الاثنين، 3 أغسطس 2015





الرواية العربــية الفانطاستيكية
د. جميل حمداوي - المغرب

تمهيــــــــد:

إذا كانت الرواية الواقعية والطبيعية تحاكيان الواقع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال التشخيص الفني والتخييل البلاغي، فإن الرواية  الفانطاستيكية/ العجائبية roman fantastique/fantastic novel تتجاوز الواقع والمنطق إلى اللاواقع واللاعقل عبر خاصيتي التعجيب والتغريب. وصارت هاتان الخاصيتان من تجليات التحديث في الرواية الغربية والعربية و من مظاهر الإبداع الفني الروائي والقصصي، بعد  أن انتقل العالم من العقل إلى اللاعقل مع مجموعة من الفلسفات التي بدأت تشكك في اللوغوس اليوناني والمنطق الغربي، وتعوضهما بمنازع الذات والروح والتصوف والإشراق الديني والتحرر من الاستلاب الرقمي والتقني  الرأسمالي والاشتراكي على حد سواء. إذاً، ماهي الرواية الفانطاستيكية لغة واصطلاحا؟ وماهي تصوراتها النظرية والتاريخية؟ وماهي مقوماتها الدلالية والفنية والوظيفية؟  وكيف يتم مقاربة النص الروائي العجائبي  وتأويله ؟ وماهي أهم النماذج الروائية الفانطاستيكية في الغرب والعالم العربي؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نكشف عنها القناع في تحليلنا المتواضع هذا.

1-      الدلالة اللغوية والاصطلاحية:

لم نجد في المعاجم العربية مايقابل مصطلح fantastique/fantastic المعروف في النقد الغربي، لذلك آثرنا استعمال مصطلح العجائبي لقربه منه نظرا لاشتراكهما في الدلالات كالروعة والعظمة والعجب والاندهاش والخيال الوهمي والخارق غير الواقعي. ونحن أيضا نميز بينه وبين المصطلحين القريبين منه وهما: حكاية الخوارقcontes merveilleux والحكاية الغريبة conte étrange  لما لهما من خصوصيات دلالية وبنيوية وتداولية.
هذا، ويستند الأدب الفانطاستيكي/ العجائبي إلى تداخل الواقع والخيال، وتجاوز السببية وتوظيف الامتساخ والتحويل والتشويه ولعبة المرئي واللامرئي، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والوهم والتخييل. فهذه الحيرة هي التي توقع المتقبل بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة لايخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما.
و من خلال هذا ، ينقسم الأدب الفانطاستيكي العجائبي إلى لحظتين تخيليتين:

أ‌-    التعجيب( حالة إيجابية):

 ويتم حينما نكون أمام حدث يترك أثرا إيجابيا على نفسية المتلقي؛ لأن المتعجب منه مستحسن يثير الاندهاش، والإعجاب لروعته وخروجه عن المألوف الذي لا يثير فضوله، كتحول البطل إلى سوبرمان لإنقاذ شاحنة تكاد تسقط في النهر.

ب‌-                     الغريب:(حالة سلبية):

ويتم التغريب حينما نكون أمام حدث يترك أثرا سلبيا على نفسية المتلقي؛ لأن الحدث مستهجن إما لغرابته وإما لشذوذه وإما لما يبثه من هلع وخوف ورعب إلى درجة القلق مثل: تحول الشخصية العدائية إلى شيطان أمرد أو قرد ممسوخ.
وبناء على ماسبق، فلقد فضلنا استخدام مصطلح العجائبي ترجمة لمفهوم  "الفانطاستيك" الغربي، علما بقصور هذا المصطلح العربي بالمقارنة بنظيره الأجنبي. فالعجيب يختلف إلى حد ما عن الغريب. فالعجائبي هو" حالة التردد التي يشعر بها القارئ تجاه الأحداث والأفعال، فحالما يحسم أمره ويهتدي إلى الحل الذي يرى أن الأمر لايعدو أن يكون وهم الحواس ونتيجة الخيال وأن قوانين العالم لم تتغير، يدخل حينئذ مجال الغريب الذي يخضع دائما إلى تفسير عقلي ومنطقي".[1]


2-      مقاربات وتصورات نظرية حول الإبداع الفانطاستيكي:

يمكن الحديث عن  العديد من المقاربات والتصورات النظرية حول الإبداع الفانطاستيكي/ العجائبي في الحقل الثقافي الغربي ، ويمكن حصر هذه المقاربات فيما يلي:

أ‌-    المقاربة التاريخية كالأنطولوجيات الكبرى الخاصة بالفانطاستيك؛
ب‌-                     المقاربة الدلالية أو الموضوعاتية التي تهتم برصد التيمات المتواترة؛
ت‌-      المقاربة البنيوية التي تركز على إنشائية الأدب العجائبي وتحاول رصد بنياته الهيكلية.[2]
ث‌-      المقاربة السيكولوجية التي تسعى بدورها إلى فهم وتفسير غرابة الأدب العجائبي.
ج‌-المقاربة السيميوطيقية[3] التي تنبني على رصد شكل المضمون من خلال البنيتين: السطحية والعميقة بحثا عن دلالات القصة بواسطة تفكيك منطق لعبة الاختلاف والتعارض.

وعليه، ففي النقد الأنگلوسكسوني، يتخذ العجائبي بعدا تاريخيا وأنطروبولوجيا، ويدرج ضمن تراث الأساطير والفلكلور لمختلف الثقافات. ويتم التركيز فيه على الثوابت والمتغيرات على مستوى التخيل الكوني. ويذهب في هذا المنحى( ج. دوران G/ Durant) الذي أثبت في كتابه ( بنيات الخيال الأنطروبولوجية) أن المعنى المجازي أسبق من المعنى الحقيقي، وأن النشاط الإنساني الإبداعي مشبع بالعجائبي والاستعاري الذي بدونه لايمكن أن يكون نشاطا إبداعيا.
وقد تعددت تصورات الباحثين حول الفانطاستيك أو التخييل العجائبي. فروجي كايواCAILLOIS مثلا يرى أن العجائبي هو تخييل غير طبيعي لما هو طبيعي ومألوف. يقول كايوا في كتابه "في قلب العجائبي"" إنما العجائبي  كله قطيعة أو تصدع للنظام المعترف به، واقتحام من اللامقبول لصميم الشعرية اليومية التي لاتتبدل"[4].
أما تصور إريڤ بيرسييرIREVE BERSIERE  في كتابه "المحكي العجائبي: شعرية الوهم"،  فالعجائبي في نظره " شكل مزدوج يولد من تناقض فعلي مادام الفانطاستيك ليس نوعا عقليا، ولكنه خاصية سردية".[5]
ويقول لويس فاكس(VAX) في " الفن والأدب العجائبيان" : "يحب القص العجائبي ...أن يقدم لنا بشرا مثلنا، فيما يقطنون العالم الذي نوجد فيه، إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير".[6]
أما تزتيڤان تودوروف     Todorovفيعرف العجائبي بأنه يقوم "أساسا على تردد للقارئ- قارىء يتوحد بالشخصية الرئيسية- أمام طبيعة حدث غريب".[7]
ونستنتج من هذا التعريف، أن للأدب العجائبي مقومات أساسية منها:
أ‌-    التردد والحيرة والشك على مستوى التأثر والتقبل والاستجابة؛
ب‌-      الصراع بين القوانين الطبيعية( الواقع- العقل- المنطق- المألوف-...) وغير الطبيعية( الخيال- الوهم- اللامنطق- الغريب والعجيب ...)؛
ت‌-                     وجود حدث خارق للعادة يثير الاندهاش والاستغراب؛
ث‌-      الانزياح عن عالم المواضعات والأعراف والقوانين الطبيعية والعقلية والمنطقية.
ولقد حاول تزتيفان تودوروفTODOROV  قراءة الأدب العجائبي من وجهة بنيوية وموضوعاتية في كتابه" مدخل إلى الأدب العجائبي" الصادر سنة 1970م، وتوصل إلى أنه أدب خارق للعادة ويثير الغرابة شكلا ودلالة انطلاقا من تردد القارىء أمام عوالم الحكاية المدهشة. " ومن النتائج التي توصل إليها تودوروف أن الأدب الفانطاستيكي لم يعمر أكثر من قرنين لينسحب مع مطلع هذا القرن( يقصد القرن العشرين) مفسحا المجال أمام أدب جديد لايمايز بين الواقع واللاواقع، ولا يتقيد بالثنائية الميتافيزيقية التي طبعت الأدب طوال القرن التاسع عشر. من ثم، فإن النصوص التي تبدو لنا فانطاستيكية مثل: نصوص كافكا هي في نظر الدارس مغايرة للجنس الفانطاستيكي كما حدده ولا تترك نفس التأثير لدى القارىء (الشعور بالتردد فيما يرجع لتصنيف النص وموضعته ضمن العجيب أو الغريب...)، إن نصوصا مثل نصوص كافكا غيرت الاتجاه فأصبح الفانتاستيكي هو القاعدة وليس الاستثناء كما كان عليه الأمر من قبل".[8]
وتعد محاولة تودوروف بمثابة تجنيس بنيوي للأدب العجائبي بعد أن كان متخيلا سائبا اعتمادا على المشروع البنيوي المركز على البنية والدلالة والوظيفة أو مظاهر النثر الأدبي الثلاثة: لفظي وتركيبي ودلالي أو موضوعاتي.
وهكذا تأتي محاولة تودوروف لتخرج نصوصا كثيرة من منطقة التناول التعميمي إلى مستوى الصياغة الإشكالية المدققة المتطلعة إلى ضبط علمي للتحديدات والمصطلحات. وبالفعل، لايكفي القول بأن نصوصا ذات طابع فانطاستيكي قد وجدت منذ القديم في جميع الآداب؛ لأن ما يدرج ضمن العجيب والغريب والخوارق يختلف عن النصوص التي تبلورت منذ القرن الثامن عشر على يد كتاب يوظفون عناصر هذا النوع من الحكي للتعبير عن رؤية مغايرة تقدم تحولا في العلائق مع الطبيعة وما فوق الطبيعة، مع الذات الخفية ومع الآخرين، مع الواقع واللاواقع، ومثل هذا التحول على مستوى بنيات المجتمع، هو الذي يبرر التحول من متخيل "سائب" إلى جنس تخييلي يسنده وعي ولغة متميزة وتيمات تستكشف المجهول وتوسع من دائرة الأدب".[9]
وقد سبق الشكلانيون الروس تودوروف في دراسة الخارق العجائبي، ولاسيما فلاديمير ﯧروبV.PROPP في كتابه عن "الحكايات الروسية العجيبة"،[10] وكلود ليفي شتراوس C.Lévi –Strauss   في دراسته عن" بنية الشكل: أفكار حول أعمال فلاديمير بروب" باعتباره مؤسسا للتيار البنيوي الفرنسي في مجال الأدب والأنتروبولوجيا، وكذلك لوف كرافتLoveGravt  مؤسس الأدب العجائبي في الثقافة الانگلوسوكسونية إلى جانب ﯧينزولتPenzoldt. وثمة دراسات أخرى ترصد التخييل العجائبي سواء في الأدب الإنجليزي أم في الأدب الفرنسي مثل: دراسة سكاربو روش Scarbo Rouch ،" الفوق طبيعي في التخييل الانجليزي المعاصر"، ودراسة شنايدرSchneider:"الأدب العجائبي في فرنسا".

3-      مقومات الأدب الفانطاستيكي وخصائصه:

يعمد الخطاب الفانطاستيكي /العجائبي إلى استعمال مفردات وعبارات دالة على التحول والمسخ تزيينا وتقبيحا وتوظيف خاصيات التعجيب والتغريب تصريحا وتلميحا. وينسج هذا الخطاب خيوطه الجمالية حول تيمة الامتساخ والخرق الخيالي والمنطفي والطبيعي. ويستمد هذا الأدب ألفاظه من معجم العجيب تارة، ومن معجم الغرابة تارة أخرى، ناهيك عن انزياحه عن قاموس الطبيعة والألفة والأفعال اليومية العادية. ويعتمد لغة تتخطى الواقع إلى المتخيل؛ لتكتب سردا مترددا بين عوالم الحقيقة والمجاز يندهش أمامها العقل والمنطق، ويقفان أمامها مشدوهين حائرين. وهذه الخاصية هي التي تجعل الأدب العجائبي يتفرد كلياعن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، ويصبح جنسا وسيطا بين جنسين أدبيين في نظر تودوروف هما الغريب والعجيب . فإذا كان المفهوم الأول مرتبطا بالماضي، فإن الثاني مقترن بالمستقبل" إن العجيب- يقول تودوروف- يطابق ظاهرة مجهولة، لم تر بعد أبدا وآتية: أي إنه يطابق مستقبلا، ومقابل ذلك في الغريب، حيث يرجع بمالا يقبل التفسير على وقائع معروفة، إلى تجربة موجودة قبلا، ومن ثمة على الماضي. أما العجائبي بالذات فالتردد الذي يطبعه لايمكنه أن ينهض بداهة إلا في الحاضر".[11]
ويحضر العجائبي في الرواية كليا وتسمى الرواية لذلك رواية عجائبية ؛لأن التعجيب سمة غالبة في النثر تشكيلا ودلالة ووظيفة، أو يحضر جزئيا في شكل ملامح وسجلات أسلوبية لم تصل بعد إلى درجة القيمة المهيمنة أو المميزة في النص الإبداعي الروائي، وهنا نكون بصدد الحديث عن المستنسخات النصية أو الخطاب التناصي من خلال استدعاء الصورة العجائبية لإثراء النص وإغنائه دلاليا.
وعلى هذا، فالعجائبي" يتحدد بالنسبة إلى مفاهيم أخرى هي: الواقع والمتخيل والوهم، وهو ليس سوى ذلك السر أو الشيء الغريب الخفي الذي يقتحم الحياة الواقعية ويثير في نفس المتلقي الرعب أو الشك أو التردد".[12] وهذا جدول يبين التعارض بين الإبداع الواقعي والإبداع العجائبي:

مميزات الإبـــداع الروائي
- العجائبي
- الواقعي
-        الخيال
-        الوهم والخارق
-        قوانين فوق الطبيعة
-        التخييل
-        المحتمل
-        التردد والشك
-        زمن متعال
-        أفعال عجيبة وغريبة

-        غير المرئي
-        التصور/الافتراض
-        الواقع
-        الحقيقة
-        قوانين طبيعية
-        الواقعية
-        الممكن
-        التكيف
-        زمن واقعي محدد
-   أفعال يومية عادية مألوفة
-        المرئي
-        العقل/ المنطلق

إن الخطابات الروائية العجائبية نصوص تخييلية تتراوح بين العجيب والغريب، وبين الوهم والواقع، وبين المنطق واللامعقول،وبين الانسجام وللانسجام، وتعتمد أحداثا غريبة ومدهشة تحدث التردد الذي" يطال الشخصية الرئيسة [ في القصة أو الرواية] أو أي شخصية أخرى من شخصياتها. كما يشمل القارىء الذي يقف حائرا أمام غموض الأحداث وغرابتها ويحاول أن يجد لها تفسيرا طبيعيا أو غير طبيعي، وهذا التفسير هو الذي ينهي ظاهرة الغرابة ويخرج النص من الفانتاستيك ".[13] وهكذا نلاحظ في النصوص العجائبية" أن الذي يشعر بالدهشة ويعتريه التردد هو البطل في أغلب الأحيان،. وإن كانت نصوص أخرى تذكر أن التردد يعم شخصيات أخرى".[14] وقد تقوم الشخصية الرئيسية في هذه النصوص بوظيفة مزدوجة: فهي تمثل بطل الحكاية وراويا في آن[15]واحد.
ويتم التعبير عن العجائبي بعدة وسائط فنية وجمالية كالمفارقة والمعارضة والمحاكاة الساخرة والتشخيص والتشويه والتصوير الكاريكاتوري والمسخ والتحول والتهويل والمبالغة والمقايضة والاعتداء والقتل.  أي إن الظاهرة الفانطاستيكية تدور حول ظاهرتين أساسيتين هما : التحول والتشويه المسخي.[16]
 ويتبين من خلال هذه الوسائط أن  من أهم الميكانيزمات التي يعتمد عليها الخطاب العجائبي السخرية أو الباروديا أو المحاكاة الساخرة،ولايمكن فصل العجائبي- بالتالي- فنيا وإيديولوجيا عن فن السخرية الذي يدل على " الانقسام الذي يشعر به البطل وهو يواجه تحديات الواقع، فلا يجد مندوحة من مقاومته غير السخرية التي تصبح في هذه الحالة سلاحا يحصن البطل ضد عنف العالم وغرابته، إنها بمعنى ما وسيلة للتغلب على واقع التجربة وعلى تجاوزه".[17]
وعندما يتداخل الفنان: أدب الغرابة وأدب السخرية فينبغي أن يوظف هذا التداخل بطريقة فنية لخدمة مضمون النص الفكري ولإضفاء صفة الواقعية عليه، وهي تتضافر مع الفانتاستيك والحوار العامي لنقد الواقع وتأسيس عالم فني مواز تسهم في بنائه عناصر متنوعة:سرد- حكي وشخصيات وحدث وضمائر وفضاء زماني ومكاني، لكنها لاتخلو في كثير من الحالات من عنصر ذاتي يعكس ذات الفرد المبدع وبعض خصائصه الشخصية".[18]
وقد يرتكز الخطاب العجائبي على التناص باعتباره خطابا إحاليا شعوريا أو لاشعوريا ، وقد يعضد بالمفارقة والتهجين والأسلبة،والهدف من توظيف التناص الامتساخي هو قراءة الواقع ومحاولة فهمه وتفسيره وتعريته من جميع جوانبه قصد بنائه من جديد. إن التناص هو استغلال لنصوص سابقة أو حديثة بطريقة متداخلة قائمة على التفاعل الامتصاصي والحواري. وهو يطرح "عدة قضايا فنية وفكرية، يتضمن بعضها جوانب سلبية مثل تهجين مفهوم الجنس الأدبي، ولكن مساهمته في إغناء وتطوير الأدب أكبر وأعمق".[19]
ويروم  الخطاب العجائبي التقبيح والتنفير تارة وذلك عندما تتحول الشخصية مثلا إلى قرد أو شيطان أو ثعلب ماكر أو ثعبان...، والتزيين والتحبيب تارة أخرى وذلك عندما تتحول الشخصية المحببة مثلا إلى غزال أو تتحول المظلة الوهمية إلى مظلة حقيقية لإنقاذ البطل المحاصر في برج القلعة كما في رواية" سماسرة السراب" لبنسالم حميش. ولابد من الإحالة على مجموعة من العناصر أثناء االحديث عن بنية التحول العجائبي كالمحول والمحول إليه وأفعال التحويل وصوره البلاغية وسياق التحويل ووظائفه.
وتستحضر ظاهرة التحول كائنات طبيعية تتحول أو تمتسخ إلى كائنات فوق طبيعية حيوانية أو جنية أو شيئية أو العكس صحيح أيضا. فقد تتحول الكائنات العجائبية إلى كائنات بشرية واقعية، مما قد يبلبل ذهن القارىء ويعرضه للحيرة والتردد والشك. ففي النصوص العجائبية مثلا يتحول الرجل- حسب تودوروف- إلى قرد " والقرد إلى رجل ويتحول الجني إلى عجوز منذ البدء. أما في أثناء مشهد العراك، فتتلاحق التحولات أولا، يصير الجني أسدا، فتفرقه الأميرة بحسام إلى شقين. على أن رأس الأسد يصبح عقربا ضخما.
فتتحول الأميرة إلى ثعبان يدخل في عراك جلف مع العقرب، الذي لم يحالفه التغلب فينقلب إلى صورة نسر يطير، لكن الثعبان يتقمص شكل نسر أقوى ويتبعه."[20]
وفي رأينا ثمة مجموعة من الإمكانيات والتحويلات العجائبية الكائنة والممكنة والمحتملة المستخلصة من القصة والرواية والفنون الإبداعية الجميلة الأخرى عبر استحضار المكونات التالية في تحديد الاحتمالات:1- الجن2- الإنسان3- الحيوان4- الأشياء.
ويتم خلط هذه المكونات مع بعضها البعض لاستخلاص مجموعة من التحولات المحتملة:


عدد الاحتمالات
أنواع التحولات المحتملة
الأمثلة المحتملة
1
كائنات بشرية تتحول إلى كائنات جنية
تحول المرأة إلى جنية
2
كائنات بشرية تتحول إلى كائنات حيوانية
تحول الإنسان إلى قرد ممسوخ
3
كائنات بشرية تتحول إلى أشياء وجمادات
تحول الإنسان إلى صخرة أو حجارة
4
كائنات بشرية تتحول إلى كائنات بشرية أخرى
تحول البطل إلى سوبرمان مثلا
5
كائنات جنية تتحول إلى كائنات بشرية
تحول الجني إلى عجوز
6
كائنات جنية تتحول إلى كائنات حيوانية
تحول الجني إلى ثعبان
7
كائنات جنية تتحول إلى كائنات جنية أخرى
تحول الجني إلى عفريت
8
كائنات جنية تتحول إلى أشياء وجمادات
 تحول الجني إلى ريح أو صخر
9
أشياء وجمادات تتحول إلى كائنات بشرية
تحول الصخرة إلى إنسان
10
أشياء وجمادات تتحول إلى كائنات جنية
تحول الريح إلى عفريت أو جن
11
أشياء وجمادات تتحول إلى أشياء وجمادات أخرى
تحول الشجرة إلى بساط الريح
12
اشياء وجمادات تتحول إلى كائنات حيوانية
تحول الجن إلى ثعبان

ويلاحظ أن التحول في الوظائف يقترن بتحول في الفواعل أو الكائنات فوق الطبيعية مثل " الجني والأميرة الساحرة، وقدرتهما على التحكم بالقدر البشري، فكل منهما يستطيع أن يحول ويتحول، أن يطير أو أن يحلق بالكائنات أو الأشياء في الفضاء، الخ، فنحن هاهنا- يقول تودوروف- بإزاء أحد ثوابت الأدب العجائبي: وجود الكائنات فوق الطبيعية الأقوى من الجنس البشري. ومع ذلك، فملاحظة هذه النقطة لاتكفي، لكن ينبغي التساؤل عن دلالتها كذلك. بديهي أن يقال: إن هذه الكائنات ترمز إلى حلم بالقوة، غير أن هناك أكثر من ذلك".[21]
ويصيب التحول مقولات الموضوع والفضاء والسببية والزمن ليخلق لعبة الحلم والواقع والروح والمادة. كما ينبني التحول على تشويه الفواعل والكائنات ومسخ أفعالها لبلورة عالم كابوسي مصنوع بإسمنت الغرابة ورمال التعجيب وأجواء التخريف وضباب الخوف ورعب المناظر والمشاهد غير المتخيلة" ويحتل الفانطاستيك وسطا بين الشك واليقين، وقتا يلعب فيه التردد دورا أساسيا سببه غرابة الأحداث في النص الإبداعي، لذلك اعتبرت هذه العناصر الغريبة شرطا لازما في الفانتاستيك لايمكن أن يوجد ويتحقق بدونها".[22]
ومن شروطه كذلك انتقال الشخصيات بين عالمين: عالم فيزيائي بفضاءاته المكانية الحسية والجغرافية، وعالم عجائبي خيالي بفضاءاته غير المحددة بمقاييس الهندسة والعقل الممنطق للمكان، أي إنه فضاء مجازي يتخطى الطبيعة إلى أجواء ميتافيزيقية لايمكن تصورها أو تحيينها بقواعد المرئي والإدراك البصري.

4-      وظائف  الإبداع الفانطاستيكي :

ومن وظائف العجائبي أنه أداة فنية لنقل الواقع المرئي بطريقة لامعقولة ومشوهة تأكيدا على الواقع المرعب والغريب ونثريته الفظة ومرارته التراجيدية وغرابته كماهو مألوف وإنساني. ومن ثم، فهذا الواقع المأساوي لايستحق أن يعاش بهذه البشاعة اللا أخلاقية وحتى التصرفات الصادرة من الإنسان بطريقة غير شرعية وغير مقبولة إنسانيا. ولا ننسى أن للعجائبي وظائف أخرى كالوظيفة الاجتماعية التي تتمثل في التمرد عن قوانين الواقع وغرابة شرائعه والتنديد بلاعقلانية الموضوع المادي وعدم منطقيته، والوظيفة النفسية التي تبرز في  التعبير الموضوعي في التعبير عن الرغبات خاصة الجنسية ووصفها بطريقة مباشرة تحت قناع التعجيب أو الترغيب. وقد أثرى الأدب العجائبي التحليل النفسي بكثير من التصورات حول الأنا في علاقتها مع الموضوع مرورا بدراسة الشعور واللاشعور. يقول فرويد ساخرا" كان العصر الوسيط مع كثير من المنطق، وبصورة صحيحة تقريبا سيكولوجيا، قد نسب إلى تأثير العفاريت جميع هذه التجليات المرضانية، ولن أندهش أنا بدوري، عندما أدرك أن التحليل النفسي الذي يهتم بكشف هذه القوى السرية، لم يكن هو نفسه، من هنا مخيفا بغرابة في نظر كثير من الناس."[23]
ويحدد تودوروف للعجائببي ثلاث وظائف أساسية هي:
وظيفة تداولية إذ إن فوق الطبيعي بثير ويرعب ، أو على الأقل يعلق القارئ بقلق ، ووظيفة دلالية حيث يشكل فوق الطبيعي تجليه الخاص، إنها إشارة تعيين آلي. وأخيرا، وظيفة تركيبية إذ يدخل كما قلنا في المحكي."[24] كما يخدم العجائبي" السرد وينمي التماطل ويحدث التوتر. لذلك فهو يساعد- بفضل العناصر الغريبة -على تنظيم الحبكة وتطويرها، علاوة على وظيفة الخوف أو الدهشة، أو ببساطة الفضول أو غير ذلك من المشاعر التي قد لاتثيرها في ذات القارىء أجناس أدبية أخرى. كما أنه يقوم بوظيفة تكرارية وخيالية لأنه يساهم في تصوير عالم غريب ليس له في الحقيقة وجود واقعي خارج اللغة. وعن طريق العجائب، يصبح التصوير والمصور من طبيعة واحدة و ليس من طبيعة مختلفة. وتسخر النصوص الغريبة لأغراض فنية ترتبط بالمضمون الفكري من جهة، وتؤكد علاقة القصص الوثيقة بواقعها من جهة ثانية. وما يجعل منها نصوصا واقعية، على الرغم من توسلها بأدوات فنية تبدو غير واقعية."[25]
لكن من الأسباب التي تدفع المبدعين إلى استخدام الخطاب العجائبي في نصوصهم التأليفية، كما يلاحظ يتر ﯧنزولدPETER PENZOLD " أن الخارق عند الكثير من الكتاب يشكل وسيلة لوصف الأشياء التي لايمكن له أن يتناولها بشكل واقعي؛ لأن الخارق يسمح بتجاوز الحدود المغلقة واختراق المحرم أو الطابو الاجتماعي والرقابة الذاتية، فيصبح العجائبي وسيلة لخوض الصراع ضد الرقابة بمختلف أشكالها  سوا أكانت ذاتية أم اجتماعية. ولكن هذا لايعني مطلقا كما ذكرنا سابقا، تحويل الكتابة إلى وسيلة إفراغية، ولكن الأمر يتجاوز ذلك باتجاه تشييد نص إبداعي، يملك حياته الخاصة، وخصوصيته وحميميته التي يصعب في أحيان كثيرة حتى على التأويل أن يخترقها".[26]



5-      منهجية مقاربة النصوص الفانطاستيكية وتأويلها:

  على المستوى المنهجي، لابد أن نستحضر  عند مقاربة النصوص العجائبية بنية الأحداث والعوامل والفضاء الزمكاني والخطاب من رؤية وصيغة أسلوبية وزمن السرد؛ إذ إن للعجائبي كما قلنا سالفا زمنا خاصا به هو زمن الحاضر في تشابكه مع الزمن الواقعي والزمن الخيالي. فبينما يميل العجيب إلى استشراف لحظات المستقبل، نجد الغريب يعود إلى الماضي للاحتكام إلى تجاربه وأحداثه الواقعية.
ويدرس النص الروائي العجائبي في " بنيته الكلية التي تستقطب جماع عناصره ومكوناته. والحاضر هنا ليس اللحظة الزمنية التي تتوسط الزمنين الآخرين، وإنما لحظة كتابة النص، لحظة واقعيته"[27].
وبناء على ما سبق، فإن النص الروائي العجائبي يطرح صعوبة كبيرة على مستوى التأويل وغموضا إشكاليا لدى القارئ. فإذا كان النص الروائي الكلاسيكي يخلق رموزه من أجل القراءة المباشرة ويشي بها منذ الملامسة الأولى ويطورها مع مسار الرواية، فالنص الحداثي ، بشكل عام ، والعجائبي بشكل خاص، مايزال يبحث عن قارئه المتخصص. لأن الرواية لاتفصح عن أدواتها وعن ميكانيزم اشتغالها إلا من خلال التأويل، ليس تأويل الحياة العامة، ولكن تأويل الحياة ذاتها التي ينشئها النص. والإشكال يطرح من زاويتي القراءة والكتابة ذاتها التي تعني أحيانا البحث عن أدوات خارج نصية للتفسير."[28]
ومن بين القضايا التي يثيرها الأدب العجائبي أولا " سيطرة القراءة النموذجية الكلاسيكية، بحيث إن القارئ استقر على مجموعة من الأدوات (للتصور والنقد)ولا يمكنه أن يزن الأشياء إلا من خلالها. وكل ماخرج عن ذلك يتحمله إما الكاتب وإما النص( اتهامه بالضعف)".[29] والقضية الثانية تتمثل في حداثة النص العجائبي  الذي يبحث عن قارئ لايسمح التكوين التربوي الكلاسيكي بنشوئه بسهولة، كثيرا مايغيب ولا يحضر إلا في ذهنية الكاتب كقارئ ضمني. وإذا كنا نعتبر أن القارئ جزء من فاعلية الكتابة. نحن- كما يقول واسيني الأعرج- في حاجة ماسة للتفكير في هذه العلاقة التي تحتم وجودها بشكل خاص النصوص التي رهنت بناءها الداخلي على مجموعة من الصيغ والأدوات العجائبية التي لا تستحضر أسرارها منذ القراءات الأولى. فالقراءة تبدأ بالاصطدام منذ السطر الأول أحيانا، والمسألة لاتطرح فقط على الصعيد اللفظي والجملي، ولكنها تتعدى ذلك باتجاه تقنيات الكتابة، والدلالات التي تفترض من إعادة تركيب دقيق للنص من أجل التأويل الأقرب إلى  خدمة القراءة والنص من منظور القارئ طبعا، لأن كل تأويل في الجوهر له علاقة حميمية مع صاحبه وأشواقه".[30]

6- الرواية الفانطاستيكية في الأدب الغربي:

من المعروف أن الأدب الغربي زاخر بالروايات ذات الطابع العجائبي بدءا من النصوص اليونانية وصولا إلى الرويات الحديثة في الغرب. وهناك من يربط ظهور الخطاب العجائبي بسنة 1770م، لأن الفانطاستيك جاء كرد فعل على الخطاب التنويري العقلاني الذي يمجد العقل والمنطق والعلم والطبيعة.[31]  ومن رواده الأوائل كازوتCazotte وبيكفورد Beckford ووالبول Walpole . وبعد ذلك تطور الخطاب العجائبي مع الرواية السوداء في انجلترا  مع آن راد كليفAnn Radcliffe ولويس M.G.Lewis، وفي ألمانيا وخاصة مع هوفمان E.T.A. Hoffmann.
وفي فرنسا، سنجد كثيرا من كتاب الخطاب العجائبي  وخاصة نودييهNodier، وفيكتور هيجوHugo، وبلزاكBalzac،وكوتييهGautier، ومريميهMérimée ، وفلوبير Flaubert، وموباسانMaupassant، ودوديه Daudet، وجول فيرنVerne ، وإدغار ألان ﯧوPoe، والروسي گوگولGogol. ولا ننسى كذلك كلا من هاوثورن،Hawthorne  وأوسكار وايلدWilde، وبرام ستوكرStoker ، وهنري جيمس  Henry James ، وگوستاف ميرينك Gustave Meyrink، ولوڤگرافتLovecraft، وكافكا       Kafka ، وبورخيس Borges ، وكورتزارCortàzar .      
وقد اهتمت الرواية الفرنسية الجديدة الفرنسية بالعجائبي مثل: ألان روب گرييه Grillet في روايته "تبولوجيا مدينة شبح"، وكلود أولييهClaude Ollier في روايته " أور أو بعد عشرين سنة". وقد اهتم كثير من الكتاب الفرنسيين بالغريب L'étrange  على مستوى الوظائف السردية وتفعيله على المستوى الحدثي مثل: ميشال بوتورBotur في رواية  " درجات" و" مرور الحدأة"،  وگرييه في" الممحاوات" و"الرائي le voyeur" ، وكلود سيمون في "العشب" و"الأجسام الناقلة"، وروبير بانجيRobert Pinget في "الولد" .
ويمكن التمييز بين نمطين من الرواية العجائبية: فهناك الرواية العجائبية التقليدية كما نجدها عند بلزاك وميريمي وهوغو وفلوبير وموباسان في القرن التاسع عشر الميلادي. وهناك الرواية العجائبية الجديدة التي ظهرت في القرن العشرين مع رواية المسخ لكافكا والأنف لگوگول حيث ينعدم التردد والدهشة وتصبح الأمور فوق طبيعية عادية لا تثير فينا الاستغراب.


6-      الرواية الفانطاستيكية في الأدب العربي:

أما في أدبنا العربي، فقد عرف السرد العربي القديم محاولات إبداعية عديدة تنهل من معين الخيال العجائبي مثل: كتاب ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والسير الشعبية كسيرة فارس اليمن ملك سيف بن ذي يزن وقصة الأمير حمزة البهلوان وسيرة الأميرة ذات الهمة وسيرة بني هلال الكبرى وسيرة الزير سالم وسيرة عنترة بن شداد...الخ.
ولم يستثمر الأدب العجائبي بشكل فعال ووظيفي في الرواية العربية إلا مع الرواية الجديدة التي حاولت التجريب لتكسير النمط السردي القديم وتأصيل الرواية العربية وربطها بتراثها العربي القديم والمشاركة في ارتياد آفاق العالمية عن طريق تمويه الواقع والسمو بالخيال وتغريبه بشكل عجائبي واستلهام النصوص العجائبية الموروثة عن طريق التناص.
هذا، وإن أهم عامل كان وراء ظهور هذا الأدب العجائبي في الحقل العربي يتمثل في طبيعة الواقع الموضوعي: التاريخي والسياسي.
وقد ظهرت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين عدة نصوص عكست طبيعة هذا الواقع الغريب، وحاولت التعبير عن ظواهره بطرائق إبداعية مختلفة، تستند إلى المفارقة والباروديا والسخرية والتحول الممسوخ.
وتندرج الرواية العجائبية المكتوبة باللغة العربية في إطار الرواية الجديدة التي انطلقت مع بداية الستينيات وهي تروم التحديث والتجريب من أجل تأصيل الرواية العربية. ومن النصوص ذات الطابع العجائبي روايات جمال الغيطاني وهي: وقائع حارة الزعفراني وكتاب التجليات وخطط الغيطاني والزيني بركات والزويل...، وصنع الله إبراهيم في اللجنة وتلك الرائحة، ويوسف القعيد في شكاوي المصري الفصيح ويحدث في مصر الآن والحرب في بر مصر وأيام الجفاف وبلد المحبوب... ونجد كذلك رواية الحوات والقصر للطاهر وطار، وحمائم الشفق لخلاصي الجيلالي، وألف ليلة وليلتان لهاني الراهب، وروايات سليم بركات كفقهاء الظلام وأرواح هندسية والريش ومعسكرات الأبد والفلكيون في ثلاثاء الموت والفلكيون في أربعاء الموت ورواية مدينة الرياح ، وأبواب المدينة لإلياس خوري...
 و في الرواية المغربية، نستحضر بعض النماذج كرواية عين الفرس والضلع والجزيرة للميلودي شغموم، وبدر زمانه لمبارك ربيع، ورحيل البحر ومهاوي الحلم لمحمد عزالدين التازي، وأحلام بقرة لمحمد الهرادي، وجنوب الروح لمحمد الأشعري، وأوراق لعبد الله العروي.
ويلاحظ أن هناك من الكتاب من لجأ إلى التلوين بالعجائبي ضمن تأليفهم الروائي نظرا لرغبتهم في التجريب والتنويع كما هو الشأن عند نجيب محفوظ والطاهر وطار والميلودي شغموم...وهناك من اختار الخطاب العجائبي خطابا فنيا لرؤية العالم ورسمه بالتحولات والمسوخ كما عند سليم بركات وبنسالم حميش في "سماسرة السراب" ويحي بزغود في روايتيه "الجرذان" و"طوق السراب".
ونستنتج أن هناك ثلاثة أنواع من المراجع التي استند إليها الخطاب العجائبي العربي، وهي:
1-مرجع التراث العربي في جانبيه السردي و التاريخي كما هو الحال لدى نجيب محفوظ في" رحلة ابن فطومة" والطاهر وطار في" عرس بغل".
2-مرجع التراث المحلي والاشتغال على اللغة كماهو الشأن لدى سليم بركات في كل رواياته.
3-مرجع التراث العالمي والواقع العربي كما عند صنع الله إبراهيم في" اللجنة" ومحمد الهرادي في" أحلام بقرة".
وترتبط" بنية العجائبي في الرواية العربية بالذات والتاريخ واللاشعور. وتحتل اللغة موقعا بؤريا في بناء العجيب وتوجيهه انطلاقا من نسق الحوار أو المنولوج الاستيهامي، عبرهما يتنامى العجائبي ويحدد موقع الواقعي. فهو بناء لغوي ولقاء بين المألوف واللامألوف ، بين أدوات طبيعية وأخرى فوق طبيعية غيبية لإيجاد حالة من الزج بالواقعي ، بكل وضوحه الكاذب وأوهامه المغلقة، في المأزق".[32]
إذاً، يستمد العجائبي وجوده  الفني في الرواية العربية من التراث العربي والإسلامي في جانبه السردي من حكايات وتصوف وأخبار... ومن الملل والنحل والمعتقدات الشعبية، ومن عنف الواقع وإكراهاته، فضلا عن تأثيرات المثاقفة، وهضم كل هذه المعطيات في رؤية فنية حداثية وبنية انتقادية للظواهر الاجتماعية والفكرية والعربية".[33]
ويتضح كذلك أن الروايات التي توظف العجائبي باعتبارها تيمة أساسية ومهيمنة شكلا ومضمونا ووظيفة قليلة كما عند بنسالم حميش وسليم بركات ومحمد الهرادي ويحيى بزغود...بخلاف الروايات التي توظفه باعتباره خطابا تناصيا وجزئيا فهي كثيرة إلى حد ما؛ مما يجعلنا نقول مع الباحث المغربي الدكتور شعيب حليفي"يمكن اعتبار العجائبي خصيصة تمييزية في الرواية العربية، لم يتم استثمارها بشكل موسع وكامل، وأيضا لم يتم تطويرها حتى تصبح علامة مرجعية، وذلك نظرا لغياب كم روائي في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى غياب نقاش نقدي يضع العجائبي ضمن الأسئلة المطروحة على الإبداع العربي".[34]
وعليه، فإن توظيف الخطاب العجائبي القائم على الغرابة والتردد بين الواقع والخيال المموه والصور المجازية المفارقة من أهم مظاهر تجديد الرواية العربية الجديدة ومن أهم تجليات تأصيلها . والهدف من هذا الخطاب هو تجريب التقنيات الغربية الحديثة واستعارة القوالب التراثية في السرد والحكي من قصص ألف ليلة وليلة والحكايات العجائبية الغربية وكذا من القرآن والحديث النبوي الشريف والنصوص التي تحوم حول المحشر الأخروي بطريقة عجائبية، ولكن مع ذلك، فإن الرواية المغربية لم تستثمر الفانطاستيك إلا مع أواسط السبعينيات وبداية الثمانينيات أثناء لجوئها إلى التجريب والتأصيل مع روايات أحمد المديني وعز الدين التازي ومبارك ربيع وغيرهم.
ويلاحظ محمد برادة أن مصطلح الفانطاستيك بالنسبة للأدب والنقد العربيين أصبح متداولا ورائجا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي ، كما صار يشكل محورا بارزا في استراتيجية الكتابة القصصية والروائية، ولاسيما بعد ترجمة كتاب تودوروف" مدخل إلى الأدب العجائبي" وتلخيصه والتعريف به من قبل الدارسين والباحثين في الأدب الفرنسي والأدب العربي. وقد يفسر هذا الاهتمام بالنزوع إلى تكسير قالب الواقعية الضيقة والبحث عن طرائق الترميز وتمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية .
ويخلص الأستاذ الدكتور شعيب حليفي في كتابه( شعرية الرواية الفانطاستيكية) إلى  أن " مكونات الخطاب الفانطاستيكي في الرواية العربية استطاعت أن تخلق التوازن الذي يجعل من الحكي التجريبي سؤالا أساسيا في الثقافة العربية، مما جعل مداخل البحث في سردية التعجيب في هذا النوع التعبيري مفتوحة على نسق نوعي من العلامات، ومرصدا دائما للمفارقات بين الطبيعي- العقلي وفوق الطبيعي- اللاعقلي، بين المتناقضات والكوابيس والاستيهامات المتصدعة...
إن الرواية الفانطاستيكية تطمح لأن تكون أكثر من مرآة تنعكس على صفحتها تبدلات الواقع المختلفة، فتهتك حجب الزمني والآني المألوف والمباشر، وتستشرف آفاق المطلق والمحتمل الغريب عبر هذا السياق تؤسس الرواية العربية لشعرية مفارقة هي شعرية الرواية الفانطاستيكية".[35]

خاتمــــــــــة:

تلكم- إذاً - نظرة موجزة ومختصرة عن الخطاب الفانطاستيكي/ العجائبي تعريفا ودلالة ووظيفة وبناء. وتلكم كذلك لمحة مقتضبة عن كيفية استثماره في الخطابات القصصية والروائية قديما وحديثا في الآداب الغربية والعربية موروثا وتجنيسا وتجريبا وتأصيلا.

ملاحظـــــــة:

جميل حمداوي، صندوق البريد :5021 أولاد ميمون، الناظور62002ن المغرب.
JAMILHAMDAOUI@YAHOO.FR

 



المراجع والمصادر:

[1] - الدكتور محمد الباردي: الرواية العربية والحداثة، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سورية، ط1،1993،ص:194؛
2- تعتبر محاولة تزيتيڤان تودوروف نموذجا لهذه المقاربة: T.TODOROV: INTRODUCTION A LA LITTERATURE FANTASTIQUE. ED1970,
[3] - كتاب جماعة أنتروڤيرن خير دليل على هذه المقاربة السيميائية، إذ تم تطبيق المقاربة على قصة دوديه(A.DAUDET):" الرجل ذو الدماغ الذهبي"، انظر إذاً:
Groupe D'entrovernes:Analyse sémiotique des textes.Ed Toubkal Casa1er ed1987;
[4] - نقلا عن تزيتيڤان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، الطبعة1، 1993، ص:50؛
[5] - سعيد غصان): ملاحظات حول مؤلف شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانطاستيكية)،جريدة الاتحاد الاشتراكي ،المغرب، 21 نونبر 1997، ص:6؛
[6] - عن تزتيڤان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص:49؛
[7] - نفس المصدر، ص: 199؛
[8] - محمد برادة: (تقديم)، مدخل إلى الأدب العجائبي لتزتيفان تودوروف، ص:5؛
[9] -  محمد برادة : نفس التقديم، ص:4-5؛
[10] - V.Propp. : Morphologie du
conte.Coll.Points.Ed Seuilm1965-1970
[11] - تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص:66؛
[12] - د. إدريس الناقوري): الواقعية الرمزية في القصة المغربية في القصة المغربية)،دراسات في القصة العربية، وقائع ندوة مكناس، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط1 ، 1986، ص:236؛
[13] - الدكتور إدريس الناقوري:نفسه، ص:237؛
[14] - نفس المرجع السابق، ص: 237؛
[15] - نفسه، ص:237؛
[16] - نفسه، ص:238؛
[17] - نفسه، ص:241؛
[18] - نفسه، ص:242؛
[19] - نفسه: ص:246؛
[20] - تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص:139؛
[21] - نفسه، ص:139؛
[22] - إدريس الناقوري: نفسه، ص:239؛
[23] - تودوروف: نفسه، ص:198؛
[24] - نفسه، ص:198؛
[25] -- إدريس الناقوري: نفسه، ص: 239؛
[26] - عن واسيني الأعرج: نفسهن ص:55؛
[27] - نفسه، ص:240؛
[28] - واسيني الأعرج: ( أحلام بقرة: العجائبية- التأويل- التناص)، آفاق، مجلة اتحاد كتاب المغرب، العدد 1 ، السنة 1990، ص:53؛
[29] - نفسهن ص:53؛
[30] - نفسه، ص:53؛
[31] -A regarder. Dictionnaire encyclopédique, LAROUSSE BORDAS, 1998, p.607;
[32] - د.شعيب حليفي: ( بنيات العجائبي في الرواية العربية)،فصول، مصر، الجزء 1، المجلد16،، العدد 3، السنة 1997، ص:117-118؛
[33] - نفس المقال السابق، ص:118؛
[34] - نفسه، ص:118؛
[35] - سعيد غصان: نفس المقال السابق، ص:6.

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...