الأربعاء، 31 يناير 2018



 التحولات بين الرؤية الشعرية والأفق النقدي

 أ.بوعلام بوعامر

 RÉSUMÉ:

 La littérature arabe et sa critique ont vécu – pendant l'époque Abbasside – des innovations importantes et fondamentales vis-à-vis aux périodes précédentes. C'est ce que cet essai vise comme sujet. 

 لم يكن انتقال مقاليد الحكم من أيدي الأمويين إلى أيدي العباسيين، من البساطة والأحادية بحيث يمكن أن يكون حديث سياسة فحسب ، على ما يتضمنه معنى السياسة من خطر وفاعلية في سيرورة التاريخ ، ذّلك أن هذا الجانب إنما هو واحد من جوانب كثيرة ومتنوعة ، تماشجت وتراكمت لتشكل ذلك الموروث الحضاري الثقيل المتجسد في عصر تأبى الذاكرة الحضارية إلا أن تصفه بعصر الأمة الذهبي الذي تفتقت فيه أكمام ثقافتها ورسخت فيه شخصيتها الحضارية في تربة سقيت من منابع ثرة مختلفة، على رأسها الإسلام الحنيف بما جاء به من قيم حررت العقل وأطلقت الفكر وفجرت كوامن الإبداع في النفس الإنسانية.

   لذلك لم يكد يمر على بزوغ شمسه قرن ونصف من الزمن، حتى كان العرب والشعوب التي اهتدت إلى الإسلام أو استظلت بظله، تدخل عهدا جديدا من الحضارة في هذا العصر مرورا بأزمنة سابقة كانت روافد أساسية استمد منها مادته، من العصر الأموي وارتقاء إلى عصر الخلفاء الراشدين وانتهاء إلى عصر النبوة . فهذه كلها حلقات يشد بعضها بعضا، ومراحل يأخذ بعضها برقاب بعض في مسيرة قطع فيها هذا التحول الحضاري محطات ابتدأت من مكة المكرمة فالمدينة المنورة فدمشق فبغداد العاصمة السياسية والحضارية لتلك الفترة التي قدر لها أن تكون مصبا جامعا لتلك الروافد.

 ومن هنا فليس من النظر السديد والمنهج المستقيم، أخذ هذه الأزمنة الحضارية أبعاضا متفرقة مهما بلغت الحوادث السياسية التي وقفت فواصل بينها شدة وتأزما، ومهما كانت قساوة الظروف التي واكبت الانتقال من السابقة إلى اللاحقة منها، ذلك أن هذا التدافع والتغالب بينها إنما هو السطح الظاهر منها والذي هو دائما محل الاصطخاب والهدير، ووراء ذلك وتحته أعماق هادئة تتواصل فيها المسيرة الحضارية جيلا بعد جيل.

 ومن نافلة القول أن ثمة عوامل تضاف إلى عامل الدين الجديد أدت إلى ذلك التطور الحضاري الكبير ، منها عامل التثاقف مع الآخر الذي جعل العصر العباسي مصبا حقيقيا لثقافات متنوعة المنازع مختلفة المشارب، هي حصيلة اختلاف الأصول الإثنية المكونة للبنية المجتمعية فيه فقد:"كان من أثر اختلاف السكان في المملكة الإسلامية - من حيث أصولهم – إلى أمم مختلفة[...] أن انتشرت في المملكة الإسلامية ثقافات مختلفة لأمم مختلفة [...] كان هناك لقاح بين الثقافات ، و نشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة، تحمل صفات من هذه وتلك، وصفات جديدة لم تكن في هذه ولا تلك، وأصبح لها طابع خاص يميزها عما سواها . وكما كان في المملكة الإسلامية أمم مختلفة ، اشتهرت كل أمة بميزة ، كذلك امتازت الأمم المختلفة بميزات في العقلية ، تبعها ميزات في الثقافة "(1)

 والذي يعنينا هنا، الثقافة الأدبية التي كان تأثير الفرس فيها أظهر من تأثير غيرهم، بل استحالت الثقافة الفارسية أحيانا منفذا تعبر منه الثقافات الأخرى إلى الثقافة العربية، وحسبنا أن نذكر هنا حكايات (كليلة ودمنة) ذلك الأثر الخالد الذي عبر من الأدب الهندي إلى الأدب العربي متخذا من الفارسية وسيطا بينهما ، إضافة إلى كتب أخرى مترجمة ترجمة مباشرة أو متأثرة بما في الثقافة و الأدب الشرقيين لاسيما ما جاء من الفرس والهند والتي" فيها من أدب شرقي فارسي أو هندي أكثر مما فيها من أثر يوناني. ففيها الحِكََم عن أردشير وبزُرجُمِهر أكثر مما عن أفلاطون وأرسطو، وفيها نظام الحكم الفارسي لا نظام الحكم اليوناني، وفيها تصور للعدل وطبقات الناس، كما يتصوره الفرس، وفيها توقيعات الملوك وقصصهم مع رعيتهم على النحو الفارسي لا النحو اليوناني، وعلى الجملة فنفوذ الفرس في الأدب أكثر من نفوذ اليونان....."(2)

 كان من أثر هذه المثاقفة الأدبية أن ترسخت فكرة الشاعر الصانع في العصر العباسي، ونقول" ترسخت " لأننا لا نريد القفز على من عرف قبل هذا العهد من شعراء كانوا ينصرفون إلى شعرهم انصرافا كليا ، بهذبونه و يعيدون فيه النظر غير واثقين بالبديهة والارتجال وهم الشعراء الذين أطلقت عليهم تسمية عبيد الشعر، و لقد كان بعضهم يتحاشى عرض قصيدته على الناس قبل أن تمكث عنده حولا كاملا يقلب فيها وجوه الفكر ومن أشهر أولئك الشعراء زهير بن أبي سلمى الذي يقال له شاعر الحوليات إشارة إلى ذلك الجهد الكبير الذي يبذله في تنقيح شعره ، وتحكيكه مدة طويلة قبل إذاعته في الناس .

 هذا الأمر صحيح ، غير أن الصحيح أيضا أن الصناعة الأدبية عموما والشعرية خصوصا ، ازدادت رسوخا و شيوعا في العصر العباسي ، بفعل ما شهده من انقلاب حضاري شامل ، وتعقد في حياته المدنية ، و نسيجه الاجتماعي ، و تغير في الذوق العام ، فصار الشعر مظهرا من مظاهر الصناعة مثله في ذلك مثل القصر المنيف ، و الحديقة المنمقة ، و الثوب الموشى .

 ويتصل بغلبة الصناعة على شعر هذه المرحلة ، التفنن المذهبي وتفاوت الشاعر الواحد في فنون القول الشعري ، بما لا يكون من السهل معه الذهاب مذهب الذين يجازفون باخنزال مذاهب الفن الشعري في العصر العباسي في قطبية تقابلية طرفها الأول أهل الصنعة والثاني أهل الطبع ، جريا مع منطق الثنائيات الضدية التي غالبا ما تكون مظنة الاختزال المخل .

 والحق أن الدكتور محمد مصطفى أبا شوارب لم يُبعد حين بنى كتابه (شعرية التفاوت ) على  نقد هذه الفكرة ،  يقول :" وربما سمح لنا ذلك كله بنفي فكرة النقاء المذهبي والإخلاص المدرسي عند تناول شعر هذه المرحلة بالدرس والتنظير ، واعتقاد فكرة تعدد الاتجاه ، والتداخل الفني أساسا لولوج عالم الشعر العباسي [...] وإذا كان هذا الاعتقاد يبدو في نظر الكثيرين مخالفا لما درج عليه يقين أغلب الباحثين والدارسين من وجود مدارس فنية ذات ملامح ثابتة أبرزها ، على الأقل ، مدرستا المحافظين من أهل الطبع ، والمجددين من أهل الصنعة  فإن ما يؤكد ذلك الاعتقاد ، إضافة إلى ما طرح في الفصلين السابقين ، يسطع مع استقراء نصوص هؤلاء الشعراء أنفسهم "(3)

 هذا إذا سلمنا جدلا بمقولة الطبع في الشعر ، وإلا فإن للدكتور شوقي ضيف رأيا مشهورا خالف به هذا التقسيم المتوارث بين الطبع والصنعة الذي صار في حكم القطعي حتى إنه لم يفكر أحد في إعادة النظر فيه ، و شوقي ضيف يقر بالصنعة و لكنه ينفي نفيا صارما الطبع في الفن عموما ، و هو ما عبر عنه بقوله :" ...و رأيت أن هذا التقسيم لا يقوم على أساس صحيح ، و ما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن ؟ إن كل شعر متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع . و هل هناك شعر لا يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه و موضوعاته و معانيه ؟ "(4)

 ويؤكد رأيه هذا داعيا إلى تصحيح تلك الفكرة بقوله :" أما الفكرة التي تذهب عندنا إلى تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة ، و التي نرى امتدادها في العصر الحديث فأكبر الظن أنها في حاجة إلى شيء من التصحيح..."(5)

 وهو رأي وجيه ، خصوصا إذا كان المقصود بالطبع الارتجال المطلق وعدم النظر الفكري في عمل القصيدة ، ويطرح فكرته البديلة في تقسيم ثلاثي تابع لمراحل تاريخية قطعها الشعر العربي من شعر صنعة إلى تصنع فتصنيع "، مستندا إلى أن هذا الشعر لم يشهد تطورا واسعا في الموضوعات و الخلفيات الإيديولوجية و كل ما طهر فيه أثر التطور إنما هو جانب " الصناعة نفسها، أي في الفن الخالص وما يرتبط به من مصطلحات وتقاليد "(6) .

 ولبشار بن برد مع نقاده أخبار تؤكد فكرة التفاوت في مستويات التعبير عند الشاعر الواحد ، فقد :" قال خلاد بن مهرويه لبشار : إنك تجيء بالشيء المتفاوت ، بينما تقول شعرا يثير النقع ويخلع القلوب ، مثل قولك :

 إذا ما غضبنا غضبة مضرية      هتكنا حجاب الشمس أو نُمطر الدَّما

 إذ بك تقول :

 ربابة ربة البـــيت         تصب الخيل في الزيـت

                                                                  لها عشر دجاجــات       و ديك حســن الصــوت

 فقال له بشار : لكل وجه وموضع ، فالقول الأول جد ، وهذا قلته في جاريتي ربابة ، وأنا لا آكل البيض من السوق ، وربابة تجمع لي البيض ، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض، فهذا عندها أحسن من " قفا نبك " ولو أنشدتها من النمط الأول ما فهمته ، ومثله ما أورده الحصري من تعقب بعض الناس لشعره بسبب هذا التفاوت، فكان أن أجابه بقوله:" إنما الشاعر المطبوع كالبحر: مرة يقذف صدفة، ومرة يقذف جيفة " (7)

 من الواضح إذن أن هذا التفاوت عند الشاعر الواحد كان حقيقة واقعة في العصر العباسي ، و أنه كان من الشيوع بحيث شكل ظاهرة استرعت الانتباه، إضافة إلى كونه منحى فنيا ، يعمد إليه الشاعر عن وعي ، حتى ليجادل عنه، ويبرره، وليس مرده ضعفا في السليقة و إجبالا في القريحة ، و لكنه جنوح الشاعر العباسي –عموما- إلى الواقعية في التعبير والتوجه إلى جمهور المستمعين  بما يناسب مقاماتهم.

 كل أولئك كان إيذانا بحدوث تحول ملحوظ في الحساسية الشعرية لهذا العصر، كان من حملة لوائه بشار بن برد  (ت.168هـ / 784م ) كما رأى ذلك - بحق – أودنيس، فقد سئل :" بم فقت أهل عمرك وسبقت أعل عصرك ، في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه ؟ فقال : لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ، و يناجيني به طبعي ، ويبعثه فكري،  ونظرت إلى مغارس الفطن ، و معادن الحقائق ، و لطائف التشبيهات ، فسرت إليها بفهم جيد ، وغريزة قوية ، فأحكمت سبرها ، وانتقيت حُرها ، و كشفت عن حقائقها ، واحترزت من متكلَّفها ولا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به "(8)

 يستخلص أدونيس من هذه الإجابة بعض علامات التحوّل في سير الشعر العربي، منها أنّ الشعر صار فنًّا، فقد صار الشاعر العربي يومذاك مشغولا بهاجس كيفية التعبير، إضافة إلى هاجس التعبير نفسه بما أنّه لم يعُد يقبل بكلّ ما تلقيه إليه بديهته، ومنها أنّ الشعر صار نظرا في الحقائق أي صار موقفا، ومنها أنّ للشعر –باعتباره فنًّا- خاصيّة جوهرية هي التجاوز المستمرّ، والتطلّع إلى آفاق أكثر اتّساعًا وجدّة" (9)

 واللافت للنظر في إجابة بشار تصديره كل جملة تقريبا بلفظ دال على التحول "إلى الصناعة الشعرية " كما ذكر آنفا ، مثل (نظرت ، أحكمت ، انتقيت ، كشفت ، احترزت )، فالنظر والإحكام والانتقاء والاحتراز من عمل الصانع الماهر، وصاحب الحرفة المتخصص الذي يثق بالمعاودة والجهد ، ولا يُسْلم نفسه لتلقائية الهواة ، ولما تسمح به الخاطرة في أول الأمر، بل هو دائم النظر في ما يأتي متحفظ لا يسمح للإعجاب ببديهته أن يتقدم صناعته. كما يستوقف الناظر في هذه الإجابة - إضافة إلى ما سبق - لفظ " كشفت "  التي لا شك أنها تقع موقعا حسنا من أسماع الرمزيين الذين طالما ألحوا على أن الشعر كشف لا وصف .

 وعمومًا قامت الرؤية الشعرية في العصر العبّاسي على التساؤل الذي اختاره أدونيس(10) عنوانًا لهذه المرحلة من سيرورة الشعر العربي، تساؤل ألحّ على هذا العصر حول صلاحية الموروث الشعري ومشروعيّة استمراره إلى ذلك العهد.

 ونظرة عاجلة في قصائد بعض الشعراء تنطق بمصداقية ذلك العنوان الذي وسم به أدونيس الرؤية الشعرية في تلك الفترة، فكثيرا ما أخذت أبياتهم المعبّرة عن هذه الوجهة طابع الاستفهام الممتزج بالإنكار على الرؤية التقليديّة والعجب ممّن حبسوا أنفسهم في مداها الذي ضاق عن استيعاب المُتغيّرات والتحوّلات المتلاحقة، وكانت المقدّمة الطلليّة الغزليّة أبرز ما أثار التساؤل من بين كلّ العناصر المُشكِّلة لبنية القصيدة العربية القديمة، فجاءت تساؤلاتهم تَتْرى بدءًا من أبي نواس مُطْلق الثورة على هذا الالتزام الشعري بأبيات استحالت مَعْلَمًا بارزًا في هذه السبيل مثل قوله:

 يَبْكِي عَلَى طَلَلِ المَاضِينَ مَنْ أَسَدٍ     لاَ دَرَّ دَرُّكَ قُلْ لِي مَنْ بَنُو أَسَدِ؟

 وقوله:

 تصِفُ الطُّلُولَ عَلَى السَّـمَاعِ بِهَا      أَفَذُو السَّـمَاعِ كَأَنْتَ فِي الفَـهْمِ؟

 إنّ الإنكار على السماع هنا واضح، وإذا علمنا مقدار ما كان للسماع من عناية عند القدماء –حتّى لقد أسّسوا عليه أخطر العلوم والفنون وأجلّها، كأصول الفقه وأصول النحو- علمنا خطورة هذه الدعوة ومدى الضجّة التي يمكن أن تثيرها في حينها، ولكنّها قطعًا لم تكن صيحة معزولة في فجّ عميق، فقد واكبت دعوات صارخة كلّها ثورة على القديم في عصر ارتجّت فيه الحياة العربية وهي تخوض مُنقلبًا نقلها من بداوة الحجاز إلى مدنية العراق، مرورًا بالشام الذي كان منزلة وسطى بينهما شكّلت تطلّعا إلى الحياة الجديدة في أكناف بغداد التي قامت على أنقاض المدائن حاضرة ملوك الفرس، فلم تزل روح أكاسرتهم تسري في جسد المَدَنيّة الجديدة، ونمط معيشتهم مثلا كثيرًا ما احتذاه خلفاء بني العبّاس.

 لذلك لم تشذَّ الثورة النواسية عن النسق العامّ الوليد في البيئة المستجدّة، فلئن كان أبو نواس هو الأسبق والأجرأ على إعلان ذلك في العصر الأوّل من دولة العباسيين لقد تابعه المتنبّي وهو في العصر الثالث بقوله:

 إِذَا كَانَ مَدْحٌ فَالنَّسِيبُ المُقَدَّمُ       أَكُلُّ فَصِيحٍ قَالَ شِعْرًا مُتَيَّمُ؟

 فالاعتراض هو نفسه بصيغة التساؤل ذاتها، وإن كان أقلّ حدّةً ممّا هو عند الشاعر الأوّل، إذ هو عند أبي نواس مُشْبعٌ بشعوبيته المعهودة التي أضْفت على نبرة التساؤل حدّة البغضاء والاحتقار للروح العربيّة وما يتّصل بها من أنماط ثقافية وفنيّة، في حين كان اعتراض المتنبّي نابعًا من واقعية شعريّة، وهو الشاعر المُفعم عروبة الناقم على تسلّط العجم على العرب.

 ومع ذلك الاختلاف في الباعث والحدّة، وبصرف النظر عن اقتراح أبي نواس وصف الخمر موضوعًا للمقدّمة بقوله:

 صِفَةُ الطُّلُولِ بَلاَغَةُ الفَدْمِ                فَاجْعَلْ صِفَاتِكَ لابْنَةِ الكَرْمِ

 واقتراح المتنبي مدح سيف الدولة بقوله:

 لَحُبُّ ابْنِ عَبْدِ اللهِ أَوْلَى فَإِنَّهُ        بِهِ يُبْدَأُ الذِّكْرُ الجَمِيلُ وَيُخْتَمُ

 فقد اجتمع الشاعران كلاهما عند عدم القبول بالموجود والاشرئباب إلى المأمول، وهو ما يعطينا ملمحًا من ملامح الاتّجاه الشعري في ذلك العصر ألا وهو الواقعية والآنية، فهي دعوة إلى المعايشة المتضمِّنة للبعدين الزماني والمكاني.

 لقد صارت المقدّمة الطللية دار غربة عند الشاعر العبّاسي الذي وجد من الواقع الحضاري المثقل في بغداد والكوفة والبصرة وغيرها من الحواضر ، ما هو كفيل بشغل وجدانه وفكره، وصرفه عن العكوف أمام »عادة فنيّة«  لم تَعُدْ تتّصل بنمط حياته بما تحمله من قيم مرتبطة بالجاهلية زمانًا والبادية مكانًا.

 وعلى قدر ما حملت تلك الأبيات من معنى الاستفهام والتشكيك في سلطة هذه المقدّمة ومشروعيّتها، كانت احتجاجًا على الموقف السابق الذي اصطبغ بالقبول(10)

 والطمأنينة إلى المقرّرات السابقة.

 وجاء أبو تمام بعد ذلك بقليل مؤسّسًا لمرحلة جديرة بتوقّف الناظر في منعطفات الرؤية الشعرية العربية، فهو مأخوذ بالبدعة أي " بالخروج على كلّ  سنّة "(11)، وهو ما أوقفه وجها لوجه مع التساؤل المضادّ أو المحافظ هذه المرّة، فقد سأله بعض أهل زمانه

 : " لِمَاذا لا تقول ما يُفهم؟ "، فقال: »لِمَاذا لا تفهم ما يُقال؟" (12)

 وليست المكابرة هي ما حمل أبا تمّام على هذا الردّ كما رأى ذلك بطرس البستاني(13) بل كان دافعه إليه رؤيته الشعرية الناضجة المـتمثّلة في أنّ للشعر لغـته الخاصّة، وأنّ من حقّ الشاعر تكييف اللّغة وتطويعها لأداءات جديدة ، ومـن واجب المتلقّي أن يعدّل من ذائقته السّمعيّة لتستوعب ذلك التكييف.

 فأبو تمّام إذن لم يكن ممّن وصفتهم نازك الملائكة " بمجيدي التحنيط ، وصُنّاع  التماثيل الذين ابتُليت بهم اللّغة العربية، فصنعوا من ألفاظها نُسخًا جاهزة وزّعوها على كُتّابهم وشعرائهم، ممّن لم يدركوا أنّ شاعرًا واحدًا قد يصنع للّغة ما لا يصنعه ألف نحويّ ولغوي مجتمعين، وذلك أنّ الشاعر بإحساسه المُرهف، وسمعه اللّغويّ الدقيق، يمدّ للألفاظ معاني جديدة لم تكن لها، وقد يخرق قاعدة مدفوعًا بحسّه الفنّيّ، فلا يسيء إلى اللّغة، وإنّما يشدّها إلى الأمام "(14) .

 وإذا كانت تلك هي حال الرؤية الشعرية في بواكير العصر العبّاسي، حال التململ والقلق ومحاولة التجاوز، فإنّ النظرية النقدية هي أيضًا كانت تتحرّك نحو الجديد وتحاول الخروج من الإنشائية والانطباعية إلى تأسيس المرجعيات وتقرير الأصول وترسيخ المصطلح، فقد صار النقد علمًا وفنًّا لا يستغني عن الدربة والثقافة، ووصل الأمر إلى ظهور كتب نقدية وقفها أصحابها على نقد الشعر وتصنيف الشعراء خاصّة دون النثر، ككتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلاّم الجمحي (ت.232هـ/846م) الذي كان " نواة لظهور أوّل مدرسة نقدية منهجية في تاريخ النقد عند العرب، وكان ابن سلاّم أوّل شيخ من شيوخها "(15) ، وكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة (ت. 276هـ/889م).

 وقد صدّر المؤلّفان كتابيهما بمقدّمة قيّمة في نقد الشعر تشهد بنضج الحسّ النقدي ومواكبته للرؤية الشعرية في ذلك العصر، خصوصا مقدّمة كتاب الشعر والشعراء التي كشف فيها ابن قتيبة بوضوح عن منهجه في الدراسة، ثمّ تناول أقسام الشعر من منظور اللّفظ والمعنى الذي غلب على المناحي النقدية قديمًا، ثمّ ذكر عيوب الشعر مركّزًا فيها على الجانب العروضي خاصّة عيوب القافية بناءً على تعريفهم الأوّلي للشعر نفسه بأنّه الكلام الموزون المقفّى.

 وكما قامت الرؤية الشعرية على ثنائية ضدّيّة بين الالتزام بالمقرّرات التقليدية من جهة، ومحاولة المروق منها من جهة أخرى، قامت النظرية النقدية كذلك على هذا التجاذب والصراع، وباستعراض أهمّ القيم التي دار حولها النقد في تلك الحقبةِ يظهر لنا أنّ غالبها اتّخذ طابع الثنائيات المتقابلة مثل القديم والمُحدَث، والطبع والصنعة، واللّفظ والمعنى، وغير ذلك ممّا يشير إلى معترك نقدي حقيقيّ كان صِنوًا للمعترك الشعري الذي رأينا بعض ملامحه مع أبي نواس.

 الإحالات

  1.  أحمد أمين : ضحى الإسلام ، المكتبة العصرية ، صيدا- بيروت ، ط1 ، 2006م ، ج1 ، ص132.

 2.المرجع السابق ، ص 286.

 3.محمد مصطفى أبو شوارب : شعرية التفاوت مدخل لقراءة الشعر العباسي ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية ، ط1 ،2007م ، ص163.

 4.  شوقي ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي ، دار المعارف ، القاهرة ، ط13 ، ص7-8

 5. السابق : ص20.

 6.السابق : ص7.

 7.ديوان بشار بن برد ، تح ، محمد الطاهر بن عاشور ، الشركة التونسية للتوزيع والشركة الوطنية للنشر والتوزيع- الجزائر، 1976م ، ج1 ، ص96-97.

 8.    الحصري : زهر الآداب ، شرح د.صلاح الدين الهواري ، المكتبة العصرية ، صيدا-بيروت ، 1426هـ 2005م ، ج1 ، ص279 .

 9.  أدونيس : ديوان الشعر العربي ، المكتبة العصرية ،صيدا- بيروت ، ط1 ،1964 ،ج2 ، ص 1-2.

 10.أدونيس : مقدمة للشعر العربي ، مقدمة للشعر العربي ، دار العودة ، بيروت، ط1، 1971، ص 42.

 11.  السابق : ص 37.

 12.السابق : ص 13.

 13.السابق : ص 44.

 14.السابق : ص 43.

 15.بطرس البستاني : أدباء العرب، ج2، دار الجيل، بيروت، 1989، ص58.

 16.نازك الملائكة، ديوان شظايا ورماد ، دار العودة، بيروت، ط.2 ، 1979م، ص9 - 10.

 17.  حسن عبد الله شرف، النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سلام، دار الحداثة، بيروت ، ط.1 1984م، ص8.

ليست هناك تعليقات:

 النص وتعدّد القراءات محمد محمود إبراهيم تبدو السمة الأساسية للقراءة هي الاختلاف والتباين بين أنماطها، فليس هناك قراءة وحيدة للنص، وإنما هنا...