السبت، 20 يناير 2018



النحو العربي ودوره في تدريس اللغة العربية وفهم نظامها
الأستاذ الدكتور علي أحمد مدكور
عميد كلية التربية جامعة السلطان قابوس

مقدمة:

اللغة قدر الإنسان. فلغة الإنسان هي عالمه. وحدود لغة الإنسان هي حدود عالمه. فهي ولاء وانتماء، وثقافة وهوية، ووطن وشخصية.

فاللغة هي الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله، والفكر الذي يدور فينا وحولنا. فهي تحمل المجتمع في جوفها، وتعبر عن ضميره، وتشكل حياته، وتوجه سلوك أفراده، وجماعاته، ونظمه ومؤسساته.

واللغة هي الأم التي تنسج شبكة الوفاق بين أفراد المجتمع وجماعاته، ونظمه ومؤسساته، وقيمه ومعتقداته. فلا وفاق بدون لغة. ولا مجتمع بدون وفاق.

وكما تسهم اللغة في صياغة المجتمع، فإن المجتمع يسهم بدوره في صياغتها وتطويرها. فالجماعة الناطقة باللغة هي التي تهب الألفاظ معانيها، وتشتق من المفردات ما يعبر عن مستحدثاتها ومراميها.

واللغة منهج للتفكير، ونظام للاتصال والتعبير. فثقافة كل مجتمع كامنة في لغته، وفي معجمها، ونحوها، وصرفها، ونصوصها، وفنها، وأدبها.. فلا حضارة إنسانية دون نهضة لغوية.

أزمة العربية في بلادها:

اللغة العربية أهم مقومات الثقافة الإسلامية. وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطاً بعقيدة الأمة وهويتها وشخصيتها. لذلك صمدت أكثر من سبعة عشر قرناً سجلاً أميناً لحضارة أمتها وازدهارها،. وشاهداً على إبداع أبنائها وهم يقودون ركب الحضارة التي سادت الأرض حوالي تسعة قرون.

وفي اللغة العربية ذاتها سمات تميزها. من أهم هذه السمات قدرتها الفائقة على حساسية التواصل، فاللغة العربية لغة غنية ودقيقة إلى حد كبير. فقد استوعبت التراثين العربي والإسلامي، كما استوعبت ما نقل إليها من تراث الأمم والشعوب ذات الحضارة القديمة كالفارسية واليونانية والرومانية والمصرية.. إلخ. كما نقلت إلى البشرية في فترة ما، أسس الحضارة وعوامل التقدم في العلوم الطبيعية والرياضيات والطب والفلك والموسيقى. وما تزال تنقل إلى العالم اليوم العقيدة الشاملة ممثلة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالقرآن نزل بلسان عربي مبين. وهذه حقائق يجب ترسيخها في عقول الناشئة، كما ينبغي أن تكون أهدافا ثابتة لعلوم اللغة والأدب والفنون خاصة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية عامة.

وهي لغة موسيقية شاعرة. فإذا تكلم ذو بيان فإنك تطرب لسماعها، وتفهم بيانها، وترتاح لمعانيها وأصواتها. وهي بهذا الجرس والرنين منحت العربي التفوق في الأداء كلاماً وكتابة، وغناء وشعراً على وزن وقافية. لذلك يجب التركيز في مناهج تعليمها على تدريب المتعلم على التذوق الأدبي والفني، وعلى الإحساس بالجمال في الأداء اللغوي، وعلى حسن الإلقاء.

وهي لغة متميزة من الناحية الصوتية؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات في اللغات السامية. وأصواتها تستغرق كل جهاز النطق عند الإنسان، ابتداء بما بين الشفتين في نطق حروف كالباء والميم والفاء، وانتهاء، بجوف الناطق في حروف كالألف والواو والياء.(1)، لذلك فإن تدريب الأبناء على إخراج الحروف من مخارجها، ونطق الأصوات بطريقة سليمة، يعتبر هدفاً من أهم أهداف مناهج تعليم اللغة العربية.

وبالرغم من تميز اللغة العربية، إلا أننا نعيش أزمة لغوية طاحنة، هي – في الواقع – دليل على انتكاسة الأمة وتبعيتها، وتخلفها عن الركب. ويرجع نبيل علي أسباب الأزمة إلى عوامل كثيرة من أهمها:

1. عدم إلمام الكثيرين لدينا بجوانب إشكالية اللغة؛ حيث يقتصر تناولها في أغلب الأحوال على الجوانب التعليمية، والمصطلحية، خوفاً من الخوض في دراسة علاقة اللغة العربية بالدين والسياسة القومية والوطنية.

2. قصور العتاد لمعظم منظرينا اللغويين. وخاصة بعد أن أصبحت اللغة ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي، والعلمي، والتربوي، والفني، والإعلامي، والتقاني.

3. خطأ التشخيص لدائنا اللغوي. حيث يوجه الاتهام إلى إدانة اللغة العربية ذاتها، تحت زعم أن هذه اللغة الإنسانية العظيمة تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر!

4. الابتعاد عن السبب الحقيقي وراء ذلك، وهو العولمة الاقتصادية. وانبهار الجماهير العربية بثقافة الغرب ولغاتها، وتدهور اهتمام الجماهير باللغة العربية، وعدم اعتزازهم بها. وإلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة والجامعات الخاصة، التي تعلم باللغات الأجنبية، والافتخارُ بذلك واعتبارُه نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، ودليلاً على التقدم الحضاري !!! وهنا تقوم اللغة العربية دليلاً شاهداً على الانتكاسة الثقافية للأمة في الوقت الحاضر.

5. غياب إرادة الإصلاح اللغوي. إننا نعاني من أزمة لغوية حادة تلطخ جبيننا الحضاري. وجاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى الأمة بعداً جديداً، يتعلق بضرورة معالجة اللغة العربية آلياً بواسطة الحاسوب.(2) ومع ذلك فحركات التعريب تواجه معارضة شديدة بعد أن سارت شوطاً لا بأس به من قبل. والحكومات عاجزة، أو فلنقل بصراحة غير راغبة في فرض تشريع ملزم بعدم استخدام اللغات الأجنبية في التعليم، وفي لافتات المحلات، وغير راغبة في أن تقتدي حتى بإسرائيل التي تحرم استخدام المصطلح الأجنبي الذي يتم إقرار مقابل له باللغة العبرية .. ووصل بهم الأمر إلى أنهم يعلمون أبناء العرب اللغة العربية باللغة العبرية!

6. عولمة تعليمنا، بحيث لا تعكس سياساته، ومفاهيمه، وسلوك مدرسيه، وأداء طلابه، ما للغة الأم من أهمية. فالاهتمام باللغة العربية لا يتم إلا من خلال المقرر الخاص بها! وأما المقررات الأخرى فهي حرة طليقة من قيود العربية والالتزام بها. وفي مقرر اللغة العربية ذاته، يتم اختزال العربية في النحو. ويتم اختزال النحو في إعراب أواخر الكلم! ويصل الأمر إلى حد الإبكاء عندما تعلم اللغة العربية من قبل المدرسين باللهجات العامية! ... وهكذا لم يثمر التعليم العربي – في الواقع- إلا مزيداً من عزوف الطلاب عن مداومة تعلم لغتهم الأم، وتذوق مآثرها!

7. التعليم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام والعالي، بالرغم من الحقيقة العلمية التي أجمع عليها الباحثون واللغويون، وهي أن التعليم بغير اللغة الأم يغلق مفاتيح الفكر، ويعوق عملية الإبداع والابتكار لدى المتعلمين، إلا أن المخططين للسياسة التعليمية قد صموا آذانهم – رغم الاعتراضات المتكررة في كل الندوات والمؤتمرات – عن سماع ذلك. وسمحوا بإنشاء المدارس التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام وهو الأمر المحرم لدى الدول المتقدمة. كما سمحوا بفتح الشعب والأقسام التي تعلم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العالي. غير ناظرين إلى التجربة المصرية القديمة التي كانت تعلم الطب باللغة العربية، وخرجت الأفذاذ النادرين الذين لا يثق معظم الناس إلا بطبهم وعلمهم. وغير مهتمين بالتجربة السورية الرائعة السائدة حاليا!

ولقد أدى الاهتمام بالتعليم باللغات الأجنبية إلى إهمال حركة التعريب بل وإلى معارضته من قبل كثيرين من الأكاديميين، بل ومن بعض رواد الحداثة وما بعدها!.

إننا بحاجة إلى إثارة وعي القيادات السياسية في الوطن العربي بخطورة المشكلة اللغوية. التي هي من الخطورة والأهمية بحيث يصعب علاجها أو تناولها من دون إستراتيجية واضحة للإصلاح اللغوي الشامل، وذلك في إطار خطة قومية أكثر شمولا لإعداد الأقطار العربية للدخول إلى عصر المعلومات والمعرفة.(3)
إن رسم الخطة القومية سالفة الذكر يتطلب الإجابة عن الأسئلة الآتية:

كيف نهيئ لغتنا العربية لمطالبة عصر المعلومات؟

كيف نبعث الحياة في كيان هذه اللغة العظيمة تنظيرا، وتعليما، واستخداما؟

كيف نحررها من احتكارية بعض المتخصصين فيها الذين يدورون حولها ولا يردون حوضها؟

كيف نخرجها من دائرة اهتمام المتخصصين فقط إلى الدائرة الأوسع والأشمل. وخاصة بعد أن صار علم اللغة الحديث يستند – فيما يستند - إلى الرياضيات، والهندسة، والإحصاء، والمنطق، والبيولوجي، والفسيولوجي، والسوسيولوجي، وأخيراً علم الحاسوب ونظم المعلومات؟

كيف نهتم بالمعالجة الآلية للغة العربية، ونعرّب نظم التشغيل، وننتج لغات برمجة عربية، ونستعد للدخول إلى عصر الترجمة الآلية عن طريق اللغة العربية. (4)

إن التقاعس في هذه الأمور في غاية الخطورة؛ حيث إن إسرائيل قد تقدمت إلى منظمة الوحدة الأوروبية لتطوير نظم الترجمة الآلية من لغات دول السوق إلى اللغة العربية (لا العبرية)؛ وذلك حتى تتأهل لدخول الأسواق العربية من هذا الباب، وحتى تستطيع النفاذ المباشر إلى التفاصيل الفنية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات، والاحتفاظ بالأسرار التكنولوجية الدقيقة لتعريب نظم المعلومات. فإذا سمحنا لإسرائيل أن تتولى نيابة عنا مهمة معالجة اللغة العربية آلياً، فعندئذ تكون قد حلت بنا كارثة ثقافية كبرى.(5)

ضرورة تعليم الناشئة مبادئ البرمجة:

إن نظم التشغيل تتعامل حاليا مع اللغة العربية مثلها مثل غيرها من اللغات الأخرى على مستوى عنصر الحرف . لكن مع تقدم نظم التشغيل الآتي لا محالة، سوف ترتقي هذه النظم للتعامل مع الكلمة العربية، أي على المستوى الصرفي، ثم مع الجملة العربية؛ أي المستوى النحوي. لكن هذا يحتاج إلى جهود المستثمرين، ومساهمة الباحثين والخبراء والمطورين؛ لأن شركات المايكروسوفت الأجنبية ليس لديها الدافع للإنفاق على اللغة العربية، وليس لديها الخبراء في هذه اللغة أيضاً. لذا يحتاج الأمر إلى جهود المخلصين من أبناء الوطن العربي في كل هذه المجالات.

كما أننا في أمس الحاجة إلى أن نعلم صغارنا مبادئ البرمجة باللغة العربية؛ نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين البرمجة والفكر من جانب، وبين الفكر واللغة من جانب آخر. وقد عربت لغات سهلة للصغار مثل لغة "اللجو" ولغة "البيسك" إلا أن جهود التعريب قد توقفت – للأسف – هي الأخرى، في ظل غياب الحماس للتعريب عموماً إضافة إلى أسباب أخرى.

النحو منهج للتفكير ونظام للتعبير والاتصال :

ولكن أين موقع النحو من كل هذا؟ وما دوره في تدريس العربية وحفظ نظامها؟

إن الغاية من تدريس النحو إرساء النظام اللغوي في الذهن، وإقامة اللسان، وتجنب اللحن في الكلام؛ فإن تحدث المتعلم أو قرأ أو كتب كان واضح المعنى، مستقيم العبارة، جميل الأسلوب.

إن تعلم اللغة العربية إنما هو عملية ذهنية واعية لاكتساب السيطرة على الأنماط الصوتية والنحوية والمعجمية، من خلال دراسة هذه الأنماط وتحليلها بوصفها محتوى معرفياً. فتعلم اللغة يستند إلى الفهم الواعي لنظام اللغة كشروط لإتقانها. فالكفاية المعرفية سابقة على الأداء اللغوي وشرط لحدوثه.(6)
النظريات اللغوية وموقفها من النحو:

لكن تدريس النحو قد خضع لنظريات لغوية حددت موقفها عبر التاريخ.

إن النحو العربي من حيث محتواه وطرائق تدريسه ـ كما يعلم عندنا ـ ليس علماً لتربية الملكة اللسانية العربية، وإنما هو علم تعليم وتعلم صناعة القواعد النحوية! وقد أدى هذا مع مرور الزمن، إلى النفور من دارسته، وإلى ضعف الناشئة في اللغة ذاتها.

إن جوهر المشكلة ليس في اللغة ذاتها، إنما هو في كوننا نتعلم العربية قواعد صنعة، وإجراءات تلقينية، وقوالب صماء، نتجرعها تجرعاً عقيما، بدلا من تعلمها لسان أمة، ولغة حياة.(7)

إنه لا يمكن فهم دور النحو في تدريس اللغة العربية، دون فهم النظريات التي تفسر نظام اللغة، وتحكم طرائق تعليمها وتعلمها على مر العصور.

ويمكن القول ـ بصفة عامة ـ إن تفسيرَ نظام اللغة وطريقةَ تعليمها وتعلمها، والوقوفَ على دور النحو في ذلك، قد مر عبر العصور من خلال ثلاث نظريات رئيسية هي :

النظرية البنيوية

والنظرية السلوكية

والنظرية المعرفية

وسنعرض لكل نظرية من هذه النظريات، ولدور النحو فيها من حيث المبنى والمعنى والتعليم والتعلم فيما يأتي من هذه الورقة.

النظرية البنيوية

يرى الباحث أن "البنيوية" اسم حديث نسبياً لطروحات قديمة. بدأها الإمام عبدالقاهر الجرجاني ـ المتوفى سنة 471هـ ـ فيما يسمى بنظرية "النظم" التي تناولها بالتفصيل في كتابه: دلائل الإعجاز. ثم أعاد طرحها ـ بشكل أو بآخر ـ دي سوسير تحت اسم "البنيوية". ثم أعاد الحديث عنها تشومسكي في الستينات من القرن العشرين تحت اسم النظرية "التحويلية التوليدية" أو "النحو التوليدي"، الذي ظن كثير من الباحثين أنها ثورة في كيفية تعلم اللغة غير مسبوقة!

البنيوية بين عبدالقاهر

ودي سوسير وتشومسكي

نظرية النظم عند عبدالقاهر:

اهتم السابقون على الإمام عبدالقاهر الجرجاني بالألفاظ وجعلوا لها شأنا كبيرا في تحقيق بلاغة الكلام. ورفض عبدالقاهر ذلك بشدة، على اعتبار أن الألفاظ عنده تابعة للمعاني، وأنه "لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ؛ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها. إن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق. (8)

فالإعجاز في النص القرآني أو النص الأدبي البليغ عند عبدالقاهر لا يكمن في الألفاظ بالدرجة الأولى، وإنما يكمن في الأفكار. فطريقة بناء الفكرة وترتيبها وإخراجها هي أساس البلاغة. والبلاغة التي ترجع إلى الفكر أكثر من اللفظ تجعل لغتها عالمية، يستمتع بها أصحاب اللغات الأخرى حين تترجم لهم. فلن يستمتع غير العربي ـ مثلا ـ بنص عربي يترجم له، إذا كان كل ما يميزه هو مجموعة من الألفاظ العربية الجميلة لأن الترجمة لن تستطيع مهما بلغت دقتها نقل جمال الألفاظ العربية، وإنما يستمتع حيث يكون النص ذا قيمة فكرية. (9)

إن النَّظْم عند عبدالقاهر ذو مستويين: مستوى فكري نفسي، ومستوى لفظي صوتي، والأول هو الذي يستدعي الثاني ويؤلفه، وليس العكس. فهو يربط بين البلاغة - باعتبارها فناً قولياً - وبين الفنون الجميلة الأخرى، مثل الرسم والنحت والتصوير والنقش. ويرى أن الفنان هو الذي يهب المادة الخام وجوداً جديداً، فقد يتناول اثنان قطعة من الحجر، فيشكل واحد منهما من هذه المادة تمثالاً رائع الدقة والجمال، يكاد ينطق بالمعاني التي أودعها فيه الفنان، في حين يصنع منها الآخر مسخا مشوها لا يعبر عن شيء. وهنا تجد الفارق كبيراً بين الصورتين مع أنهما في الأصل من مادة واحدة. وكذلك الحال بين الشاعر والشاعر الآخر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي هي محصول النَّظْم (10)

والعمل البلاغي الجميل في نظرية عبدالقاهر لا يمكن الفصل فيه بين الشكل والمضمون. ولا يمكن النظر فيه إلى كل جزئية على حده. ولكنه يجب النظر إليه باعتباره كلاً متماسكاً. فالنظم من النظام. فلو أخذنا مثلا جزءاً من التمثال الجميل كأنف التمثال، وفصلناه عن بقية الجسم، فإنه لا يمكن الحكم عليه بالجمال أو عدمه، إنما يحكم عليه بموضعه من التمثال وتناسقه معه.

كذلك الأمر في الفن القولي؛ فالنَّظْم أن تكون كل جزئية فيه في خدمة النظام العام. وأن تكون كل جزئية في مكانها من التعبير تقديماً أو توسطاً أو تأخيراً. وأن تكون هناك علة وسبب يقتضي وضع كل جزئية في مكانها، حتى لو وضعت جزئية في غير مكانها لاختل النَّظْم. وهذا لا يمكن أن تحققه الألفاظ ولا غرابة الكلمات ولا خفتها، وإنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات، وموافقة هذه المعاني النفسية.

فالنظم إذن عند عبدالقاهر هو إدراك المعاني النحوية والملاءمة بينها وبين المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. أو بمعنى آخر: هو إدراك المعاني النحوية، واستغلال هذا الإدراك في حسن الاختيار والتأليف. (11)

وليس المقصود بالمعاني النحوية هنا المعنى الشائع للنحو، الذي هو إعراب أواخر الكلام، ونطق الكلام حسب القواعد الإعرابية. وإنما المقصود بقية القرائن النحوية من الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والابتداء والإخبار. فتنظر في وجوه كل باب وفروقه. فتعرف لكل حال موضعها. وتجيء بها حيث ينبغي لها، وتوضع في معناها الخاص الذي يلائم المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. فالاسم ، أي اسم، قد تجيء به فاعلا مرة، وقد تجيء به مفعولا مرة أخرى، وقد تقدمه مرة ثالثة، وقد تؤخره مرة رابعة، لأنه يدل على معنى نفسي خاص في نظم الكلام وتركيبه في كل حالة. فهناك فوارق ـ مثلا ـ بين أن تقول : زيد ينطلق وينطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد ... وهناك فوارق في وجوه الشرط والجزاء ـ مثلا ـ بين أن تقول : إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، .. وكذلك الأمر في الحال، وفي الفاعل والمفعول .. إلخ

إذن لكي يتحقق النَّظْم لا يكتفى بالإدراك الواعي للمعاني النحوية، بل لابد من إدراك كيفية استغلال هذه المعاني في بناء العبارة ونسجها، فبناء العبارة ونسجها عند عبدالقاهر- يتطلب أمرين: الأول الاختيار والثاني التأليف. أما الاختيار فيراد به اختيار الكلمة المناسبة للمعنى النفسي لدى الأديب. وهنا ينبغي إدراك أنه حتى في المترادفات، هناك كلمة أفضل من كلمة في سياق معين، بينما الأخرى قد تكون هي الأفضل في سياق آخر. أما التأليف فيراد به وضع كل كلمة في مكانها المناسب من العبارة وفقا لمعناها النحوي؛ فوضع الكلمة موضع الابتداء يختلف عن وضعها موضع الإخبار. ومجيء الخبر مقدما يختلف عن مجيئه في موضعه مؤخراً. ومجيء المفعول مقدماً على الفعل والفاعل يختلف عن مجيئه في موضعه بعدهما .. وهكذا .. فالعبرة بمدى وفاء الكلمة للمعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه.(12)

اللغويون المحدثون:

وقد حاول الباحثون ـ على نحو ما فعل عبدالقاهر ـ بناء ماسماه بنظرية إسلامية للغة، تقوم على أساس أن اللغة عملية عقلية معقدة تتجلى في توخي معاني النحو بين معاني الكلمات بناء على مقتضيات العقل ، لبناء تراكيب في الذهن متطابقة مع مقاصد المتكلم وأغراضه. هذه التراكيب أساسها المعاني النحوية والمعاني المعجمية، حيث إن عمليات التفكير العقلية لا تتعامل مع معاني الكلمات مفردة، بل تتعامل معها عندما تكون مرتبطة بمعاني النحو. هذه العمليات العقلية تربط أغراض المتكلم بهذه التراكيب في داخل الذهن، ثم تربط هذه التراكيب مع شكلها الصوتي ـ الألفاظ ـ في خارج الذهن، في الفم واللسان والبلعوم(13)

وعلى هذا ترى هذه النظرية أن المعاني هي الأساس في تركيب الكلام، بينما تبقى الأصوات ـ أي الألفاظ ـ تابعة لهذه المعاني وخادمة لها. كما ترى هذه النظرية أن اختلاف الألسن بين البشر آية من آيات الله، قال تعالى: " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين". (الروم: 22)

ويرى صاحب هذه الفكرة أن الله قد أودع في جهاز اكتساب اللغة وإنتاجها قوانين أساسية لأي لغة إنسانية في كل زمان ومكان. فمعاني الكلام: الخبر والاستفهام والتعجب والأمر والنهي، وما إلى ذلك، كلها متوفرة لجميع البشر. إضافة إلى ذلك فقانون الإسناد من مسند ومسند إليه هو الركيزة الأساسية في بناء الكلام الإنساني.وعملية الإسناد هذه تقوم على قواعد التعليق التي ذكرها الجرجاني. وهي قواعد فطرية وضعها الله في ذهن الإنسان. وترى أن الاسم له أهمية كبيرة في عملية الإسناد مقارنة بالأفعال والحروف التي لا تقوم بهذا الدور. قال تعالى : "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" (البقرة:31)

وترى هذه النظرية أن قواعد التعليق السابق الإشارة إليها تساعد على وصف الاختلاف بين اللغات. كما يرى صاحب هذه الدراسة أن النظرية الإسلامية للغة والأفكار التي استندت إليها، لها إمكانات هائلة لم تتحقق بعد. ويمكن تحقيقها إذا توفرت لها الهمم والعزائم والرغبات الصادقة.(14)

العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات:

ويمكن الربط بين القوانين الأساسية لاكتساب اللغة وإنتاجها في التصور الإسلامي السابق، وبين ماسماه بعض الباحثين ـ وهو بصدد بيان أوجه الالتقاء والافتراق بين اللغة الإنسانية ولغة الجينات ـ بالعمومية اللغوية.(15) فقد ثبت نظرياً، ومن خلال البحوث الميدانية للأنثربولوجيا اللغوية، أن جميع اللغات الأساسية تشترك في خصائص عديدة، سواء على مستوى الصوتيات، أو بنية الكلمات، أو تراكيب الجمل وأنماطها. أما لغة الجينات فهي لغة عامة مشتركة بين جميع الكائنات. وهي تتسم بدرجة عالية من العمومية، حيث تستخدم نفس الأبجدية الرباعية، ونفس الكود الوراثي، أو معجم الكلمات (الكودونات)، التي تشفر لنفس مجموعة الأحماض الأمينية.

وتفيد القراءة في سفر الإنسان أو الجينوم البشري (16) أن المادة الوراثية لكل الناس سواء. نحن البشر جميعا نشترك في 99.9% من مادتنا الوراثية؛ فالاختلافات بين الشعوب ضئيلة جداً. وهذه الفروق، وإن كانت ضئيلة جدا، موجودة. وستجد من يضخم فيها من العنصريين وأنصار تميز الأجناس، وخاصة ممن يمتلكون العلم في زماننا؛ فمن يمتلك العلم هو صاحب القوة.

ولكن ينبغي الإحاطة بأنه رغم العمومية اللغوية والعمومية في لغة الجينات، إلا أن عمومية لغة الجينات تفوق عمومية اللغات الإنسانية، نظراً لوحدة أبجدية لغة الجينات، واختلاف أبجدية اللغات الإنسانية واختلاف معاجمها. إلا أنه يبقى أنهما يشتركان في صفة العمومية، ولا ينبغي استبعاد أن العمومية اللغوية هي نتاج العمومية في لغة الجينات... وذلك يحتاج إلى المزيد من البحث بالتعاون مع العلماء المهتمين بكشف أسرار خريطة الجينوم البشري، والعلاقة بين اللغة وبين البيولوجيا الجزيئية.

الخاصية التوليدية عند عبدالقاهر:

لقد واجه اللغويون قديما وحديثا سؤالاً مهماً هو: كيف للغة الإنسانية المحدودة من حيث عدد الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ وجاءت الإجابة من قبل على يد عبدالقاهر الجرجاني، في سياق حديثه عن المعاني النحوية التي هي الأساس في تشكيل النَّظْم. فهو يرى أن النظم إنما يكون بمراعاة المعاني النحوية للكلمات وموافقتها للمعاني النفسية. فالمقصود بالمعنى النحوي هو الدور الذي تؤديه الكلمة في التركيب، واختلاف هذا الدور للكلمة الواحدة باختلاف التراكيب التي توضع فيها هذه الكلمة.

إذن فالكلمة الواحدة تكتسب معاني كثيرة بحسب المكانة التي تأخذها في التراكيب، فإن جاءت فاعلاً يكون لها معنى، وإن جاءت مفعولا يكون لها معنى آخر، وإن جاءت ظرفاً يكون لها معنى ثالث، وإن جاءت حالاً، أو تمييزاً، أو مضافاً إليه، أو مبتدأ، أو خبراً، أو اسما لإن أو خبراً لكان ... الخ فإنها تعبر عن معان مختلفة. وأحيانا تأتي نفس الكلمة مصاغة في صيغة معينة، كصيغة المبالغة، أو اسم الفاعل، أو الصفة المشبهة، أو اسم المفعول؛ فيختلف المعنى النحوي لها في كل حالة. وكذلك الأمر إذا جاءت على وزن فعَل بفتح العين فإنها تختلف عنها هي نفسها إذا جاءت على وزن فعُل بضم العين .. وهكذا وهلم جراً.

والجدير بالملاحظة هنا أن اختلاف وضع الكلمة في التركيب يولد معاني نحوية كثيرة. والعربية هنا من أغنى لغات العالم. لكن الأجدر بالملاحظة هنا أيضاً هو أن إدراك الفوارق الدقيقة التي يحدثها تغيير مكانة كل كلمة في الجملة، وإدراك الوضع المناسب للكلمة بحيث تغطي المعنى النفسي المطلوب، هو الذي يحقق معنى النَّظْم، وهو سر البلاغة في القول البليغ.

وقد عبر الإمام عبد القاهر عن هذا "التوليد النحوي" الذي يحدث نتيجة الوضع الدقيق للكلمة في الجملة أو العبارة، وقد أعطى مثالاً لذلك بقوله: "فلينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق، وزيد ينطلق ، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، وزيد هو المنطلق... ولننظر في الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك إن تخرج أخرج، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج.كما يمكن النظر في الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، وجاءني وقد أسرع(17) وهكذا يتم توليد المعاني النحوية الكثيرة من ألفاظ قليلة وذلك باختلاف موضع الكلمة في الجملة، وبإدراك المعاني الدقيقة للكلمة في السياق، مما يولد المعاني النحوية المختلفة.

النحو التوليدي لدى عبدالقاهر وتشومكسي:

وقد جاءت الإجابة عن السؤال السابق. وهو كيف للغة الإنسانية المحدودة الحروف والكلمات أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ على لسان تشومسكي صاحب نظرية "النحو التوليدي" في العصر الحديث، التي تتناول كيفية توليد الصيغ اللغوية المتعددة من الكلمات وأشباه الجمل والتي تلخصها مقولته الشهيرة: اللغة هي الاستخدام اللامحدود لموارد محدودة.

ويوجه نبيل علي النظر إلى العلاقة في الخاصية التوليدية بين البيولوجيا الجزيئية وبين اللغة. فإذا كانت اللغة تستطيع أن تولد معاني نحوية كثيرة من مفردات وحروف قليلة، فقد أظهر مشروع الجينوم خطأ التقديرات السابقة لعدد جينات النص الوراثي البشري، والتي تقدر حاليا بمالا يزيد عن 35 ألف جين، إذ لا بد أن يكون هذا الرقم غير دقيق، وإلا فكيف لهذا العدد المحدود من الجينات أن يولد كل هذه البروتينات والإنزيمات والوظائف الفسيولوجية، والخصائص البيولوجية والغرائز النفسية؟ لكن الإجابة جاءت عن طريق نظرية النحو التوليدي التي تتناول توليد الصيغ اللغوية المتعددة من حروف وكلمات ومقاطع محدودة.

وفي ظل ماطرحناه من "التوليد النحوي" الذي بدأه عبدالقاهر، وبنى حوله تشومكسي نظريته اللغوية، لا يبدو غريبا أن يكون عنوان المحاضرة التي ألقاها أحد علماء البيولوجي في حفل منحه جائزة نوبل هو : التوليد النحوي للحياة(18)

ثنائية البنية اللغوية:

لقد أقام الإمام عبدالقاهر نظريته في النَّظْم على ثنائية المعاني والألفاظ. إلا أنه قد أعلى من شأن المعاني وجعلها الأساس في اختيار الألفاظ وتركيبها، حيث قال: إنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ، من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وإنما تتوخى الترتيب في المعاني، وتعمل الفكر هناك. فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. وإنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل ستجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها، ولاحقة بها. وإن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق.(19)

على النسق نفسه تقريباً أقام تشومكسي نظريته اللغوية على أساس أن منظومة اللغة ذاتُ بنية ثنائية. ويقصد بذلك أن الجملة اللغوية لها بنية سطحية ظاهرة هي تلك التي ننطق بها (أي الألفاظ)، وبنية منطقية عميقة، وهي البنية التي تتشكل في مخ صاحب الجملة قبل النطق بها (أي المعاني المرتبة)... وعملية الإخراج الصوتي هي عملية تحول هذه البنية العميقة، أي البنية الفكرية، وقد تجسدت ألفاظاً، وأصواتاً، ونبراً وتنغيماً، وتقديماً وتأخيراً، وإظهاراً، وحذفاً، وإضماراً ... إلخ.

وهكذا نرى أن الثنائية اللغوية لدى العالمين واضحة. ولكننا نرى أن عبدالقاهر كان مبدعاً في تأكيده أن بنية اللغة إنما تبدأ في الذهن بالوقوف على المعاني وترتيبها، والعلم بمواقعها في النفس، وما يستتبع ذلك من دقة الاختيار والترتيب للألفاظ المنطوقة. وربما كان ذلك هو السبب في أن دي سوسير قد سمى الأفكار والمعاني "البنية العميقة".

لكننا ـ مع ذلك ـ نفهم من معنى "النَّظْم" أن عبدالقاهر قد جعل الثنائية تتلاشى في عنصر ثالث هو النَّظْم. وجعل البلاغة كلا متكاملاً من المعنى واللفظ معاً. وبما أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، فالنظم ـ إذن ـ عنصر ثالث. فالثنائية اللغوية قد تحولت على يديه إلى ثلاثية(20).
 11:46 AM ]

دي سوسير والبنيوية.

جاء اللغوي السويسري فردينان دي سوسير في بداية القرن العشرين ليؤكد ما قاله عبدالقاهر من قبل ثمانية قرون؛ فاللغة في رأيه "نظام" من العناصر القواعدية والمعجمية المترابطة. فهي ليست تلك الظاهرة المتمثلة في التجليات السطحية من الألفاظ والعبارات والنصوص؛ فتحت ظاهر سطحها، ترقد بنية عميقة متعددة العناصر والمستويات؛ نسق معرفي من العلاقات الفكرية التي تربط بين الأفكار والألفاظ؛ وبين مكونات تركيب الجمل والفقرات؛ وبين المعنى والسياق؛ وبين أصل اللفظ ومشتقاته؛ وبين تنغيم الكلام ونية المتكلم .. وهلم جراً. وهذه العلاقات في طبيعتها ليست علاقاتٍ اعتباطية عشوائية، بل يحكمها عدد من المبادئ العامة التي تشترك فيها جميع اللغات، كما سبق القول.

لقد قامت البنيوية لدى دي سوسير على ثنائية الرمز ومدلوله، ليمهد بهذه الثنائية للقاء اللغة مع المعلوماتية وجوهوها الثنائي المعروف.

ولما كانت اللغة هي "سندريلا"(21) العلوم ورابطة العقد في خريطة المعرفة الإنسانية، فقد امتدت البنيوية إلى مجالات معرفية أخرى . وكان أن طبقت في مجالات علم النفس، ونقد الأدب والشعر، والتنظيمات السياسية والاجتماعية. وقد يكون من المناسب في هذا المجال القول بأن عبدالقاهر كان أول من وضع أسسا علمية لنقد الأدب والشعر، وهي تلك التي أشار إليها في نظريته للنَّظْم التي سبقت الإشارة إليها.

وتقوم البنيوية لدى دي سوسير على ركيزتين : الأولى وجود علاقة عضوية بين الرمز اللغوي ومعناه، والثانية ضرورة الفصل في التحليل البنيوي بين الموضوع، وبين وجهة النظر الذاتية للشخص القائم بعملية التحليل؛ وذلك ضمانا للموضوعية في التحليل. سواء كان موضوع التحليل موضوعاً أدبياً أو أسطورة أو تنظيماً اجتماعياً.

العولمة تستخدم التفكيكية في هجومها الحالي :

تختلف التفكيكية مع التوجيهين السابقين ؛ فالرمز اللغوي أو اللفظ لا يحيل إلى معنى بعينه، كما في البنيوية، بل يحيل إلى رمز آخر، والرمز الآخر يحيل إلى رمز آخر .. وهكذا تسلم الرموز بعضها إلى بعض بطريقة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي. فالمعنى ـ بالتالي ـ مرجأ دوماً .. ليظل الكاتب أو القارئ يدور في حلقة مفرغة يستحيل معها الوصول إلى معنى نهائي.(22)

وبناء على هذا الإرجاء والاستحالة في الوصول إلى المعنى، أطلقت التفكيكية حرية قراءة النصوص... حتى النصوص المقدسة. فهناك عدد لا نهائي من القراءات المحتملة لكل نص، وفقا لخلفية القارئ وهدفه من وراء القراءة. وعلى هذا الأساس جاءت نظرية القراءة التي أسسها جاك دريدا، والتي استحدثت منهجاً لتفكيك النص المكتوب، والكشف عن تناقضاته الكامنة، وثغرات فكر مؤلفه، ومناوراته اللغوية.(23).

والآن تستخدم العولمة الأسلوب التفكيكي في هجومها على الثقافات الأخرى، وخاصة الثقافة العربية الإسلامية، بقصد تقطيع أوصالها ، وعزل ثوابتها عن متغيراتها، ثم إعادة بنائها على نحو جديد لخدمة أغراض المعولِمين!

البنيوية وتدريس النحو:

ما دور النحو في الحفاظ على اللغة؟ وكيف يدرس وفقا لهذه النظرية؟

إن المدخل في تدريس اللغة ـ وفقاً لهذه النظرية ـ هو شرح النظام النحوي والصرفي ( البنية العميقة) ثم الانطلاق من هذه المعاني النحوية وقواعدها إلى المهارات اللغوية الأخرى والتطبيق عليها، من خلال الألفاظ والجمل والأمثلة والشواهد والنصوص .. إلخ وهو مانسميه حاليا بالطريقة "القياسية" في تعليم اللغة العربية للناطقين بها، وطريقة "النحو والترجمة" في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.

لقد ظن البعض أن الطريقة القياسية تعود إلى عصر النهضة في البلاد الأوربية، كأثر من آثار الممارسة في اللغتين اليونانية واللاتينية. لكن التاريخ يروي لنا أن هذه الطريقة عميقة في ممارسة تعليم اللغة في التاريخ العربي الإسلامي، خاصة في كتاب سيبويه، وكتب ابن عقيل، وشذور الذهب، والأشموني وغيرها من الكتب التي تبعت الطريقة القياسية في تعليم العربية لأبنائها وطريقة النحو والترجمة في تعليم العربية لغير الناطقين بها.

والطريقة القياسية هي إحدى طرق التفكير التي يستخدمها العقل في الوصول من المعلوم إلى المجهول. والفكر في القياس ينتقل من القاعدة العامة إلى الحالات الجزئية بناء على القاعدة؛ أي من القانون العام إلى الحالات الخاصة.ولما كانت الجزيئات قد لا تنطوي كلها تحت القاعدة العامة ؛ فقد أدى هذا إلى الحذف ، والتقدير، والتأويل، واختلاف الآراء في المسألة الواحدة. لكن المشكلة أن تدريس النحو صار غاية في ذاته لدى المتأخرين؛ حيث نظر إليه على أنه وسيلة لتنمية ملكات العقل وطريقة التفكير، بصرف النظر عن الممارسة اللغوية الصحيحة!

وتقوم طريقة النحو والترجمة في التدريس على شرح القواعد والانطلاق منها إلى تعليم قراءة النصوص العربية وترجمتها إلى اللغات الأم أو اللغات المحلية. وقد اعتمد على هذه الطريقة في تعليم العربية في جنوب شرق آسيا، وفي أفريقيا. حيث كان الطلاب يحفظون سور القرآن، وتشرح لهم الألفاظ والمعاني، ثم تشرح القواعد التي تساعد على فهم التراكيب، ثم يدربون على قراءة النصوص وكتابتها وترجمتها إلى اللغات المحلية.

ومن أهم منطلقات هذه النظرية في تدريس اللغة ما يأتي:

اللغة نظام من القواعد النحوية التي لابد من فهمها كشرط لممارسة اللغة على نحو صحيح.

اللغة نشاط ذهني، وتدريب عقلي، يشتمل على تعلم نظام اللغة، وتذكر قواعدها، والتفريق بين المعاني النحوية، ثم القياس عليها من الأمثلة والنصوص.

نظام اللغة وقواعدها النحوية والصرفية هو الإطار المرجعي لتعليمها وتعلمها.

سيطرة الدارسين وفقاً لهذه النظرية يكون على مهارات القراءة والكتابة قبل الاستماع والكلام.

طرائق التدريس وفقا للنظرية البنيوية:

الطرائق المتبعة في تدريس العربية وفقا للنظرية البنيوية كالطريقة القياسية وطريقة النحو والترجمة، تسير غالباً على النحو الآتي:

يلم الدارس بقواعد اللغة العربية ويتعرف على أصواتها وقواعدها وخصائصها أولاً.

تقدم القواعد النحوية حسب الترتيب المنطقي لها، ثم يتم القياس عليها عن طريق الشواهد والنصوص البلاغية.

تقدم الأمثلة والنصوص والتراكيب حسب ما يقتضيه نظام اللغة وقواعدها؛ فالألفاظ تابعة للمعاني النحوية. والطلاب - بمساعدة المعلم - يردون الفروع إلى الأصول ويطبقون القواعد على النصوص.

ضبط النصوص والأمثلة والشواهد مرتبط بمعرفة النظام اللغوي والقواعد النحوية والصرفية.

"إذن فتنمية قدرات الطالب العقلية هدف أساسي من أهداف هذه الطريقة حتى يستطيع مواجهة مواقف التعلم المختلفة بمشكلاتها غير المتوقعة. من هنا يتدرب الطالب كثيرا على القياس النحوي، وعلى استقراء القاعدة النحوية" في الأمثلة والشواهد والنصوص البلاغية.(24)

النظرية السلوكية

أرى أن النظرية السلوكية لم تبدأ حديثا مع السلوكيين في القرن العشرين وإنما تمتد جذورها عبر التاريخ إلى العلامة ابن خلدون المتوفي سنة 727هـ، وإلى نظريته المسماة "الملكة اللسانية".

تقوم نظرية الملكة اللسانية عند ابن خلدون على أسس ثلاثة:

أولها : أن "السمع أبو الملكات اللسانية"(25)

ثانيها: أن اللغة هي "عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان".(26)

ثالثها: أن تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو، الذي هو علم صناعة الإعراب.

أما السلوكيون المحدثون فقد تمثلت آراؤهم في كتاب "السلوك اللغوي" الذي أصدره عالم النفس السلوكي المشهور سكنر عام 1957م. فقد لجأ السلوكيون في محاولتهم تفسير السلوك اللغوي إلى العوامل الخارجية التي تؤثر فيه. فالسلوك اللغوي في نظرتهم عبارة عن مثير واستجابة.

وقد شن تشومسكي هجوما عنيفاً في مقالة له عام 1959 ينتقد فيها كتاب سكنر سالف الذكر ورؤيته السطحية للسلوك اللغوي.

وبعد الستينيات انتقل الاهتمام إلى المتعلم ذاته باعتباره عاملاً أساسياً وفاعلاً في عملية تعلم اللغة. ومن ثم بدأ التركيز على المتعلم وحاجاته والأغراض التي يتعلم اللغة من أجلها.

كيف يكتسب الإنسان اللغة؟

ولكن كيف يكتسب الإنسان اللغة؟ سؤال طرح كثيراً دون إجابة شافية في معظم الحالات. نحن ندرك المدخلات إلى الموقف التعليمي؛ لأن هذا نصنعه بأيدينا. ونحن قادرون على قياس المخرجات عن طريق أساليب القياس المختلفة. لكننا لاندري حتى الآن ماذا يحدث داخل العمليات، أي داخل المخ الإنساني، هذه المعجزة المحيرة، صنع الله الذي أحسن كل شيء.

سكنر والسلوكيون:

للإجابة عن السؤال الذي بدأنا به هذا الحديث، وهو كيف يكتسب الصغار اللغة الأم؟ على نفس النمط تقريباً الذي قال به ابن خلدون استحالت اللغة في نظر سكنر، صاحب النزعة السلوكية المحضة في علم النفس المعرفي إلى نظام لاكتساب العادات. فهي نوع من أنواع السلوك الشفاهي لا يختلف عن غيره من أنواع السلوك الأخرى، التي يكتسبها الفرد من خلال الخبرة، والتجربة، والمحاولة والخطأ. وبذلك تحولت اللغة إلى مجرد نوع من أنواع السلوك السمعي الشفاهي! كما رأينا عند ابن خلدون.

وبهذا التفسير حاول سكنر أن يخضع اللغة قسرا لثنائية المثير والاستجابة. أي أن اللغة مدخلات ومخرجات. وأغفل بذلك جوهر القضية، حيث يكمن السر اللغوي، أي العمليات التي تحدث بين المثير والاستجابة. باختصار لقد افترض سكنر عدم وجود علاقة أو وسيط بين المثير والاستجابة، وربط بين المثير ورد الفعل مباشرة دون اعتبار لما يحدث بينهما داخل المخ الإنساني.(27) وذلك خلافا للفهم البنيوي الذي يفترض وجود بنية عميقة داخل المخ البشري لمعالجة المعلومات اللغوية وغير اللغوية. وبذلك وضعت البنيوية أساس علم النفس المعرفي.

اكتساب اللغة : نموذج ابن خلدون وسكنر

فلو أخضعنا هذا النموذج لمفهوم النُّظُم المكون من مدخلات وعمليات، ومخرجات، فإننا نجد أن نموذج سكنر قد قفز فوق العمليات ولم يعترف بوجودها أصلاً. أما ابن خلدون فقد حاول وصف ما يحدث داخل النفس نتيجة الحفظ والتكرار فقال: "إن الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقوم أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة. ثم يزداد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة".

وعلى العكس من ذلك، فقد تأثر كل من دي سوسير وتشومكسي بافتراض كانط وجود قدرة ذاتية كامنة في العقل الإنساني، أو "غريزة" لغوية تتوارثها أجيال البشر أو بنية عميقة قوامها نسق معرفي كامن في العقل يربط بين المدخلات والمخرجات.

وفي غياب البحث العلمي التطبيقي لإثبات صحة هذه الفرضية لجأ تشومسكي إلى التجريد الفلسفي لإثبات وجود هذه الغريزة لكي يفسر الكيفية التي يكتسب بها الأطفال لغتهم الأم، وذلك بتطويع هذه الغريزة للمطالب الخاصة للبيئة اللغوية التي ينشأون فيها... وهكذا استحالت اللغة وفقا لهذا النموذج الافتراضي إلى غريزة بشرية أو إنسانية عامة، مثلها مثل غيرها من الغرائز التي يشترك فيها الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وبيئاتهم الاجتماعية.

اكتساب اللغة : نموذج عبدالقاهر ودي سوسير وتشومسكي

وفي إطار المنحى المعرفي، طرح تشومسكي مجموعة من الأسئلة المحورية التي تحتاج إلى جهود علم النفس المعرفي، ومن أهم هذه الأسئلة ما يأتي:

1. ما هذا النسق المعرفي أو البنية العميقة، وماذا بداخل عقل الإنسان من معارف لغوية؟

2. كيف ينشأ هذا النسق . أو بمعنى آخر كيف يكتسب الأطفال اللغة الأم؟

3. كيف توظف هذه المعرفة في الاستماع والفهم، وفي النطق والحديث، وفي التعرف على الرموز في القراءة والفهم؟

4. وما السر وراء الخاصية الإبداعية للغة التي تجعلها قادرة على توليد عدد لا نهائي من التعابير النحوية واللغوية؟(28)

لقد اقترض علم النفس من علم اللغة هذا التوجه البنيوي التوليدي، بافتراض وجود بنية عميقة داخل المخ البشري، لمعالجة المعلومات اللغوية وغير اللغوية. ويتوقع أن تتخذ هذه البنية العميقة أو آليات الذهن اللغوي مدخلاً لفهم طبيعة عمل طاقات الإدراك الأخرى كالإدراك السمعي، والإدراك البصري، والحدس، والبصيرة النافذة، والقدرة على التخيل، وحسن التوقع...إلخ.

لذلك يأمل علماء النفس (السيكولوجي) وعلماء دراسة وظائف الأعضاء (الفسيولوجي) أن يؤدي كشف النقاب عن النشاط اللغوي لمخ الإنسان (أي العمليات) ولو جزئياً إلى إلقاء الضوء على السر الذي أودعه الله في هذه المعجزة المستعصية على الفهم ... أي المخ البشري.

طريقة تربية الملكة اللسانية:

قد يكون من المناسب أن نعيد طرح سؤال تشومسكي: كيف يتعلم الطفل اللغة؟ وكيف ينشأ هذا النسق المعرفي؟ أو كيف تبنى هذه الغريزة أو الملكة؟

يقول العلامة ابن خلدون: "السمع أو الملكات اللسانية". وهذا يعني أن بناء الغريزة والملكة اللغوية يبدأ بالاستماع الجيد إلى النصوص الجميلة.

اللغة ملكة :

سبق أن قلنا إن دي سوسير وتشومسكي قد خالفا سكنر الذي اختصر العملية المعرفية في المثير والاستجابة – بإقرار أن هناك بنية معرفية عميقة في مرحلة العمليات ، هي التي تربط بين المثيرات اللغوية وبين الاستجابات أو ردود الأفعال ، وقد استحالت هذه البنية العميقة ، عن طريق التجريد الفلسفي ، إلى "غريزة " بشرية" ، أو " ملكة" إنسانية" ، موجودة لدى كل البشر ، وأن المخ الإنساني يقوم ببناء هذه الغريزة أو الملكة على نحو ما لم يستطع أحد تفسيره حتى الآن .

وهنا نصل إلى ابن خلدون الذي قدم لنا في بداية القرن الثامن الهجري نظريته في بناء الملكة اللسانية ، والذي يرى أن أهداف تعلم اللغة لا تتحقق إلا إذا اكتسب المتعلم " ملكة اللغة " .

فاللغة في المتعارف – كما يقول ابن خلدون – هي " عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك " العبارة " فعل لساني. فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها " وهو اللسان " .

تتكون الملكة بالاستماع :

يقول ابن خلدون " " فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودةً فيهم يسمع كلام أهل جيله ، وأساليبهم في مخاطباتهم ، وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم .. فيلقنها كذلك ، ثم لا يزال سماعه لذلك يتجدد في كل لحظة ، ومن كل متكلم ، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ، ويكون كأحدهم ، وهكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل " ، وأبرز مثال على ذلك أن أبناءنا يتعلمون اللهجات العامية ويستخدمونها مثلنا تماما بدون منهج أو معلم .

إذن ، فالملكة اللسانية التي كان يتمتع بها العرب قديماً لم تكن جبلة وطبعاً ، وإنما حصلت لمن حصلت له نتيجة للعرف والعادة ، والمعايشة المستمرة للنطق الفصيح في بيئة الفرد اللغوية. فالملكة الصحيحة تتكون بتكرار الاستماع إلى اللغة الفصيحة ، وممارستها كلاماً وتحدثاً .

كيف تفسد الملكة ؟

كيف فسدت " الملكة " ؟ يقول ابن خلدون : " فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم ، وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب ، فيعبر بها عن مقصوده ... ويسمع كيفيات العرب أيضاً ، فاختلط عليه الأمر ، وأخذ من هذه وهذه ، فاستحدث ملكة ( ثانية) وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا هو معنى فساد اللسان العربي. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم". ولذلك كان أهل صناعة العربية يحتجون بها. لكن فساد اللسان العربي استمر في عصر ابن خلدون ، وازداد فساداً واضطراباً مع تقدم الزمن حتى عصرنا الحاضر .
كيف وضع النحو أو علم صناعة الإعراب ؟

يقول ابن خلدون : " لما جاء الإسلام وفارقوا ( أي المسلمون ) الحجاز لطلب الملك الذي كان في الأمم والدول ، وخالطوا العجم ، تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين – والسمع أبو الملكات اللسانية – ففسدت بما ألقى إليها مما يغايرها ، لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ، ويطول العهد بها ، فينغلق القرآن والحديث على الفهوم ، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة ، شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ، ويلحقون الأشباه بالأشباه ، مثل أن الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات ، فاصطلحوا على تسميته إعراباً. وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً ، وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم. فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة ، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة. ويقال بإشارة من علي رضي الله عنه. إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد. فهذب الصناعة ، وكمل أبوابها. وأخذ عنه سيبويه فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور، الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعد .

تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو :

ثم يدخل ابن خلدون إلى جوهر المشكلة ، ويتحدث عن صلة النحو بهذه الملكة اللسانية، فيقول عن صناعة العربية وقوانين الإعراب إنها: " علم بكيفية لا نفس كيفية " ثم يشرح الفكرة بالتفريق بين " الملكة " و " قوانين الملكة "، أي بين العلم النظري ، والممارسة العملية ، ويقدم تمثيلاً لذلك بمن يجيد " علم الخياطة " ولا يمارسها عملاً ، أو بمن يجيد " علم التجارة " ولا يقدر على ممارستها. فإذا سألته عنها شرحها لك خطوة خطوة ، ولو طالبته بتنفيذ ما شرح أو شيء منه لم يحكمه. ويؤكد ابن خلدون رأيه هذا بتمثيل آخر أقرب إلى واقع القضية وهي العلاقة بين النحو والملكة اللسانية فيقول: إن كثيراً ممن درسوا النحو وتعمقوا أصوله وفروعه وأفنوا أعمارهم في البحث عن مسائله ومشاكله ولم يجيدوا هذه الملكة اللسانية، لا يستطيعون التعبير اللغوي الصحيح. بينما كثير من الكتاب والشعراء ممن أجادوا هذه الملكة يعبرون عما يريدون بطلاقة وسلاسة وإن لم يتعمقوا النحو وقضاياه .

يوضح ابن خلدون هذه القضية في فصل في المقدمة بعنوان : " فصل في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم " والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة ، فهي علم بكيفية ، لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة ، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ، ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها – في التعبير عن بعض أنواعها - : الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ، ثم يغرزها في لفق الثوب مجتمعين ، ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ، ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها .. الخ ، وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا. وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول : هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة ، وتمسك بطرفه ، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما ... إلخ، وهو إن طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه .

" وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها ، فإن العلم بقوانين الإعراب ، إنما هو علم بكيفية العمل ( وليس العمل نفسه ). وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين ، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه ، أو ذي مودته ، أو شكوى ظلامة ، أو قصداً من قصوده ، أخطأ فيها عن الصواب، وأكثر من اللحن ، ولم يجد تأليف الكلام لذلك ، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي، وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ، ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور ، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ، ولا المفعول من المجرور ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية ، وأنها مستغنية عنها بالجملة. (29) .

إذن فكيف تربَّى الملكة اللغوية في رأي ابن خلدون ؟

لكن المتعلم العربية الآن – كما كان الأمر في عهد ابن خلدون – لا يملك هذا المناخ اللغوي الصافي ، وذلك المشرب العذب المتاح الذي كان ميسوراً لأجيال العرب قبل تسرب اللكنة وحدوث الخلط والاضطراب في اللسان العربي. بل العكس هو الصحيح. إذ يحيط به من كل جانب ما يدفعه دفعاً عن صحة اللغة وجمالها اجتماعيا وثقافياً : استماعاً ، وقراءة ، وكتابة. ولم يعد في متناول يده ذلك النموذج المثالي الطيع الأصيل الذي يلفته له المجتمع فيحاكيه ويحتذيه دون تعمد ! إذا كان هذا هو حال المجتمع عموماً ، فماذا نعمل على مستوى المناهج الدراسية على وجه الخصوص ؟

يرى ابن خلدون أنه بعد أن انتهى العهد الذي كانت فيه تربية الملكة اللسانية طبعاً وسليقة ، فإنه لا بد من اصطناع المناخ اللغوي اصطناعاً متعمداً ، واتخاذ الوسائل التي توصل إلى إجادة الملكة اللسانية. فيقول : " ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها ، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم ( العرب) القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث ، وكلام السلف ، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم ، وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم ، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ، ولقن العبارة عن المقاصد منهم ، ثم يتصف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عبارتهم ، وتأليف كلماتهم ، وما وعاه وحفظه من أساليبهم ، وترتيب ألفاظهم ، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال ، ويزداد بكثرتها رسوخاً ، وقوة.

ثم يربط بين كثرة المحفوظ والاستعمال وبين قوة التعبير بلاغة ونقداً ، فيقول : " وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً ، ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر ، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها ، وهكذا يجب أن يكون تعلمها ، والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه".(30)

تكوين العادات اللغوية:

يقول ابن خلدون : إن " الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال ، لأن الفعل يقوم أولا وتعود منه للذات صفة ، ثم يتكرر فتكون حالاً ، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة ، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.(31)

كما يري أن النصوص المختارة للدراسة والحفظ يجب أن تبث في ثناياها مسائل اللغة والنحو، بحيث يتعرف الدارس من خلالها على أهم قوانين العربية ، ويؤكد أن الملكة لا تربى من خلال نصوص تحفظ دون فهم ، " فالملكة لاتحصل من الحفظ دون الفهم " .



لا قيمة لقواعد الإعراب وحدها :

إذن فتربية الملكة لا يتوقف على حفظ القواعد ومعرفة الإعراب وأواخر الكلم . فابن خلدون نفسه يقرر أن الإعراب قد فقد من اللغة العربية في عهده. وأن فقدان هذا الإعراب لم يهدم أداء اللغة لمعناها الصحيح البليغ. بل يمكن أن يعتاض عنه بما أسماه " قرائن الكلام ".

كما يقرر أن اللغة العربية على عهده " لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعـول. فاعتاضوا عنها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه ، ويسمى " بساط الحال " محتاجا إلى ما يدل عليه. وكل معنى لابد أن تكتنفه أحوال تخصه. فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود ، لأنها صفاته. وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع . وأما في اللسان العربي ، فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات في تركيب الألفاظ وتأليفها من تقديم وتأخير أو حذف أو حركة إعراب ، وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة ".

ويؤكد ابن خلدون أن البلاغة والبيان كانت ما تزال ديوان العرب ومذهبهم في عهده. وأنه لا يجب الالتفات " إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق. حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ( عهد ابن خلدون ) ذهبت. وأن اللسان العربي فسد اعتباراً بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم ، وألقاها القصور في أفئدتهم " .(23)

مايستفاد من النصوص السابقة :

من العرض السابق لتصور ابن خلدون في تربية الملكة اللسانية يمكن استنباط ما يأتي :

أولا ً: لقد قرر ابن خلدون فكرته ، وهي أن تربية الملكة اللسانية لا يضرها عدم حفظ القواعد النحوية ، وفقدان الإعراب ، إذ تغني عنه القرائن ، وهي فكرة جريئة ، لم يجرؤ أحد قبله أو بعده على القول بها على هذا النحو المتكامل . فهو – إذن – يرى أن فقدان الإعراب من لغات الأمصار في عهده – وكما هو الحال في لغتنا الآن – ليس بضائر لها، مادامت تؤدي مهمتها في الفهم والإفهام وتوضيح المراد.

ثانياً : قدم ابن خلدون تصوره في إطار نظرته الاجتماعية للغة على أنها " ملكة " تكتسب بالتعليم والمران والدربة ، ومادامت هذه " الملكة " قد تحققت للمستخدمين للغة في الأمصار في عهدة ، فإنها تكون صحيحة بليغة بدون الإعراب ، إذ فيها من القرائن ما يغني عنه.

ثالثاً : يرى ابن خلدون أن تربية " الملكة اللسانية " يمكن أن يستغنى عن حفظ القواعد والعلامات الإعرابية في أداء المعنى، بما أسماه " القرائن الدالة على خصوصيات المقاصد " كالتقديم والتأخير ، والحذف ، والحروف غير المستقلة .

رابعاً : إن تربية " الملكة اللسانية " لا تتم إلا من خلال حفظ النصوص الأصلية الراقية والشواهد الحية المتطورة " وعلي قدر المحفوظ ، وكثرة الاستعمال ، تكون جودة المصنوع نظما ونثرا ، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها " .

خامساً : أن يتم تناول النصوص كما تنطق فعلا ، وأن تتم دراستها من حيث مستوى الأصوات ، والحروف ، وبنية الكلمة ، والتركيب والدلالة ، فهذا هو المفهوم الحديث للنحو .

سادساً : إن " الملكة اللسانية " لا تربى من خلال نصوص تحفظ دون فهم ، فالملكة لا تحصل من الحفظ دون الفهم .

تحويل فكرة ابن خلدون إلى منهج وطريقة متكاملين :

إن تربية " الملكة اللسانية " وفقا لنظرية ابن خلدون ، يمكن أن تتم من خلال تطبيق أسلوب في تخطيط المنهج ، وتنفيذه ، وتقويمه ، ومتابعته ، على النحو التالي :

النظرية السلوكية في التدريس :

أثرت النظرية السلوكية ببعديها القديم والحديث في المداخل التي اتبعت في تدريس اللغات الأم عموما ، وفي تدريس اللغات الثانية على وجه الخصوص. حيث نرى التأثير واضحا فيما يسمى " الطريقة المباشرة "، والطريقة "السمعية الشفوية" في تعليم اللغات لغير الناطقين بها .

- فالنظرية السلوكية ترى أن عملية تعلم اللغة عبارة عن استقبال مثير ، وإصدار استجابة. وأن تعزيز استجابات معينة يؤدي إلى تكرارها حتى تتكون العادات اللغوية على حد تعبير سكنر وأنصاره ، أو حتى تتكون الملكة على حد تعبير ابن خلدون .

- اللغة نظام صوتي كلامي، وليست كتابة. والإنسان يتعلم اللغة بدءاً بالاستماع إليها، ثم نطق أصواتها قبل التعرض لشكلها المكتوب. فالفرد يتعلم اللغة بدءاً بالاستماع فالكلام ، ثم القراءة فالكتابة .

- تعلم اللغة يبدأ بالمحاكاة، والتذكر، والحفظ، واكتساب العادات بمثل اكتساب العادات الاجتماعية عن طريق التدريب والتعزيز .

- تعليم اللغة هو تعليم " النفس كيفية " أولاً وليس " العلم بكيفية " أولاً، حسب تعبير ابن خلدون. أو هو " تعليم اللغة " وليس " عن اللغة "، حسب التعبير السلوكي الحديث . ولذلك يجب تدريب المتعلم على الممارسة اللغوية وليس على تعلم القواعد .

- تعليم اللغة مستغن عن تعليم النحو الذي هو معرفة أواخر الكلم، في عبارة ابن خلدون . وهو أمر يمكن أن يؤجل إلى المستويات العليا أو المتخصصة في دراسة اللغة . فالفرد يمكن أن يتعلم اللغة الثانية بالمحاكاة كما يتعلم الطفل لغته الأم.

- الفرد يتعلم ثقافة اللغة من خلال النصوص والعبارات التي تحكي عادات الشعوب وتقاليدها وأساليب حياتها ، وفنونها وآدابها وكل ما يميزها عن غيرها.

- اللغة تعلم من خلال اللغة ذاتها، وليس من خلال لغات أخرى ، فالمتعلم لابد أن يفكر باللغة التي يتعلمها من خلال منهجها الفكري ونظامها الدلالي.

- لابد من اصطناع بيئة لغوية طبيعية؛ حيث تدرس النصوص والأمثلة والشواهد في مواقف طبيعية ترتبط بمدلولات النصوص، أو عن طريق تمثيل الأدوار، أو عن طريق تعلم الأشياء الموجودة بالفعل في البيئة التي يوجد فيها المتعلم، كما في الطريقة المباشرة لتعليم اللغات لغير الناطقين بها.

- إن الفرد يتعلم لغته الثانية كما يتعلم الطفل لغته الأولى، أي عن طريق الربط المباشر بين الأسماء والمسميات . فالاستخدام الفعلي للغة في الحياة أساس التعلم .

- يتم تعليم النحو بأسلوب غير مباشر من خلال التعبيرات المحكمة والنصوص الجميلة التي يتم تكرار الاستماع إليها وممارستها.

تنمية قدرة المتعلم على المحاكاة، والنطق الصحيح، واكتساب مهارات الكلام، يفوق الاهتمام بتنمية المهارات العقلية ، والقدرة على القياس والاستقراء والاستنتاج.(33)

طريقة التدريس :

يترتب على المنطلقات السابقة أن تسير طريقة التدريس غالبا كما يأتي :

1 – تدريب المتعلم على مهارات الاستماع الجيد ثم مهارات الكلام السليم . ثم تدريبه على قراءة ما استمع إليه وتحدث به ، ثم كتابة ما قرأه .

2 – تدريب المتعلم على عادات الاستماع الجيد، والكلام السليم، وتعزيز هذه العادات.

3 – يعلم النحو من خلال الأنماط اللغوية التي استمع إليها وتكلم بها ، وليس عن طريق عزل القواعد النحوية عن النصوص الواردة بها. ولا تعلم إلا القواعد الواردة في النصوص، حتى لوحدث إغفال لبعض القواعد النحوية؛ على اعتبار أن القواعد التي لا ترد في لغة الحياة لاضرورة لدراستها لغير المتخصصين.

النظرية المعرفية

تشير النظرية المعرفية "إلى تصور نظري لتعليم اللغات 0000 يستند إلى الفهم الواعى لنظام اللغة كشرط لإتقانها . وأن الكفاية اللغوية سابقة على الأداء اللغوي وشرط لحدوثه ". (34)

وهذا يعني أن يتوافر لدى المتعلم درجة من السيطرة الواعية على النظام الأساسي للغة، حتى تنمو لديه امكانات استعمالها بسهولة ويسر في مواقف طبيعية .

فتعلم اللغة وفقا لهذه النظرية هو عملية ذهنية واعية لاكتساب القدرة على السيطرة على الأنماط الصوتية والنحوية والمعجمية للغة ، وذلك من خلال تحليل هذه الأنماط باعتبارها محتوى معرفيا .( 35)

فالتعلم – إذن – نشاط ذهني . يعتمد على قدرة الفرد الابتكارية في استخدامه للقليل الذي تعلمه في مواقف جديدة . وهكذا نحس بمذاق النحو التحويلي التوليدي لتشومسكي في هذه النظرية .

منطلقات هذه النظرية :

تعتمد هذه النظرية كما يذكر رشدي طعيمة على عدة منطلقات ، من أهمها ما يأتي :

1 – اللغة الحية محكومة بقواعد أو نظم ثابتة . وتعلم اللغة عملية إدراك عقلي واع لنظامها . واستخدام اللغة يعتمد على قدرة الفرد على ابتكار جمل وعبارات لم يسبق له سماعها أو استخدامها.

2- إن قواعد اللغة ثابتة في نفوسنا. فقدرتنا على استعمال اللغة ليس سببه هو أننا نكرر ما سمعناه بشكل آلي بحت ، ولكن في قدرتنا الذهنية على تطبيق قواعد ثابتة على أمثلة متغيرة . فقواعد اللغة مثل قواعد الشطرنج ، يتقنها الفرد إن تعلمها في موقف طبيعي يمارس فيه بالفعل هذه القواعد.

3 – الإنسان خاصة مزود بالقدرة على تعلم اللغات . إن تعلم اللغة صفة إنسانية فهو موجود في الانساق البيولوجية للإنسان . فتعلم اللغة أمر يمكن أن يحدث في أي وقت من حياة الإنسان مادام قد أخذ مكانة في موقف ذي معنى لديه .

4 – إن تعلم اللغة يتضمن التفكير بها . وإن الممارسة الواعية للغة هي تلك التي تتم في إطار من المعنى وليس في مجرد التدريب الآلى عليها . (36)

5 – تولى هذه النظرية المعرفية اهتماماً خاصاً بتعليم المهارات اللغوية الأربع في وقت واحد.

6 – تعتبر السيطرة على نظام اللغة شرطا لممارستها . وهذا يعنى ضرورة السيطرة على الأنظمة الصوتية والمعجمية بالإضافة إلى نظام القواعد النحوية.

7 – تعتمد هذه النظرية على عنصر الفهم ، الذي يعنى أن تكون الممارسة اللغوية ممارسة واعية، وليست تكراراً آلياً لتدريبات نمطية مكررة دون معرفة للأسباب الحقيقية وراءها.

8 – الممارس للغة من خلال هذه النظرية لديه مصفاة ، تمر من خلالها الممارسة اللغوية قبل وقوعها.(37)
دور النحو في التدريس :

1 – يتحتم على الطالب الإلمام بالنظام الصوتي والنحوي والصرفي والمعجمي كي يتمكن من ممارسة اللغة العربية وهو على وعي بنظامها .

2 – يسير الدرس وفق الطريقة الاستنباطية ، أو وفق ما يسمى "بالمنظَّم المتقدم" أو "المنظَّمات المتقدمة" التي تهدف إلى "مساعدة الطالب على تحقيق بنية معرفية تتصف بالثبات ، والوضوح، والتنظيم، وربط المادة التعليمية بالخبرات السابقة للطالب. وتهيئة كل الظروف الممكنة التي تجعل التعليم ذا معنى، وتسهل مهمة نمو المفاهيم الوظيفية ، وإيضاح المفاهيم الغامضة ، وربطها بالبنية المعرفية للمتعلم .

3 – تعتمد هذه الطريقة على أمرين : أولهما الاعتماد على صيغ منظمة وملائمة لتفكير المتعلم عند تقديم المفاهيم المعرفية، وتقديم المفاهيم بشكل متدرج في عموميتها وشمولها، والأمر الآخر، ربط المادة التعليمية بحياة المتعلم، أي تقديمها من خلال ما هو مفيد عنده (38)

4 - تقدم النصوص في مواقف ذات معنى لدى المتعلم ، ويحتوي على المفاهيم المراد شرحها. عن طريق شرح هذه النصوص يتم عرض هذه المفاهيم والقواعد، وتوضيح أبعاد النظام اللغوي للغة العربية. ثم يأتي التطبيق في مواقف تشتمل على نصوص وحوارات وألعاب لغوية .. إلخ.

5 - إن الهدف ليس هو حصر المواقف التي يمكن أن يمر بها الطالب ثم التدريب عليها كما في النظرية السلوكية. لكن الهدف هو تدريب المتعلم على الاستخدام الواعي للقاعدة في مواقف جديدة يصعب توقعها أو التنبؤ بها أوحصرها. وهنا تلتقي النظرية المعرفية مع نظرية النَّظْم ونظرية النحو التوليدي؛ حيث يتم تطبيق القاعدة الواحدة في مواقف غير محدودة وغير متوقعة. وهنا يكون القياس والتحويل والابتكار.

6- التركيز في التدريس وفقاً لهذه النظرية على تنمية القدرة الذهنية عند الطالب، وتدريبه على قواعد الاستنتاج والاستقراء وعلى مبادئ التعميم والتطبيق من خلال شرح مفصل للقواعد وتفسيرها حتى تتضح في ذهن المتعلم. فالتعلم الواعي لقواعد اللغة شرط أساسي لممارستها. وفهم القواعد لا بد أن يسبق التطبيق عليها.

7- بما أن التعليم في هذه النظرية يبدأ بالفهم الواعي للمفاهيم النحوية فالممارسة عليها، فإن الكتب المقررة على الطلاب تسير على أساس المنهج الاستنباطي أو القياسي، الذي يبدأ بعرض المفاهيم ثم التدريب عليها.

8- الدرس يبدأ بعرض مادة جديدة، وتمرينات عليها، ثم أنشطة لغوية تطبيقية.

9- كل المهارات تعلم في وقت واحد. تبدأ بعرض المادة المراد تعلمها، ثم الاستماع إلى النص أو الموقف الاتصالي، والتدريب على استنتاج ما فيه من مفاهيم، ثم تطبيق هذه المفاهيم على مواقف جديدة مناسبة لنوعية المتعلمين.

طريقة التدريس وموقع النحو فيها:

نعرض فيما يلي طريقة مقترحة تقوم على أساس الاستفادة من مميزات النظريات البنيوية، والسلوكية، والمعرفية. وتتكون من ثلاث مراحل : التخطيط، والتنفيذ، والمتابعة.

أولا مرحلة التخطيط: يتم تحديد القواعد النحوية المقررة لفئة المتعلمين حسب الهدف من التعلم، وحسب نوعية الدارسين وخبراتهم السابقة، وبما يتسق مع منطق النظام في اللغة العربية. يتم اختيار النصوص الجميلة المناسبة، والتي تتسق مع حركة الحياة وثقافة اللغة العربية. ويتم الربط بين هذين على اعتبار أن تعلم القواعد المقررة سيتم استنباطاً واستنتاجاً واستقراء من خلال هذه النصوص.

ثانيا: التنفيذ يتم تناول النصوص المناسبة- لكل مرحلة أو لكل صف دراسي - بالدراسة والفهم، والتحليل، والتفسير، والنقد والتقويم، واستنباط القواعد المقررة، من خلال الإجراءات الاتية:

الاستماع إلى النص منطوقاً نطقاً جيداً ممثلاً للمعنى، مرة أو مرتين، ثم مناقشة فكرته العامة، وأفكاره الرئيسية، والتعرف على قائل النص ومناسبة قوله.

التدريب على قراءة النص قراءة جهرية، مع التركيز على معالجة الجوانب الصوتية، واللفظية، والتركيبية من حيث معناها ومبناها.

الوقوف على نظام اللغة وقوانين الإعراب المناسبة لهذه المرحلة أو لهذا الصف كما هي موجودة في النص مع التركيز على أسس الاستنتاج وقواعد الاستقراء، وقواعد التعميم لنظام اللغة، ومجالات التطبيق.

قراءة النص قراءة صامتة، دفعة واحدة، أو على دفعات، بحيث تحمل كل دفعة فكرة رئيسية، ثم تناوله بالدراسة، والتحليل، والتفسير، والنقد والتقويم.

الوقوف على المعايير والقيم ونواحي الجمال في النص وقواعد ذلك.

حفظ النص حفظاً جيداً (إن كان من القرآن أو السنة أو الأدب شعره ونثره)، بحيث ينطبع في نفس المتعلم، فيقتبس منه، وينسج على منواله في كلامه وكتابته.

التعبير كتابة عن موضوع النص بعد دراسته والقراءة حوله.

ثالثا: التقويم والمتابعة، ويتم في خطوتين : الأولى وتتمثل في تقويم تعبير التلاميذ وفقا للمعايير التالية:

أ- سلامة النطق والإلقاء

ب - سلامة الكتابة ووضوح الخط.

ج- سلامة الأسلوب (كل ما يتصل بالنحو والصرف)

د- سلامة المعاني.

هـ- تكامل المعاني.

و- منطقية العرض.

ز- جمال المعنى والمبنى.

الخطوة الثانية: وتتمثل في معالجة الأخطاء اللغوية الشائعة في تعبير التلاميذ من حيث المبنى والمعنى أثناء التدريس وفيما يلي ذلك من دروس. وهنا يجب ملاحظة عدة أمور مهمة:

1. أنه يجب التعرض لبعض قضايا النحو ذات الأهمية للدراسين من خلال إطار لغوي متكامل،2. سواء كانت قضايا متصلة بالأصوات ودلالة الألفاظ والتراكيب أو كانت متصلة ببعض الأساليب النحوية أو البلاغية.

3. أنه يجب الاكتفاء في المرحلة الابتدائية بدراسة مكونات الجملة العربية عامة،4. وكما ترد في النصوص،5. على أن يتم تفصيل ذلك في المراحل التالية.

6. لا يخصص لكل مفهوم نحوي نص قائم بذاته،7. حتى لا تلوى أعناق النصوص أو تصطنع لخدمة النحو،8. وإنما يدرس في كل نص ما يحتويه من الأساليب النحوية والبلاغية المنشودة.

9. أن يتم دراسة الأساليب النحوية كما هي منطوقة في النص،10. دون التعرض للحذف أو التقدير أو عوامل الإعراب في مراحل التعليم العام.

11. أن يحاط المتعلم ببيئة لغوية عربية سليمة في كل جوانب المؤسسة التعليمية التي ينتمي إليها.


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

________________________________________
الهوامش

محمد حسنين زيدان "أيهما زرياب" الشرق الأوسط، 8121/1984، ص13

نبيل علي : الثقافة العربية وعصر المعلومات: رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، الكويت، سلسلة عام المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد (265) يناير 2001م، ص227.

نبيل علي: المرجع السابق، ص231.

نبيل علي: العرب وعصر المعلومات، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد (148)، شوال 4141هـ، أبريل 1994م، ص135.

نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات، مرجع سابق،ص55.

رشدي طعيمه: المرجع في تعليم اللغة العربية، جامعة أم القرى، الجزء الأول ص399.

أنظر: علي أحمد مدكور: تدريس فنون اللغة العربية، الطبعة الشرعية الثالثة، دار الفكر العربي،1423هـ،2002،ص287.

عبدالقاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ، ص44.

أحمد درويش: دراسة في الأسلوب بين المعاصرة والتراث، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 1988،ص98.

المرجع السابق ،ص102 .

المرجع السابق ص104.

انظر: علي أحمد مدكور: التربية وثقافة التكنولوجيا، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1423هـ، 2003م، ص160 ـ 163.

سعود بن حميد السبيعي "نحو نظرية إسلامية للغة" في مجلة جامعة أم القرى للعلوم التربوية والاجتماعية والإنسانية، العدد الثاني، المجلد عشر، ربيع 121هـ، يوليو 2000م،5-20.

المرجع السابق، ص5.

نبيل علي: "وراثة اللغة ولغة الوراثة" في الكتب وجهات نظر، القاهرة، دار الشروق، العدد(27)، أبريل 2001م، ص26.

أحمد مستجير "الجينوم: قراءة في سفر الإنسان"، في الكتب وجهات نظر، القاهرة، دار الشروق، العدد (18)، يوليو 2000م، ص14.

عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، مرجع سابق،ص302.

نبيل علي: "وراثة اللغة ولغة الوراثة" مرجع سابق، ص26.

عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، مرجع سابق، ص.44

علي أحمد مدكور: التربية وثقافة التكنولوجيا، مرجع سابق، ص168.

د.هـ. روبنز: موجز تاريخ علم اللغة، عالم المعرفة رقم 227، الكويت. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت رجب 1418هـ، نوفمبر 1997م ص 318- 321 وانظر أيضا نبيل علي: "وراثة اللغة ولغة الوراثة"، مرجع سابق، ص22.

نبيل علي :الثقافة العربية وعصر المعلومات رؤية مستقبل الخطاب العربي، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 265، يناير 2001م، ص167.

المرجع السابق، ص177.

رشدي أحمد طعيمه: المرجع في تعليم اللغة العربية للناطقين بلغات أخرى، جامعة أم القرى اللغة العربية، العدد (18)، ص351.

أنظر: علي أحمد مدكور: تدريس فنون اللغة العربية، مرجع سابق، الفصل الخامس بتدريس النحو.

ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، بيروت، لبنان، دار القلم، ط1، 1978 ، ص:546

Salkie, Raphael, linguistics and Politics, Unwin Hyman, Ltd. Great Britain, 1990, P.85

المرجع السابق، ص19.

ابن خلدون: المقدمة، مرجع سابق، ص:558.

المرجع السابق، ص559.

المرجع السابق، ص554.

محمد عبيد: في اللغة ودراستها، القاهرة، عالم الكتب، 1974، ص55 وما بعدها.

رشدي أحمد طعيمه: المرجع في تعليم العربية، مرجع سابق، ص360.

رشدي أحمد طعيمه، مرجع سابق، ص398.

المرجع السابق، ص399.

المرجع السابق، ص 400 – 401.

المرجع السابق، ص 407- 408.

رياء المنذري "فاعلية استخدام المنظم المتقدم في تحصيل النحو لدى طالبات الصف الثاني الإعدادي" رسالة ماجستير. كلية التربية، جامعة السلطان قابوس، 2004، ص6-7.

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...