوّى لجانٍ وحاطِب
وفيكَ على حِرْمانِكَ الخيرَ كلَّهُ مِنَ الشَّوكِ ما لا وَكْنَ فيه لآئِب
وأَحْسَبُ ذاكَ الشَّوْكَ لاشَكَّ بينَه أَفاعٍ فلا أُسْقِيْتَ صَوْب السَّحائِب
فانظر كيف أحال ابن الرومي هذا المشهد العادي إلى لعنة يصبها عليه؟ وكيف فتَّق من المعنى المألوف معنى جديداً بسبب تطيره وتوهمه أشياء غير موجودة في الحقيقة، بل إن هذا التطير كان وراء هذه الالتفاتة إلى هذا الموضوع الذي قلما يتوقف عنده الشعراء، فبدلاً من أن يدعو لهذه الشجرة اليابسة بالسقيا لتورق من جديد دعا عليها بأن يُحْبَس عنها المطر، وأن تكون عُرْضَةً للنوائب. لأنه تطير من منظرها وأشواكها، وصوّر له توهمه المريض أن بين أشواكها أفاعي ستهجم عليه وتعضه، فهرب وهو يسب ويشتم ويلعن.
وإنعامه النظر في الأشياء كان يقوده إلى المزيد من المعاني الطريفة، وإلى أن يهتدي إلى ثغرات ينفذ منها إلى التطير والتشاؤم، في الألفاظ والمعاني والأشكال؛ فقد أراد أحد ممدوحيه السفر بالسفينة إلى واسط في العراق فهبت ريحٌ شديدة كسرت سُكّانَ السفينة (دفتها التي تتحكم في سيرها)، مما اضطر الممدوح إلى إلغاء السفر. وهذا الموضوع مألوف قد يحصل لأي مسافر، لكن ابن الرومي تطير من انكسار السكان ورأى فيه نذير شؤم، ولأن معكوس كلمة سكان هو ناكس، أي أن سعي الممدوح للسفر سيكون وبالاً عليه، ورأى ابن الرومي أن الله يحب هذا الممدوح لذا نهاه عن السفر بكسر السكان، وفي هذا النهي خير له، ثم رأى أن الريح هبت بأمر ربها لتقضي على ذلك النحس([23">):
رأيتُ مُنْكَسَرَ السُّكانِ ظاهِرُهُ هَوْلٌ وتَأْوِيْلُهُ فَأْلٌ لِمَنْجاكا
كَسْرٌ لِناكِسِ داءٍ كنتَ تَحْذَرُهُ وصِحَّةٌ لكَ تُحْيِيْنا بِمَحْياكا
لأنّ لَفظَ سُكانٍ إذا قُلِبَتْ حُرُوفُها ناكِسٌ لاشَكَّ في ذاكا
ولا يَرُعْكَ رُجُوعٌ بعدَ مُعْتَزَمٍ ففي رُجوعِكَ تَبْشيرٌ بِرُجًعاكا
رَجَعْتَ حين نَهاكَ اللهُ مُزْدَجِراً وكيف تَمْضي ورَبُّ الناس يَنْهاكا
نَهاكَ بالريحِ حتى حَلَّ مَنْحَسَةً مِنْ المَناحِسِ ما كانتْ لِتَلْقاكا
ويتأمل ابن الرومي في بعض الأسماء وهو يمدح أو يهجو، فيستخرج منها معاني جديدة مَبْعَثُها تقليبُ المعنى، والتفاؤل بشيء منه والتطير بشيء آخر، فكلمة إسحاق إذا عُكست لا معنى لها، لذا يُبْدِئ ابن الرومي النظر فيها ويُعيد حتى يهتدي إلى معنى يستفيد منه في الهجاء، إذ يَقْلِب الكلمة ثم يُصَحِّفُها، فتصبح على الشكل التالي: إسحاق = قاحساء = فاحشا بعد التصحيف([24">):
يا أبا إسحاقَ واقْلِبْ نَظْمَ إسحاقٍ وصَحِّفْ
واتْرُكِ الحاءَ على حا لٍ فما للحاءِ مَصْرِف
يَشْهَدُ اللهَ لقد أَصْبَحْـ ـتَ عينَ المُتَخَلِّق
وعرف عن ابن الرومي أنه منحوس مشؤوم لتطيره واختلال أعصابه وكثرة ما أصابه من مصائب وويلات في أهله ونفسه وممتلكاته. وأنْ يعترف المرء بذلك فهذا يعني الشجاعة والصراحة، وهذا ما حصل مع ابن الرومي؛ إذ اعترف في أكثر من موضع أنه منحوس مشؤوم، لكنه حصر نحسه وشؤمه فيه فقط، من غير أن يصلا إلى الآخرين، لكن ابن الرومي كان يدعي كثيراً من الادعاءات التي تنقض ما سبق أن قاله عن نحسه وشؤمه؛ كأنْ يزعم أنه ميمون الطالع، وأن له أصدقاء كثيرين ينعمون عليه بالمودة والعطاء، وهذا يعني أنه ليس منحوساً أو مشؤوماً كما يتهمه الناس([25">):
نَفَرٌ مِنَ الخُلَطاءِ والأصحابِ تَجري مَوَدَّتُهم مع الأنسابِ
مازلتُ بينهمُ كأنيَ نازِلٌ في منزلٍ مِنْ صِحَّةٍ وشَباب
أُكْفَى وأُعْفَى غيرَ ما مُتَجَشِّمٍ تَعَباً ولا نَصَباً مَنَ الأنصاب
وهؤلاء الأصحاب كثيرون، بلغ عددهم خمسين صاحباً كما يقول، فلو أعطاه كل واحد منهم في الشهر درهمين لسد حاجته، وكَفَاه سؤالَ الممدوحين اللؤماء البخلاء([26">):
ليَ خمسونَ صاحباً لو سَألْتُ الـ قُوْتَ فيهم أَلْفَيْتُهم سُمْحَاءَ
ليّ في درهمينِ في كلِّ شهرٍ مِنْ فِئامِ ما يَطْرُدُ الحَوْجاء
فلو كان أصدقاؤه بهذا العدد وبهذه الأريحية والكرم، فلماذا التذلل للممدوحين والوقوف على أبوابهم والتذمر من قلة عطائهم؟ ولماذا كان يهاجم الصداقة والأصدقاء إلى أنْ نفى وجود صديق مخلص؟ أسئلة كثيرة في هذا الموضوع، وفي غيره من الموضوعات التي تكلم فيها ابن الرومي كلاماً يُحْمَل على الادعاء والتعويض النفسي أكثر مما يُحْمَل على الحقيقة.
المصادر والمراجع
1 ـ تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك): لمحمد بن جرير الطبري، طبع دار المعارف، مصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عشرة أجزاء، سلسلة ذخائر العرب 30.
2 ـ ديوان ابن الرومي: طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1993، تحقيق الدكتور حسين نصار، ستة أجزاء.
3 ـ ابن الرومي حياته من شعره: لعباس محمود العقاد، سلسلة كتاب الهلال. العدد 214، سنة 1969، صادر عن دار الهلال، القاهرة.
4 ـ ديوان ابن المعتز: طبع دار صادر، بيروت.
5 ـ زهر الآداب وثمر الألباب: لأبي إسحاق الحصري القيرواني، طبع دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، تحقيق علي محمد البجاوي، جزءان.
6 ـ شرح ديوان الفرزدق: نشر الشركة العالمية للكتاب، بيروت، الطبعة الثانية، تحقيق إيليا حاوي.
7 ـ العصر العباسي الثاني: للدكتور شوقي ضيف، طبع دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1992.
8 ـ لسان العرب: لابن منظور، طبع دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1955، خمسة عشر جزءاً.
9 ـ المعجم الوسيط: صادر عن مجمع اللغة العربية، القاهرة، طبع المكتبة العلمية، طهران، الطبعة الأولى، إشراف عبد السلام هارون، جزءان.
10 ـ من حديث الشعر والنثر: للدكتور طه حسين، طبع دار المعارف، القاهرة، الطبعة التاسعة.
11 ـ نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم: للدكتور عصام قصبجي، طبع دار القلم العربي للطباعة والنشر، حلب، سورية، الطبعة الأولى، 1980.
________________________________________
([1">) انظر ديوان ابن الرومي: 6/299 ـ 2312.
([2">) انظر المصدر نفسه: 2/916 ـ 924.
([3">) ديوان ابن الرومي: 5/2109.
([4">) المصدر نفسه: 4/1380 ـ 1382. حَمْضي: نَيْتِي الحامض أو المالح، يريد هجاءه. نَحْضي: امتلاء جسمي.
([5">) ديوان ابن الرومي: 3/1110. قَوْراء: مستديرة. تَنْداح: تتوسع.
([6">) المصدر نفسه: 1/353. النَّصَب: التعب. لُجَيْناً: فضة. شَبابيطاً: جمع شَبُّوط: نوع من أنواع السمك يكثر في نهر دجلة، عريض الوسط، دقيق الذنب، ليّن المسّ.
([7">) نظرية المحاكاة: 282.
([8">) ديوان ابن الرومي: 4/1382. الوَنَى: الضعف والتعب. إنضاء: إتعاب وإهزال. السُّرَى: السير ليلاً. الكرى: النوم الخفيف. الدَّثُور: المغطى بالدثار أي النائم. غَرْضي: حاجتي.
([9">) انظر المصدر نفسه: 3/979 ـ 980.
([10">) ديوان ابن الرومي: 5/2091، يَحْدُوهنَ: يَتْبَعُهنَ. حَوْلٌ: عام. مُجَرَّم: تام ومنقضٍ.
([11">) المصدر نفسه: 1/217.
([12">) ديوان ابن الرومي: 4/1473 ـ 1479: شَرْخ الشباب: أوله ونضارته. رَنَّقَت: مالت إلى الغروب. وَرْساً: نباتاً أحمر فيه صفرة. مُذَعْذَعا: منتشراً متناثراً. نَحْبها: حتفها وموتها. شَوَّلَ: قَلَّ. تشعشعا: انقضى إلا أقلّه. النوار: الزهرالأبيض. مُدْنف: مريض. أوصابُه: أوجاعه. تَخْضَلُّ: تَبْتَلُّ وتَنْدى. الندى: قطرات الماء على أوراق الأشجار قبل شروق الشمس. اغرورقت: امتلأت بالدمع. الشَّجِيّ: الحزين المهموم. صُوْراً: شاخصات. رَوانِياً: ناظرات. الشَّجْو: الحزن. إغضاء: إطراق الرأس والبصر نحو الأرض. القِسِيّ: الرماح. شُرَّعاً: تتساقط تباعاً. طاعن: مسافر. نَوَاه: نيته. أزمع: قرر وقصد. أناخ: أنزل به البلاء. جَعْجَعا: قعد في المكان على غير اطمئنان.
([13">) ديان ابن الرومي: 4/1473 ـ 1479. عَوْلَة: بكاء بصوت مرتفع.
([14">) ديوان ابن الرومي: 2/624 ـ 625.
([15">) المصدر السابق: 3/923. المساعير: من سَعَرهم الغضب أي هيجهم. وِتر: ثأر. الثُّؤْر: الثارات.
([16">) المصدر السابق: 4/1455.
([17">) ديوان ابن الرومي: 1/280. قاب: مقدار. الذّر: النمل. شائل: خفيف الوزن. هاب: مترفع.
([18">) المصدر نفسه: 4/1421. وانظر أيضاً فيه: 1/155 ـ 157، 515، 4/1462.
([19">) المصدر نفسه: 1/156.
([20">) انظر: من حديث الشعر والنثر: 134 ـ 135.
([21">) ديوان ابن الرومي: 5/2078.
([22">) ديوان ابن الرومي: 1/292، الرسيس وعاقل: موضعان. الوَكْن: عش الطائر. آئب: راجع. صَوْب: انصباب وهطول.
([23">) ديوان ابن الرومي: 5/1855 ـ 1856. وانظر فيه أيضاً: 1/215.
([24">) المصدر نفسه: 4/1562. وانظر فيه أيضاً: 3/1014، 6/ 2485 ـ 2486.
([25">) ديوان ابن الرومي: 1/246. النَّصَب: التعب.
([26">) المصدر نفسه: 1/89. فِئام: جماعة من الناس. الحَوْجاء: الحاجة.
شعْرُ ابن الرومي انعكاس لما كان يعانيه في مجتمعه، ولما كان يعانيه في نفسه وجسمه، ولعله أهم شاعر انصرف إلى التعبير عما يحس به من مشاعر تجاه زمانه وأهل زمانه، وإلى الكشف عما يعانيه من هموم ومتاعب بسبب ضعف جسمه وبنيته، أو ما يحس به من مخاوف وأوهام وظنون. والشعراء عموماً لا يتحدثون كثيراً عن أحوالهم وما يمر بهم من دقائق حياتهم اليومية، لأنهم منصرفون إلى الفن، ينظمون الشعر ويجوِّدونه ويعتنون به، معتقدين أن همومهم الشخصية مِلْكٌ لهم فحسب، وأنه من غير اللائق إطْلاع الآخرين عليها، لذا لا نستطيع الحصول على صور واضحة للشعراء من خلال دواوينهم، لكن الأمر مختلف مع ابن الرومي، لأن شعره انعكاس لكل دقيقة كان يعيشها في مجتمعه، ولكل همّ كان يحسه ويعيشه، إنه باختصار يعرض حياته العامة والخاصة بكل تفاصيلها من خلال الشعر، وهو بذلك يهيئ الشعر ليكون قريباً من روح الحياة والناس، وأكثر تعبيراً عن نفس قائله، كما أنه يهيئه ليكون تعبيراً عن الأحاسيس والمشاعر الخاصة أكثر من كونه وصفاً للممدوح، ومهنةً يتكسب الشاعر منها قوت يومه. إنه يحاكي مختلف مظاهر الحياة، ويحاكي مشاعره أكثر من محاكاته للفن الشعري ذي الأصول الراسخة التي تعارف عليها النقاد. وهذه المحاكاة هي جوهر الشعر، لأن الشعر تعبير عن النفس أولاً. وإن فهمه لوظيفة الشعر على هذا النحو تجديد حقيقي في الشعر، لأنه أبعده قليلاً أو كثيراً عن دائرة الرسميات وما تعارف عليه النقاد وأهل البصر بالشعر. ولعل هذا الموقف سبب من أسباب ابتعاد ممدوحيه عنه، لأنه انصرف عنهم إلى نفسه وأحواله، فبدت قصائده مزيجاً من مشاعر متباينة، فيها وقوف طويل عند ذاته المعذبة المقهورة التي أصابها نُوَبُ الزمان، وفيها وقفات قصار متفرقة عند الممدوح، حتى لتصبح أحوال الشاعر الغرض الرئيس من القصيدة، ويصبح المدح تابعاً أو ذيلاً لها. ولم يترك ابن الرومي صغيرة ولا كبيرة تتعلق بحياته إلا أحصاها في شعره، بل إنه أحصاها في الشعر الموجه إلى الآخرين، فلم يكتفِ بعرض همومه ومشكلاته وكل ما يعانيه في قصائد ذاتية مستقلة، بل إنه جعل تلك الهموم موضوعاً أساسياً في قصائده المدحية التي توجه بها إلى الممدوحين.
لذا سأحاول البحث عن المؤثرات التي تركت صداها في شعره، سواء أكانت عامة تتعلق ببيئته وعصره، أم خاصة تتعلق بشخصيته جسماً ونفساً. وسأرى كيف تجلت في شعره. وإنني أعترف أن الفصل بين تلك المؤثرات غير علمي، لأن تلك المؤثرات متداخلة متشابكة فيما بينها، تَشابُك المشاعر والأحاسيس، لكني سأفصل بينها فصلاً مؤقتاً لأتلمّس مظاهر كل أثر على حدة، وأنا أعلم أن استقلالية الأثر أحياناً قد ينتج عنها تشابهٌ في المظاهرات التي تجلت فيها مع مؤثرات أخرى، لكن لا حيلة أمامي إلا أن أفعل ما سأفعل تتبعاً للأثر من مصادره، ورصداً له في مظاهره التي تجلى فيها.
أولاً: مؤثرات عامة (البيئة والعصر):
عاش ابن الرومي في عصر مضطرب أشد الاضطراب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً، كما عاش في بيئة أسرية منكوبة، بل إن المصائب أحاطت بها من كل حدب وصوب. وكان لابد لهذا الاضطراب أن ينعكس في شعره، أو أن يترك آثاره فيه، وأن يستجيب استجابات مختلفة للواقع الذي عاشه في مجتمعه. وقد تجلت هذه الاستجابات في الإكثار من أشعار المناسبات كالمديح والتهاني والمراثي ذات الطابع الرسمي، وفي الاستجابة للتطور العقلي الذي شهده العصر العباسي الثاني، وفي ظهور مفردات أعجمية في شعره، وفي التعبير عن قضايا خاصة به.
1 ـ كثرة أشعار المناسبات:
استجاب ابن الرومي لأحداث عصره المختلفة وشارك فيها من خلال رصده لها وتعبيره عن مشاعره تجاهها، وهي مشاعر غير صادقة أملتها طبيعة مهنته بوصفه شاعراً مداحاً يعيش على مهنة الشعر وما فيها من مديح وتهانٍ ورثاء؛ فقد شارك في أحداث عصره مهنئاً بالخلافة وبالوزارة وبولاية العهد، وبالقدوم من السفر، والشفاء من المرض، وبناء الدُّور، وبالأعياد المختلفة، وبالزفاف والولادة والخِتان، وأشاد بالأعمال الإيجابية للخلفاء ووزرائهم وقوادهم، كالقضاء على الخارجين على الخلافة، والانتصار على الروم واستعادة ما اغتصبوه من بلاد المسلمين، والإصلاحات الإدارية والاقتصادية، كما رثى من مات من أقرباء الخلفاء والوزراء وغيرهم.([1">)
والشعر الذي قاله في هذه المناسبات شعر ضعيف القيمة والأهمية، لأن ابن الرومي هدف من ورائه إلى التكسب والمجاملة، ولم ينطلق فيه من ثوابت أخلاقية أو من مشاعر صادقة، كما يغلب عليه التكلف والتكرار والإطالة.
لكن ابن الرومي وقف موقفاً أخلاقياً صادقاً من محنة تعرضت لها ديار المسلمين، وتأذى منها الناس جميعاً، هي ثورة الزَّنج على الخلافة العباسية سنة خمس وخمسين ومئتين للهجرة، وما تبع تلك الثورة من سفك للدماء ونهب للثروات وتخريب للبلدان وقطع للطريق، إلى أن استطاع الموفق ـ أخو الخليفة المعتمد ـ القضاء على ثورة الزنج قضاء تاماً سنة سبعين ومئتين للهجرة، بعد أن استمرت خمس عشرة سنة، وذهب فيها خلقٌ كثير، عدا ما تهدم من بلدان، وما دُمر من زروع، وما هلك من مواشٍ، كما يقول المؤرخ الطبري([2">).
وقد تأثر ابن الرومي كثيراً لما أصاب الناس ولما أصاب مدينة البصرة من خراب، وصوّر ما فعله الزنج بالناس من تعذيب وإذلال، وما ألحقوه بالبصرة من تخريب في قصيدة طويلة هي من أجمل ما قيل في رثاء البلدان، لأن ابن الرومي رثاها من خلال إحساسه بالفاجعة التي أصابتها وأصابت أهلها، ومن خلال خوفه من الشر والموت والدمار.
وقد صور في هذه القصيدة خراب المدينة وتشرد أهلها، وما لحقهم من شر، وتأسّى على تلك المدينة العظيمة وتذكر ماضيها الزاهر:
ذاد عن مُقْلَتي لذيذَ المنامِ شُغْلُها عنه بالدموعِ السِّجَامِ
أيّ نومٍ مِنْ بعدِ ما حَلَّ بالبَصْـ ـرَةِ مِنْ تِلْكُمُ الهَنَاتِ العِظام؟
أيّ نومٍ من بعدِ ما انْتَهَكَ الزَّنْـ ـجُ جِهاراً مَحَارِمَ الإسلام؟
وينتقل إلى الحديث عما أصاب الناس على أيدي الزنج من قتل وتشريد، ويفصّل في كل مشهد على عادته في التفصيل؛ فقد باغت الزنج أهل البصرة وهم نيام، وأعملوا فيهم السيف، ولم يراعوا كبيراً ولا صغيراً، ولا رجلاً ولا امرأة، بل إنهم بالغوا في إلحاق الأذى بالناس؛ فاغتصبوا العذارى علانية، وفضحوا النساء المصونات المحجبات، وفرقوا بين أفراد الأسرة الواحدة بين قتل وسَبْيِ واغتصاب([3">):
ومن هنا يكون مديحه للموفق عرفاناً بالفضل وإحقافاً للحق، وليس مديح مجاملة أو تكسب، فقد رأى ابن الرومي في الموفق فارساً مغواراً لا يخاف الأعداء مهما بلغوا من قوة، وهو رجل ترك نعيم العيش ورغده والخمر والنساء لغيره، وسَمَتْ هِمَّتُهُ إلى قيادة الجيش وإعداده للفتك بأعداء الدين، لذا انتصر عليهم وشتت شملهم. وإسرافُه في الشجاعة والفتك بخصومه لا يقل عن إسرافه في إنفاق المال على الشعراء وغيرهم. وقد كان الموفق كما قال ابن الرومي تماماً؛ فارساً مغواراً حمل هَمَّ الخلافة، واستطاع أن يقضي على ثورة الزنج وعلى تسلط القواد الأتراك، فلم يجرؤوا على ارتكاب المظالم والاستبداد بالسلطة ما دام حياً([4">):
2 ـ بروز ثقافة العصر في شعره:
تثقف ابن الرومي بثقافات عصره المختلفة، فلسفية وغير فلسفية، وبرع فيها، ولاسيما الاعتزال، وأغلب الظن أنه لم يكن معتزلياً، لكننا لا نستطيع إنكار معرفته بالاعتزال وتمكّنه من أدواته ومادته ومنهجه، لأنه لون من ألوان الفكر الخصب. والمعتزلةَ أصحاب فكر حر مستنير منفتح على كل الثقافات العربية والأجنبية ولاسيما اليونانية، لأنهم تسلحوا بتلك الثقافات للرد على أصحاب النحل والأديان الوضعية والمُلْحِدَةِ والزنادقة. وقد بلغ ابن الرومي من تلك الثقافات الغاية حتى قيل: إن الشعر كان أقل أدواته. وكان لابد لتلك الثقافة من أن تظهر في شعره، وتتجلى فيما يلي:
آ ـ الخصب في المعاني:
في شعر ابن الرومي معانٍ كثيرة جداً، غنية وعميقة، تدل على تمكنه من ناصية الفلسفة والمنطق في عصره. وهذه السمة لم ينفرد بها ابن الرومي عن الشعراء في تاريخ الأدب العربي، فقد سبقه أبو تمام (231هـ)، وجاء من بعده أبو العلاء المعري (449هـ)، لكن ابن الرومي زاد كثيراً على أبي تمام ـ وإن كان متمكناً مثله من شاعريته ـ ولم يسمح للفلسفة أن تطغى على شعره وتفسده، بل استطاع أن يقدم الفلسفة من خلال الفن، على عكس المعري الذي لم يستطع تقديم الفلسفة من خلال الفن، فبدت نابية قبيحة، لأنها جاءت على حساب الفن الشعري. لكن ابن الرومي لم يستطع أن يقدم الفلسفة والمنطق دائماً في إهاب الفن، بل إنه كان يقع أحياناً فريسة للمعنى الفلسفي من غير أن يقدر على تذليله لفنه، فيبدو المعنى نابياً وبعيداً عن روح الشعر. من ذلك قوله يمدح:
إذا صَبَتْ زُهْرَتُهُ صَبْوَةً قال لها هِرْمِسُهُ هَنْدِسِ
وإن عَدَا هِرْمِسُهُ حَدَّهُ قالت لـه زُهْرِتُهُ نَفِّس([5">)
((والزُّهْرَةُ هي رَبّةُ الجمال واللهو، وهِرْمِس هو اسم عُطارِد عند الفُرْس وهو رَبُّ الكتابة والحكمة... يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيبُ به الحكمة والمعرفة، ويُرهق نفسه بهذه فتدعوه الزُّهرَةُ إلى التنفيس))([6">).
وهذا المعنى صعب، ويبدو التكلف واضحاً فيه، لكن ابن الرومي آثر أن يقدم ذلك المعنى البسيط تقديماً فلسفياً إظهاراً للمقدرة وإثباتاً للشاعرية والمعرفة بالفلسفة، وإن جاء كل ذلك على حساب الفن.
أو كقوله يعاتب ممدوحاً آخر عليه بالعطاء الذي كان قد وعده به:
كنتَ مِمَّنْ يَرى التَّشَيُّعَ لكنْ مِلْتَ في حاجتي إلى الإرْجاءِ([7">)
يريد أن يقول لممدوحه إنك تنكرت لأصدقائك وأرجأت حاجتي لديك فلم تقضها لي، لكنه عبّر عن هذا المعنى من خلال مصطلحين سياسيين دينيين، أولهما مصطلح التشيع: ويعني تأييد أبناء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأحفاده في حقهم في خلافة المسلمين، لم يكفروا أحداً من أهل السنة والشيعة وغيرهم، وإنما أرجئوا الأمر كله إلى الله لينظر فيه.
أو كقولـه في مصطلحي الجبر والاختيار في معرض معاتبته لأحد ممدوحيه على تأخره في عطاء كان قد وعده به:
لَئِنْ خَيَّبْتَني ورَفَدتَ غيري لقد صَدَّقْتَ عندي قَوْلَ (جَهْمِ)
ألا لا فِعْلُ حَيٍّ باخْتِيارٍ متى خَيَّبْتَني لكن بِحَتْمِ([8">)
فَجَهْمُ المذكور هو جَهْمُ بن صَفْوانْ (128هـ) ـ كان يقول: إن الإنسان مجبر في كل أفعاله، وليس حر الإرادة في فعل ما يريد، يريد ابن الرومي أن يقول لممدوحه: إنني سأهجوك مُجْبَراً على هجائك على مذهب جهم هذا لأنك حرمتني وأعطيت غيري.
وابن الرومي لا يقبل بعرض المعنى وتقديمه بلا تعليل، لأن التعليل عنده جزء مهم من أجزاء توضيح المعنى؛ فقد تكلم الشعراء ـ قبل ابن الرومي وبعده ـ على الصداقة ورأوا أن الصديق قد يتحول إلى عدو، لذا يجب الحذر من الصديق أضعاف الحذر من العدو، لكن ابن الرومي لم يرضَ بتقديم هذا المعنى كما يقدمه غيره، بل لجأ إلى التعليل والقياس، فقاس الصديق على الطعام، والغدر على الداء، فوجد أن الداء يكون خطيراً عندما يكون داخل الطعام لا نراه، لأننا لو رأيناه ما أكلناه، وكذلك الصديق الذي يتحول إلى عدو فيأتي خطره من حيث لا نتوقع الخطر:
عَدُوَّكَ مِنْ صديقِكَ مُسْتَفادٌ فلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فإنَّ الداءَ أكثرُ ما تَراه يَحُولُ مِنَ الطعامِ أو الشَّراب
ثم يتكلم عن كثرة الأصدقاء، ويرى أن كثرتهم لا تغني شيئاً، وأن الخير في القليل منهم. وهذا المعنى مألوف، لكن ابن الرومي لا يرضى به على هذه الصورة، بل يعلله بقوله: إن البحر على اتساعه وعظمه مالح لا ينفع العطشان، على عكس القطرة من الماء الصافي العذب:
ولو كان الكثيرُ يَطِيْبُ كانت مُصاحَبَةُ الكثيرِ مِنَ الصَّوابِ
فَدَعْ عنكَ الكثيرَ فكم كثيرٍ يُعافُ وكم قليلٍ مُسْتَطاب
وما اللُّجَجُ المِلاحُ بِمُرْوِياتٍ وتَلْقَى الرِّيَّ في النُّطَفِ العّذاب([9">)
وثقافته الواسعة المتنوعة، وقدرته على الجدل والاحتجاج جعلتاه يقف عند المعنى الواحد المألوف فيفصل القول فيه مادحاً، ثم يذمه مفصلاً في ذكر عيوبه، دون أن يخلَّ بالمعنى في كلتا الحالين. وهذا الصنيع من ابن الرومي لم يكن مقصوراً عليه وحده، فقد سبقه إليه المعتزلة والمتكلمون ولاسيما الجاحظ، حتى إن ـ البَيْهَقِيَّ ـ أحد معاصري ابن الرومي ـ ألف كتاباً في ذلك عنوانه: المحاسن والمساوئ، ذكر فيه أشياء كثيرة، ممدوحة حيناً ومذمومة حيناً آخر ـ . وقد عُرف عن ابن الرومي هذا الصنيع.
فالحقد داء يكرهه كل الناس ويذمونه كما ذمه ابن الرومي، لكن أحداً لم يمدح الحقد ويبين مزاياه، مثلما فعل ابن الرومي؛ فهو يرى أن الحقد توأم الشكر، ولكلٍّ موضعٌ، فهنالك أشخاص يستحقون أن نحقد عليهم لإساءتهم للناس، مثلما يستحق آخرون الشكر لإحسانهم إليهم، لأن المسألة مسألة دَيْنٍ واستحقاق، ثم يضيف إلى هذا المعنى معنى آخر أكثر عمقاً وجِدَّةً من سابقه، فيرى أن الحقد محمود لأنه يوصل صاحبه إلى ثأره، ولولا الحقد لنسي صاحب الثأر ثأره:
وما الحِقْدُ إلاَّ تَوْأَمُ الشُّكْرِ في الفتى وبعضُ السَّجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعضِ
فحيثُ تَرَى حِقْداً على ذي إساءَةٍ فَثَمَّ تَرَى شُكْراً على حَسَنِ القَرْض
ولا عَيْبَ أنْ تُجْزَى القُروضُ بمثلِها بل العَيْبُ أنْ تَدَّانَ دَيْناً فلا تَقْضي
وخَيْرُ سَجِيَّاتِ الرجالِ سَجيَّةٌ توفّيكَ ما تُسْدي مِنَ القَرْض بالقَرض
ولولا الحُقودُ المُسْتَكِنَّاتُ لم يَكُنْ لِيَنْقُضَ وِتْراً آخِرَ الدهرِ ذو نَقْض([10">)
ب ـ تقصي المعاني:
قادته ثقافته الواسعة وقدرته على الجدل والحجاج إلى تقصي المعاني واعتصارها اعتصاراً شديداً لا يبقى فيه زيادة لمستزيد، مع المحافظة على الوحدة العضوية فيها، فكل بيت يرتبط ـ غالباً ـ بأخيه من قبل ومن بعد، لأن المعنى لا يكتمل إلا إذا قرأنا ما قبله وما بعده، فالمعاني عنده متولد بعضها من بعض، ولا سبيل إلى الفصل بينها في كثير من الأحيان. وهذا سبب من أهم أسباب إطالة القصائد في شعره.
وهذا التقصي واضح كل الوضوح في شعره، لا تكاد تخلو قصيدة منه، فالشيب مثلاً موضوع تكلم فيه الشعراء كثيراً منذ الجاهلية، لكن ابن الرومي لم يترك معنى يمكن أن يقال في الشباب والمشيب إلا أتى به، من خلال تفصيل زائد يعتصر فيه المعنى ولا يترك فيه شيئاً. من ذلك قوله في رثاء شبابه، وقد جعله مقدمة لقصيدة مدحية من مئة وخمسة وسبعين بيتاً، منها سبعون بيتاً في رثاء الشباب والتفجع عليه، وفي هذه الأبيات السبعين يكرر عبارة (يُذَكِّرني الشبابَ...) ثماني مرات؛ فمرة يذَكَره الشبابَ عطشُه الطويل إلى رضاب النساء الجميلات فيفصّل القول في ذلك، ومرة أخرى يذكّره الشبابَ انصرافُ النساء عنه لشيبه، ومرة ثالثة يذكّره الشبابَ ما فعلته أحداق النساء بقلبه، وهكذا قبل أن يصل إلى المديح:([11">)
يُذَكِّرُني الشَّبابَ صَدىً طويلٌ إلى بَرَدِ الثَّنايا والرُّضابِ
وشُحُّ الغانياتِ عليه إلا عن ابنِ شَبيْبَةٍ جَوْنِ الغُراب
فإن سَقَّيْنَني صَرَّدْنَ شُرْبي ولم يَكُ عن هَوىً بلْ عنْ خِلاب
يذكرني الشبابَ هَوَانُ عَتَبْي وصَدُّ الغانياتِ لدى عِتابي
لكن ابن الرومي لم يكن موفقاً في تقصي المعاني وتفصيلها وتقليبها على وجوهها دائماً، بل إنه في كثير من الأحيان يقع في التكلف والرّكَّة وهو يفصّل في المعنى الواحد. من ذلك التقصي غير الموفق قوله في أحد ممدوحيه:
لكَ مَكْرٌ يَدِبُّ في القومِ أَخْفَى مِنْ دَبِيْبِ الغِذاءِ في الأعضاءِ
أو دبيبِ المَلالِ في مُسْتَهامَيْـ ـنِ إلى غايةٍ مِنَ البَغْضاء
أو مَسِيْرِ القضاءِ في ظُلَمِ الغَيْـ بِ إلى مَنْ يُريدُهُ بالتَّواء
أو سُرَى الشيبِ تحت لَيْلِ شبابٍ مُسْتَحِيْرٍ في لِمَّةٍ سَحْماء
دَبَّ فيها لها ومنها إليها فاكتستْ لَوْنَ رَثَّةٍ شَمْطاء([12">)
فهو يصف مكر ممدوحه بأنه خفي لا يشعر به أحد كدبيب الغذاء في أعضاء الجسد، لكنه لا يكتفي بهذا المعنى، بل يأتي بأربعة أبيات بعده يوضح فيها معنى المكر ويتفنن في تصويره، حتى إنه راح يلتمس التفصيل والتوضيح في حروف الجر أيضاً؛ فذكر الحروف (في واللام ومن وإلي) في شطر واحد، فماذا بقي من معنى المكر بعد أن اعتصره ابن الرومي هذا الاعتصار الشديد؟
وكذا الأمر في المديح، بل إنه يلجأ إلى الإطالة قاصداً ليستوفي المعاني:([13">)
كلُّ امرئٍ مَدَحَ امرَأً لِنَوَالِهِ فأطال فيه فقد أراد هجاءَهُ
لو لم يُقَدِّرْ فيه بُعْدَ المُسْتَقى عند الوُرُودِ لما أطالَ رِشاءه
غيري فإني لا أُطيْلُ مدائحي إلا لأُوْفِيْ مَنْ مَدَحْتُ ثَناءه
وأَعُدُّ ظُلْماً أنْ أُقِلَّ مديحَه عَمْداً وأَسْخَطُ إنْ أَقَلَّ عَطاءه
3 ـ ظهور مفردات أعجمية في شعره:
في شعر ابن الرومي مفردات أعجمية ليست بالقليلة، معظمها فارسي، وأغلب الظن أن ابن الرومي كان يجريها على لسانه لكثرة ما يسمعها في اليوم من العامة، ومن المعلوم أن العصر العباسي هو عصر تمازج الأعراق والأمم والثقافات، أو أنه كان يقولها تظرفاً ومجاراة لذوق معاصريه العام الذي يميل إلى التملّح بالألفاظ الأعجمية. ولا أستطيع أن أُرجع هذا الأعجمي إلى أمه الفارسية الأصل التي لا نعلم كثيراً عن أصلها أكثر مما ذُكر في أخبار ابنها، لكن وجودها في حياته مع أخت وأخ لها تَسَرُّبَ شيء من الأعجمي الفارسي إلى لسان ابنها، وإن كنت لا أمتلك دليلاً على ذلك. وأغلب الظن أن جريان الأعجمي على لسان ابن الرومي كان بسبب تأثير البيئة المحيطة به، ولأن في اللغة العربية كثيراً من الألفاظ الأعجمية منذ العصر الجاهلي، وقد تأثر الشعراء من العرب وغيرهم بهذه الألفاظ، وأوردوها في أشعارهم، وإن اختلف التأثر من شاعر لآخر، ومن عصر لآخر.
ومن نماذج الأعجمي في شعر ابن الرومي قوله على سبيل المثال في قصيدة يمدح بها أبا القاسم الشِّطْرَنْجِيّ ويعاتبه على مَطْلِهِ في تنفيذ وعدٍ كان قد وعده إياه:
تَهْزِمُ الجَمْعَ أَوْحَدِيّاً وتُلْوي بالصَّناديدِ أَيَّما إلْواءِ
وتَحُطُّ (الرِّخاخَ) بعد (الفَرازِيْـ ـنِ) فَتَزْدادُ شِدَّةَ اسْتِعْلاء
غَلِطَ الناسُ لستَ تَلعبُ (بالشِّطْـ
ـرَنْجِ) لكنْ بِأَنْفُسِ اللُّعَباء
تَقْتُلُ (الشَّاهَ) حيثُ شِئْتَ مِنَ الرُّقْـ ـعَةِ طَبّاً بالقِتْلَةِ النَّكْراءِ
غيرَ ما ناظِرٍ بعينِكَ في (الدَّ ـتِ) ولا مُقْبِلٍ على الرُّسلاءِ([14">)
فهو يمدحه من خلال مصطلحات الشطرنج، وهي مصطلحات أعجمية ابتداء من اسم اللعبة (الشطرنج) وانتهاء بأحجارها ورقعتها. ومعاني هذا المديح من المعاني التي جَدَّتْ في العصر العباسي بعد أن كان الرجل يمدح بالقيم المعروفة من كرم وشجاعة ونجدة وحمية وحلم... أما هذا الممدوح فهو بطل في ميدان جديد، ليس فيه إلا المنافسون من اللاعبين، وليس فيه أسلحة إلا العقول، وأرضُ المعركة هي رقعة الشطرنج بأحجارها المختلفة الموزعة بين الجنود والخيول والفرسان والوزراء والملوك، وهذا الممدوح متفوق على أقرانه في لعبة الشطرنج، فلا ينظر إلى الرقعة أو إلى اللاعبين عندما يلعب، وكأنه حفظها عن ظهر قلب([15">).
4 ـ التعبير عن قضايا خاصة به:
التفت ابن الرومي إلى أحواله كثيراً وتأملها وعبر عنها في شعره، مبيناً ما لحقه من ظلم وغَبْنٍ على أيدي أبناء مجتمعه، أو على أيدي الطبيعة التي زادت في مصائبه ونُوَبِهِ؛ فقد أشار إلى زرعه الذي قضى عليه الجراد، وإلى ممتلكاته التي أتى عليها الحريق، كما أشار إلى محاولات عدة لاغتصاب ممتلكاته، مرة على يد أحد المتسلطين، ومرة على يد إحدى النساء ذوات اليد الطولى في الدولة. وهذا الشعر يضيء جوانب كثيرة في حياة ابن الرومي، ويساعد في الكشف عن كثير من أخباره التي ضاعت عبر الزمن، فتغدو أشعاره عندئذ وثيقة تاريخية لا تقل أهمية عما جاء به المؤرخون من أخبار عن ذلك العصر المضطرب.
لكننا لا نستطيع أن نسلّم بكل ما كان يقوله في هذا المجال، لما عُرِفَ عنه من مبالغات وافتراءات، غير أن ما قاله يخفي خلفه كثيراً من الحقيقة، ولابد أن نعتمد على ما قاله بسبب ندرة أخباره، فليس أمامنا إلا ما قاله من أشعار في ممتلكاته أو في جسمه أو في نفسه، وإن كنا لا ننظر إلى كل ما يقوله في هذا المجال بعين التصديق.
فقد أتى الجراد على زرعه فقضى عليه، فلم يجد ابن الرومي إلا ممدوحه يستعطفه على ما أصابه من أضرار:
ليَ زرعٌ أتى عليه الجرادُ عادَني مُذْ رُزِْتُهُ العُوَّادُ
كنتُ أرجو حَصَادَهُ فأتاه قبل أنْ يَبْلُغَ الحصادَ حصادُ([16">)
ثم جاء الحريق فقضى على ما بقي من أملاكه:
وبعدُ فإن عُذري في قُصُوري عنِ البابِ المُحَجَّبِ ذي البَهاءِ
حُدوثُ حَوادثٍ منها حريقٌ تَحَيَّفَ ما جَمَعَتُ مِنَ الثَّراء
أُعاني ضَيْعَةً مازلتُ فيها بِحَمْدِ اللهِ قِدْماً في عَناء([17">)
لكن معاناته الكبيرة كانت مع جباة الخراج، فقد كان المسؤول عنه رجلاً ظالماً متسلطاً اسمه (ابن بَسْطام)، لم تأخذه رحمة ولا شفقة بما حل بزرع ابن الرومي وبضيعته، بل طالبه بالخراج واشْتَطَّ في الطلب وجار، فلم يجد ابن الرومي إلا أن يتوجه إلى ممدوحه الوزير عبيد الله بن عبد الله ليسقط عنه خراج تلك الضيعة الفقيرة، وليكفَّ يد ابن بسطام عنه، فاستجاب الوزير له وأسقط عن ضيعته الخراج، وكفَّ يد ابن بسطام عنه، فقال ابن الرومي يشكره:
حَطَّ مِنْ ثِقْلِ الخَراجِ عني وقد كا نَ كأركانِ يَذْبُل وشَمَامِ
وأراني الضِّياعَ مالاً وقد كنـ ـتُ أَرى مُلْكَها كبعضَ الغَرام
كَفَّ مِنْ سَوْرَةِ ابنِ بَسْطَامَ عني وهْي مَشْبُوبَةٌ كَحَرِّ الضِّرامِ
وأراه بنوره حَقَّ مِثْلي وهْو مُذْ كان مُوْقِظُ الأفهام
فقضى حاجتي وكان كَسَيفٍ هُزَّ فاهْتَزَّ وهْو غيرُ كَهَامِ([18">)
وما قاله ابن الرومي عن تسلط جباة الخراج على الناس صحيح تؤيده الأخبار؛ إذ كان هؤلاء الجباة يبالغون في تعذيب المزارعين وأصحاب الضياع ليستخلصوا منهم أموال الخراج، وقد صور ابن المُعْتَزِّ (عبد الله بن محمد 296 هـ) في أرجوزته المشهورة ما كان يفعله هؤلاء الجباة في المزارعين، مِنْ ضَرْبٍ بالسِّياط، وجَرٍّ على الوجوه وهم مقيدون بالأغلال، ومن المبالغة في تعذيبهم كصبِّ الزيت المغلي أو النفط على رؤوسهم، ومن تعليقهم بالجدران من أيديهم وأرجلهم حتى يدفعوا ما عليهم وزيادة، من غير أن يُقَدِّرَ أولئك الجباة الظالمون سوء أحوال المزارعين والكوارث التي لحقت بهم، وأقلّها شُحُّ المطار وغلاءُ الأسعار والآفاتُ التي لحقت زروعهم..([19">)
ويبلغ هَوَانُ ابن الرومي عند الناس ـ لضعف سلطة العدل والقانون ـ حداً مخزياً عندما تتجرأ عليه امرأة فتسلبه بيته الذي يسكنه، ويدهش ابن الرومي لهذه الجرأة التي تصدر من امرأة من المفترض أن تكون ضلعاً قاصراً ضعيف الأركان والقوى، فيستغيث بممدوحه من آل وهب ليرد له بيته من براثن هذه المرأة الضعيفة القوية([20">):
أجِرْنْي وزيرَ الدِّينِ والملْكِ إنني إليكَ بحقّي هاربٌ كلَّ مَهْرَبِ
تَوَثَّبَ خَصْمٌ واهِنُ الرُّكْنِ والقُوَى على أَيِّدِ الأركانِ لم يَتَوَثَّب
أريدُ ارتجاع َالدارِ لي كيف خَيَّلَتْ بِحُكْمِ مُمَرٍّ أو بِلُطْفٍ مُسَبَّب
وتا للهِ لا أرضَى برَدِّ ظُلامَتي إلى أن أَرى لي ألفَ عَبْدٍ ومَرْكَب
والعصر العباسي كما هو معلوم عصر امتزاج عرقي بين العرب والأعاجم ولاسيما الفرس والترك الذين استعان بهم الخلفاء العباسيون لتوطيد حكمهم، فبرزت مشكلة كبيرة تتعلق بهذا الامتزاج هي الاعتداد بتلك الأصول على حساب الأصول العربية، والزراية بها والسخرية من معيشة الأعراب، وقد عُرف هؤلاء بالشعوبيين. لكن العرب لم يسكتوا، بل تصدوا للشعوبيين وحاوروهم وحاجُّوهم ودافعوا عن الأصول بين الطرفين. وقد غُمِزَ ابن الرومي في أصله غير العربي، فاهتاج ورَدَّ عن نفسه ضَعَةَ نسبه بأنْ وصل نسبه بملوك الفرس من جهة أمه، وبملوك اليونان من جهة أبيه، من غير أن يتعالى على العرب أو يسخر منهم ومن حضارتهم كما يفعل الشعوبيون. ومن اللافت للنظر أن جميع الأعاجم كانوا يربطون أنسابهم غير العربية بالملوك من الفرس والروم أو اليونان والترك، وهم في الحقيقة ليسوا من أحفاد أولئك الملوك، بل إن معظمهم من عامة الأعاجم، لكن الرغبة في التباهي والتعالي على العرب جعلتهم يزعمون هذا الانتساب، فكل فارسي هو من سلالة كسرى والساسانيين، وكل رومي هو من سلالة قيصر، وكل تركي هو من سلالة خاقان. وليس الأمر كذلك، لكنه الكَيْدُ والتباهي.
من ذلك قول ابن الرومي يباهي بأصله الرومي أو اليوناني كما سماه من جهة أبيه، وبأصله الفارسي الساساني من جهة أمه، مشيراً إلى أنه سيصل إلى الأمجاد التي وصل إليها أجداده:
إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ به فلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ
بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِنُ سِياسَتَها فلم يَلِدْنيْ أبو السُّوَّاسِ ساسان([21">)
ثم يرى أن الروم أهل أمجاد وقوة وحكمة، وانه وقومه لا يرون وجوههم في المرايا كالنساء، وإنما يرونها في صفحات السيوف البيض القاطعة:
ونحن بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجاً ومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِلابُ المَعاجِمِ
وحِلْمٌ كأركانِ الجبالِ رَزانَةً وجَهْلٌ تَفادَى منه جِنُّ الصَّرائِم
وما تتراءى في المَرايا وجوهُنا بلى في صفاحِ المُرْهَفاتِ الصَّوارم([22">)
ثانياً: المؤثرات الشخصية (جسمه ونفسه):
وصف ابن الرومي جسمه ونفسه بكل ما فيهما من عيوب وأوجاع ومآخذ. وأسرف في ذلك الوصف حتى لم يستطع أحد من الشعراء غيره اللحاق به في هذا المجال، بل إن معظم شعره يمكن أن يحمل على هذا الوصف. وثمة نماذج شعرية كثيرة له في وصف جسده بما فيه من علل وعيوب، ونفسه بما فيها من مخاوف وأوهام وظنون، لكنني سأقف عند شاهد واحد هاهنا يصور فيه ابن الرومي جملة من المصائب التي نزلت به في جسده وفي نفسه، وهذه المصائب هي التي ركز عليها في شعره أكثر من غيرها، وفصل القول فيها. كقوله يمدح الوزير القاسم بن عبيد الله ويعاتبه، في قصيدة تتألف من مئتين وستة عشر بيتاً، ثلثاها في تصوير سوء حاله:([23">)
أنا مَولاكَ أنت أَعْتَقْتَ رِقّي بعدما خِفْتُ حالةً نَكْراءَ
فَعَلامَ انصرافُ وجهِكَ عني وتَنَاسيْكَ حاجتي إلْغاء
أنا عارٍ مِنْ كلِّ شيءٍ سوى فَضْـ لِكَ لا زلْتَ كِسْوَةً وغِطاء
أنا مَنْ خَفَّ واسْتَدَقَّ فما يُثْـ ـقِلُ أرضاً ولا يَسُدَّ فضاء
أنا لَيْثُ اللُّيوثِ نَفْساً وإنْ كُنْـ ـتُ بجسمي ضَئِيْلَةً رَقْشاء
لستُ باللُّقْطَةِ الخَسِيْسَةِ فاعرِف ليَ قَدْري واسألْ به الفُهَماء
أنا ذاك الذي سَقَتْهُ يَدُ السُّقْـ ـمِ كُؤوساً مِنَ المُرَارِ رِوَاء
ورأيتُ الحِمامَ في الصُّوَرِ الشُّنْـ ـعِ وكانتْ لولا القضاءُ قَضاء
ورَماهُ الزمانُ في شُقَّةِ النَّفْـ ـسِ فَأَصْمَى فُؤَادَهُ إصْماء
وابتلاهُ بالعُسْرِ في ذاكَ والوَحْـ ـشَةِ حتى أَمَلَّ منه البَلاء
وثكِلْتُ الشبابَ بعد رَضَاعٍ كان قبلَ الغِذاءِ قِدْماً غِذاء
كلُّ هذا لَقِيْتَهُ فَأَبَتْ نَفْـ ـِيَ إلاَّ تَعَزُّزاً لا اخْتِتاء
وأَرى ذِلَّتي تُرِيْكَ هَوَاني ودُنُوِّي يَزيدُني إقْصاء
إن هذه الأبيات تصور حقاً حال ابن الرومي تمام التصوير، وتعبر عما يحسه من هموم وعذاب في جسده وفي نفسه، وقد توجه بهذه الأبيات إلى ممدوحه الذي وصفه بأنه سيده ومالك أمره الذي سيقضي له حوائجه، ثم يشير إلى أن ضعف بنيته لا يؤثر في همته وشجاعة نفسه وإبائه، وأنه ذو أصل عريق، وليس لقيطاً لا يُعرف والدُه أو أصله، وهو الذي تكالبت عليه الأمراض والعلل حتى طحنت جسده، وهو يكره الأشكال القبيحة ويراها كالموت الذي يكرهه ولا يحب لقاءه، وهو فوق كل ذلك مُعْسِرٌ وحيد في حياته، فقدَ الشباب في سن مبكرة. لكن كل ما أصابه لم يجعل ممدوحه يَحِنُّ عليه أو يقدّر سوء حاله، بل ظن أن ما به من تذلل وخضوع له هو مِنْ هَوانِ نفسه، فما زاده ذلك التذلل إلاَّ إبعاداً له عن مجالسه وتنكراً له.
وهذه المعاني تصور ما أصاب ابن الرومي في حياته، وإن كان فيها بعض المبالغة، لكن هذه المبالغة تخفي خلفها حقيقة ما أصابه.
وقد أثرت هذه الأوضاع التي ذكرها ابن الرومي في شعره كثيراً، لكن تأثيرها لم يكن واحداً، بل أخذ منحنين اثنين؛ أولهما التعبير عن هذه الأوضاع تعبيراً حقيقياً من خلال مئات القصائد والمقطعات التي تدور في معظمها حول هذه المعاني، وثانيهما تجاوز هذه المعاني والبحث عن معانٍ مناقضة لها على سبيل التعويض، فادعى أشياء لم تكن فيه، وصور نفسه بصورة بعيدة عما هي عليه، كما حوّل ضعف بنيته إلى قوة مبالَغ فيها. ولم يقف عند هذا الحد بل أثرت أحواله الجسدية والنفسية في طبيعة شعره أيضاً.
وسأَفْصِل بين جسده ونفسه فصلاً مؤقتاً لأبحث ـ في كل قسم على حدة ـ عن المؤثرات التي أثرت فيهما، وعن المظاهر التي نتجت عن تلك المؤثرات. وإن كان هذا الفصل غير علمي، لأن كلاً من جسده ونفسه كان يستجيب للآخر، ويحركه، ويتحرك به.
1 ـ جسمه:
كان ابن الرومي ضعيف البنية، يُغَرْبِلُ في مشيته، ويستند على العصا في آخر أيامه، ضعيف البصر والسمع، يشكو من ضعف جنسي، ومن شيب غزا رأسه في سن الشباب، علاوة على نهمه الشديد إلى الطعام([24">).
وقد عبر عن هذه الأحوال بالصدق حيناً من خلال أشعار كثيرة، وبالادعاءات الكاذبة حيناً آخر ليخفي ضعفه، لكنه بادعاءاته تلك قدم لنا تحليلاً دقيقاً لنفسه وإن كان تحليلاً معكوساً، لكنه لا يقل أهمية عن الأشعار التي وصف فيها أحواله الجسدية والنفسية فمن بين ادعاءاته الكثيرة قوله يصف شجاعته وفروسيته وبطولاته، على الرغم مما عرف عن بنيته من ضعف واعتلال، وعن نفسه من جبن وخوف وتوهم([25">):
وإني لَلَيْثٌ في الحروبِ مُظَفَّرٌ مُعَارٌ أَداةَ الهَصْرِ بالظَّفْرِ والعَضِّ
إذا ما هَزَزْتُ الرُّمْحَ يومَ كَريهةٍ لِجَمْعٍ فذاكَ الجَمْعُ أولُ مُنْفَضّ
تَضاءَلُ في عيني الجُموعُ لدى الوَغَى وإنْ هي جاءتْ بالقَضِيْضِ وبالقَضّ
وما ضَرْ بِيَ الأقْرانَ عند لقائِهمْ بِذَبّ ولا طَعْنِي هنالك بالوَخْض
فهو أسد في الحروب، مظفر دوماً، وسلاحه في انتصاره على الأعداء، كسرهم أظافره وأسنانه، وهو قادر على تفريق الجموع برمحه مهما كانت كبيرة وكثيرة العدد، وهو يهجم على أعدائهم ويضربهم، ولا ينتظر هجومهم عليه ليدافع عن نفسه. وهذا الافتخار مبني على الادعاء الكاذب على شاكلة كثير من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وينسبون إلى أنفسهم أشياء ليست فيها. ولعل ابن الرومي أراد بهذه الأبيات أن يدفع عن نفسه تُهَمَ العجز والضعف والجبن التي كان يراها في نظرات معاصريه وغمزاتهم، ولعله أراد الخوض في موضوع الفخر بالشجاعة كما خاض فيه غيره من الشعراء.
ولـه قصيدة أخرى طويلة ضاع معظم أبياتها، ولم يبق منها إلا اثنان وعشرون بيتاً كلها على هذا النحو من الادعاءات الكاذبة بالقوة والشجاعة.([26">)
وفي موضع آخر في شعره يتحول ابن الرومي الجبان الذي يخاف مما لا يخيف إلى واعظ يعظ الناس بألا يجبنوا أو يخافوا، ويحضهم على الشجاعة والاستهانة بالنفس لأن العمر واحد والموت واحد، وأن الذي يخاف من الموت هو ناقص الإيمان، لاعتقاده أنه لن يُبْعَثَ من جديد بعد موته. وكل هذا ليظهر نفسه شجاعاً لا يخاف الموت، وأنه ليس جبانا ًكما يظن الناس:
لا تَجْبُنَنَّ لأنَّ النَّفْسَ واحدةٌ فإنما الموتُ أيضاً واحدٌ فَقَدِ
ما يَجْبُنُ المرءُ إلا وهْو مُعْتَقِدٌ أو مُشْفِقُ أنه إن مات لم يَعُد([27">)
وكان له شأن مهم مع أصحاب اللحى الطويلة، لأنه كان يكره إطالة اللحية، ويراها تعبيراً عن الحمق والنقص في صاحبها، وهذا أمر مألوف من شاعر ينفر من مظاهر القبح في كل شيء.
واللحية الطويلة الزائدة في طولها أو كثافة شعرها عن الحد أمر قبيح حقاً، لكن ابن الرومي في هجومه على أصحاب اللحى الطويلة كان يشعر بعقدة النقص تجاههم لأن لحيته هو كانت قصيرة، ولا سبيل إلى إطالتها، فلابد إذاً أن يقصروها هم. ومن هاهنا نستطيع أن نفهم سر هجومه على أصحاب اللحى الطويلة، لأن نصف شبر منها يكفي علامة على الرجولة كما يقول، فما الداعي إلى تلك الإطالة؟
أو فَقَصِّرْ منها فَحَسْبُكَ منها نِصْفُ شِبْرٍ علامةَ التذكيرِ([28">)
فالقضية لم تعد نفوراً من منظر قبيح فحسب، بل صارت تعويضاً نفسياً، وتعالياً على تهمة قد تُوجَّه إليه بسبب قصر لحيته، فبادر بالهجوم على الآخرين قبل أن يهاجموه هم، بل راح يُزَيِّنُ في أعينهم اللحية القصيرة، حتى لا يظن أحد منهم أن قِصَرَ لحيته عيبٌ فيه، بل لأنه هو يريدها أن تكون قصيرة، كالثعلب الذي قُطِعَ ذيلُه فلم يجد أمامه إلا أن يُزَيِّن ذلك الذيل القصير المقطوع في أعين الثعالب حتى يقطعوا أذياله مثله، لأنه ليس باستطاعته أن يعيد ذيله إلى ما كان عليه، أو كقولِهِ إن العِنَبَ حِصْرِمٌ حامض لأنه لم يستطع الوصول إلى كرمته.
وكان ابن الرومي نهماً إلى الطعام نهماً شديداً أفسد عليه صحته، حتى قيل: إن نهمه تسبب في هلاكه([29">). وقد عبر عن هذا النهم تعبيرين مختلفين، وإن كان بينهما خيط دقيق واضح؛ فقد وصف شهوته الجامحة إلى الطعام ـ بمختلف صنوفه ـ من خلال كثير من القصائد والمقطعات، وتفنن في وصف أصنافه وأشكاله وطعومه وطرائق تحضيره... ويضيق بنا المجال لو رحنا نتبع الأصناف التي ذكرها منه في شعره، لكنه شهر بحبه للسمك([30">). من ذلك قوله في قصيدة مدحية تتألف من اثنين وعشرين بيتاً، منها سبعة أبيات باهتة في المديح، والباقي في ذكر السمك:
واعلمْ وُقِيْتَ الجهلَ أنك في قَصْرٍ تَلِيْهِ مَطارِحُ السَّمَكِ
وبَناتُ دِجْلَةَ في فِنائِكُمُ مَأْسُوْرَةٌ في كلِّ مُعْتَرَكِ
بيْضٌ كأمثالِ السَّبائِكِ بلْ مَشْحُونَةٌ بالشَّحْمِ كالعُكَك
تُغْنِي عن الزَّيَّات قالِيَها وتُبَخِّرُ الشاوِيْنَ بالوَدَك
والهازِباءُ هَدِيَّةٌ ذهبتْ مذ جاوزتْ أسْكُفَّةَ الحَنَكِ
وافَى فألْفَيْناهُ في مِعَدٍ لم نُلْقِهِ للنَّسْلِ في بِرَك([31">)
فما يطلبه من ممدوحه هو أكلة سمك من نهر دجلة المجاور لقصره، ثم يصف ذلك السمك وهو في النهر قد طُبِّقَ شحماً يغني عن الزيت، وتفوح منه رائحة الدسم إذا قلي، لكن هذه الأكلة الهدية قد ذهبت إلى المعدة بعد المضغ، وهذا خير من أن تظل الأسماك في النهر لتتكاثر وتتناسل.
وهذا المزج بين الطعام والمرأة نقله أيضاً إلى أركان الصورة نفسها، فاستعان به ركناً من أركان التشبيه؛ فالأطعمة والأشربة عناصر مهمة من عناصر الصورة الشعرية عنده، ويكفي للتدليل على ذلك أن نتذكر ما قاله في قصيدته المشهورة في المديح التي مطلعها:
أَجْنَتْ لك الوَجْدَ أغصانٌ وكُثْبانُ فيهنّ نوعانِ تفاحٌ ورمان
وفوقَ ذَيْنِكَ أعْنابٌ مُهَدَّلَةٌ سُوْدٌ لهنَ مِنَ الظَلْماءِ أَلْوان
وتحت هاتِيْكَ أعنابٌ تَلُوْحُ به أَطْرافُهُنَّ قُلوبُ القومِ قِنْوان([32">)
فهو يركّب صوراً جميلة من الطبيعة والثمار الطيبة؛ فقامة المرأة غصن، وردفاها ضخمان يرتّجان ككثيب الرمل الناعم، وخداها لونهما أحمر كالتفاح، ونهداها بارزان مستديران كالرمان، وشعرها أسود مرسل فاحم كالعنب الأسود، وأطراف أصابعها محمرة كأنها عنب أحمر، أو (عنّاب) كما في رواية أخرى، لذا كان لابد لامرأة بهذه الأوصاف أن تجني ثمار الوجد لعاشقيها، أو أن تتجنى عليهم وتمزق قلوبهم، لأن لكلمة (جَنَى) معنيين؛ أحدهما من الجَنْيِ يكون للثمار، والآخر من الجِنايَةِ بمعنى الذنب والجُرْم. والمعنيات جائزان في البيت السابق.
وإمعان ابن الرومي في الطعام ونهمه الشديد فيه من أهم أسباب إطالته في المعاني أو في القصائد، وكأنه لا يريد أن يترك المعنى حتى يشبع منه، ولا يبقي منه إلا الفضلات التي لا تنفع أحداً. وقد دفعه ضعفه الجنسي إلى التعويض أيضاً بعدة طرق؛ منها وصف بعض المغامرات مع النساء، وأنه محبوب مرغوب فيه على طريقة عمر بن أبي ربيعة في الغزل المعكوس، بل إن النساء يتهالكن عليه وهو يرفضهنّ ولاسيما إذا كن مغنيات، ومنها الهجاء الفاحش الذي يذكر فيه السوءات ويسمي الأشياء بمسمياتها([33">)، كما دفعه هذا الضعف إلى تَشَهِّي المرأة، وتخيلها في كل شيء كالطبيعة والطعام، لكن الحقيقة بعد كل ذلك أن المرأة كانت تنفر منه لقبحه ولشيبه، وربما لضعفه الجنسي، مما زاده كرهاً لها، وإمعاناً في هجائها ونفي كل فضل عنها.
فهو يصور نفسه محبوباً من النساء اللواتي يخطبن وده ويتهالكن على وصاله، وهو يتأبى عليهن ويتمنع، وله قصيدة كتلك القصائد التي نظمها عمر بن أبي ربيعة في وصف النساء اللواتي يسعين خلفه، فحاول ابن الرومي أن يقلده، ونجح في ذلك إلى أبعد حدود النجاح، حتى ليخيل إلى القارئ أن القصيدة لعمر وليست لابن الرومي:([34">)
كتبتْ رَبَّةُ الثنايا العِذابِ تَتَشَكَّى إليَّ طُوْلَ اجْتِنابي
وإذا قرأنا القصيدة بتمامها رأينا كيف يخدعنا ابن الرومي بادعائه الجديد هذا، فهو يزعم أن صاحبته أرسلت إليه خطاباً تدعوه إليها، وتشتكي له من طول غيابه عنها، وتصف حبها الذي أضنى فؤادها، فاستجاب لخطابها ورحل إليها مقتحماً المخاطر، ومتجاوزاً الحراس في الليل بعد أن هجعوا من التعب، فاستقبلته صاحبته مع أترابها وهنّ كاشفات عن وجوههن وقد أمضين الليل ساهرات ينتظرن قدومه، وتسلَّلْنَ إليه خوفاً من الحراس والبواب، ورُحْنَ يتحدثنَ عنه أحاديث تَشِفُّ عن عشقهن له وعدم قدرتهن على الصبر على فراقه، وهن يتمنْينَ أن يَرِقَّ لأحوالهن، ثم جلس إلى صاحبته فراحت تعاتبه على هجره لها، فأعلمها أنه ما هجرها طائعاً ولا سالياً عنها بالخمر والطرب، بل لأنه كان مثلها يشكو من نار الهوى التي كَوَتْهُ فلم يستطع أن ينام ليله، وكأن فراشه حشي بالحجارة الحادة الناتئة. وبعد هذا العتاب تصالحا وتواعدا على اللقاء من جديد.
إنها حكاية جميلة بلا شك، لكن ابن الرومي مُدَّعٍ في كل كلمة قالها، فهو لم يكتف بالقول إن صاحبته تشتاق إليه، وأنها متيمة به، بل زعم أن صويحباتها متيمات به أيضاً، ثم صور ما لحق بصاحبته من عذاب بسبب هجرانه، حتى راحت تتمنى هي وصويحباتها أن يرق لها. لكنه ختم القصيدة بخاتمة لا تناسب ادعاءاته فيها، فقد أشار إلى أنه متيم بصاحبته كما هي متيمة به، حتى إنه قَلِقٌ يتقلب على فراشه ولا يستطيع أن ينام لشدة حبه لها واشتياقه إليها. وكان من المفترض ـ بعد كل تلك المقدمات التي ساقها ليؤكد محبة المرأة له وسعيها خلفه وهجرانه لها ـ أن يخفي مشاعره نحو صاحبته ويتلذذ بعذابها وسعيها خلفه، أو يظهر عدم اهتمامه بحالها وقلة مبالاته لما أصابها.
ويزعم في مواضع أخرى كثيرة مزاعم كهذا الزعم، لكنه يضيف إليه مزاعم جديدة تؤكد فحولته وقوته الجنسية([35">).
ونستطيع أن نعلل ـ بعد هذا الفهم لحقيقة علاقته بالنساء ـ أسباب سوء ظنه بالمرأة، والمبالغة في هجاء النساء ولاسيما المغنيات، لأن المرأة نفرت منه لقبحه ولشيبه، أو لعنانته، أو لأمراضه وعلله، أو لكل هذه الأسباب معاً، فكان رد ابن الرومي عليها أنْ سلب منها كل فضيلة، وصورها فاجرة، أو على أقل تقدير خائنة لا تعرف الوفاء بالعهود. وهذا الكلام ينطبق على كل النساء في زعمه كما يقول:
ولا يَدُمْنَ على عَهْدٍ لِمُعْتَقِدٍ أنّى وهُنّ كما شُبِّهْنَ بُسْتانُ
يَمِيْلُ طَوْراً بِحِمْلٍ ثم يُعْدَمُهُ ويَكْتَسي ثم يُلْفَى وهْو عُرْيان
حالاً فَحالاً كذا النَّسْوانُ قاطِبَةً نَوَاكِثٌ. دِيْنُهُنَّ الدَّهرَ أدْيان
يَغْدُرْنَ والغَدْرُ مَقْبُوحُ يُزِّيُنهُ للغاوِياتِ وللغافِيْنَ شَيْطان
تَغْدو الفتاةُ لها حِلٌّ فإنْ غَدَرَتْ راحتْ يُنافِسُ فيها الحِلَّ خِلان
فإنْ تُبِعْنَ بَعَهْدٍ قُلْنَ مَعْذِرةً إنا نَسِيْنا وفي النّسْوان نِسْيان
يكفي مُطالِبَنا للذّكْرِ ناهِيَةً الغالِبَ المشهورَ نِسْوان
فَضْلُ الرجالِ علينا أنَ شِيْمَتَهم جُوْدٌ وبَأْسٌ وأحْلامٌ وأَذْهان
وأنَّ فيهم وَفاءٌ لا نَقومُ به ولن يكونَ مع النُّقْصانِ رُجْحان([36">)
________________________________________
* أستاذ مساعد في كلية الآداب بجامعة حلب ـ سورية.
([1">) انظر ديوان ابن الرومي: 1/232، 331، 298, 341، 374، 2/637، 668، 789، 3/954، 968، 5/1957.
([2">) انظر تاريخ الطبري: 9/660 ـ 663.
([3">) ديوان ابن الرومي: 6/2377. السجام: التي تسيل. الهنات: الأشياء.
([4">) نفس المصدر السابق.
([5">) ديوان ابن الرومي: 3/81283.
([6">) ابن الرومي حياته من شعره: 88 ـ 89ز
([7">) ديوان ابن الرومي: 1/71.
([8">) المصدر السابق: 6/241.
([9">) ديوان ابن الرومي: 1/231 ـ 232. يعاف: يترك. اللجج: جمع لُجَّة: معظم البحر وتردد أمواجه. النطف: جمع نُطْفة: الماء الصافي أو القطرة منه.
([10">) ديوان ابن الرومي: 4/1380. المستكنات: المختبئات. الوتر: الثأر.
([11">) ديوان ابن الرومي: 1/257. صَدى: عطش. الثنايا: الأسنان. الرضاب: الريق. شُحٍّ: بخل. الغانيات: النساء الجميلات. ابن شبيبة: الشاب. جَوْن: أسود. وجون الغراب: كناية عن الشباب لأن الغرابُ أسود اللون وكذلك الشعر أيام الشباب. صَرَّدْنَ: سقينني جرعات متفرقة أو قَلَّلْنَ في السقاية. خِلاب: مخادعة وافتتان قلب. عَتْبي: معاتبتي.
([12">) ديوان ابن الرومي: 1*67. التَّواء: الهلاك. مُسْتَحِير: آخذ من الحسب كلَّ مأخذ. اللَّمَّة: شعر الرأس المجاور شحمة الأذن. سَحْماء: سوداء. رَثّة: هيئة قبيحة. شمطاء: عجوز شعرها مختلط سواده ببياض.
([13">) المصدر نفسه: 1/111. المُسْتَقَى: السقاية، يريد الفهم. الورود: القدوم على الماء للشرب. الرَّشاء: حبل الدَّلْو.
([14">) ديوان ابن الرومي: 1/66 ـ 67. تلوي: تصرع وتهزم. الصناديد: الشجعان الشرفاء. الرخاخ: جمع رُخَّ: حجرة من حجارة الشطرنج. الفرازين: جمع فِرْزان: الوزير. الشاه: الملك. القِتْلة: النظراء في القتال وغيره، يريد خصومه من اللاعبين. الدست: رقعة الشطرنج. الرسلاء: الناس الذين يلعبون معه.
([15">) انظر ما جمعه العقاد من الأعجمي في كتابه: ابن الرومي حياته من شعره: 94.
([16">) ديوان ابن الرومي: 2/667.
([17">) المصدر نفسه: 1/56 ـ 57.
([18">) ديوان ابن الرومي: 6/2376، يَذْبُل وشَمَام: جبلان. الغَرام: الغُرْم. سَوْرَة: سَطوة. مَشْبوبة: مشتعلة ومتوهجة. الضِّرام: لهب النار. غير كَهام: قاطع وحاد.
([19">) انظر ديوان ابن المعتز: 494. والعصر العباسي: 21.
([20">) ديوان ابن الرومي: 1/252 ـ 253. واهِن: ضعيف. أيَّد: قوي. خَيَّلَتْ: التبست أو كان بها شبهة. مُمَرَّ: قاطع أو غالب.
([21">) ديوان ابن الرومي: 6/ 2425.
([22">) المصدر نفسه: 6/2272. الحِجا: العقل. المعاجم: المُمْتَحَنِ. الصَّرائم: الأماكن المنقطعة. المرهفات: السيوف. الصوارم: القواطع. والبيت الثاني مأخوذ من قول الشاعر الفَرَزْدَق:
أحلامُنا تَزِنُ الجبالَ رَزانَةً وتَخالُنا جِنّاً إذا ما نَجْهَلُ
والبيت في: شرح ديوان الفرزدق: 2/321.
([23">) ديوان ابن الرومي: 1/82 ـ 91. خَفّ: صار خفيفاً. اسْتَدَقَّ: صار دقيق البنية. رَقْشاء: أفعى. اللُّقْطَة: اللقيط له أب أو أصل. رِواء: الشرب حتى الشبع. الحِمام: الموت. أَصْمَى: أصابه بالصمم. اخْتِناء: حيلة ومخادعة.
([24">) انظر ابن الرومي حياته من شعره: 97.
([25">) ديوان ابن الرومي: 4/1381. في الديوان: [وما ضرَّ بي">. والصواب ما أثبتناه. وانظر أيضاً: 6/2343. مُعار: من الإعارة. الهَصْر: الكَسر من غير فَصْل. كريهة: حرب. جاء القوم بِقَضِّهِمْ وقَضِيْضِهِم: أي جاؤوا كلهم. الذْبُّ: الدفع والمنع. الوَخْض: إذا خالطت الطعنة الجَوْفَ ولم تنفذ.
([26">) انظر المصدر نفسه: 4/1709 ـ 1710.
([27">) المصدر نفسه: 2/694. قَدِ: اسم فعل بمعنى يكفي.
([28">) ديوان ابن الرومي: 3/928.
([29">) ديوان ابن الرومي: 3/928.
([30">) انظر زهر الآداب: 2/395.
([31">) ديوان ابن الرومي: 5/1811. وانظر نماذج أخرى لأطعمة أخرى في المصدر نفسه: 1/61، 205، 209، 6/2648. العُكَك: جمع عُكَّة: زِقٌّ صغير يوضع فيه السَّمن. الوَدَك: الدَّسَم. الهازِباء: نوع من أنواع السمك. أُسْكُفَّة: عَتَبَةُ البيت، يريد أوَّل الحَنَك.
([32">) المصدر نفسه: 6/2416. كثبان: رمال مجتمعة مُحْدَوْدِبَة، يريد الأرداق. قنوان: مقسومة.
([33">) انظر ديوان ابن الرومي: 5/1846، 1985.
([34">) انظر القصيدة كاملة في المصدر السابق: 1/330، وانظر فيه أيضاً: 2/746.
([35">) ديوان ابن الرومي: 4/1707. وانظر فيه أيضاً: 4/1617، 5/1932، 1984.
([36">) ديوان ابن الرومي: 6/2421.
وهذه القصيدة إدانة للمرأة كما يراها ابن الرومي، ودفاع فارغ محموم عن الرجل الذي وصفه ابن الرومي بالوفاء والحلم والجود والقوة والعقل. وهو في هذه القصيدة يلتمس كل توضيح ممكن لكي يرسخ في الأذهان صور المرأة الغادرة الناكثة للعهود.
وعلاوة على هذه النظرة الدُّونية إلى النساء رأى ابن الرومي في المرأة كائناً جميلاً يحقق له المتعة، لذا كان يحاكي جمالها الخارجي ولا يحاكي تأثيره في نفسه، فعندما وصف المغنية (وحيد) حاكَى ظاهر حسنها ولم يحاكِ تأثيره في نفسه، أما غزله الرقيق العفيف فمحاكاة فنية في الغالب؛ إذ جعل قسماً منه مقدمات لقصائده، والقسم الآخر محاكاة لغيره من الشعراء في غرض مهم كالغزل، أو أنه كان يُعِدُّ هذا الغزل الرقيق للغناء. ومن هاهنا يمكن أن نفهم بعضاً من أسباب هجومه على المغنين والمغنيات، وهجائه الفاحش لهم، فمن الممكن أن يكون أولئك المغنون والمغنيات ـ الذين هجاهم ابن الرومي ـ رفضوا أن يتغنوا بأشعاره، وإن كنا لا نمتلك أدلة على هذا الزعم، بل إن الأدلة على نفيه أقوى من الأدلة على إثباته.
وأنا لا أستبعد أن يكون ابن الرومي قد أحب مرةً في حياته، لأنه ذو مشاعر طيبة فياضة، فقال ما قاله من غزل رقيق في التعبير عن مشاعره تلك، ولا أستبعد أيضاً أن يكون قد صُدِم بحبه، فغدرت به المرأة التي أحبها، مما جعله لا يعيد التجربة ثانية، ويسيء الظن بالنساء جميعاً. ومن المعروف عن ابن الرومي أنه يتوقع الشر والأذى في كل شيء، بل في الأشياء التي لا يمكن أن يأتي منها الشر، لذا لم يُعِد التجربة العاطفية مع امرأة أخرى تَوَجُّساً لشرٍّ أكيد سيأتي منها ومن غيرها، لأنه في الحالة العادية كان يتوجس الشر في الأشياء المحيطة به قبل أن يختبرها، فكيف سيكون موقفه منها بعد أن اختبرها ورأى الشر والغدر فيها؟ مما هَيّأ لهذا الهجوم السافر على المرأة عموماً.
لكن موقف ابن الرومي من المرأة يتحول إلى نقيضه إذا كانت المرأة إحدى اثنتين، أماً أو محبوبة؛ فأما الأم فرمزٌ للطهر والعفة والفضيلة، صوامةٌ نهارها قوامةٌ ليلها، حاضنةٌ مرضعةٌ حنون([1">)، وأما المرأة فطاهرة إن أحبها وبادلته حبه بحب، فعندئذ يخلع عليها كل صفات العفة والطهر ونقاء السريرة، ويصورها وفية بعهودها، كقصيدة رثاء المغنية (بستان) وكان يحبها، ويبدو من كلامه أنها كانت تحبه، أو لم تكن تصده على أقل تقدير:([2">)
2 ـ نفسه:
انعكست نفس ابن الرومي في شعره تمام الانعكاس، وأثرت فيه تأثيراً واضحاً، حتى ليصِحّ أن نقول: إننا لا نستطيع فهم شعره ما لم نفهم نفسه حق الفهم. وانعكاسُ نفسه في شعره أخذ عدداً من الأشكال أو المظاهر؛ منها ما كان تعبيراً صادقاً عن تلك النفس في مختلف أحوالها، ومنها ما كان تعويضاً عن هزائم وانتكاسات نفسية أخذت شكل ادعاءات مختلفة، كتلك الادعاءات التي رأينا بعضاً منها عندما تكلمنا عن بيئته وعصره وجسمه.
وابن الرومي لا يلتزم خطاً واحداً أو نهجاً واحداً في وصف أحواله أو في التعبير عنها، لأن أحواله نفسها لم تكن تسير على نهج واحد، فقد كانت مضطربة أشد الاضطراب، تَمْتَحُ من مَعين نفسه المضطربة ومن جسمه المضطرب ومن عصره المضطرب، فحياته كلها اضطراب في اضطراب، لذا انعكس هذا الاضطراب في شعره من خلال تناوله لما يشعر به. إن نفسه أشبه ما تكون ببيت اليَرْبُوع الذي يحفر فيه خطوطاً في مختلف الاتجاهات ليحمي نفسه من المتطفلين والأعداء، ونَفْسُ ابن الرومي كانت كبيت اليربوع، بل إن ابن الرومي أمعن في الاحتراز والتخّفي من الآخرين فزاد في حفر تلك المداخل والمخارج، وتفنن في ذلك حتى أوقعنا في كثير من الأحيان في متاهات نفسه، فاختلطت علينا مداخلها ومخارجها، حتى لم يجرؤ أحد منا ـ نحن دارسي شعره ـ على تأكيد حُكِم، أو توثيق حالة شعورية مرت بالشاعر، من غير أن يقدم بين يديه أكثر من افتراض، متعللاً بعبارات الترجيح من مثل قوله: أظنُّ، ويخيَّل إلي، وعلى الأرجح، وأَغْلَبُ الظن، ولعل، ويَلُوْحُ لي...
وتزداد حيرة الباحث كلما توغل في نفس ابن الرومي، لأن الأخبار التي وصلت إلينا عنه شحيحة جداً، ينقلها اللاحق عن السابق بكثير من التكرار والتَزيُّد وعدم التدقيق، فلا نجد أمامنا إلا أن نضرب شعره بعضه ببعض، ونقيس شيئاً على شيء، نَحْزِرُ حيناً ونُخَمِّن أحياناً أخرى، وقد نجزم أحياناً قليلة، من غير أن نصل إلى قناعة أكيدة بالأحكام التي أطلقناها عليه.
وتعترضنا صعوبة أخرى ـ سبق أن أشرنا إليها من قبل ـ تتعلق بطبيعة المؤثرات التي أثرت في ابن الرومي، في جسده ونفسه، وفي طبيعة المظاهر التي تجلت فيها، فتَقَصِّي المعاني مثلاً مظهرٌ جَلِيٌّ في شعره لكن أسبابه أو المؤثرات فيه متعددة، كثقافتِه الواسعة ونهمِه الشديد إلى الملذات نهماً انتقل إلى المعاني، وإحساسِه بتميزه من أقرانه من الشعراء، مما يدفعه إلى تقصي المعاني وإطالة القصائد ليثبت لهم أنه متميز حقاً، وأن ما به من عيوب جسدية ونفسية لم يمنعه من التفوق... كما أن تطيره أدى به إلى التحديق الدائم في الأشياء، وتقليبها على مختلف وجوهها، واستخراج دفائن المعاني منها، مما سبب في إطالة القصائد وتقصي معانيها. لكنني سأحاول تتبع تلك المؤثرات التي أثرت في نفسه لأصل إلى مظاهرها التي تجلت فيها في شعره.
كان ابن الرومي مرهف الحس، يهتاج لأدنى سبب مما قد لا يهتاج له الآخرون من الأسوياء، فقد كان يكبّر الأشياء ويضخمها لينفّر الناس منها، لأنه هو ينفر منها لقبحها في ذاته أو لقبحها في نظره، كما تجلت رهافة حسه أيضاً في ضيق صدره وسرعة غضبه وتبرمه بالناس وعدم القدرة على تحملهم، حيث كان ابن الرومي يشتكي من الناس باستمرار ويهجوهم أشد الهجاء، من ذل قوله يرد على رجل عيَّره بلبس العمامة في كل أوقات السنة على سبيل التحرش والاستهزاء به، فغضب ابن الرومي منه أشد الغضب وانتفض منزعجاً يهجوه أشد الهجاء، مؤكداً أنه أصلع لكنه صاحب فضل وعفة، ولا يخلف وعوده:
يُعَيِّرُني لُبْسَ العمامةِ سادِراً ويَزْعُمُ لُبْسِيْها لِعَيْبٍ مُكَتَّمِ
فقولا لـه: هَبْنِيْ كما أنا صَلْعَةٌ أَلَستُ حَصِيْنَ الخَلْفِ عَفَّ المُقَدَّم([3">)
ثم يهجوه هجاء فاحشاً، ولم يكتف بذلك، بل حاول أن يدفع عن نفسه تُهمَاً كثيرة، كضيق الصدر والتبرم بالناس وسرعة الغضب، وكأنه يريد أن يتعالى على ما فيه من عيوب نفسية، أو أن يعوض تلك النقائص والعيوب بفضائل يمتدحها الناس في كل الأزمنة والأمكنة؛ فقد ادعى أنه ذو حلم وصبر وأناةٍ، على الرغم مما سيُلْحِقُهُ صبرُه به من أضرار في جسده، وأن صدره واسع لا يضيق بالناس وإن ضاقت صدورهم وأخلاقهم هم، لكنه سيؤذي الآخرين ويجهل عليهم إن هم أساءوا إليه:([4">)
وإني لَذو حِلْمٍ وجَهْلٍ وراءَه فَمَنْ كان مُخْتَلاً رَضِيْتُ له حَمْضي
وفيَّ أنَاةٌ لا تُفاتُ بفُرْصةٍ لها سِيْرَةٌ مَوْضُوعَةٌ وهْي كالرَّكْض
وإني لَصَبّارٌ على الحقِّ يَعْتَري ولو كان في صَبْري له ما بَرَى نَحْضي
إذا ضاقتِ الأخلاقُ أَفْضَتْ خَلائِقي إلى سَعَةٍ مِثلي إلى مِثِلها يُفْضي
وهذه ادعاءات باطلة لا تستند إلى حقائق، بل إن ما عرف عن ابن الرومي في هذا المجال ينقضها نقضاً.
وابن الرومي ـ كما مرّ بنا ـ رجلٌ يحب الحياة مادامت تحقق له ما يريد من لذائذ، فإن ضَنَّتْ عليه بها سخط عليها من غير أن يكرهها، لأنه يؤمّل أن تصفو له بعد عبوسها، وهو رجل يخاف من الأشياء التي لا تخيف خوفاً مَرَضِيّاً، يجعله يتوجَّس الشر في كل شيء غامض، ولا يحسن الظن به.
وقد تجلّى حبه للحياة في الإقبال على ملذاتها والعَبِّ من أطايبها ما شاء له جسده العليل أن يعب منها، لكنه لم يكن يتأمل الحياة تأملاً فلسفياً ـ وهو القادر على هذا التأمل بحكم ثقافته الفلسفية الواسعة ـ بل كان ينظر إليها بعينه غالباً، ويسجل دقائقها تسجيلاً بعيداً عن مشاعره؛ فالخباز الذي يرقّق عجينة الخبز بيديه بسرعة يذكّره بمشهد عادي يعرفه الجميع، وهو مشهد رمي الحجر في الماء، حيث تتوسع الدائرة التي يسقط فيها الحجر بسرعة، فتشبه بذلك رُقاقَةَ العجين وهي كرة في يد الخباز عندما تتحول بسرعة إلى قرص يكبر ويستدير بسرعة لمهارة ذلك الخباز:([5">)
ما أَنْسَ لا أنسَ خبازاً مررتُ به يَدْحُوْ الرُّقَاقَةَ وشْكَ اللْمْحِ بالبَصَرِ
ما بين رُؤْيَتِها في كَفِّهِ كُرَةً وبين رُؤْيَتِها قَوْراءَ كالقَمر
إلا بِمِقْدارِ ما تَنْداحُ دائِرَةٌ في صَفْحَةِ الماءِ يُرْمَى فيه بالحَجَر
أو كقوله يصف قالي الزَّلابِيَةِ (نوع من أنواع العجين المَبْسُوْسِ بالسَّمن والسُّكِّر):([6">)
ومُسْتَقِرٌ على كُرْسِيِّهِ تَعِبٍ رُوْحي الفِداءُ لـه مِنْ مُنْصَبٍ نَصِبِ
رأيتُه سَحرَاً يَقْلي زَلابيَةً في رِقَّةِ القِشْرِ والتَّجْوِيْفُ كالقَصَب
كأنما زَيْتُهُ المَغْلِيُّ حين بَدا كالكِيْمِياءِ التي قالوا ولم تُصَب
يُلْقِي العَجِيْنَ لُجَيْنَاً مِنْ أَنَامِلِهِ فَيَسْتحِيْلُ شَبابِيْطاً مِنَ الذَّهب
فقالي الزلابية متعب يقوم بعمله في وقت مبكر، ثم يصف ابن الرومي رقة الزلابية ولونها الأبيض الفضي قبل أن توضع في الزيت المغلي الذي سيحول لونها الفضي ـ بعد أن تنضج ـ إلى لون الذهب، والعجينَ إلى ما يشبه أسماك الشَّبوط ذات الجسم العريض اللين الملمس، وكأن ذلك الزيت قادر على تحويل الأشياء من حال إلى حال كالكيمياء التي تحول المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة.
وابن الرومي في هذين الشاهدين، لا يلتفت إلى مشاعره تجاه المشهد الذي يصوره، لأنه لا يريد الامتزاج به أو التعبير عنه ممزوجاً بمشاعره، بل يسجله بعينه اللاقطة لخفايا الأشياء، وكأنه مصور يحمل آلة تصويره، فيصور ما يعجبه أو يستوقفه من مناظر، من غير أن نراه فيها أو نرى ظلاله على الأقل، فمحاكاته هاهنا لظاهر الشيء وليس فيها جوهر فكري، فإذا كانت "تَبْهَرُ العين فإنها لا تجاوزها إلى القلب أو العقل"([7">)،وإن كان الالتفات إلى هذه الموضوعات تجديداً حقيقياً في وظيفة الشعر، بعيداً عن القصور وما يجري فيها، أو ما تقتضيه من ضروب الشعر الرسمي.
وابن الرومي رجل يخاف كل شيء مما لا يخيف، بل إنه يتوهم أشياء ثم يخافها، وأن يُعَبِّرَ عن خوفه شعراً فهذا شيء عادي ومألوف، لأنه في هذه الحال يصف ما يشعر به وصفاً صادقاً، لكن من غير العادي أن يتناسى ما قاله عن الخوف ولاسيما من السفر ـ هذا الخوف الذي جعله يحرم نفسه عطاء الممدوح لأنه خاف السفر إليه وبقي في بيته ـ ويدعي ادعاءات تخالف طبعه وما عرف عنه ليدفع عن نفسه تهمة الخوف، وليريَ الناس أنه شجاع لا يخاف الأسفار في سبيل الوصول إلى الأمجاد، في حين ينام أصحاب الهمم الضعيفة عنها([8">):
وإني لَرَحَّالُ المَطِيِّ على الوَنَى قليلُ مُبالاةٍ بِإنْضاءِ ما أُنْضي
أبيعُ بَمكْروهِ السُّرى لذَّةَ الكَرى إذا رَوِيَتْ عينُ الدَّثُوْرِ مِنَ الغَمْض
أشُدُّ لنيلِ المجدِ رَحْلِي مُشَمَّراً وهل بعده شيءٌ أشُدُّ لـه غَرْضي
وابن الرومي كان يخاف كثيراً من الحكام ولاسيما القواد والأتراك، فلم يكن يتجرأ على هجائهم، وإن عُزلوا من مناصبهم خوفاً من أن يعودوا إليها مرة ثانية. وهذا الموقف تعبير صادق عن خوفه وتوجسه الشر في غده، وإن كان هذا الشر بعيد الحصول أو مستحيلاً، لكن من الغريب أن يبلغ الخوف حداً بابن الرومي يجعله يتغاضى عن مظالم القواد الترك ومفاسدهم التي أشار إليها كل من تحدث عنهم، بل يتزلف إليهم ويمتدحهم مشيراً إلى شجاعتهم في الحروب، وأنهم كالأسود المتعطشة لدماء فرائسها، يحاربون أعداءهم بكل قوة وبكل سلاح ماض، فيقضون عليهم قضاء تاماً، وهم أيضاً دهاة وذوو حلوم، فإن كنت تجهلهم فاسأل عنهم أعداءهم تعرفْ ما فعلوه بهم وبديارهم([9">).
وكان ابن الرومي يخاف الموت خوفاً شديداً ملك عليه نفسه، لكثرة مَنْ وَدَّع من أحباب وأهل وأصحاب، حتى أيقن أخيراً أنه مخصوص بالمصائب، وأن الموت يقصده دون غيره، لذا أجاد إجادة عظيمة في المراثي، فهي الموضوع الأقرب إلى نفسه البائسة التي طحنتها المصائب؛ فقدْ فَقَدَ كلَّ من يحب في الدنيا؛ أباه وخاله وخالته وشقيقه وأولاده الثلاثة وزوجته وأمه. ثم فقد المغنية (بستان) التي كان يأنس بها ويرتاح إليها، وفقد صحته وشبابه. وهذا الشعور العميق بالفَقْدِ، وما جُبلت عليه نفسه من مخاوف وتَطُّير، وما لحقه من مصائب في ممتلكاته جعل مشاعره ترق وتصفو ليحلق عالياً في فن الرثاء.
ولعل أهم موضوع من موضوعات الرثاء التي شغلته وملأت ديوانه بنغمات حزينة رحيلُ الشباب عنه في سن مبكرة قبل أوان الرحيل عند أقرانه، فقد أصابه الشيب وهو في الحادية والعشرين من عمره كما يقول:
فَظُلْمُ الليالي أنهن أَشَبْنَني لعشرينَ يَحْدُوهنّ حَوْلٌ مُجَرَّمُ([10">)
ويقيم ابن الرومي مآتم على شبابه الذي رحل عنه فرحلت معه البشاشة والسعادة والهناء، لذا يطلب من الناس أن يعزّوه به. ويتفنن في عرض حزنه على الشباب وبيان أثر رحيله في نفسه. ولا أبالغ إذا قلت إن بكاءه على شبابه أخذ ثلث ديوانه، وأخذت الشكوى الثلث الآخر، وتوزع الثلث الأخير على هجائه وما تبقى من مديحه التي توجه بها إلى الممدوحين، بداعٍ وبغير داعٍ، وقد يقدم به لقصائده في المديح، وقد يجعله غرضاً مستقلاً يُدِير حوله القصائد الطويلة. ولا أعتقد أنه ترك معنى يمكن أن يقال في رثاء الشباب إلا أتى به، لذا يتعذر حصر معانيه فيه، ولكن يمكن أن نشير إلى أبرزها؛ فالشباب عنده حياة وحيوية ونشاط وقوة، واقتناص ملذات، وانغماس في الشهوات من شرب للخمر وسماع للغناء ومصاحبة للنساء. الشباب باختصار يعني عنده دوام الحياة السعيدة بشهواتها وملذاتها، لذا كان هجومه عنيفاً على الشيب لأنه حرمه كل تلك الشهوات واللذائذ، ولاسيما النساء، فالمرأة تكون حيث الشباب والغنى والقوة، وكل هذه الأشياء سُلِبَ منه بالمشيب في غير أوانه، والمصائب التي حلت بممتلكاته، وبالعلل والأمراض التي تكالبت على جسده. بل إن مصيبة فقد الشباب لا تعادلها مصيبة. ولو أنه رُزِئ به فحسب لكفاه:
ولو لم يُصَبْ إلا بِشَرْخِ شبابِهِ لكانَ قدِ اسْتَوْفَى جميعَ المصائبِ([11">)
وزاد في حجم حزنه على الشباب إحساسه بدنو الأجل، لأن الشيب نذير سوء إذا عَدَدْنا الموت سوءاً كما كان يَعُدُّه ابن الرومي، فعندئذ نستطيع أن نفهم تمام الفهم سر حزنه الشديد على الشباب، وكثرة ما قاله فيه من أشعار.
ويبكي ابن الرومي الشباب في قصيدة بديعة قلَّ نظيرها في تاريخ الأدب العربي، من خلال مشهدين رائعين؛ أولهما مشهد الشمس الآفلة التي حان موعد غروبها، فودعت الدنيا والكائنات الحية لتقضي نحبها، بين بكاء تلك الكائنات وحزنها على فراقها، وثانيهما مشهد الطائر الصريع الذي سقط في شباك الصياد فيما كان يبحث عن طعامه وهو وسط جماعته من الطير. يريد ابن الرومي أن يقول في هذه القصيدة البديعة إن الشباب رحل ولن يعود مثلما رحلت تلك الشمس فرحل معها يوم لن يعود مرة أخرى، ومثلما مات ذلك الطائر ولن يعود إلى الحياة، أو إلى حريته وسط أقرانه. وقد افتتح القصيدة بالبكاء على الشباب:
بكيتَ فلم تَتْرُكْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعا زَماناً طَوَى شَرْخَ الشبابِ فوَدَّعا
ثم يبدأ بتوضيح حزنه على فقد الشباب من خلال مشهد الشمس الآفلة، فيقول:
إذا رَنَّقَتْ شَمْسُ الأَصيلِ ونَفَّضَتْ على الأُفقِ الغربيِّ وَرْساً مُذَعْذَعا
ووَدَّعَتِ الدُّنيا لِتقْضِيَ نَحْبَها وشَوَّلَ باقي عُمْرِها فَتَشَعْشَعا
ولاحَظَتِ النُّوَّارَ وهْي مَريضةٌ وقد وضَعَتْ خَدّاً إلى الأرضِ أََضْرَعا
كما لاحظتْ عُوَّادَهُ عَيْنُ مُدْنَفٍ تَوَجَّعَ مِنْ أَوْصابِهِ ما تَوَجَّعا
وظلتْ عُيونُ النُّوْرِ تَخْضَلُّ بالنَّدَى كما اغْرَوْرَقَتْ عينُ الشَّجِيِّ لِتَدْمَعا
يُراعِيْنَها صُوْراً إليها رَوانِياً ويَلْحَظْنَ ألحاظاً مِنَ الشَّجْوِ خُشَّعا
وبَيَّنَ إِغْضاءُ الفِراقِ عليهما كأنهما خِلاّ صَفاءٍ تَوَدَّعا
فهو يرسم منظراً رائعاً للغروب، حيث لم يبق من عمر الشمس إلاَّ القليل، ومال لونها إلى الاصفرار وكأنها أمسكت بيدها ورساً أحمر مصفرّاً ونثرته على الأفق (لون الشمس عند الغروب)، ومضت مودعة الدنيا والكائنات الحية، لكن تلك الكائنات حزنت لفراقها، ولاسيما النوار، تلك الزهرة البيضاء الرقيقة التي آلمها الفراق فانحنت ووضعت خدها على الأرض متضرعة إلى الشمس ألا تغيب، مثلما يتضرع المريض إلى زواره لئلا يتركوه وحيداً مع أحزانه، وكأنه يستمد مِنْ بقائهم الشفاء، وتحول الجو إلى مأتم حقيقي، إذ راحت زهور النوار تبكي بحزن على فراق الشمس، وامتلأت محاجرها بالندى كما تمتلئ عيون الحزين المهموم بالدمع، وظلت هذه الزهور تراقب الشمس وتتجه نحوها مودعةً إياها بألحاظ حزينة خاشعة، وقد ظهرت آثار الفراق على الشمس والنوار وكأنهما خلان متصافيان جمعتهما المودة والمحبة ثم افترقا. وهذا المشهد بديع حقاً، لأن الشاعر لجأ إلى التشخيص وإخراج ما بداخله من مشاعر الحزن العميق على الشباب؛ فقد أقام علاقة إنسانية عفيفة بين الشمس والكائنات الحية ولاسيما النوار، وجعلهما إنسانين يستجيبان للمحبة ويتجرعان غصص الفراق. وفي هذا المشهد يجمع ابن الرومي كل عناصر الحزن والفجيعة على شبابه الراحل؛ من مشاعر حزينة أقامها بين الشمس الراحلة والكائنات الحية ولاسيما النوار، وألوانٍ تجلت في لون الشمس المصفرّ عندما تميل إلى الغروب، وفي لون الورس الأحمر المصفرّ، وفي لون المرض الذي أصاب النوار وذلك المُدْنَف، وفي مفردات الحزن التي حشدها في هذا النص مثل: (ودعت، نَحْبَها، مريضة، أضرعا، عُوَّاده، إغضاء الفراق، تودَّعا)، وكل ما في هذا المشهد حزين؛ وادعٌ، ودموعٌ، وحزنٌ، واصفرارٌ، وتضرُّعٌ، وزاد فيه الشاعر بأن جعل رويَّ القصيدة حرف العيد الممدودة بألف (عا)، وكأنه يصرخ في وادي الحياة بأعلى صوته ليعيد إليه شبابه الراحل، فلا يسمع إلا الصدى. لكن ابن الرومي أبى إلا أن يُظْهِرَ تشاؤمه وتطيره في هذا المشهد؛ فلم يَرَ في رحيل الشمس بدايةً ليوم جديد، وإنما رأى في رحيلها موتاً لها، بل موتاً للكائنات الحية والحياة كلها.
ولم يكتفِ ابن الرومي بهذا المشهد إظهاراً لحزنه على رحيل الشباب، بل عاد من جديد ليؤكد حزنه عليه من خلال مشهد آخر لا يقل روعة عن المشهد الأول، الغاية منه كما الغاية من المشهد الذي سبقه، لكن ابن الرومي لا يقبل بتقديم المعنى فقط، بل يحرص على اعتصاره من كل جوانبه، ويتقصى كل صغيرة وكبيرة فيه حتى لا يترك فيه لغيره من الشعراء شيئاً([12">):
هنالك تَغدو الطيرُ تَرتادُ مَصْرَعاً وحُسْبانُها المكذوبُ يَرتادُ مَرْتَعا
وجَدَّتْ قِسِيُّ القَوْمِ في الطيرِ جِدَّها فظلتْ سُجوداً للرُّماةِ ورُكَّعا
فظل صِحابي ناعِمينَ بِبُؤْسِها وظلتْ على حَوْضَ المنيّةِ شُرَّعا
فكم ظاعِنٍ منهن مُزْمِعِ رِحلةٍ قَصَرْنا نَوَاهُ دونَ ما كان أَزْمَعا
وكم قادمٍ منهم مُرْتادِ مَنْزِلٍ أَناخَ به منّا مُنِيْخٌ فَجَعْجَعا
مُتاحٌ لِرامِيْها الرَّمايا كأنما دَعاها لـه داعي المنايا فَأَسْمَعا
تَؤُوْبُ بها قد أَمْتَعَتْكَ وغادرتْ مِنَ الطيرِ مَفْجُوعاً به ومُفَجَّعا
لها عَوْلَةٌ أَوْلى بها ما تُصِيْبُهُ وأَجْدَرُ بالإغْوالِ مَنْ كان مُوْجَعا
وما ذاكَ إلا زَجْرُها لِبَناتِها مَخافَةَ أنْ يَذْهَبْنَ في الجوِّ ضُيَّعا([13">)
وفي هذا المشهد البديع يصف ابن الرومي الطيور في السماء سعيدة بحريتها مع أقرانها، لكن الجوع يعمي أبصارها فلا تنتبه لشباك الصياد وأسلحته التي أخفاها بين الحب الذي نثره على الأرض، فهوت تلك الطيور المسكينة لتأكل، وما دَرَتْ أن الهلاك في الطعام، أما من أحس بالخطر ولم يقع في الشرك وطار فقد تناولته رماح الصيادين وسهامهم.
واستبشر الصيادون بهذا الصيد الوفير وسعدوا به فيما كان الطيور تتجرع كؤوس الموت، ثم يتأمل ابن الرومي في فعل أصحابه بالطيور فيرى أنه ظلمٌ لها وغدرٌ بها، لأنهم حالوا بينها وبين آمالها، وكأنها أهداف مشرعة للصياد يرميها متى شاء، ويميتها متى شاء. وعاد الصيادون بما صادوا من الطيور وهم سعداء، فيما كانت تلك الطيور المسكينة تبكي بصوت مرتفع على أقرانها، وما منهم إلا من فقد عزيزاً منها، وكل ذلك لأن الطيور الصغيرة التي سقطت في الفخ لم تستمع لنصائح أمهاتها في عدم الابتعاد عن السرب، حتى لا يضعن في الجو الفسيح.
وابن الرومي في هذه القصيدة هو زهرة النوار التي فقدت الشمس ففقدت يوماً لن يعود، وشبابُه هو الشمس التي أضاءت حياته لفترة قصيرة كما تضيء الدنيا في النهار، لكنها سرعان ما تغيب ليحل الظلام من جديد، والطائرُ الصريع هو شباب ابن الرومي أيضاً، والناس سعداء بشبابهم وهو تعيس برحيله عنه، كما سَعِدَ الصيادون وشَقِيَتِ الطيور بوقوعها فريسة لهم.
لكن إجادته العظمى في المراثي تجلت في قصيدته التي رثى فيها ابنه الأوسط محمداً، وقد مات هذا الابن وهو صغير لم يتجاوز سن الطفولة بسبب مرض أصابه، لم يشر ابن الرومي إلى نوعه، وإن أشار إلى بعض أعراضه، كالصُّفرة والنزف.
وابن الرومي في هذه القصيدة يحلق عالياً في سماء فن الرثاء، ويثبت أن ما أصابه من مصائب في أهله ونفسه وممتلكاته كان له عظيم الأثر في تلك الإجادة. والقصيدة ليست طويلة قياساً على قصائده الأُخَر، ولاسيما في فن الرثاء نفسه، فقد بلغت واحداً وأربعين بيتاً، في حين رثى المغنية (بستان) بقصيدة تتألف من مئة وخمسة وستين بيتاً. ويبدو أن الحزن اعتصر قلب ابن الرومي وهو يرثي ابنه حتى سَدَّ عليه منافذ القول، فلم يُطِلْ قصيدته على عادته في الإطالة.
وقد بدأ ابن الرومي قصيدته بذكر البكاء، وكأنه يفتتح به حزنه على ولده، ثم رأى أن هذا البكاء سيشفيه من أحزانه، لذا يأمر عينيه بأن تجودا بالبكاء على ابنه الذي يَعْدِلُ عنده تلك العينين، لكن ذلك البكاء لن يعيد محمداً إلى الحياة:
بكاؤُكُما يَشْفي وإنْ كان لا يُجْدِي فَجُودا فقد أَوْدَى نَظِيْرُكُما عندي
ثم يرى أنّ الموت تَوَخْى ابنه هو من بين كل الأبناء، على عادته في توهم الاضطهاد والشعور بأنه مخصوص دون غيره بالظلم، وهذا الولد كان أوسط إخوته سناً، فهو كالجوهرة الكبيرة الغالية التي تكون في وسط العقد، لكن الموت قصد هذه الجوهرة دون غيرها، ليفرط عقد ابن الرومي:
تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أَوْسَطَ صِبْيَتي فَلِلَّهِ كيف اختارَ واسِطَةَ العِقْدِ
طَواه الرَّدى عني فأضحى مَزارُه بعيداً على قُرْبٍ قريباً على بُعْد
والأمر في البيت الثاني ليس لعباً بلاغياً، بل هو حقيقة يؤمن بها ابن الرومي، لأن الحياة في نظره قائمة على أساس التناقض كما أشرنا من قبل، فابنه مَطْوِيّ تحت طبقات الثرى، بعيدٌ كل البعد عنه على الرغم من قرب قبره، فهو قريب بعيد، بعيد قريب([14">).
وابن الرومي كما مر بنا في هذه القصيدة يعتقد أن الموت توخَّى ابنه توخّياً من بين كل الأبناء، أي أن هذا الموت قصده هو دون غيره من الآباء. وهذا الاعتقاد مقصود بالظلم مخصوصٌ به وحده راسخُ في نفسه تمام الرسوخ، حتى عندما رثى المغنية (بستان)، إذ رأى أن الموت قصده هو لأنه عرف بحبه لها، فأراد أن يفجعه بها، وكأن له ثأراً عنده. وهكذا يصبح موت هذه المغنية انتقاماً شخصياً من ابن الرومي وثاراً منه([15">):
لو كان فِعْلَ الوَرَى لقد ذَئِرَتْ له المَساعِيْرُ أَيَّما ذَأَرِ
لكنه وِتْرُ مالِكٍ مَلِكٍ يَعْلُوْ على الطَّالِبِينَ بالثَّؤَر
وكان ابن الرومي يشعر بالتميز والتفوق على أقرانه من الشعراء والكتاب معاً، ويرى أنه أهل لكل فضل وخير:
ألم تجدوني آلَ وهْبٍ لِمَدْحِكُمْ بِنَظْمِيْ ونَثْري (أخْطلاً) ثم (جاحِظاً)([16">)
وأنْ يعبر عن هذا الإحساس بالتميز فأمرٌ طبيعي من رجل يرى في نفسه الرفعة ويعبر عن ذلك بشعره، لكن ابن الرومي لجأ إلى أساليب أخرى ليؤكد فيها هذا التميز، وإن أخذت شكل ادعاءات مختلفة، لكن الغاية منها واحدة هي تأكيد ذلك التميز، وإن كان هذا التأكيد على حساب الحقائق. فقد أكَّده تميزه واستحقاقه عبر عدد من الأساليب هي:
1 ـ الإشارة إلى اختلال الموازين في عصره اختلالاً قدّم الجهلة وأدعياء الفكر والثقافة إلى السطح، وأخَّر أصحاب الفضل الحقيقيين فجعلهم في القاع:
طار قومٌ بخفَّةِ الوزنِ حتى لحِقوا رِفْعَةً بِقابِ العُقابِ
وَرِسا الرَّاجِحُوْنَ مِنْ جِلّةِ النَّا سِ رُسُوَّ الجبالِ ذاتِ الهِضابِ
هكذا الصَّخْرُ راجِحُ الوزنِ راسٍ وكذا الذّرُّ شائِلُ الوَزْنِ هاب([17">)
2 ـ نفي الفضل عن أهل زمانه كلهم بلا استثناء، ليؤكد للناس جميعاً أن أحكامهم فيه ليست صحيحة؛ فهم جَهَلَةٌ ولِئامٌ وخِساسٌ ودَوابٌّ وبِهائمُ وكلابٌ وذِئابٌ غادرةٌ، ليس أعراضهم مَطْعَنٌ لكثرة ما فيها من معايب، وليس فيهم من يستحق المديح:
آيَسْتُ مِنْ دَهري ومِنْ أهلِهِ فليس فيهم أَحَدٌ يُرْضَى
إنْ رُمْتُ مَدْحَاً لم أجِدْ أهلَهُ أو رُمْتُ هَجْواً لم أجِدْ عِرْضا([18">)
3 ـ الإدعاء أن معاصريه يرفضون شعره لبخلهم في العطاء لا لسوء فيه:([19">)
حَلَفْتُ بِمَنْ لو شاءَ سَدَّ مَفَاقِري بما ليَ فيه عن ذوي اللؤم مَرْغَبُ
لَمَا آفَتي شِعْرٌ إليهم مُبَغَّضٌ ولكنه مَنْعٌ إليهم مُبَغَّضُ
وابن الرومي بهذه الادعاءات يُمَهِّد للهجوم على معاصريه، وكأنه يُهَيَّئ الناس ليَقبلوا كل ما سيقوله في معاصريه من هجاء، ما داموا قد صدّقوه في كلامه عنهم. إنه يريد استمالة الناس إليه ليؤيدوه في هجومه، بعد أن حاول إقناعهم بجهل ممدوحيه وبخلهم ولؤمهم وخِسَّتهم...
وقد أثّر سوء ظن ابن الرومي بمعاصريه في شعره؛ فكان يشرح لهم غريب شعره في القرطاس ليفهموا معانيه، كما أدى به سوء ظنه بفهمهم لأشعاره إلى تعمُّد الإطالة وإعادة المعنى الواحد وتقليبه على وجوهه، لأن الناس ـ حسب رأيه ـ ليسوا على درجة من الفهم والذكاء حتى يفهموا شعره، وما عليه هو إلا أن يسعى إلى تفهيمهم ما غمض عليهم. وهذا الصنيع من ابن الرومي أطال شعره إطالة ليست في موضعها، ولا تُحْمَدُ له، لأنه قدّم المعنى الواحد في عشرات الأبيات بينما قدمه غيره من الشعراء في بضعة أبيات، مما جعل شعره في كثير من الأحيان باردَ العاطفة، يميل مَيْلاً واضحاً إلى الشرح والتفصيل. والشعرُ لُمَحٌ وَوَمَضاتٌ وإيجاز.([20">)
كما اضطر إلى تكرار المديح وتكرار معانيه لإعراض ممدوحيه عنه، ولتباطئهم في عطائه:
سَيَضْطَرُّني حتى أُكَرِّرَ مَدْحَهُ تَتَابُعَ كَرّاتٍ لـه بالفَواضِلِ([21">)
وأدى تقلب مزاجه واضطرابه على مدح الشيء وذمه، والتماس الأدلة في حالتي المدح والذم، كما أدى به ذلك أيضاً إلى التذبذب السياسي والعقائدي، فمرة كان مع الشيعة ومرة كان مع العباسيين. والمرجح أنه لم يكن شيعياً، لكن الأمر يبقى تذبذباً سياسياً في النهاية، ثم إنه يمدح الشيعة حيناً ويعاتب بعض رؤوسهم حيناً آخر عتاباً هو في حقيقته هجاء، لكنه مُبَطَّنٌ بالعتاب، ويمدح مواليه من العباسيين مرة، ويعاتبهم مرة أخرى، وهكذا، حتى يحار المرء في حقيقة شخصيته في كثير من الأحيان.
لكن تقلب المزاج هذا أفاد شعره من ناحية أخرى؛ فقد فتح له أبواباً جديدة للمعاني، وفتح أمامه المجال لتفتيق كثير منها واستخراج دفائنها، عن طريق عرض المعنى وضده في آن معاً.
وعُرف عن ابن الرومي تطيُّرُه الشديد، فكانت خواطره تتداعى بسرعة عجيبة في أثناء تطيره من الشيء، فيُديم النظر فيه من كل جوانبه، ويقلبه على وجوهه كلها بحثاً عن شر متوقع. وهو في أثناء بحثه يَعْثُر على موضوعات جديدة، فيتوقف عندها، وينسى ما كان قد شرع به من قبل.
فالشجر اليابس أو الذي لا ثمر له مشهد نراه جميعاً فلا يحرك فينا شيئاًَ سوى الشعور بالجفاف وانعدام الحياة، لكن الأمر عند ابن الرومي مختلف بسبب تطيره وتداعي خواطره وتقليبه الشيء على مختلف وجوهه، فقد رأى في هذا الشجر اليابس شيئاً عديم النفع، فليس له ظِلٌّ ينفع وقت الظهيرة، ولا ثمرٌ لِمُجْتَنٍ، ولا نَفْعٌ لحاطِبٍ، ولا عُشٌّ لطير. وإلى هنا يبدو الموقف من هذا الشجر مقبولاً، لكن ابن الرومي يتوجس الشر من هذا الشجر اليابس، فيظن أن بين أشواكه أفاعي ستعضه لو اقترب منه، لذا ابتعد عنه داعياً عليه بالموت وبألا يُسْقَى من ماء السحاب:([22">)
أيا شجراً بين الرَّسيْسِ فَعَاقِلٍ مَنَحْتُكَ ذَمِّي صادِقاً غيرَ كاذبِ
نَدَيْتَ ولم تُوْرِقْ ولستَ بِمُثْمِرٍ فكنْ غَرَضاً مُسْتَهْدَفَاً للنَّوائِب
فما فيكَ مِنْ ظلٍّ لِغُلِّ ظَهيرةٍ وما فيكَ مْنْ جَدْوّى لجانٍ وحاطِب
وفيكَ على حِرْمانِكَ الخيرَ كلَّهُ مِنَ الشَّوكِ ما لا وَكْنَ فيه لآئِب
وأَحْسَبُ ذاكَ الشَّوْكَ لاشَكَّ بينَه أَفاعٍ فلا أُسْقِيْتَ صَوْب السَّحائِب
فانظر كيف أحال ابن الرومي هذا المشهد العادي إلى لعنة يصبها عليه؟ وكيف فتَّق من المعنى المألوف معنى جديداً بسبب تطيره وتوهمه أشياء غير موجودة في الحقيقة، بل إن هذا التطير كان وراء هذه الالتفاتة إلى هذا الموضوع الذي قلما يتوقف عنده الشعراء، فبدلاً من أن يدعو لهذه الشجرة اليابسة بالسقيا لتورق من جديد دعا عليها بأن يُحْبَس عنها المطر، وأن تكون عُرْضَةً للنوائب. لأنه تطير من منظرها وأشواكها، وصوّر له توهمه المريض أن بين أشواكها أفاعي ستهجم عليه وتعضه، فهرب وهو يسب ويشتم ويلعن.
وإنعامه النظر في الأشياء كان يقوده إلى المزيد من المعاني الطريفة، وإلى أن يهتدي إلى ثغرات ينفذ منها إلى التطير والتشاؤم، في الألفاظ والمعاني والأشكال؛ فقد أراد أحد ممدوحيه السفر بالسفينة إلى واسط في العراق فهبت ريحٌ شديدة كسرت سُكّانَ السفينة (دفتها التي تتحكم في سيرها)، مما اضطر الممدوح إلى إلغاء السفر. وهذا الموضوع مألوف قد يحصل لأي مسافر، لكن ابن الرومي تطير من انكسار السكان ورأى فيه نذير شؤم، ولأن معكوس كلمة سكان هو ناكس، أي أن سعي الممدوح للسفر سيكون وبالاً عليه، ورأى ابن الرومي أن الله يحب هذا الممدوح لذا نهاه عن السفر بكسر السكان، وفي هذا النهي خير له، ثم رأى أن الريح هبت بأمر ربها لتقضي على ذلك النحس([23">):
رأيتُ مُنْكَسَرَ السُّكانِ ظاهِرُهُ هَوْلٌ وتَأْوِيْلُهُ فَأْلٌ لِمَنْجاكا
كَسْرٌ لِناكِسِ داءٍ كنتَ تَحْذَرُهُ وصِحَّةٌ لكَ تُحْيِيْنا بِمَحْياكا
لأنّ لَفظَ سُكانٍ إذا قُلِبَتْ حُرُوفُها ناكِسٌ لاشَكَّ في ذاكا
ولا يَرُعْكَ رُجُوعٌ بعدَ مُعْتَزَمٍ ففي رُجوعِكَ تَبْشيرٌ بِرُجًعاكا
رَجَعْتَ حين نَهاكَ اللهُ مُزْدَجِراً وكيف تَمْضي ورَبُّ الناس يَنْهاكا
نَهاكَ بالريحِ حتى حَلَّ مَنْحَسَةً مِنْ المَناحِسِ ما كانتْ لِتَلْقاكا
ويتأمل ابن الرومي في بعض الأسماء وهو يمدح أو يهجو، فيستخرج منها معاني جديدة مَبْعَثُها تقليبُ المعنى، والتفاؤل بشيء منه والتطير بشيء آخر، فكلمة إسحاق إذا عُكست لا معنى لها، لذا يُبْدِئ ابن الرومي النظر فيها ويُعيد حتى يهتدي إلى معنى يستفيد منه في الهجاء، إذ يَقْلِب الكلمة ثم يُصَحِّفُها، فتصبح على الشكل التالي: إسحاق = قاحساء = فاحشا بعد التصحيف([24">):
يا أبا إسحاقَ واقْلِبْ نَظْمَ إسحاقٍ وصَحِّفْ
واتْرُكِ الحاءَ على حا لٍ فما للحاءِ مَصْرِف
يَشْهَدُ اللهَ لقد أَصْبَحْـ ـتَ عينَ المُتَخَلِّق
وعرف عن ابن الرومي أنه منحوس مشؤوم لتطيره واختلال أعصابه وكثرة ما أصابه من مصائب وويلات في أهله ونفسه وممتلكاته. وأنْ يعترف المرء بذلك فهذا يعني الشجاعة والصراحة، وهذا ما حصل مع ابن الرومي؛ إذ اعترف في أكثر من موضع أنه منحوس مشؤوم، لكنه حصر نحسه وشؤمه فيه فقط، من غير أن يصلا إلى الآخرين، لكن ابن الرومي كان يدعي كثيراً من الادعاءات التي تنقض ما سبق أن قاله عن نحسه وشؤمه؛ كأنْ يزعم أنه ميمون الطالع، وأن له أصدقاء كثيرين ينعمون عليه بالمودة والعطاء، وهذا يعني أنه ليس منحوساً أو مشؤوماً كما يتهمه الناس([25">):
نَفَرٌ مِنَ الخُلَطاءِ والأصحابِ تَجري مَوَدَّتُهم مع الأنسابِ
مازلتُ بينهمُ كأنيَ نازِلٌ في منزلٍ مِنْ صِحَّةٍ وشَباب
أُكْفَى وأُعْفَى غيرَ ما مُتَجَشِّمٍ تَعَباً ولا نَصَباً مَنَ الأنصاب
وهؤلاء الأصحاب كثيرون، بلغ عددهم خمسين صاحباً كما يقول، فلو أعطاه كل واحد منهم في الشهر درهمين لسد حاجته، وكَفَاه سؤالَ الممدوحين اللؤماء البخلاء([26">):
ليَ خمسونَ صاحباً لو سَألْتُ الـ قُوْتَ فيهم أَلْفَيْتُهم سُمْحَاءَ
ليّ في درهمينِ في كلِّ شهرٍ مِنْ فِئامِ ما يَطْرُدُ الحَوْجاء
فلو كان أصدقاؤه بهذا العدد وبهذه الأريحية والكرم، فلماذا التذلل للممدوحين والوقوف على أبوابهم والتذمر من قلة عطائهم؟ ولماذا كان يهاجم الصداقة والأصدقاء إلى أنْ نفى وجود صديق مخلص؟ أسئلة كثيرة في هذا الموضوع، وفي غيره من الموضوعات التي تكلم فيها ابن الرومي كلاماً يُحْمَل على الادعاء والتعويض النفسي أكثر مما يُحْمَل على الحقيقة.
المصادر والمراجع
1 ـ تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك): لمحمد بن جرير الطبري، طبع دار المعارف، مصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عشرة أجزاء، سلسلة ذخائر العرب 30.
2 ـ ديوان ابن الرومي: طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1993، تحقيق الدكتور حسين نصار، ستة أجزاء.
3 ـ ابن الرومي حياته من شعره: لعباس محمود العقاد، سلسلة كتاب الهلال. العدد 214، سنة 1969، صادر عن دار الهلال، القاهرة.
4 ـ ديوان ابن المعتز: طبع دار صادر، بيروت.
5 ـ زهر الآداب وثمر الألباب: لأبي إسحاق الحصري القيرواني، طبع دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، تحقيق علي محمد البجاوي، جزءان.
6 ـ شرح ديوان الفرزدق: نشر الشركة العالمية للكتاب، بيروت، الطبعة الثانية، تحقيق إيليا حاوي.
7 ـ العصر العباسي الثاني: للدكتور شوقي ضيف، طبع دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1992.
8 ـ لسان العرب: لابن منظور، طبع دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1955، خمسة عشر جزءاً.
9 ـ المعجم الوسيط: صادر عن مجمع اللغة العربية، القاهرة، طبع المكتبة العلمية، طهران، الطبعة الأولى، إشراف عبد السلام هارون، جزءان.
10 ـ من حديث الشعر والنثر: للدكتور طه حسين، طبع دار المعارف، القاهرة، الطبعة التاسعة.
11 ـ نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم: للدكتور عصام قصبجي، طبع دار القلم العربي للطباعة والنشر، حلب، سورية، الطبعة الأولى، 1980.
________________________________________
([1">) انظر ديوان ابن الرومي: 6/299 ـ 2312.
([2">) انظر المصدر نفسه: 2/916 ـ 924.
([3">) ديوان ابن الرومي: 5/2109.
([4">) المصدر نفسه: 4/1380 ـ 1382. حَمْضي: نَيْتِي الحامض أو المالح، يريد هجاءه. نَحْضي: امتلاء جسمي.
([5">) ديوان ابن الرومي: 3/1110. قَوْراء: مستديرة. تَنْداح: تتوسع.
([6">) المصدر نفسه: 1/353. النَّصَب: التعب. لُجَيْناً: فضة. شَبابيطاً: جمع شَبُّوط: نوع من أنواع السمك يكثر في نهر دجلة، عريض الوسط، دقيق الذنب، ليّن المسّ.
([7">) نظرية المحاكاة: 282.
([8">) ديوان ابن الرومي: 4/1382. الوَنَى: الضعف والتعب. إنضاء: إتعاب وإهزال. السُّرَى: السير ليلاً. الكرى: النوم الخفيف. الدَّثُور: المغطى بالدثار أي النائم. غَرْضي: حاجتي.
([9">) انظر المصدر نفسه: 3/979 ـ 980.
([10">) ديوان ابن الرومي: 5/2091، يَحْدُوهنَ: يَتْبَعُهنَ. حَوْلٌ: عام. مُجَرَّم: تام ومنقضٍ.
([11">) المصدر نفسه: 1/217.
([12">) ديوان ابن الرومي: 4/1473 ـ 1479: شَرْخ الشباب: أوله ونضارته. رَنَّقَت: مالت إلى الغروب. وَرْساً: نباتاً أحمر فيه صفرة. مُذَعْذَعا: منتشراً متناثراً. نَحْبها: حتفها وموتها. شَوَّلَ: قَلَّ. تشعشعا: انقضى إلا أقلّه. النوار: الزهرالأبيض. مُدْنف: مريض. أوصابُه: أوجاعه. تَخْضَلُّ: تَبْتَلُّ وتَنْدى. الندى: قطرات الماء على أوراق الأشجار قبل شروق الشمس. اغرورقت: امتلأت بالدمع. الشَّجِيّ: الحزين المهموم. صُوْراً: شاخصات. رَوانِياً: ناظرات. الشَّجْو: الحزن. إغضاء: إطراق الرأس والبصر نحو الأرض. القِسِيّ: الرماح. شُرَّعاً: تتساقط تباعاً. طاعن: مسافر. نَوَاه: نيته. أزمع: قرر وقصد. أناخ: أنزل به البلاء. جَعْجَعا: قعد في المكان على غير اطمئنان.
([13">) ديان ابن الرومي: 4/1473 ـ 1479. عَوْلَة: بكاء بصوت مرتفع.
([14">) ديوان ابن الرومي: 2/624 ـ 625.
([15">) المصدر السابق: 3/923. المساعير: من سَعَرهم الغضب أي هيجهم. وِتر: ثأر. الثُّؤْر: الثارات.
([16">) المصدر السابق: 4/1455.
([17">) ديوان ابن الرومي: 1/280. قاب: مقدار. الذّر: النمل. شائل: خفيف الوزن. هاب: مترفع.
([18">) المصدر نفسه: 4/1421. وانظر أيضاً فيه: 1/155 ـ 157، 515، 4/1462.
([19">) المصدر نفسه: 1/156.
([20">) انظر: من حديث الشعر والنثر: 134 ـ 135.
([21">) ديوان ابن الرومي: 5/2078.
([22">) ديوان ابن الرومي: 1/292، الرسيس وعاقل: موضعان. الوَكْن: عش الطائر. آئب: راجع. صَوْب: انصباب وهطول.
([23">) ديوان ابن الرومي: 5/1855 ـ 1856. وانظر فيه أيضاً: 1/215.
([24">) المصدر نفسه: 4/1562. وانظر فيه أيضاً: 3/1014، 6/ 2485 ـ 2486.
([25">) ديوان ابن الرومي: 1/246. النَّصَب: التعب.
([26">) المصدر نفسه: 1/89. فِئام: جماعة من الناس. الحَوْجاء: الحاجة.
تعليقات