الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

         مركزية المرأة في قصيدة "الذئب" للبحتري

سلطان الزغول
يمكن أن نقسم قصيدة "الذئب" للبحتري، ومطلعها:
    سلامٌ عليكم لا وفاءٌ ولا عَهدُ!     أَمَا لكُمُ مِن هَجر أحبابكم بُدُّ
إلى لوحات ثلاث: لوحة المرأة التي يبدأ بها الشاعر، وتظهر في الأبيات (1-6). ولوحة الفخر التي تتجلى في الجزء الثاني الأكثر طولا، ويبلغ عدد أبياته ضعف عدد أبيات الجزء الأول؛ الأبيات (7-12). ولوحة الذئب التي تميّز هذا النصّ وتعطيه خصوصيته، ويمكن رصدها في الأبيات (19-35). يلي ذلك ستة أبيات لعلها تمثل خلاصة التجربة الفنية في هذه القصيدة، وهي الأبيات (36-41). ورغم قصر اللوحة الأولى إلا أنها تمتلك تأثيرا كاسحا؛ فموقف المرأة من الشاعر من جهة، ومشاعره نحوها من جهة أخرى هي ما يقوده عبر مسارب النص الأخرى.
أول ملمح يمكن التأكيد عليه في قراءة هذه القصيدة هو تعالقها مع المتن الشعري العربي؛ فعبر التناصات الغنية التي تزخر بها أبيات البحتري يبرز انحيازه للنصّ الجاهز، للنموذج المنجز سابقا، مقابل انحياز معاصره أبي تمام لطاقة اللغة المتجددة. وهذا ما دفع بعض النقاد من معاصري الشاعرين ولاحقيهما إلى عقد الموازنات والمقارنات بين شاعر يمضي على سنن العرب هو البحتري، وآخر يخرج عليها هو أبو تمام. وهي موازنة كانت ترجِّح –على الأغلب- كفّة البحتري المقتدي على أبي تمام المبتدع.
فإننا لنكاد نلمح نهج شعراء النقائض، خاصة الفرزدق عبر تفاخره، في قول البحتري:
    فقل لبنـي الضحـاك مهلا! فإنّـني     أنا الأفعوان الصلُّ والضَيْغم الوَرْدُ
    بنــي واصلٍ مهلا! فإنّ ابن أختكم     له عزمـاتٌ هَزْلُ آرائهــا جِدُّ
    متى هِِجْتموه لا تَهيجوا سوى الردى     وإنْ كـان خِرقا ما يُحلُّ له عَقْدُ
ثم نرى الفرزدق بكامل تدفقه في البيت الثاني والعشرين:
    وأطلسَ مِلْءِ العَيْن يحمل زَوْرَهُ     وأضْلاعَهُ من جانبيهِ شَوى نَهْدُ
بل في مشهد لقاء الذئب كلّه. وهو مشهدٌ ينهلُ فيه البحتري من لغة الفرزدق وصياغته وأفكاره، على الرغم من أنّ الفرزدق انتهى إلى مصاحبة الذئب، حيث تأكّد له عبر تقاربهما أنّ الذئب كائن لا يقلّ عنه حزنا وألما وحاجة إلى دفء الصديق، بينما سار البحتري إلى قتل من أكدت له التجربة أنه غريمٌ عدوّ لا يعرف الرحمة، وأن قسوة العالم لا تسمح باستمرارهما معا في هذه الحياة، فإما أن يقتلَ الذئبُ الشاعرَ ويأكلَه، أو ينتهي هذا الكائن المفترس إلى مصيره المحتوم، فيقوم الشاعر بتناول شيء من لحمه غير المستساغ، في سبيل تأكيد انتصاره من جهة، والتعبير عن أنّ الإنسان لا يقلّ ذئبية عن الحيوانات المفترسة من جهة أخرى.
ومن الشعراء الذين نلمح أطيافهم تمرّ سريعا عبر هذه القصيدة النابغة الذبياني، حيث نلاحظ توازيا مع بيته المشهور:
    كِليني لِهمّ يا أميمةَ ناصِبٍ     وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ
وذلك في أسلوب صياغة البيت الرابع عشر:
    ذريني وإياهم فحسبي صريمتي     إذا الحرب لم يُقدَح لِمُخْمِدِها زَنْدُ
على الرغم من اعتراف النابغة بضعفه أمام الآخر وهو يخاطب المرأة، مقابل تأكيد البحتري لقوته وشجاعته التي قد تؤثر في امرأة هجرته، وتدفعها إلى الندم على فراقه.
ليست هذه القراءة معنية بإحصاء تناصّات البحتري على أي حال، لكنها هدفت منذ البداية إلى التأكيد على أننا أمام نصّ يتشكّل على وقع أصوات سابقة، تظلّ أصداؤها تتردّد بقوة وفاعلية، وتبرز انحياز البحتري للمتن الشعري العربي بصيغته التقليدية القارّة. وليس آخر هذه الأصوات زهير وحكمته الخالدة، أو مقارعات الصعاليك الليلية، لكن أبرزها بصمات طرفة بن العبد التي تطبع خاتمة نصّ البحتري، سواء عبر المستوى الصوتي باستخدام قافية الدال، أو عبر الموقف من الحياة، والشجاعة في مواجهة الموت. فإذا ما قرأنا قول البحتري:
    ذريني من ضَرْبِ القِداح على السُّرى،      فَعَزْميَ لا يَثْنيــهِ نَحْسٌ ولا سَعْدُ
    سأحملُ نفســـــي عند كلّ مُلمّة      على مِثلِ حدّ السّيف أخلَصَهُ الهِندُ
    فإن عشت مَحمـودا فمِثلي بَغَى الغِنَى     لِيَكسِبَ مـــالا، أو يُنثَّ له حمدُ
    وإن متُّ لـم أظفَر فليس على امرئٍ      غدا طالبا إلا تَقَصِّيـــهِ والجَهْدُ
استعادت أذهاننا فورا قول طرفة الخالد:
    ألا أيُّ هذا اللائمي أحضرَ الوغى     وأن أشهدَ اللذات هل أنت مُخلدي
    فإن كنتَ لا تسطيـعُ دفعَ منيّتي      فدعني أبــادرها بما ملكت يدي
كما استعادت معاني مشابهة عبر أبيات أخرى في المعلقة.
ربما كان البحتري ينطلق في هذه القصيدة من نقطة مركزية، هي هجر المحبوبة، ما يدفعه إلى أن يحاول جهده في القصيدة كلها أن يثبت خطأ قرارها بترك فارس مغوار ذي مكانة متميزة في القبيلة، ومعرفة بالصحراء وأسرارها، بل إنه صديق للحيوانات المفترسة التي يتجنّبها الناس عادة. وهو القادر على أن يقارع أشدّ الخطوب حلكة، ويخرج منها منتصرا، يؤكد ذلك انتصاره على الذئب بعد معركة شرسة خاضها بشجاعة وإقدام دون تردد. ورغم تفاخره الذي يملأ أطراف القصيدة تظلّ مسحة من الحزن والكآبة تَبرز في كثير من مفاصل النصّ، مظهرة حجم خسارته. ثم تظهر بوضوح في الخاتمة التي يغلّّفها ألم وخسارة لم يحلْ دونها الانتصار على الذئب، وهو انتصار كان حريّا به أن يملأ النفس بالنشوة والإحساس بالتفوق وتذوق طعم الانتصار.
تبدأ القصيدة بلوحة المرأة، وهي لوحة تُسْلمنا منذ الكلمة الأولى إلى الإحساس بمرارة الوداع:
    سلامٌ عليكم لا وفاءٌ ولا عَهدُ!     أَمَا لكُمُ مِن هَجر أحبــابكم بُدُّ
    أأحبابَنـا قد أنجز البينُ وَعْدَهُ     وشيكا، ولم يُنْجَزْ لنا منكمُ وَعْدُ
فتحية المحبوبة تكاد تكون تصريحا بالهجر، عوضا عن أن تكون تحية ابتداء، خاصة وهو يُتبع التحية بنفي الوفاء والالتزام بالعُهود عنها. لكنه سرعان ما يقطع خطاب الهجر والوداع ليستبدله بالتضرّع المقرون بالعتاب والأسى في الشطر الثاني من البيت نفسه. ثم يؤكد أساه وعتابه وحزنه في البيت الثاني الذي يبدأه مستخدما أداة نداء القريب، فعلى الرغم من البَيْن الذي قطع ما بينهما إلا أنّه يخاطبها بتأسّ وتودّد مستخدما لفظ (أحباب)، وهو منادى يتصل بالضمير (نا) الذي يدلّ على التصاق هؤلاء الأحباب بالمتكلم. هذا التأسّي والحزن والعتاب يبرزه ويوضّحه ما يلي صيغة النداء من ألفاظ تؤكد انقطاع الوصل دون تحقيق أي اتّصال حقيقي؛ فالبَيْن قد تمّ وأنجز بسرعة دون أن تفي المرأة بوعد واحد من وعودها، ما يشي بأنها  تتحمّل مسؤولية الفراق.
بعد ذلك يلتفت الشاعر إلى خطاب الأطلال عبر الإلحاح والتأكيد على استخدام صيغة نداء القريب، التي تظهر عمق تأثير بَيْن المحبوبة، ما يدفعه إلى التمسك بقربها، ولو كان ذلك عبر صيغ بناء التراكيب الفنية:
    أأطلالَ دارِ العــامريّـة باللِّوى      سَقَتْ رَبْعَكِ الأنواءُ مـا فَعَلَتْ هِنْدُ؟
    أدار اللِّوى بين الصَّريمةِ والحِمى     أما للهوى إلا رَسيسَ الجَوَى قَصْدُ؟
يدعو الشاعر للأطلال بأن تربو بماء الأنواء، وذلك خلال سؤاله إياها مستنكرا ما فعلته محبوبته من صرم وقطع. ويحيلنا نداء أطلال دار العامرية، وهي أطلال دار محبوبته التي أقدمت على فعل ما لا يستطيع تصديق حدوثه من انقطاع وهجر، يحيلنا إلى أجواء الحب العذري السامي، وإلى ليلى العامرية، ما يعطي إيحاء بعمق هذا الحب الذي مرّ به الشاعر. ثم يخاطب المكان بصيغة النداء نفسها، قبل أن يحدّده بدقة، في محاولة للقبض عليه عبر اللغة، وامتلاكه من خلال الكلمات، سلاحِه الوحيد في مواجهة الفراق والقطع الذي أقدمت عليه المحبوبة. وما يلبث أن يتساءل بالحرقة نفسها التي ظهرت في الأبيات السابقة: أما للهوى من قصد إلا هذه الحرقة الباقية؟ ألا يمكن أن يهوى من يهوى فيتحقق له الفرح والوصال؟ لماذا ينتهي العاشق دائما إلى هذا الألم؟. ومن ما يلفت في هذا البيت أن تتحدّد دار الحبيبة المفتقدة "بين الصَّريمةِ والحِمى"؛ بين مكان اشتق اسمه من الفعل (صرم)، بمعنى قطع بقوة وعنف، ومكان يحميه أصحابه لما فيه من خير، فهي حبيبة ممتنعة ممنوعة أولا وأخيرا، لا أمل يرجى من تحقيق الوصال معها، ما يدفع إلى أن يختم الشاعر لوحته بالاستسلام للحزن الذي يقود إلى الرقة في صياغة الكلمات:
    بنفسيَ مَنْ عذَّبْتُ نفســـي بِحُبِّهِ     وإن لم يكنْ منه وِصالٌ ولا وُدُّ
    حبيبٌ من الأحبـاب شَطَّتْ بِهِ النَّوَى     وأيُّ حبيبٍ ما أتى دونهُ البُعْدُ!
إذا كانت اللوحة تبدأ بالتصريح القاسي: لا وفاء لهذه المحبوبة ولا عهد، فإنها تنتهي بافتدائها بالنفس التي تعذّبت بحبّها، دون أن تحصل منها على أي نوع من أنواع الوصال. وهذا يدفع الشاعر إلى أن يلبس رداء الحكمة مؤكدا أنه ليس في الحب قرب دائم، فهو يتساءل معزيا نفسه: هل من حبيبين لم يحل البعد بينهما؟ وبذلك يتطهّر من حرقة الحب وآلامه، في سبيل المضيّ في هذه الرحلة الفنية عبر القصيدة إلى نهايتها. وهي رحلة تتخذ من المحبوبة منطلقا، وتتكئ على فراقها لتبني عالما جماليا شامخا.
تبدأ لوحة الفخر بالبيت السابع، دون أن تنقطع عن لوحة الذئب التي تتلوها في سبيل تأكيد الصفات التي اتخذها الشاعر لنفسه، وهي لوحة تشرع للحبيبة بابا واسعا على عالم مَن أحبّها وفارقته، ما يعطي الشاعر تعويضا عن خسارته، عبر تأكيده لها أنها هي التي خسرت فارسا لا يعوّض، ورجلا عزّ نظيره في هذه الدنيا: ظريف
    إذا جُزتَ صحـــراءَ الغُوَير مغرِّبا      وجازَتْكَ بطحاءُ السواجير يا سعدُ
    فقل لبنـــي الضحـاك مهلا فإنني     أنا الأفعوان الصِّلُّ والضَّيغَمُ الوَرْدُ
    بنـــي واصل مهلا فإنّ ابنَ أختكُم     لهُ عَزَمَاتٌ هزْلُ آرائهــــا جِدُّ
    متى هِجْتُموهُ لا تهيجوا سوى الرّدى     وإنْ كــانَ خِرْقا ما يُحلُّ له عَقْدُ
يفتخر الشاعر على بني الضحاك مستخدما ألفاظا صحراوية قاسية؛ فهو "الأفعوان الصِّلُّ والضَّيغَمُ الوَرْدُ": وبذلك يصف نفسه بالثعبان الداهية، والأسد الشجاع، كما أنه يتقصّد ذكر أماكن الصحراء وتحديدها بدقة تؤكد خبرته ومعرفته بتلك الصحراء وقسوتها، وذلك كلّه ليس ببعيد عن موقفه المتأزم من المحبوبة التي يريد أن يقول لها إنها قد أضاعت فرصة التقرب من فارس مهيب، له عزمٌ هزلُه جدّ، وإذا ما استفزّه مستفزّ فقد استفزّ الردى نفسه، رغم ظرفه وسماحته وكرمه. وكأنما يشير عبر ذكر الظرف والسماحة إلى صفات تحبّذ النساء توفّرها فيمن تحبّ، ناهيك عن صفاته الأخرى التي تجعل منه رجلا مثاليا لا يدانيه أحد في القوة أو النجدة أو السماحة أو المكانة.
نحن إذن أمام فارس فذّ، وهو محبّب إلى النفس أيضا. ويتابع وصف الذات الخارقة قائلا:
    مهيبا كنصل السيف لو قُذفتْ به     ذرى أجأ ظلّت وأعلامُـــهُ وَهْدُ
    يودُّ رجال أننـي كنتُ بعض مَن     طوتهُ المنايــا لا أروحُ ولا أغدو
    ولولا احتمـالـي ثِقْلَ كلّ مُلِمَّة     تسوءُ الأعادي لم يودُّوا الذي ودّوا
إنه مهيب يشبه نصل السيف في حدّته، وهو قاس شديد لو قُذف به جبل (أجأ) لسُوّي بالأرض. أما الرجال فيحسدونه ويتمنون لو كان قد قُتل أو مات، وذلك لاحتماله ثقل الملمّات، ومواجهته الأعداء، ما يجعله مقدّما عنهم لتميّزه.
ويكاد ما وراء الخطاب يتكشّف عبر قوله:
    ذريني وإيـاهم فحسبي صريـمتي     إذا الحرب لم يُقْدَح لِمُخْمِدِها زّنْدُ
    ولي صاحبٌ عضْبُ المضاربِ صارمٌ     طويلُ النجــادِ ما يُفَلُّ لهُ حدُّ
فبعد أن استعرض صفات الفارس المتميّز بين أقرانه في القبيلة، عاد يخاطب الحبيبة التي اعتقد أنه قد تطهّر من مشاعره نحوها في خاتمة لوحة الغزل، ومضى يؤكد لها عبر لوحة الفخر كل ما من شأنه أن يدفعها إلى الندم على فراقه. لكنّ حبّها الذي دفع بهذا البناء الفنيّ إلى الاكتمال، سواء عبر لوحة الغزل الممتلئة شجى وجوى وتأسيا، أو لوحة الفخر المتشبّعة بصفات البطولة الخارقة، وهي صفات ستتأكّد وتترسّخ خلال لوحة الذئب التي يشمخ فيها هذا الفارس، منتصرا على الطبيعة المتوحشة، بعد أن تفوّق على نظرائه من الفرسان. أقول: لكن حبّها ليس رداء يمكن خلعه، أو موقفا عابرا يمكن التخلّص من وطأته عبر نفث عبرات الحب أو الفخر، والتطهّر منها كأن لم تكن. إنه حبّ راسخ يدفع بالحبيبة إلى الظهور بكامل هيبتها خلال انطلاق الشاعر وحيدا، مكتفيا بما حدث له من (صريمة) على يد المحبوبة، قبل أن يقطع تميّزه على أقرانه أي وسيلة تعويض عن الفقد عبر الصداقة الإنسانية، فلم يعد له من صاحب مخلص إلا سيفه القاطع، وهذا ما سيجعله يمضي إلى التعمق في الصحراء ومواجهة وحوشها الكاسرة، بعد أن انقطعت حبال تواصله الإنسانية، مع المرأة أولا، ثم مع الأصدقاء الذين صاروا يودّون موته بعدما رأوا فيه من سمات التميز والتفوّق.
نحن إذن أمام خيبة شاعر يحسّ بالتوحّد والقلق، وهو يعرف قدراته التي تؤهّله للاندماج الاجتماعي، ولعب دور حاسم في الحياة. وانطلاقا من هذه المشاعر خاض غمار رحلته الصحراوية التي واجه فيها وحش الصحراء. ولا بدّ من التأكيد أننا لسنا هنا بصدد إثبات حقيقة هذه الرحلة وما جرى فيها من أحداث درامية، كل ما يعنينا هو الرحلة الفنية التي قام بها البحتري عبر اللغة، والتي تشكّل بديلا خالدا عن خسارات الشاعر الإنسانية والاجتماعية.
بعد أن قدّم الشاعر ما قدّم من صورة ناصعة لفروسيته عبر لوحة الفخر، بدأ يتصوّر أن حبيبته قد تندّمت على فراقه، فما وجدت حيلة إلا البكاء تشكو عبره هذا الفراق بدموع غزيرة، تتساقط بحزن دفعه إلى أن يهدئ من روعها، طالبا منها ألا تحزن لبين رجل ذي همة وطموح إلى العلياء، ليس له ندٌّ أو نظير بين الرجال. ولعله يخاطب بهذا نفسه التي عزّ عليها مفارقة المحبوبة التي هجرته، فلم يجد ما يعزّيها به إلا ما ظل الشاعر العربي يعزّي به نفسه ورفيقته منذ أن بدأت رحلة القصيدة الجاهلية: لا تحزني للفراق، فأنا بصدد الرحيل في سبيل تحقيق المجد والرفعة:
    وبــاكيةٍ تشكو الفِرَاقَ بأدمُعٍ     تُبادِرُها سَحَّا، كما انتشر العِقْدُ
    رَشادَكِ لا يحْزُنْكِ بَيْنُ ابن هِمَّةٍ     يتوقُ إلى العليـاء ليس لهُ ندُّ
لكنّ الشاعر لا يترك هذه المعادلة التقليدية في القصيدة العربية دون إضافة، إن الخسارة التي دفعته إلى التأمّل والتجربة وخوض غمار الرحلة القاسية تقوده إلى الكشف:
    فَمَنْ كان حرّا فهو للعزمِ والسُّرى     وللّيل من أفعالهِ والكَرَى عبدُ
إذا كان الفارس حُرّا، فإن حرّيته في الحقيقة ليست سوى وهم؛ فمع مرور الأيام والليالي وهو على قيد مغامرته التي تجلب له المكانة والسموّ، يتحوّل إلى عبد للعزم والسُّرى، ولليل والسهر. فهو يحمل عبئا ثقيلا لا يمكنه التخلّص منه، لا يمكنه أن يرضى بما يرضى به عامة الناس، لأن الناس لن يقبلوا منه إلا الخارق والعظيم.
وسرعان ما يمضي الشاعر وقد استراح لهذه النتيجة إلى اللوحة الثالثة، التي يصف فيها ليلة من لياليه الصحراوية، قضاها حتى آخرها ساهرا، يترقّبُه ذئب هاجع، أصابه شيء من النعاس وهو ينتظر أن يغفو غريمه دون جدوى، وقد ظلّ ينظر إليه بعين ابن ليل خبير بكائنات الصحراء، ينتظر لحظة غفلة من صيده حتى ينقضّ عليه:
    وليلٍ كأنّ الصُّبْحَ في أخرَياتِـهِ     حُشـاشَةُ نَصْلٍ ضمَّ إفْرنده غِمْدُ
    تسرْبَلْتُهُ والذئبُ وَسْنانُ هاجعٌ      بعينِ ابن ليلٍ ما لهُ بالكرى عَهْدُ
    أثيرُ القطا الكُدْرِيَّ عن جَثَماتِهِ      وتألَفُنــي فيهِ الثّعـالبُ والرُّبْدُ
يكتبُ الشاعر هذه اللوحة بريشة فنان يرسم مشهدا صامتا سرعان ما تدبّ فيه الحركة، فبعد الترقّب توثّب فانقضاض فتلاحم فسقوط وموت. وهو يبدأ بذكر الليل الذي أمسى سربالا يغطي جسده، ما يؤكّد توحّده واندغامه الكلّي بليل الصحراء الذي لم يعد فيه ما يخيف، بل إنه ليدعو إلى التأمّل والتفكّر بتشكّله البطيء، ثم انجلائه عن الصبح رويدا رويدا. ولولا ترقّب عدوّ ينتظر لحظة غفلة لينقضّ ما كانت صورة تشكّل الصبح آخر الليل تستدعي ذكر أداة من أدوات القتل هي السيف، على الرغم من أنّ هذا السيف، رفيق الشاعر الوحيد في رحلته الليلية، ما زال يهجع في حضن غمده، لكنه على أهبة الاستعداد في أي لحظة لأن يظهر لمعانه، كما أنّ الصبح يتشكّل منذ خيوط الفجر قبل أن ينشقّ ويتكشّف. وبعد أن يُعرّج على الطرف المقابل، شريكه في بناء هذا المشهد الدرامي، واصفا كمونه ونعاسه، مشيرا إلى اندغامه هو الآخر في الليل الذي صار له أبا حاميا، ينفذُ إلى تفاصيل المشهد الذي يحيط به وبغريمه في هذا الترقّب المثير: فإذا ما صدرت عنه نأمَة أو حركة خفيفة أثيرت طيورُ القطا السوداء عن مراقدها، أما الثعالب وكائنات الصحراء المفترسة فقد أمست تتعايش معه، بعد أن صار وجوده مألوفا في موطنها القاسي. ومن ما يلفت في مكونات هذا المشهد الليلي أنّ كائناته يسمُها لون الليل القاتم، فالقطا كُدريٌّ أسود مغبرّ، والكائنات الأخرى رُبدٌ مسودّة، أما الذئب الذي سيواجهه فهو أطلس؛ أغبرٌ مسودّ. ولعلّ في ذلك ما يشير إلى أحاسيس الشاعر التي تسمُها قتامة البين والفراق عمّن أحبّ.
ثم يترك مكونات المشهد المحيط ليسلّط ضوءا ساطعا على الذئب، غريمه الأغبر القاسي:
    وأَطْلَسَ مِلْءَ العيـن يحملُ زَوْرَه     وأضلاعَـهُ من جانبيهِ شَوَى نَهْدُ
    لهُ ذنبٌ مِثلُ الرِّشــاءِ يجــرُّهُ     ومَتْنٌ كمتـن القوس أعوَجُ مُنْأدُّ
    طواه الطَّوَى حتى استمرَّ مرِيـرُهُ     فما فيهِ إلا العَظْمُ والروح والجِلْدُ
    يقضْقِض عُصْلا في أسِرَّتِها الرَّدى     كقضقَضَةِ المقْرُور أَرْعَدَهُ البرْدُ
نحن أمام لوحة ذئبٍ يرسمها فنان محترف، تنفذ إلى التفاصيل الجسدية والنفسية الدقيقة، لكنها تستبدل الخطوط والألوان بالكلمات والإيقاعات. إنّه ذئب أغبر يميل إلى السواد، يملأ العين بضخامته، ويرتفع صدره وأضلاعه على أطراف بارزة قوية. وله ذنب طويل يجرّه خلفه يشبه حبل الدلو، أما ظهره فمقوَّس معوجّ، فيه انحناءة القوس وقوّتها. وهذا الذئب قد استحكمت عزيمته وقويت لشدة الجوع الذي لم يترك فيه ما يعيق حركته، فما بقي إلا عظم صلب عريض، وجلد أغبر قاس، وروح تشدّها رغبة البقاء إلى التقدّم. وهو قد بدأ معركة بقائه بقضقضة أنيابه الصلبة المعوجّة، التي يشبه تقضقضها اصطكاك أسنان المرتعش من شدة البرد، وشتان ما بين حركة أسنان المقرور المرتعد التي تشير إلى ضعف، وطقطقة أنياب ذئب جائع مصمّم على القتل في سبيل الحياة، يذكّر صوتها بصوت تكسّر العظام، فهي أنياب يقيم الرّدى في خطوطها المخيفة.
بعد أن ركّز عدسة تصويره الماهرة على الطرف الأول، الطرف الذي ترسّخت في الأذهان صورة مرعبة لقوته وشدة فتكه، مشيرا إلى حاله البائسة نفسيا وجسديا، والتي تظهر في ذكر جوعه، وارتباكه الذي تؤشّر عليه قضقضة الأنياب، على الرغم من أنّها تحمل للطرف الآخر الرعب وترقّب الموت المحتّم، أقول: بعد أن فعل ذلك، وكما يتصرّف مصوّر سينمائي محترف، تحوّل بعدسته إلى الطرف الآخر، مشيرا إلى البيداء القاسية في خلفية المشهد:
    سَمَا لِي وبِي من شدّةِ الجوعِ ما بِهِ      بِبَيْداءَ لمْ تُحْسَسْ بها عِيشةٌ رَغْدُ
    كِلانا بهـــا ذئبٌ يُحَدِّثُ نفسَــهُ     بِصاحِبِه، والجَدُّ يُتْعِسُـــهُ الجَدُّ
لقد التقى ذئبان جائعان؛ الذئب الإنسان، والذئب الحيوان في صحراء لا أثر للعيشة الهنيئة الرغدة فيها، كلّ ما يمكن أن يمرّ بقاطنيها هو الألم والجوع، والصراع الذي يستمرّ على إثره طرف عبر التغذّي من لحم غريمه، فقتل الآخر هو الوسيلة الوحيدة للنجاة. وحسن حظ أحدهما لا يعني إلا سوء حظ الثاني في هذه المعركة التي لا تنتهي إلا بموت هذا ونجاة ذاك.  
وسرعان ما تصاعدت درامية المشهد، فمضى شاعرنا يصوّر أدق تفاصيل المعركة:
    عَوَى ثُمَّ أَقْعَى، وارْتَجَزْتُ فَهِجْتُــهُ،     فأقبلَ مثلَ البرقِ يتبَعُــهُ الرَّعْدُ
    فَأَوْجَرْتُهُ خَرْقـــاءَ تَحْسِبُ ريشَها     علـى كوكبٍ يَنْقَضُّ والليلُ مُسْوَدًُّ
    فما ازداد إلا جُرْأةً وصــــرامةً،     وأَيْقَنْتُ أنَّ الأمر منهُ هو الجــدُّ
    فأتْبَعْتُهـا أخرى فأَضْلَلْتُ نَصْلَهــا      بِحيثُ يكون اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ
    فَخَرَّ وقد أورَدْتُـــهُ مَنْهَلَ الرَّدَى      علـــى ظَمَأٍ لو أَنَّهُ عَذُبَ الوِرْدُ
بدأ الذئب بإصدار صوته المرعب معلنا عن وجوده وإصراره على البقاء، ثم قعد على مؤخّره مستعدّا للوثوب، أما الرجل فبدأ ينشد الرجز محمّسا نفسه، أو أنّه بدأ إصدار أصوات متتابعة مرتفعة ليخيف غريمه، ما أهاج الذئب الذي هجم بسرعة خاطفة، ناشرا من حوله أصواتا مرعبة عبر عوائه المختلط بتحرّكه القويّ السريع، فما كان من الرجل إلا أن أطلق سهما قويا انغرز في جلد الذئب القاتم، لكن إصابته بهذه الطعنة السريعة لم تثنه عن عزمه، بل زادته جرأة وصرامة وانقضاضا في تقدّمه، ما جعل الرجل يغرز نصل سيفه أو رمحه في قلب الذئب الذي خرّ قتيلا بعد أن صمّم على أن يرد مورد الموت.
لكنّ الرجل لم يكتف بقتل غريمه، كان لا بدّ له من تأكيد ذئبيته بتناول شيء من لحمه، وربما كان أكل لحم الذئب سببه شدة الجوع حسب:
    وقُمْتُ فجَمَّعْتُ الحَصى واشْتَوَيْتُهُ     عليه وللرَّمْضـاء مِنْ تَحْتِهِ وَقْدُ
    وَنِلْتُ خَسيــسا منهُ، ثمَّ تركتُهُ      وأقْلَعْتُ عنـهُ وهو مُنْعَفِرٌ فَرْدُ
    لقد حَكَمَت فينا الليالي بِجَوْرِهـا      وحُكمُ بنات الدهر ليس له قَصْدُ
لقد انتهى هذا المشهد الدراميّ الصاخب إلى أن قام الرجل بإشعال النار، ليشوي شيئا قليلا من لحم الذئب القاسي، لكن رمل الصحراء كان يتّقد من تحته أصلا. وبعد أن تذوّقه تركه متعفّرا بالتراب ومضى. وكان تعليقه على ما حدث أنّ حكم الدهر جائر، وألا عدل على هذه البسيطة.
ربما قاد هذا التعليق إلى الاعتقاد أنّ الشاعر ليس معنيا بالصحراء وحيواناتها، إنّه يتّخذها قناعا للحديث عن العلاقات الذئبية التي تسم مجتمع المدينة، بغداد وسامراء خاصة، على المستوى الثقافي والسياسي، حيث التنافس للحصول على المكانة الأدبية من جهة، وتنافس الأمراء العباسيين في العصر العباسي الثاني للوصول إلى كرسي الحكم. فالشاعر الذي غادر مجتمعا بسيطا في بيئة أقرب إلى البداوة، تسمه العلاقات البريئة المجرّدة من الأغراض والنفعية يصدمه ما يرى في مجتمع العراق من تحارب وتنافس على السلطة، يصل حدّ تخلّص الأخ من أخيه، والابن من أبيه، فلا يجد إلا فنّه الشعري وسيلة للتعبير عن مشاعره المتضاربة، متكئا على معارفه الصحراوية التي اكتسبها في صباه وشبابه، ليبني هذا النصّ المدهش والمتقدم فنيا، خاصة في نزعته الدرامية التي صوّر عبرها مشهد الذئب خاصة بأدقّ تفاصيله ومفرداته.
من جهة أخرى ليس هذا التعليق الذي يؤكّد أنّ سمة هذه الحياة هي الجور والظلم بعيدا عن موقف الحبيبة التي اختارت فراق الشاعر، وهو مَن هو في فروسيته ونجدته وكرمه ومقارعته الأعداء ووحوش الصحراء، وربما كان ذلك لصالح وغد لئيم لا يستحقها، ما دفعه إلى أن يتساءل عبر الجزء الأخير من قصيدته، الجزء الذي يخصّصه ليبّث عبره خلاصة تجربته: هل من العدل أن يشقى الكريم في هذه الحياة، ويأخذ اللئيم من الأيام الصفو والسعادة:
    أفي العدلِ أنْ يشقى الكريـم بِجَوْرِها؛     ويأخُذَ منهـا صَفْوَها القُعْدُدُ الوَغْدُ؟
    ذرينـي من ضَرْبِ القِداح على السُّرى     فَعَزْميَ لا يَثْنيــهِ نَحْسٌ ولا سَعْدُ!
    سأحملُ نفســـــي عند كلّ مُلمّة     على مِثلِ حدّ السّـيف أخلَصَهُ الهِندُ
    لِيَعْلَمَ مَنْ هــابَ السُّرى خشية الرَّدى     بأنَّ قَضـــــاءَ اللهِ ليس له ردُّ
    فإن عشتُ مَحمـودا فمِثلي بَغَى الغِنَى     لِيَكسِبَ مـــالا أو يُنثَّ لـه حمدُ
    وإن متُّ لـم أظفَر فليس علـى امرئٍ     غدا طالبا إلا تَقَصِّيــــهِ والجَهْد
لا عدل إذن في هذه الحياة القاسية الجائرة التي يشقى فيها الكريم، ويكسب منها اللئيم النذل. ورغم ذلك فإنه مصمّم على خوض مقارعة الخطوب مهما كانت النتيجة، فعزمه لن يلين أبدا، وهو مقدم إقدام حدّ السيف الحسن الصنع إذا ما أشهر، فهو يعرف أنّ قضاء الله لا يردّ، ولن يسلم منه الجبان الذي أقعدته عن محاولة الحصول على المجد خشية الموت. وإذا لم يتمكن من الحصول على ما ينشد في هذه الحياة من مال أو ثناء فيكفيه شرف المحاولة.

هناك 4 تعليقات:

النور المميز يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
النور المميز يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
النور المميز يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
النور المميز يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...